الجاهلية الحديثة ( الثانية):الموت الجاهلي

إبراهيم شفيعي سروستاني
إن الكثير منا قد سمع أو قرأ هذا الحديث الشهير:
“مَنْ ماتَ ولَمْ يَعْرف إمامَ زَمانَه ماتَ ميتة جاهلية”؛
وقد نقل الشيعة والسنه هذا الحديث عن النبي الأكرم (ص) بطرق معتبرة.  وينطوي هذا الحديث على مفهومين محوريين هما بحاجة إلى  دراسة وتعمق، الأول، معرفة الإمام والآخر الموت الجاهلي. وقد أسهب الكتاب والمفكرون في الحديث عن موضوعات مثل ما المراد من معرفة الإمام؛ ولماذا نحن بحاجة إلى  معرفة الإمام وكيف يمكن الوصول إلى معرفة الإمام، لكن قلما تم لحد الآن الحديث عن موضوع الموت الجاهلي. لذلك نسعى في هذا المقال لدراسة وتبيان مؤشرات وملامح الموت الجاهلي في الميادين العقائدية والأخلاقية  والثقافية والاجتماعية.

1-    مفهوم الجاهلية
يرجع معنى الجاهلية إلى الأصل اللغوي «جهل» الذي يعني الخفة وخلاف الطمأنينة من جهة، وما هو نقيض العلم من جهة أخرى. والجاهلية هي ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة.
ويقول مؤلف “مجمع البحرين” في هذا الخصوص: إن الجاهلية هي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله، وشرائع الدِّين والمفاخرة بالآباء، والأنساب، والكبرة، والتجبر وغير ذلك”.
وجاء في “موسوعة دهخدا” باللغة الفارسية في توضيح هذه المفردة:
الفترة التي سبقت الإسلام حيث كان الجهلاء كثر. وقال البعض: إن الجاهلية هي زمان الفترة بين رسولين وتسمى فترة الكفر أحيانا بالجاهلية، وتطلق أيضا على عهد ما قبل الفتح والعصر بين ولادة وبعثة النبي الأكرم (ص)… .  وكان الناس قبل بعثة النبي الأكرم (ص) يعيشون في الجاهلية الجهلاء، لأن أعمالهم وأقوالهم كانت تملى عليهم من الجهلاء وهذه هي الجهالة العامة. 
وقد وردت الجاهلية في أربع آيات من القرآن الكريم، بهذا المعنى.
وفي رواية نقلها الحارث بن المغيرة عن الإمام الصادق (ع) توضح مفهوم الجاهلية في الحديث النبوي.  
عن الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : قال رسول الله (ص): من مات لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ؟ قال : “نعم” ، قلت : جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه ؟ قال : “جاهلية كفر ونفاق وضلال”.
وكما يتبين فإن الإمام الصادق (ع) وصف عصر الجاهلية بثلاث صفات هي الكفر والنفاق والضلال. وهذه الصفات الثلاث التي توضح مفهوم الجاهلية في الحديث المذكور، تبين أهم ملامح وسمات العصر الجاهلي.
2-    السمة العامة للعصر الجاهلي
وضح بعض آيات القرآن الكريم وكلام المعصومين (عليهم السلام)، السمة العامة للعصر الجاهلي والحالة التي كان يعيشها العرب في هذه الفترة نتطرق هنا باختصار إلى  بعض منها.
وتدعو إحدى الآيات القرانية، المسلمين إلى الوحدة وتحاشي التفرقة وتبين الوضع الذي كان سائدا قبل الإسلام:
“وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”؛ 
ويتبين من هذه الآية  الكريمة بأن الحقد والبغضاء والعداء والاختلاف والفساد والضياع الذي كان يدفع الناس إلى شفا حفرة من نار  شكل أهم سمات عصر ما قبل الإسلام.
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:
إن الاجتماع الذي يبنى أساسه على الخلاف والعقائد المشتتة، فإن الرغبات والأهواء النفسية والغطرسة الفردية ستفرض هيمنتها عليه تلقائيا وتدفعه إلى  أتعس وأدنى درجات الحياة. وفي هكذا اجتماع، فإن الحرب والصراع يفرضان نفسهما دائما وتزداد وتيرة الفناء والدمار، لأن الاجتماع الذي لم يملك هدفا موحدا و واضحا، سيحترق بنار الجهالة والضلال، ولن ينجو من الهاوية التي سقط فيها.
ويصف الإمام علي أمير المؤمنين (ع) في مواقع متعددة من “نهج البلاغة” عصر الجاهلية قبل الإسلام ويقول فيما يقول:
“أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وَانْتَشَار مِنَ الْأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ، عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، وَاغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرِّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِاَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ.
كما وصف الإمام علي (ع) في خطبة أخرى، وضع عرب الجاهلية قبل بعثة الرسول الأعظم (ص) هكذا:
“إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِين، وَفِي شِرِّ دَار، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَة خُشْن وَحَيَّات صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ. الأصنام فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالأثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ”.
وبالتأمل في هذه النصوص نستطيع أن نستقرئ أهم ملامح المجتمع الجاهلي ، ونشخص أظهر سمات الحياة فيه. فهذه النصوص تصف المجتمع الجاهلي بالمجتمع الضال المنحرف الذي لا يهتدي بمعالم الدين ، ولا يستضيء بأنوار منهجه فهو يقف موقف الرفض والتشكيك من رسالات الأنبياء ، ويصر على الكفر ، والضلال ، واتباع الهوى وتظهر فيه الفتن واضطراب الأمور والحرب وسفك الدماء والظلمة والغرور والنخوة وتغلب عليه الشهوة ، وتقوده الملذات ، بعد أن قطع علاقته بالله وكان طبيعياً أن تكون هذه الحياة الجاهلية حياة موبوءة بالفساد والجريمة ، والعبث  وعبادة الأصنام وانقطاع الأرحام ورواج الذنوب والتيه والحيرة والحقد والعصبية ، وانتصار الشهوة والهوى.
وقد وصفت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (س) في جانب من خطبتها التاريخية في مسجد النبي (ص) الحالة الاجتماعية لأهالي الجزيرة العربية قبل الإسلام وفي العصر الجاهلي فقالت:  
“وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعإلى  بمحمدٍ (ص)”
3-    سمات العصر الجاهلي
ومع اتضاح ملامح “الجزيرة العربية” في العصر الجاهلي، نتطرق إلى  سمات هذا العصر. وقد بينت العديد من الآيات القرانية المؤشرات والسمات العقائدية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية للعصر الجاهلي. وبناء على ذلك فإن تسليط الضوء على هذه الآيات، يمكن أن يقودنا إلى رسم صورة شاملة عن هذا العصر.
أ‌)    السمات العقائدية والأخلاقية
نظرا إلى  آيات “القرآن الكريم” وروايات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يمكن تناول عدة موضوعات بوصفها مؤشرات عقائدية وأخلاقية للعصر الجاهلي، يمكن الإشارة باختصار إلى التالي منها:
1-    التهرب من الحق ومحاربة الحق
إن أهم صفة عقائدية واخلاقية للعصر الجاهلي تتمثل في التهرب من الحق ومحاربة الحق والتمرد على الحق والتعنت واللجاجة في قبول كلام الله الأحد الواحد. وقد وصف القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) هذه الخصائص بالحميّة والعصبيّة.

“إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى”؛
وجاء في تفسير “مجمع البيان” في باب توضيح معنى “الحمية” بأن هذه المفردة تعني الإنكار وعدم التسليم للحق، فعلى سبيل المثال، عندما يقال “فلان ذو حمية منكرة” فالمراد أنه يتصف بالغضب واللجاجة.
وكما تنص عليه التفاسير فإن هذه الآية  نزلت أثناء صلح الحديبية وبعد معارضة كفار قريش للإتيان بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم ورسول الله في معاهدة الصلح. وجاء في تفسير “البرهان” نقلا عن علي بن إبراهيم قمي في هذا المجال: [المراد بالكافرين في هذه الآية] هم قريش وسهيل بن عمرو قالوا للنبي (ص): إننا لا نعرف [الله] الرحمن الرحيم، كما قالوا: إن كنا نعتبرك نبي الله، لما كنا نحاربك. إذن اكتب “محمد بن عبد الله”.
ويتطرق الإمام علي (ع) في الخطبة القاصعة بالتفصيل إلى سمات العصبية والحمية لدى الناس في عصره واعتبر إبليس بأنه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية:
“فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ”.
ويحذر الإمام علي (ع) في جانب آخر من هذه الخطبة، الناس من سلوك طريقة الحمية والعصبية ويقول: فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ.
ويشير الإمام (ع) في هذه الخطبة إلى التهديد الذي يطلقه الشيطان لإغواء جميع أهل الأرض ويؤكد بأن أبناء الحمية وإخوان العصبية يصدقون كلام الشيطان: فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ لَكُم بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَان قَرِيب، وقَالَ (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الاْرْضِ وَلاُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، قَذْفاً بِغَيْب بَعِيد، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيب، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ.
ويمكن الاستنتاج من خلال التدقيق في كلام الإمام علي أمير المؤمنين (ع) بأن الحمية والعصبية لا تقتصر على الجاهلية الأولى، بل يمكن مشاهدة سمات الجاهلية في أي زمان يتبع فيه الناس إمام المتعصبين وسلف المستكبرين وينازعون الله بدلا من التذلل له.
وما الفارق حقا بين عرب الجاهلية المتعصبين الذين سلكوا طريق التكبر والغرور وأحجموا عن طاعة الله الرحمن الرحيم وقبول رسالة النبي الأكرم (ص) وبين قوم العصر الجديد المتحضرين في الظاهر ممن يرفعون شعار المذهب الإنساني ويعتبرون الإنسان محور الكون وصاحب الصلاحية التامة والمطلقة ويستندون إلى  المذهب العقلي، ليعتبروا العقل البشري أساسا لتنظيم جميع العلاقات الفردية والاجتماعية للإنسان؟ ألا يمكن القول بأن عصر الحداثة المبني على العلمانية والذي يفتي بقطع العلاقة كاملة بين الأرض والسماء واستغناء الإنسان عن الهداية الإلهية في الحياة الاجتماعية، هو استمرار لعصر الجاهلية الأولى؟
2-    الحكم بغير ما أنزل الله 
لقد أحجم قوم عصر الجاهلية وتأسيسا على التهرب من الحق ومحاربة الحق، عن القبول بحكم الله واعتمدوا في حياتهم الاجتماعية الأحكام الجاهلة، التي هي في معظمها أحكام غير إنسانية وغير عادلة بعيدة عن التعقل ومبنية على الأهواء والشهوات والتعصبات القبلية.
ويأمر القرآن الكريم في إحدى آياته النبي الأكرم (ص) بأن يحكم بين الناس بما انزل الله وألا يتبع أهواء الذين يريدون تطبيق الأحكام الجاهلية:
“وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إلَيْك”؛ 
وبعد هذه الآية، يحذر الله، الناس من اتباع الحكم الجاهلي في مقابل حكم الله ويعتبر حكم  الله أحسن الحكم:
“أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون”؛
وفي ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) فإن كل ما هو غير حكم الله، هو حكم جاهلي وحُذّر الناس من ابتغائه.
عن الإمام الصادق (ع) قال : الحكم حكمان، حكم الله، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم أهل الجاهلية”؛
إن الحكم بحكم الله في جميع المجالات الاجتماعية يحظى بأهمية بالغة في التعاليم الإسلامية بحيث أن الحكم بغير ما أنزل الله يساوي الكفر والظلم. وجاء في القرآن الكريم في هذا الخصوص:
“وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”؛
وعن الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع):
“ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فقد كفر بالله تعالى”؛
وثمة الكثير من الروايات التي نقلت في هذا الخصوص تم فيها نهي الإنسان عن الحكم والفتوى والعمل برأيه وضرورة اتباع كتاب الله وسنة نبيه (ص) في جميع المجالات.
ونستقرئ مما سلف، بأن أي مجتمع ينظم علاقاته الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على أساس القوانين غير الإلهية ويستند إلى التعاليم البشرية في التخطيط والتشريع والتنفيذ بدلا من الرجوع إلى التعاليم الوحيانية، فإنه يكون قد سلك طريق الجاهلية ولا يختلف عن المجتمع الجاهلي في عصر النبي الأكرم (ص) والذي احجم عن قبول حكم الله واتبع هوى نفسه، حتى وإن كان في الظاهر مجتمعا حديثا ومتطورا.
3-    الانغماس في الذنوب والضياع
إن النتيجة الطبيعية لتهرب عصر الجاهلية من الحق ومحاربته الحق وإصراره على الحكم بغير ما أنزل الله هي قبول ولاية الشيطان في جميع المجالات والانغماس في الذنوب والضياع. ويمكن أن نستشف هذا الموضوع من كلام أمير المؤمنين علي (ع):
“بعثه والناس ضلال في حيرة وخابطون في فتنة قد استهوتهم الأهواء واستزلتهم الكبرياء واستخفتهم الجاهلية الجهلاء حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل”؛  
ووفقا لثقافة القرآن الكريم فإن الناس إما أن يتبعوا ولاية الله وبالتالي يعيشون في النور أو يتبعوا ولاية الشيطان والطاغوت فتغمرهم الظلمات والضلالة . لذلك فإن القوم الذين يخالفون ولاية الحق ويعصون الأوامر الإلهية، يدخلون دائرة ولاية الشيطان وتتسم جميع علاقاتهم الفردية والاجتماعية بصبغة شيطانية.
وهذا هو المصير الحتمي لجميع المجتمعات التي لا تستسلم لولاية الله، سواء المجتمع الجاهلي في عصر رسالة النبي الأكرم (ص) أو في المجتمعات ما تسمى الحديثة في العصر الحاضر.
ونظرا إلى ما أسلفنا، يمكن القول أن الموت الجاهلي أو الحياة من دون إمام والتي ورد ذكرها في الروايات الإسلامية لها مؤشرات متفاوتة بما فيها : 1- التهرب من الحق ومحاربة الحق 2- الحكم بغير ما أنزل الله 3- الانغماس في الذنوب والضياع 4- الانحطاط الخلقي 5- الظلم وتجاهل حقوق الآخرين.
وهذه السمات لا تقتصر على المجتمع الجاهلي في عصر رسالة خاتم النبيين محمد (ص)، بل تظهر في كل مجتمع لا يعرف إمام زمانه.
ب‌)    السمات الثقافية والاجتماعية
إن معرفة وضع المرأة  في مجتمع ما، يعد مؤشرا مهما لتحديد الوضع الثقافي والاجتماعي لذلك المجتمع ومعيارا جيدا للحكم حول توجهاته وتحركه إما نحو السمو أو نحو الانحطاط. لذلك نتطرق هنا إلى  وضع المرأة في العصر الجاهلي مستشهدين بآيات من القرآن الكريم.
1-    نظرة عرب الجاهلية إلى  المرأة
إن عرب الجاهلية لم يكونوا يقيمون أي وزن للمرأة وكانوا يعتبرون أبنائهم الأناث مؤشرا على التعاسة والشقاء. لذلك فإن ولادة أي فتاة كان يشكل عارا في حياتهم، الحدث الذي لا يزول عاره إلا بوأد الفتاة. ويقول القرآن الكريم في هذا الخصوص:
“وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ{58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ”؛
وورد هذا الموضوع أيضا في آيات أخرى من القرآن الكريم  لكننا نكتفي بهذا القدر اختصارا للموضوع.
2-    الوضع الأخلاقي للمرأة
إن نظرة عرب الجاهلية إلى الأبناء الأناث كان وليد الوضع المزري للمرأة في المجتمع الذي ساده الظلم والفساد والتمييز عشية بعثة النبي الأكرم (ص). المجتمع الذي لم يمنح المرأة أي حقوق فردية واجتماعية وكان ينظر اليها كمجرد سلعة جنسية.
إن شروط بيعة النساء مع الرسول الأكرم (ص) تظهر مدى الفساد والضياع الذي كان سائدا بين نساء عصر الجاهلية. ويقول القرآن الكريم في هذا الخصوص:
“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”؛
ومع إلقاء نظرة على الموضوعات التي أوردها المفسرون في تفسير هذه الآية  يتبين بأن الأعمال التي اعتبر الإقلاع عنها شرطا البيعة مع النبي (ص) كانت بشكل ما سائدة بين معظم نساء ذلك العصر  وأراد الله بهذا منهن أن يقلعن عن القيام بها.
وإحدى الصفات المذمومة الأخرى لدى نساء عصر الجاهلية، هي التبرّج وإظهار محاسنهن وزينتهن ومفاتنهن الجنسية في الأوساط العامة. ويطلق القرآن الكريم على هذه الظاهرة اسم التبرّج ويحذر في إحدى آياته متوجها إلى نساء النبي من التبرج كنساء عصر الجاهلية:
“وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى”؛
3-    الحقوق الفردية والاجتماعية للمرأة
كانت المرأة في العصر الجاهلي محرومة من كل حقوقها الفردية والاجتماعية حتى الإرث والملكية، وكانت تباع وتشترى كالسلعة.  وقد اعترف القرآن الكريم وللمرة الأولى بحق المرأة في التملك والإرث وجعلها كالرجل تتمتع بالحقوق الاجتماعية.
ويقول الله تعالى في محكم كتابه حول حق الملكية لدى المرأة:
“لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ”؛ .
وفيما يخص حق الإرث لدى النساء جاء في القرآن الكريم:
” لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا”؛
ومع مجئ الإسلام فإن المرأة تمتعت بالكثير من الحقوق التي كانت قد حرمت منها في العصر الجاهلي وأصبح من واجب الرجال تكريم حقوقها.
ولابد في ختام دراسة وضع المرأة  في عصر الجاهلية الأولى التذكير بعدة نقاط:
1-    إن السبب الرئيس لانتشار الفساد والتيه وتنامي التفسخ الخلقي والاجتماعي في هذا العصر، يكمن في أن الناس لم يكونوا يحظون بقائد وزعيم الهي يهتدون بهديه ليميزوا الصالح عن الطالح والمعروف عن المنكر والطريق القويم عن غيره. وفي هكذا ظروف فإن من الطبيعي أن يتسلم زمام الأمور قادة ضالون وأعوان وأنصار الشيطان، ممن يدفعون المجتمع إلى  حافة السقوط والانهيار؛
2-    إن هذه الظروف لا تقتصر على عصر الجاهلية الأولى بل إن نمو وانتشار وتفشي الفساد والضياع والتيه يحصل في كل مجتمع يفتقد إلى  قائد وزعيم إلهي. وهذه الظروف بادية للعيان اليوم بوضوح في المجتمعات الغربية وإن كل مظاهر الجاهلية الأولى بارزة في هذه المجتعات التي تعرف بالحديثة. وهذه هي الظاهرة التي تعرف بالجاهلية الحديثة؛
فإن كانت البنت في عصر الجاهلية الأولى، مصدر عار وبؤس وكان للذكر قيمة ومكانة اجتماعية فحسب، فإن الخصوصية الطبيعية للأنثى والدور الرئيسي للمرأة أي الأمومة والزوجية تعتبر في الجاهلية الحديثة أدوارا كليشية وسببا لتدني مكانة المرأة. وفي هذه المجتمعات يتم الاعتراف بحقوق المرأة فقط إن تخلت عن دورها التقليدي وتميزت بميزات الرجل وأصبحت مثله تقتحم مجالات العمل والنشاطات الاجتماعية المختلفة.
وإن كانت المرأة بالأمس سلعة جنسية ووسيلة لاستمتاع الرجل، فانها تحولت اليوم أيضا إلى  سلعة جنسية ومادة لأكثر التجارة العالمية (تجارة الجنس) ربحا  وأصبحت متلق ومشتر للمنتجات الملونة لمستحضرات التجميل والملابس و… في العالم الرأسمالي وأداة لعرض وبيع المزيد من منتجات الشركات الكبرى بدء من فرشاة الإنسان ومعجون الأسنان والشامبوهات وانتهاء بالتلفزيون والغسالات والسيارات. 
وإن كانت المرأة في جاهلية ما قبل الإسلام، تتبرج وتعرض زينتها في المحافل العامة، فإنها في جاهلية العصر الحديث، تحولت إلى  لاعبات مسابقة لا تنتهي لعرض أنفسهن بأكثر الصور جذابية وإثارة في الشوارع والإعلام المرئي، لدرجة أن النساء ينفقن اليوم مليارات الدولار سنويا على أنفسهن من أجل التبرج والتجميل. 
وإن كان عرب الجاهلية يتعاملون بعنف بالغ مع الفتيات والنساء وكانوا يقومون بوأدهن، فإن البشرية المتحضرة في العصر الحديث، قد أوصلت العنف ضد المرأة إلى  ذروته. وعلى سبيل لمثال، يتم في الولايات المتحدة سوء التعامل مع إمرأة كل 8 ثواني ويتم الاعتداء على إمرأة كل 10 ثوان. وإجمالا فإن 51 بالمائة من النساء الكبار، يتعرضن للعنف والاعتداء.

الكافي، ج 1، ص 376، ح 2، ص 377، ح 3، وج 2، ص 21، ح 9
فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج 5، ص 364، وكذلك: سيد علي أكبر قرشي، قاموس القران، ج ، ص 83
موسوعة دهخدا، ج 5، ص 7461
سورة آل عمران (3)، الآية  154؛ سورة المائدة (5)، الآية  50؛ سورة الاحزاب (33)، الآية  33؛ سورة الفتح (48)، الآية  26
الكافي، ج 1، ص 377، ح 3
سورة آل عمران (3)، الآية  103
واورد “تفسير الميزان” احتمالين لقول الله تعإلى  هذا حيث يقول “وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها”. الأولهو ان المراد من النار، هي نار الاخرة. وفي هذه الحالة فإن “كنتم على شفا حفرة من النار” يعني العيش في حالة الكفر ونتيجته لن تكون سوى الوقوع في نار جهنم. والثاني ان المراد بالنار، هو الحروب والاقتتال الذي كان سائدا بين العرب في تلك الفترة. وفي هذه الفرضية فإن الجملة المذكورة ستعني الذهاب نحو الفناء والدمار بسبب الحروب والصراعات الدائمة (سيد محمد حسين طباطبائي، تفسير الميزان، ترجمة عبد الكريم نيّري بروجردي، ج3، ص 506).

 

  1. المصدر السابق
  2. نهج البلاغة، ترجمة محمد مهدي فولادوند، خ 88، ص 102
  3. المصدر السابق، خ 26، ص 47
  4. سيد جعفر شهيدي، حياة فاطمة الزهراء (س)، ص 130
  5. سورة الفتح (48)، الآية  26
  6. تفسير مجمع البيان، ترجمة علي كرمي، ج 25 و 26، ص 754 و 755
  7. سيد هاشم بحراني، البرهان في تفسير القران، ج 7، ص 242
  8. نهج البلاغة، ترجمة: محمد مهدي فولادوند، خ 234 (القاصعة)، ص 304
  9. المصدر السابق
  10. سورة الحجر (15)، الآية  39
  11. نهج البلاغة، خ 234، ص 305
  12. سورة المائدة (5)، الآية  49
  13. سورة المائدة (5)، الآية  50
  14. الكافي، ج 7، ص 407، باب اصناف القضاء، ح 1
  15. سورة المائدة (5)، الآية  44
  16. الكافي، ج 7، ص 407، باب من حكم بغير ما انزل الله عزوجل، ح 1
  17. وسائل الشيعة، ج 18، ص 9-52
  18. نهج البلاغة، ترجمة: محمد مهدي فولادوند، خ 94، ص 119
  19. سورة البقرة (2)، الآية  257؛ سورة الجاثية (45)، الآية  19
  20. سورة النحل (16)، الايتان 58 و 59
  21. سورة الزخرف (43)، الآية  17؛ سورة الاسراء (17)، الآية  31 ؛ سورة التكوير (81)، الآية  8
  22. سورة النحل (16) الايتان 58 و 59؛ للمزيد من الاطلاع في هذا المجال راجع: “فروغ ابديت” (نور الأبدية)، ج 1، ص 48-51
  23. سورة الممتحنة (60)، الآية  12
  24. تفسير الميزان، ترجمة: محمد باقر موسوي همداني، ج 19، ص 491، 493، 499 و 500؛ مجمع البيان، ج 5، ص 275 و 276
  25. سورة الاحزاب (33)، الآية  33
  26. فروغ ابديت (نور الأبدية)، ج 1، ص 50
  27. سورة النساء (4)، الآية  32
  28. سورة النساء (4)، الآية  7
  29. ويتم في أميركا وحدها إنتاج 13 الف فيلم بورنو سنويا. وحسب “internet filter review” فإن الايرادات العالمية للبورنو تتمثل في توزيع الأفلام على الفنادق ونوادي الجنس وصناعة الجنس الالكترونية وبلغت 97 مليار دولار عام 2006. وهذا العائد يساوي ايرادات الشركات الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات بما فيها “مايكروسوفت، “غوغل”، “امازون”، “اي بي”، “ياهو”، “ابل”، “نت فليكس” و “ارث لينك”. ان المبيعات السنوية في أميركا تقدر بنحو 10 مليارات دولار أو حتى أكثر  (كريس هجز، “بورنوغرافيا غير العادية، اخر علامات اخر الزمان الثقافي بأميركا”،سياحة الغرب، العام الخامس، رقم 75، 2009؛ الفمينية، هزيمة اسطورة تحرر المراة في الغرب، ج 2، ص 269 – 274. (للمزيد من المعلومات في هذا المجال، راجع: ادريان فرانكلين، “الجنس والسياحة”، سياحة الغرب، العام الخامس، رقم 61 2008).
  30. لمزيد من المعلومات راجع: نورمن سولومون، “المراة وصناعة الإعلانات التجارية”، سياحة الغرب، العام الرابع، رقم 42، 2006

 

شاهد أيضاً

الجاهلية الحديثة ( الثانية): الأصولية العلوية والماكيافيلية الأموية

تجميع : مهدي روحي في المنطق الماكيافيلي الذي يعتبر معاوية أحد مظاهرة الجلية، يجب استخدام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *