الجاهلية الحديثة ( الثانية): أنماط الاستهلاك متعدد الجنسيات

كاوة بختياري
دراسة عملية تشكيل أنماط الاستهلاك في العالم الثالث
يتميز القرن الثامن عشر للميلاد في أوروبا عن القرون الأخرى بما أطلق عليه عصر التنوير. وخصوصيته الرئيسية الأخرى هو التوجه نحو التجارة. وقد طرح في تلك الحقبة شعار “حرية الحدودة” . وكان السبب واضحا، لأن التجار وبعد تشبع الأسواق الداخلية، كانوا بصدد الحصول على المواد الأولية وبتبعها الأسواق الخارجية لبيع منتجاتهم، ولذلك توجهوا نحو الدول الخارجية،

كاوة بختياري
دراسة عملية تشكيل أنماط الاستهلاك في العالم الثالث
يتميز القرن الثامن عشر للميلاد في أوروبا عن القرون الأخرى بما أطلق عليه عصر التنوير. وخصوصيته الرئيسية الأخرى هو التوجه نحو التجارة. وقد طرح في تلك الحقبة شعار “حرية الحدودة” . وكان السبب واضحا، لأن التجار وبعد تشبع الأسواق الداخلية، كانوا بصدد الحصول على المواد الأولية وبتبعها الأسواق الخارجية لبيع منتجاتهم، ولذلك توجهوا نحو الدول الخارجية، وكان مطلب التجار من الحكومة هو خفض الضرائب على الصادرات. وكان يجب اختبار وتقييم هذه البضائع في بلدان يطلق عليها اليوم العالم الثالث. وقد تولى الاستعمار والغزو العسكري المباشر لهذه الدول هذه المهمة على عاتقهما. لكن الشئ الذي حدث بعد فشل هذه البلدان بخصوص الاستعمار الثقافي الحديث، هو النسيج التقليدي والعرفي لهذه المجتمعات والذي كان كالطبقة السميكة يبدي مقاومة في تقبل المنتجات الحديثة. إن التعرف على التقاليد والأعراف لاختراق هذه المجتمعات شكل الخطوة الأولى على هذا الطريق، بينما هرع الإعلام والدعاية لرفد هذه الطريقة فتمكنا من تهديم وتدمير القلاع الحصينة والمنيعة لهذه البلدان والنفوذ فيها. وكان على أفراد هذه المجتمعات أن يؤقنوا بداية بأن ما لديهم من بضائع ومنتجات، لا قيمة لها في مقابل البضائع المستوردة، وقد أنجز هذا بدقة وظرافة تامة في الدعاية التي استعانت بعلم تحديد الشخصية.
وهنا برزت إحدى المسائل التي تسبب بأزمة الهوية بحيث أن الفرد في هذه المجتمعات كان ينتقد هويته التي تمثل جذوره وأصوله وتنشئته ومعتقداته، وفي المقابل أصبح يبحث عن هوية جديدة فانقلب على شكل بضاعة استهلاكية أوحيت اليه عن طريق الدعاية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان أكثركارثية عندما نرى في هذا السياق بأن ثقافة هكذا مجتمعات طالتها تغيرات وبالتالي ألقت الأزمة بظلالها على جميع أركان المجتمع.
ضرورة المسألة
لا يمكن فرز أنماط الاستهلاك عن منظومة القيم والقواعد والنظام الاجتماعي أو الفردي أو كلاهما معا والذي يحدد شخصية المستهلك. إن الخيارات الاستهلاكية لشعوب العالم الثالث يتم توجيهها تحت تأثير مصادر مختلفة لاسيما المصادر الاجنبية، لكنها مؤشر بالتاكيد على ذهنيتهم. ومن دون تجاهل بعد الربحية (تلبية الحاجات النفسية) فإنه يجب الاهتمام بالأبعاد الرمزية بالمعنى الاجتماعي لعمليات الاستهلاك الاجتماعي. إن البضائع والخدمات وإضافة إلى  جودتها الطبيعية، تحمل رموزا ومؤشرات على شريحة اجتماعية خاصة. ولذلك فإن دراسة ظاهرة تشكيل أنماط الاستهلاك من قبل الشركات متعددة الجنسيات تكتسي أهمية.
إن استهلاك البضائع والخدمات هو علائم تضفي عليها الرموز الرئيسية للمجتمع مغزى، المجتمع الذي يعيش فيه الفرد بصرف النظر عن موقعه الاقتصادي والاجتماعي. لذلك فإن مجال الاستهلاك هو مجال مهم في تشكيل العقليات والقيم النابعة عن فعاليات الشركات متعددة الجنسيات، لأن رمز الاستهلاك أو كودات الأشياء المستهلكة تعكس الوضع الثقافي أو الهوية الثقافية. أن الأشخاص يطلعون من خلال الحصول على بضائع خاصة وفقا لقواعد ومقاييس المجتمع، على موقعهم ومنزلتهم بل على موقع ومنزلة الآخرين أيضا. إن الأشياء التي تتميز بأداء اجتماعي مختلف تضطلع بدور التعريف بالأفراد أو بالأحرى  تميز الأفراد عن بعضهم البعض. إن التميز على أساس الأشياء يبين أو يستحدث الفرز والتباين الاجتماعيين واللذين يتبعهما تصنيف الأفراد وتحديد تراتبيتهم الاجتماعية. ويشاهد هذا البعد الرمزي في كافة مستويات المجتمع تأسيسا على الكودات المختلفة ولا يقتصر على طبقة اجتماعية بعينها. وفضلا عن ذلك فإنه يجب إضافة البعد الخيالي للاستهلاك، لأن الأشياء هي وسيلة الهروب والطلسم الذي يلجأ اليه الفرد لتخيل عالم سحري. ويتم توجيه التطلعات نحو الاحتياجات وتتحقق في وجود البضائع. إن السبب الذي يدفع المعلنين التجاريين إلى  البحث عن صورة يجسدها المستهلكون عن أنفسهم وعن أنا المثالية، هو النموذج الاستهلاكي فحسب. بعبارة أخرى فإنه فيما يخص سائر الأفراد الذين تتشكل منهم النواة الاجتماعية وثقافة خاصة وشعب ما، فإن الجدل بين الفرد وصورته الشخصية أي بين الدوافع وقيم نمط الاستهلاك في البلدان النامية، تتجلى في غالب الأحوال في الإخفاق في الاستهلاك لأن ما يسعى الفرد للعثور عليه في الاستهلاك، يشكل سبيلا للتغلب على الشعور بعدم الاكتفاء والرغبة للدخول إلى  المجتمع ونيل الترقية الاجتماعية.
إن أنماط الاستهلاك يجب أن تكون على تواصل في جميع الحالات مع الهوية الثقافية للمجتمع، وطبعا يجب الانتباه إلى أنماط الاستهلاك التي تختلف عن بعضها البعض بسبب عدم تجانس النظام الاجتماعي والثقافي ونطاق التبويب الطبقي الاجتماعي والاقتصادي. إن أنماط الاستهلاك في العالم تتطابق مع الفرز الاجتماعي المبني على الاستهلاك، ولا تنعكس في إيجاد تراتيبية اجتماعية وثقافية وفاعلية وتحرك اجتماعي فقط بل تظهرعلى هيئة تعاطي ثقافي متقاطع وصراع بين التقليد والحداثة. إن تقديم وتوسع الحداثة عن طريق عملية كسر القوالب الجاهزة والآمال والتطلعات وتقولبها من جديد تفضي إلى  الدينامية الاجتماعية للاستهلاك. وفي هذا الإطار، فإن نمط الاتصال على علاقة مباشرة بنمط الاستهلاك. فالاستهلاك هو حصيلة مجموعة من الرسائل والعلائم التي تبلور رؤية الناس وتظهر في سلوكياتهم الاستهلاكية من جهة، ويتحول الاستهلاك ذاته إلى  أنموذج اتصالي بين الإنسان والمجتمع وبين الإنسان وذاته من جهة أخرى.
إن أثر الشركات متعددة الجنسيات في بناء أنماط الاستهلاك يتم على مستويين. ففي المستوى الأول تساعد هذه الشركات على توسيع أنموذج الاستهلاك السائد في بلدان العالم الثالث. وفي المستوى الثاني تحاول هذه الشركات إحلال البضائع والمنتجات الجديدة التي هي أكثر  تعقيدا نسبيا من سابقاتها، محل المنتجات التقليدية. لذلك فإن النجاح التجاري لهذه الشركات يؤثر في مجمل هياكل الاستهلاك في البلدان النامية. إن الشركات متعددة الجنسيات التي تقوم بنقل وترويج انظمة الانعكاس والقواعد والأنظمة البيانية تمثل احتياجات وأنماط الاستهلاك. إن الفكر الذي يشكل أساسا لهكذا أنظمة، يتمثل في أن زيادة الاستهلاك يعد المؤشر الرئيسي للتنمية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال تكون مكافأة الشخص في عمله، على شكل حصوله على بضائع استهلاكية. لذلك فإن الترويج لهكذا منطق والعمل على المزيد من الاستهلاك يضطلع بدور مهم في القوة الدافعة للتغير الاجتماعي. بمعنى أن الشركات متعددة الجنسيات وبسبب ماهيتها العقلانية تتداخل مع الأنظمة الاقتصادية في إطار الترابط والوحدة المتزايدين لبلدان العالم الثالث. إن اعتبار وقيمة الفرد في هذا النظام الاقتصادي يرتبطان إلى  حد كبير بالبضائع والخدمات التي هي في المتناول وكذلك بالموقع الاجتماعي التابع لهذه الخدمات. وتطرح هذه التبعية في القيم باشكال مختلفة. وفي مجال الاتصال، فإن الرسائل التي تبث عبر وسائل الإعلام (التلفزيون والسينما والإعلانات التجارية) تضطلع بدور مهم من خلال عرض مزايا المجتمع الاستهلاكي وإيجاد اشكال الانعكاس ومنظومات القواعد.
وبمحاذاة ذلك، يحدث توجه صاعد باتجاه تقليد أسلوب الحياة والإنتاج الغربيين ويتم توجيه دوافع الفرد بشكل متزايد نحو الاستهلاك التجاري. وبالتالي فإن القيم التقليدية تفقد اعتبارها إلى  حد كبير ويتغير التصور الذهني للفرد عن المجتمع والدور الذي يضطلع به.
إن منتسبي الشركات متعددة الجنسيات وبغض النظر عن الوظيفة التي يشغلونها، يضطلعون بدور في عملية التخريب هذه من خلال الترويج لهذه الأخلاق. وكما أشرنا سلفا، فإن العمل في هذا النوع من الشركات، يتطلب قبول المقررات والقواعد الخاصة بها. إن استهلاك البضائع المصنعة لدى الشركات متعددة الجنسيات والآثار الاستعراضية الناتجة عنها، تؤثر على بناء أخلاق الاستهلاك المادي.
والنقطة الأخرى أن هذه الشركات تميل إلى  صياغة عادات الاستهلاك بالشكل الذي يكفل مصالحها، لذلك فهي بصدد إحلال منتجاتها محل السلع التقليدية وايجاد طلب تجاري منتظم لبعض بضائعها وخدماتها لم يكن موجودا سابقا. وكذلك توجيه بعض الاحتياجات والمطالب نحو الماركات الاجنبية. ان السياسات الدعائية وتشجيع مبيعات السلع، يعتبر بلاشك أحد أكثر  الطرق تأثيرا لنفوذ الشركات متعددة الجنسيات وتدخلها في تغير الاحتياجات الأساسية للأفراد وتوجيههم نحو ماركات ومنتجات خاصة. ان نقل الاذواق هذا هو بالتاكيد حصيلة السياسات الواسعة للتسويق واثرها على الأنظمة والقواعد.
إن الهدف الرئيسي لهذه الدعاية هو إيجاد الاحتياجات وبالتالي المنتجات التي يمكن لها أن تلبي هذه الحاجات. المنتجات التي تعتبر الشركات متعددة الجنسيات وحدها القادرة على تصنيعها. فعلى سبيل المثال اتبعت شركة “يونيليفر” اعلانات تجارية ودعائية عالمية مهمة لبيع منتجاتها. وهذه البرامج والإعلانات تؤدي في الاغلب إلى  أن يفقد الناس اهتمامهم ورغبتهم بالمنتجات الداخلية. فمثلا هذه الشركة تسعى في الهند إلى إحلال المارغرين وانابسي محل الزبدة المحلية ويبدو أن هذا المنتج المحلي يزول نهائيا عن الأسواق. وعملت هذه الشركة بنجاح في أندونيسيا لإيجاد سوق لمساحيق الغسيل والمواد المطهرة التي تنتجها.
كما أن هذه الشركة استطاعت توسيع مبيعاتها من البوضة والنقانق والأغذية المجمدة التي تنتجها في مناطق داخل سيراليون وليبريا. أي في المناطق التي قلما يمكن القول بانها تملك عوائد احتياطية ويتم توصيل المؤن والطعام إليها عادة عن طريق الطائرات.
وفي أميركا اللاتينية فإن قدرة الدعاية بدرجة أن القرويين الفقراء جدا يجدون أنفسهم ملزمين باحتساء المشروبات الغازية مثل الكوكا كولا والبيبسي كولا حتى وإن كان ذلك بثمن بيع منتجاتهم الطبيعية.
ومع إلقاء نظرة على البرازيل والمكسيك، يشاهد نجاح الشركات متعددة الجنسيات في إيجاد الحاجة للمشروبات غير الكحولية، فعلى سبيل المثال، بلغ حجم استعمال هذا النوع من المشروبات في المكسيك 14 مليار زجاجة أي خمسة زجاجات للفرد الواحد خلال أسبوع. (ان 40% من المشروبات المستهلكة في المكسيك هو البيبسي كولا). إن غسيل الدماغ يعد تجارة مربحة وقوية بحيث أن سكان بعض القرى المكسيكية ورغم دخلهم المتدني أصبحوا على قناعة أنه لا يمكن العيش من دون هذه المشروبات ويجب استعمالها يوميا. وتطرق قس مكسيكي عام 1979 إلى  هذا الموضوع وكتب قائلا:
سمعت أن بعض القرويين يقولون أنه لا يمكن العيش من دون المشروبات غير الكحولية، والبعض الآخر يستعمل المشروبات الغازية مع وجباتهم من أجل إبراز موقعهم الاجتماعي لاسيما عندما يكون لديهم ضيوف. إن الغالبية تظن أنه يجب استعمال هذه المشروبات يوميا، وهذا نابع أساسا من الدعاية الواسعة لاسيما في الإذاعة التي لها مستمعون ومتلقون كثر في هذه المناطق الجبلية. وبمحاذاة ذلك، فإن منتجات طبيعية مثل الفاكهة قلما يتم استهلاكها في هذه القرى، أن بعض الأسر تستهلك الفاكهة مرة واحدة في الأسبوع.
إن أساس هذه السياسات الدعائية مبني على إقناع الناس بأن الأساليب  التقليدية للتغذية (السمسم والأرز والفاصولياء والذرة والماء) تكتسي أهمية أقل مقارنة بالمنتجات الغربية المغلفة بتغليب أنيق وتحمل ماركات مختلفة. والموضوع المهم هنا هو الرمز الاجتماعي  للبضائع. وبما أن الناس الذين يتمتعون بثقافة أقل يكونون معرضين للتضرر أكثر ، فإن أثر الدعاية يزداد عليهم تباعا لذلك. فعلى سبيل المثال نشير هنا إلى  “كينيا”. إن قيمة الإعلانات التجارية لتسويق الصابون المصنع لدى الشركات التابعة للشركات متعددة الجنسيات في هذا البلد، بلغ نسبة ستة بالمائة وللصابون المنتج محليا واحد بالمائة من مجمل سعر الصابون. وهذا يظهر سياسة توجيه الطلب الداخلي نحو المنتجات الأكثر تعقيدا صناعيا (صابون المرافق الصحية، المواد المطهرة و…)، والتي تؤكد أكثرعلى الشكل الظاهر للمنتج وجمالية تغليفه وتعبئته.
ولتقديم صورة عامة عن الموضوع، نشير إلى نفقات الإعلانات التجارية للشركات التابعة للشركات متعددة الجنسيات في كينيا. فقد بلغت هذه النفقات نحو 12 مليون شيلينغ كيني، في حين أن الميزانية المخصصة في آخر خطة خمسية كينية لبناء المراكز الصحية القروية والتي اعتبرتها الحكومة عاملا مفتاحيا لتحسين الصحة في المناطق القروية (حيث يعيش نحو 90 بالمائة من سكان كينيا في هذه المناطق) بلغت 5.7 مليون شيلينغ.
إن أحد أشهر طرق التدخل الأجنبي في أنماط الاستهلاك هو نشاط شركة “نستلة” وسياسة توسيع مبيعات الحليب المجفف للأطفال. وقد طبقت هذه الشركة سياسة فعالة للترويج لمنتجاتها الغذائية وإحلالها محل حليب الأم واعتمدت أساليب مختلفة لهذا الغرض:
1-    التوزيع المجاني وغالبا بيتا بيتا لزجاجات الحليب ومنتجات “لاكتوجن” اللبنية؛
2-    تطبيق برامج دعائية في المستشفيات ومراكز الولادة على يد موظفين خاصين عرفوا بممرضات الحليب. وكانت هذه الممرضات يلبسن الزي الابيض وبالتالي كان يمكن اعتبارهن عاملات في المستشفيات؛
3-    التوزيع المجاني للبطاقات المتعلقة بوزن الأطفال الرضع مع الدعاية ل لاكتوجن، وكانت جملة قد كتبت على هذه البطاقات مضمونها بأن الأمهات يجب عليهم قدر الإمكان تغذية رضعهن بحليبهن، لكن كم بالمائة من الأمهات كن قادرات على قراءة هذه الكتابة؟
4-    اعتماد الدعاية المدمجة في المستشفيات والإذاعة، وهنا كان يقال بأن استهلاك هذه المنتجات يضفي القوة والطاقة على الأطفال (وهذان الموضوعان يكتسيان أهمية كبيرة في نيجيرية على سبيل المثال لا الحصر). وكانت الدعاية في جامايكا بهذه الطريقة: “إن اللاكتوجن يجلب القوة والسلامة أو إنه يعطي الطاقة والحيوية.
إن استهلاك الحليب المجفف مع بعض الرموز كان يعني التجدد والافضلية وما شابه. ويتم في الوقت الحاضر استهلاك الحليب المجفف في بلدان العالم الثالث على نطاق واسع.
لذلك فإن نشاطات الشركات متعددة الجنسيات يمكن أن يؤدي إلى الانتقال الحقيقي لأنماط الاستهلاك.وبناء على نقل الأنماط والنماذج فإن الحاجة للماركات تتغير وتحل منتجات أكثرتعقيدا وثمنا محل المنتجات البسيطة والزهيدة الثمن. وبمحاذاة ذلك تؤدي دعاية الشركات متعددة الجنسيات إلى إيجاد فوارق مصطنعة بين المنتجات وبالتالي الإقلاع السريع عن استهلاك منتج وإحلال منتج أجدد محله.
وقد لجأ القرويون في المكسيك بشكل متزايد إلى  استهلاك الرغيف الابيض بدلا من خبزهم التقليدي الذي كان أرخص ثمنا وأكثر احتواء للبروتين. وفي جامايكا، كان الناس معتادون على استهلاك السمك والموز اللذين ثمنهما زهيد ويتمتعان بقيمة غذائية، في فطورهم، لكن وبفعل الدعاية الاستهلاكية، زالت هذه العادة. ويستفيد الناس اليوم من منتجات “كلوغ” فما تلف الموز في الأسواق بسبب انعدام المشتري. إن دخول شركتي “دانونسا” و “شامبورسي” والشركات التابعة لمجموعة شركات “ب.اس.ان جروهدانون” ومجموعة “نستلة” إلى  المكسيك عام 1973 وإعلاناتهم التجارية والدعاية الواسعة زاد من الطلب على اللبن بنسبة 350 بالمائة.   
إن عملية إحلال بضائع الشركات متعددة الجنسيات محل المنتجات الداخلية واضحة وبارزة في مجال استهلاك السجائر، وهناك في هذا القطاع ثماني شركات متعددة الجنسيات تهيمن على السوق العالمي بما فيها شركت بت البريطانية الأصل التي تعتبر أكبر مصنعي السجائر في العالم ومن كل خمس سجائر تباع في العالم الرأسمالي سيجارة واحدة من هذه الشركة. والشركات الأخرى هي: مجموعة إمبريال (البريطانية)، أميركن براندز (الأمريكية)، مؤسسة فيليب موريس (البريطانية) ومجموعة جنوب أفريقيا (روثمن، رامبراند روبرت). إن هذه الشركات متعددة الجنسيات تتدخل بشكل فاعل لدفع الناس نحو استهلاك السجائر الأجنبية وإحلال السجائر الصناعية محل السجائر المصنعة محليا على يد صغار المنتجين. إن تغير أذواق مستهلكي السجائر، أدى إلى  إبادة التبغ الأسود في الكثير من الدول مثل الهند وباكستان وجمهورية كوريا والفيليبين والأرجنتين والبرازيل. إن التاكيد الرئيسي في هذه البرامج على الكليشيات الأمريكية والكماليات والمكانة الاجتماعية ومستوى الحياة المتميز وصورة الكابوي العاشق للحرية هي مضامين تتكرر على الدوام.
ويتم احيانا إيجاد أسواق جديدة للعثور على قنوات لبيع المنتجات الوسيطة لبعض الشركات متعددة الجنسيات، فعلى سبيل المثال تعتبر شركة “رالستون بورينا” عاملا لتوسيع صناعة تربية الدواجن في كولومبيا، وليس من أجل تحويل الدجاج والفروج إلى  مكون مفتاحي للنظام الغذائي لشعب هذا البلد، بل من أجل إيجاد أسواق للمنتجات الرئيسية للمصانع أي المكثفات الغذائية للحيوانات. وتبعا لهذه السياسة تم وضع تسهيلات وإمكانات خاصة بتصرف مربي الدواجن. وبالتالي تضاعف حجم إنتاج الدواجن والدجاج في كولومبيا في الفترة من 1967 إلى  1071 أي ارتفع من 11 مليون إلى  22 مليون.
إن الأطفال بوصفهم المشترين بالفعل والذين يتاثرون بسهولة، يشكلون هدفا منشودا للشركات متعددة الجنسيات. فمثلا تقوم بعض المؤسسات المنتجة للمشروبات غير الكحولية في أميركا اللاتينية والوسطى بتزويد المدارس بهذه المشروبات والبرادات بالمجان مقابل بيع منتجاتها في هذه المدارس أثناء إقامة احتفالات فيها. وتقوم شركات أخرى مثل “جنرال فودز” في المكسيك بوضع تماثيل صغيرة مثل شخوص والت ديزني الكرتونية في رزم معبئة من أجل تسويق منتجاتها.
إن نقاشات وإيضاحات مسؤول نفقات الإعلانات التجارية في بيبسي كولا وكوكا كولا في البرازيل، تظهرا جيدا التأثير الاجتماعي للشركات متعددة الجنسيات في بناء أنماط الاستهلاك. ويقول في هذا الشأن:
ولا سبيل في هذا البلد لتوجيه وتقنين تمرد الشبان، إن الجيل الحالي لا يتمتع بأي تعليم سياسي أو اجتماعي. لقد أحدثنا آلية احتجاجية لتقنين الاستهلاك. البيبسي وصورة جديدة والشاب، إنهم مسرورون لأنهم شبان ولأنهم شبان فإنهم يتناولون البيبسي.
لذلك فإن دخول الشركات متعددة الجنسيات يتزامن بالضبط مع انقلاب أنماط الاستهلاك التي بقي بعضها من دون تغير لعدة قرون، لكن إيجاد نماذج جديدة للاستهلاك يمكن أن يكون حصيلة اليات أقل تعمدا. إن منتجات الشركات متعددة الجنسيات وبسبب جودتها الطبيعية (انيقة وحديثة) والرموز الاجتماعية المرتبطة بها، تحظى بسرعة بقبول المتميزين الداخليين المنبهرين بشدة بنمط الحياة الغربية والمنتجات الغربية. إن تبعات العروض القوية لهذا التيار، تتمثل في توسيع الاحتياجات والأشياء في المجتمع بأسره. وهنا يجب التحدث عن أثر التقليد. إن الشركات متعددة الجنسيات تعرض بضائع يقبلها المتميزون الداخليون بسرعة ويتحول الآخرون خلال فترة وجيزة إلى  مستهلكين لهذه البضائع وذلك تقليدا لهؤلاء النخبة.
إن المشروع العام في هذا التيار هو كالآتي: تقوم الشركات متعددة الجنسيات بعرض منتجات جديدة في البلدان النامية وتوجه الاحتياجات الاستهلاكية لهذه البلدان نحو هذه البضائع.
إن أساليب النفوذ والاختراق متنوعة ومختلفة. (بصورة تعمدية عن طريق الإفادة من الدعاية، وغير تعمدية نسبيا عن طريق الاستعراض)، لكن الجميع يساهم في توجيه أنماط الاستهلاك نحو البضائع والخدمات التي تنتجها الشركات متعددة الجنسيات. إن العرض يتسبب في حد ذاته بإيجاد الطلب. إن هذه المنتجات تعرض في الأسواق من دون أخذ الاحتياجات الأساسية للناس بنظر الاعتبار وهذا ليس بالشئ الذي تغفله الشركات متعددة الجنسيات، بل على العكس، هي أساليب عادية ومتداولة لإنجاز الأمور من قبل هؤلاء. إن هذه السياسة والعواقب المترتبة عليها، تشكل مشهدا جديدا للتضاد والمواجهة بين منطقين، لأنه بالنسبة لشركة متعددة الجنسيات، فإن انتخاب برنامج دعائي جرب سابقا، أسهل بكثير من عرض أو إنتاج منتجات حديثة تتطابق مع الاحتياجات المحلية الخاصة.
المصادر:
1-    همايون فر، علي، “من استقلال الدول وحتى مغامرات الشركات متعددة الجنسيات”، صحيفة رسالت، (11 مهر 1383)، ص 7
2-    أيزاك، روبرت.اي، “استراتيجية الشركات متعددة الجنسيات والاستثمارات الاجنبية”، ترجمة مهدي تقوي، صحيفة اطلاعات (19 خرداد 1380)، ص 12
3-    نجند، مجكان، “المنتجون الغربيون، وراء الأزمة الغذائية في العالم”، صحيفة كيهان، 9 خرداد 1387، ص 12
4-    عراقي، مهدي، “العالم لم يخضع للشركات متعددة الجنسيات”، صحيفة ابرار، ص 6
5-    كاليش، ديفيد، “تواطؤ الشركات متعددة الجنسيات في إنتاج السجائر وسينما هوليوود”، ترجمة كيكاووس زياري، سينما، العام الخامس، العدد 242، ص 22
6-    سويزي، بل، “الشركات متعددة الجنسيات”، ترجمة سهراب بهداد، ص 75
7-    رهنما، سعيد، “الشركات متعددة الجنسيات والبلدان النامية”، ص 42 

شاهد أيضاً

الجاهلية الحديثة ( الثانية): ماكيافيلي والسياسة

محمد رجبي من أجل الفهم الأمثل لآراء ونظريات ماكيافيلي، لابد بداية من معرفة مفهوم التجدد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *