الثلاثی المقدس (القسم الثانی: التعارض الجوهری بین الشرق والغرب)

لیس خافیا بان الحدیث عن الشرق والغرب والفوارق بینهما، أمر یتسم بالقدم. إن هذا التباین والتمایز یتجسد فی الفوارق الثقافیة قبل أن ینسحب على الموقع الجغرافی والإقلیمی. وكل الذین تحدثوا منذ غابر الأزمان عن الشرق والغرب، جاؤوا على ذكر التمایز الثقافی الجاد والرؤیة العامة لسكان الشرق والغرب حول الكون. ومن هذا المنطلق طرحت “قضیة الشرق”.

القسم الثانی :
التعارض الجوهری بین الشرق والغرب
اسماعیل شفیعی سروستانی

لیس خافیا بان الحدیث عن الشرق والغرب والفوارق بینهما، أمر یتسم بالقدم. إن هذا التباین والتمایز یتجسد فی الفوارق الثقافیة قبل أن ینسحب على الموقع الجغرافی والإقلیمی. وكل الذین تحدثوا منذ غابر الأزمان عن الشرق والغرب، جاؤوا على ذكر التمایز الثقافی الجاد والرؤیة العامة لسكان الشرق والغرب حول الكون. ومن هذا المنطلق طرحت “قضیة الشرق”.
وینقل “فیثاغورس” فی مذكراته التی تعود إلى القرن السادس قبل المیلاد وتعد أحد أقدم النصوص المتبقیة من الیونان القدیمة ، ما شهده خلال فترة الأسر أو رحلاته إلى الشرق ویقول إنه دخل فی حوار مع الزرادشت حول مختلف القضایا لكنهما لم یتوصلا إلى رؤیة مشتركة.
وفی الختام یتوجه الزرادشت إلى فیثاغورس فیقول:
“لقد راجعت تجارب القرون السالفة، إبق انت منهمكا بتعلیم الشرق. انی لا أتفق مع تعلیم الشرق، فالاجیال القادمة ستحاكمنا”.
وقد ورد ذلك فی كتاب رحلات فیثاغورس الذی صدر فی إیران عام 1984 وكذلك كتاب “الدراسات الإسلامیة فی الغرب” لمؤلفه الدكتور الویری.
وحتى أن أرسطوا اهتم هو الآخر بالتباین بین الفكر والثقافة الشرقیة والغربیة،  واعتبر فی محاولة للكشف عن السبب الرئیس لهذا التباین، بان الظروف المناخیة فی الشرق والغرب هما وراء ذلك. وقال إن الشمس الساطعة والمناخ الحار للشرق أدى إلى تنامی وتطور هذه الحضارة وبالتالی بروز التباین بین هویة ومبادئ الحضارتین الشرقیة والغربیة. وفی العصر الحدیث أبدى المفكرون الغربیون أیضا اهتماما بهذا الموضوع.
وینقل “بارتولد” المؤرخ والمستشرق الروسی عن “وینكلر” قوله بان جمیع أشكال الحضارة البابلیة القدیمة تمثل تطور فكر ما، الفكر الذی یشكل أساس النظرة العالمیة للشرق. وبعد توضیح هذه النظرة العالمیة یقول:
“إن الفارق الجوهری بین معرفة الروح لدى الأوروبیین منذ عهد الیونانیین ومعرفة الروح لدى شعوب الشرق، هو على صلة بنظریة الرؤیة العالمیة آنفة الذكر”.
وینقل مؤلف كتاب “الدراسات الإسلامیة فی الغرب” عبارة جدیرة بالإهتمام عن مؤلف كتاب “الیونانیون والبربر” ویقول:
“أرید أن أبرهن بان السبب الرئیس للعداء غیر القابل للإنكار الذی كانت تناصبه الیونان لغریمها الشرقی، وحیث أن التاریخ لم یشأ من خلال أحكامه المحایدة، إزالة الشوائب عنه، هو التنافر المتجذر بین هاتین النظرتین العالمیتین والنمطین المختلفین من التفكیر لدیهما. أی الخلافات اللدودة حول السلوك الآدمی ومهمته فی العالم وكماله الغائی المنشود فی الحیاة ككل”.
وقدم كاتب اخر تحلیلا مسهبا وموثقا فیما یخص أوجه افتراق جوهر التجربة المعنویة الاسیویة عن الفكر الغربی، وكان فیما كان بصدد اثبات: 
“إن الفكر الفلسفی هو غربی أساسا وإن الفكر الاسیوی هو عرفانی أصلا”. 
وقد بین داریوش شایكان فی كتاب “اسیا فی مقابل الغرب” وفی أربعة فصول أوجه اختلاف هذا التمایز.
وقال أحد المستشرقین ویدعى “رادیارد كیبلینغ”:
“إن الشرق، هو الشرق والغرب هو الغرب وإنهما لن یلتقیا أبدا”.
وقد ورد إسناد هذه المقولة فی الصحفة 27 من كتاب “الدراسات الاسلامیة فی الغرب” نقلا عن “البستانی، 1997، المجلد 12، ص 12”.
ومن أجل أن نكون قد أزحنا الستار فی هذا البحث المقتضب عن معرفة الغرب باوجه تمایز ثقافته عن الشرق، نذكر نماذج عن بروز هذه المعرفة فی النصوص الثقافیة. إن الأعمال الثقافیة والأدبیة تكشف النقاب بلغة شاعریة واستعاریة عن الكثیر من الموضوعات. 
وفی ملحمة “الإلیاذة والأودیسة” الشعریة التی وضعها الشاعر الملحمی الیونانی هومیروس فی القرن التاسع تقریبا قبل المیلاد، یشن الإلیاذة وهو ممثل الانسان الغربی فی حرب طروادة وفی اكثر مشاهد هذه الملحمة إثارة وتشویقا، حسبما یقول الدكتور الویری، هجوما على “فیكتور” ممثل الانسان الاسیوی والشرقی حتى ینتصر علیه بحقد.
إن كتاب الرحلات المنسوب إلى فیثاغورس والمتعلق بالقرن السادس قبل المیلاد یتطرق مباشرة إلى الشرق والتعریف باداب وتقالید وطقوس الایرانیین.
إن “هیرودوت” المؤرخ الإغریقی الشهیر الذی عاش فی القرن الرابع تقریبا قبل المیلاد، یقدم معطیات كثیرة عن الشرق.
ویتطرق “غزنفون” تلمیذ سقراط ومؤلف كتاب “حیاة كوروش” أكثر من أی عمل تاریخی اخر إلى  أخلاق وتقالید الشرقیین ومنهم الإیرانیین على وجه الخصوص. ویتحدث فی أرجاء كتابه عن الرجال الوسیمین وطوال القامة والشجعان والرماة الإیرانیین ویثنی علیهم.
ولا ننسى بان المسیحیة هی دین شرقی أصلا إنتقل إلى الغرب. فی حین إن الغرب لم یحتضن المسیحیة بالكامل ولم یذب فیها. بحیث إن المسیحیة إمتزجت منذ القرن الثالث للمیلاد بالتعالیم الغربیة المشركة وتحولت إلى مذهب غربی عندما رضخت للانتقائیة والإنحراف.
آن نسبة إطلاع الغرب على التعارض الجوهری لثقافته مع الشرق والاسلام غیر متكافئة مع نسبة إطلاع المسلمین على الغرب. ولهذا السبب فان المسلمین قدموا خلال السنوات المئتین الماضیة التنازلات للغرب الواحد تلو الاخر وامضوا حیاتهم فی التمنی وتراجعوا عن مطالبهم، لإنهم دخلوا الساحة على أمل ترویض الغرب ولإنهم كانوا یجهلون تعارضهم مع العالم الغربی. مثلما انهم لم یكونوا یعرفون بان هذا التعارض جوهری ولیس صوریا.
وإن كان التعارض صوریا لكان بالامكان إزالته بالحوار واللقاءات الثقافیة لكن عندما یكون التعارض جوهریا لا یمكن معالجته بالطرق البسیطة والصوریة. إن تعارضات كهذه هی أكثر جدیة بكثیر من ان یمكن ازالتها من خلال حوار بسیط.
إن المسلمین قلما یعرفون مدى تباعدهم وانفصالهم عن الغرب مقارنة بما یعرفه الغرب عن عدائه لهم لان الغرب میز أوجه الإنفصال والتمایز لكن المسلمین لم یفعلوا ذلك.
إن وجود المراكز العلمیة والدراسیة ومراكز الاستشراق العدیدة فی الغرب والمستشرقین الذین زاروا الشرق وجمعوا معطیات كثیرة وأخذوها معهم وكذلك وجود مراكز الدراسات الاستراتیجیة حول الاسلام، كان كافیا لكی یفهم الغرب المسافة التی تفصله عن الإسلام والعالم الاسلامی.
وهناك فی جامعة واشنطن DC  وحدها ما یزید على 130 مادة حول الإستشراق والدراسات الاسلامیة وهذا الأمر مثیر للانتباه من أن جامعة غربیة واحدة فقط تضم أكثر من 130 مادة تتعلق بالشرق والإسلام، فی حین إن الشرق یفتقد بصورة جادة حتى إلى مركز واحد للدراسات الغربیة.
ولنتطرق الان الى التعارض الجذری بین الغرب والاسلام.
إن الموضوع الاول الذی یظهر التعارض بین الغرب والشرق یعود الى طریقة التفكیر.
إن رؤیة الانسان الشرقی الى العالم تستند الى التفكیر القلبی وهی تختلف عن نمط الرؤیة المادیة وحتى المیتافیزیقیة للغرب الى الكون. ولهذا التفكیر مراتب مختلفة تتبلور بصورة متكاملة وخالصة فی الفكر الدینی للاسلام. أی ان تلك النسبة من الكمال والخلوص التی توجد فی الفكر الاسلامی، لا توجد فی باقی المدارس والثقافات بما فیها الثقافة الیابانیة والصینیة.
وقد أشرنا سلفا بعبارة مقتضبة بان لب وجوهر الكتب السماویة  والوحی الالهی هو الشرق. ان الشرق والغرب هما مفهومان ثقافیان قبل ان یكونا مفهومین جغرافیین. وهذا المفهوم تبلور فی ناحیة من الشرق الجغرافی واخذ طابعا شرقیا. وربما یمكن القول بانه منطقة جغرافیة ظهر وبرز فیها بنحو ما انطباع ماورائی وسماوی. وان هذه الالفاظ هی رموز فحسب ورمز لحقیقة ظلت خافیة ومستترة لحد الان بسبب الثقافة الغربیة.
ان التفكیر القلبی یفصل الشرق عن الغرب وهذه القضیة تشكل الوجه المهم لهذا التمایز والانفصال.
والنقطة التی تقف على نقیض التفكیر القلبی، هی الفكر المیكانیكی والكمّی. ویتركز جل اهتمام ورؤیة الانسان الغربی الكمّی النزعة على العالم المحسوس والفیزیقی. وینظر الى العالم والانسان من هذه الرؤیة. ان التعریف الذی یعطیه عن مقام الانسان فی الكون، وعن الخلقة والكون ومهمة الانسان فی الكون، قائم تماما على هذا التفكیر الكمّی والمیكانیكی.
إن الفكر لیس موضوعا بسیطا، وهو یسهم فی إیجاد الردود على التساؤلات الأساسیة. تساؤلات من قبیل “من أین أتیت؟ وما سبب مجیئی؟ وإلی أین ذاهب فی الآخر؟ وأین هو وطنی”؟
وفی جغرافیا الفكر والمعتقد – وما یطلق علیه فی العصر الحاضر النظرة العالمیة – ثمة قوم یعطون تعریفا عن الإنسان والعالم والوجهة النهائیة وحتى إنهم یبینوا طریقة الرحیل.
إن الشرق الاسلامی ولانه یعتبر إن للعالم الفیزیقی الممثل بالكون عالما یتمثل بالمیتافیزیقیا وماوراء الطبیعة؛ فانه ینفصل عن الفكر ذی النزعة الكمیة والمادیة الغربیة. وهذه الصورة تشكل أحد الجوانب المهمة للتعارض بین العالمین الغربی والشرقی. والغرب على إطلاع تام بهذا ویعرف ان الفكر السائد فی الشرق هو فكر قلبی وأصولی فی حین انه لا یؤمن بهكذا فكر وإن رؤیته مادیة فحسب، تنحصر فی عالم المحسوسات والمذهب التجریبی.
ولهذا السبب فان المذهب التجریبی هو مدرسة سائدة وساریة فی الغرب؛ لاسیما فی بریطانیا أی إن المذهب التجریبی یشكل أساس الفكر والرؤیة البریطانیة.
وفی المذهب التجریبی، فان كل ما یندرج فی إطار المحسوسات والتجربة قابل للدراسة والتمحیص والقبول.
وفی سیاق هذه القضیة یظهر الفكر الساری فی الشرق الإسلامی وجهه الاخر المتمثل فی أن المرتكز والحجة لدى المسلمین هو عقل الهدایة لكن المرتكز فی الغرب هو العقل الوسیلی أو ما یسمى عقل تدبیر المعاش.
وفی الشرق الاسلامی یحتل العقل الكمی وعقل تدبیر المعاش، أدنى مرتبة من مراتب العقل.
وفی هذا الإطار هناك نوع من أوجه الاشتراك اللفظیة التی تدفعنا إلى الوقوع فی خطأ. إن تعریف الغرب عن “العقل” مترادف لمفردة “راشیونال rational” وهو یختلف عن معنى ومفهوم العقل فی الشرق الاسلامی. إن ذروة العقل والتعقل فی الغرب تتمثل فی العقل الوسیلی والعقل الجزئی. العقل الذی یتجسد أداؤه فی العالم المادی والمحسوس، فی حین إن ذلك العقل الكمی وعقل تدبیر المعاش یحتل فی الشرق لاسیما الشرق الاسلامی أدنى درجات ومراتب العقل ولن یكون فی غنى أبدا عن عقل الهدایة.
وفی الغرب یعتبر عقل تدبیر المعاش منفصلا ومستقلا ولا یرتكز على عقل الهدایة وأی هاد سماوی لا یوجه عقل تدبیر المعاش الغربی لكن فی الشرق الاسلامی عقل تدبیر المعاش یمیز الحق عن الباطل مستندا بذلك على الهدایة الوحیانیة. فی حین لا مكان للحق والباطل فی النطاق الفكری والثقافی للغرب، بل إن الأصل والأساس هو الرغبات النفسیة والمادیة للانسان. ومطلب كهذا یبقى سجین جغرافیا المحسوسات فیما یعد العقل الوسیلی كافیا لادارة وتنظیم الشؤون الدنیویة على ما یبدو.
إن الغرب على إطلاع كاف بهذه الأمور، ویعرف بان المراتب العلیا للادراك الفكری ساریة وجاریة فی الشرق الاسلامی، الشئ الذی یتصرف تاسیسا على الوحی فی حین ان الغرب متورط بالعقل الوسیلی.
ولا یمكن تجاهل أن “الفردیة” فی الثقافة الغربیة بارزة وواضحة للعیان. فالانسان الغربی ومجمل نطاق حیاته متأثر بالعالم المادی. بعبارة أخرى فان عنصر “هذه الدنیا” هو الغالب والسائد فی جمیع مجالات الثقافة الغربیة، على النقیض من المجالات الثقافیة للشرق حیث إن عنصر “الآخرة” السرمدی والباقی یطغى على هذا العالم المادی.
ففی الشرق، یعیش الإنسان من أجل “الآخرة” ویعتبر أن “الدنیا مزرعة الآخرة” وینظر إلى الدنیا حسبما تمیله علیه الضرورة ویمرر الأیام وهو یصبو للتحرر والطیران نحو العالم الآخر. فی حین ان ارتشاف وابتلاع جرع الحیاة الحسیة والمادیة والتعلق والانتماء المتزاید لهذه الدنیا هو من خصائص الانسان الغربی. وبناء على ذلك فان الإنسان المجبول على الثقافة الشرقیة یغور فی الثقافة المعنویة وبالتالی لا یقدم أبدا “هدفا” مستقلا ونهائیا عن العالم والحیاة. لذلك فان الذین یترعرون وینشأون فی كنف الثقافة الغربیة یفرضون أزمة شاملة على حیاة الانسان. ولا مفر لاحد من هذه الازمة الشاملة، وحتى أن الغرب لا طریق للخلاص والنجاة أمامه للتحرر من هذه الازمة. 
والنقطة الاخرى التی ترتبط بالتعارض بین الغرب والشرق الاسلامی هی اهتمام الانسان الشرقی بعالم الغیب. فی حین ان الانسان الغربی لا یقیم وزنا للغیب. ان “المذهب التجریبی” یلقن الانسان الغربی بان كل شئ یجب التسلیم به وقبوله ان تمت دراسته وتقییمه باداة محسوسة وتجریبیة كما یجب رفض ونبذ كل شئ لا یمكن اثباته باداة التجربة. وبما ان العوالم الغیبیة والكائنات التی تسكن عوالم الغیب والمجردات لا تتاطر باطار التجربة الحسیة فانه یتم انكارها. لذلك تم تجاهل غیب العالم والعالم الغیبی اللذین یحظیان باهتمام الانسان الشرقی لاسیما الشرق الاسلامی وهذا الامر الحق خسائر فادحة بالعالم الغربی واوجد أزمات واربك التوازن بین الكونی.
لكن فی الشرق الاسلامی لا یعتبرون ان عالم الكون، مُهمَلا. فهناك لكل شئ ظاهر وباطن. ولكل شئ یشاهد فی العالم الظاهر، باطن فی عالم اخر. ولكل امر فی العالم المُلكی وجه فی العالم الملكوتی. ولكل فعل فی عالم المُلك اثر فی عالم الملكوت. وكل من یتصرف بمناى عن ملكوت الكون، یتسبب بحدوث أزمة، لا أن یُهمل عمله ولن یكون له ای اثر، بل ان كل فعل ینجزه سیكون له دور فی العالم الآخر. لذلك فان هذه الاعمال تؤدی الى الارتباك فی جمیع العوالم. ولهذا السبب فان كل ما یشاهد فی العالم المُلكی له جذر وأساس وأصل فی عالم الغیب، وكل شئ فی العالم المُلكی لا یخلو من الروح. فله عنوان قدسی وبعبارة عرفانیة وأجمل، لكل شئ إسم ومسمى، ولكل شئ فی العالم الذی نعیش فیه، رمز فی عالم الغیب. فالكل ایة تخبر عن الحقیقة. إن كل شئ فی هذا العالم هو اسم الله وإن رؤیة من هذا القبیل جعلت الرؤیة الشرقیة صافیة وخالصة.
إن الغرب یمر بعهد الطفولة من الناحیة الفكریة، ولم یكتمل عقله بعد. ان ضوضاء وترف وزخرف الماكینة والتقنیة، تخدعه. انه یلعب مع كل شئ وهذا اللعب لم یكن له نتیجة سوى إثارة الازمات.
والوجه الثالث لهذه المواجهة، هو الفكر الولائی الخاص بالانسان الشرقی المسلم.
إن الانسان الغربی لا یقبل الا بولایة التكنیك والتكنولوجیا. ولا شئ یحكمه سوى التكنیك والتكنولوجیا، لكن الفكر الولائی جار بانماط مختلفة فی فكر الشرق الاسلامی، ویعتبر أحد الوجوه المهمة للفكر الشرقی. ان الانسان الشرقی لا یعیش من دون ولی. وهذا الانسان یكن الولایة تجاه هذا الولی. إن الولایة تعنی الحب. والولایة تعنی الادارة.
إن مقدمة قبول تلك الادارة، هی الحب والعشق. ان الحب هو جزء لا یتجزأ من حیاة الانسان الشرقی. انه لا یعیش من دون حب. ان روحه مجبولة على العشق والحب، انه لا ینظر الى الكون من دون هذا الحب. لذلك فان الفكر الولائی یشكل جوهر الانسان الشرقی. وهذا الفكر الولائی الذی یدفع الانسان باتجاه قبول الولایة.
أی ان قبول ولایة الانسان المتكامل یاتی استنادا الى وجود الفكر الولائی. وكما ورد فی حدیث للامام الصادق (ع):
“ألیس الدین إلا الحبّ”
إن الحب یتموج فی هذا البحر، وقبول الولایة هذه – والمتلازم مع العشق والمحبة اللامتناهیة – یاتی لكون “الولیّ” أشرفا واكثر تفوقا ولسبب القدرات والخصائل والخصائص التی تمیز “الولیّ” عن سائر الناس والكائنات ولهذه الامتیازات فان سائر الناس یمجدونه ویكرمونه ویكنون الحب له.
وفی الغرب فان الولایة والحب لا معنى لهما. فالحب قد نحر هناك وحلت النزوة العابرة محله. ان الحب و Love تحول الى نزوة بالنسبة له، وهو فی الحقیقة عودة النزوات النفسانیة لا انعكاس التمنیات والطلب الروحانی.
إن الحب ینبع من الروح بینما النزوة تنبع من النفس الأمارة، وبما انها تنبع من النفس الأمارة فانها تثیر الهواجس وبما انها تضرب  بجذورها فی النفس الامارة فانها تفضی الى أزمات. ان التشنج والضبابیة والازمات هی حصیلة هذه النزوة.
لكن فی الشرق فان العشق والمحبة تنبعان من الروح وبما ان الروح ترتبط بالعالم النورانی الطاهر، فانها لن تؤدی الى العتمة والظلام بل انها تزیل الضبابیة. فی حین ان الغرب یزیل الفكر الولائی ویضع محله مدرسة تعطی الأصالة للفرد ولا یطیق سوى ولایة التكنیك والتكنولوجیا.
إن التكنیك والتكنولوجیا هما اللذان یفرضان كحاكم رایهما وقرارهما على الانسان الغربی ویجعلانه عبدا لهما. لذلك فان وضع الانسان یتغیر یومیا مع تغیر الارقام والاحصاءات الكمیة.
إن الوجوه الاربعة التی وضحناها تحدد وتظهر بوضوح أوجه التعارض بین الشرق والغرب.
إن هذه الموضوعات قد تكون فی الطور الفكری والثقافی لكنها تظهر نفسها فی الاطوار اللاحقة على أرض الواقع، بعبارة اخرى فانه یمكن مشاهدة هذه المبادئ الفكریة والفلسفیة فی العلاقات السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة للغرب الذی تبنى علاقاته الاجتماعیة والسیاسیة على هذه المبادئ اصلا.
إن الاصالة التی یضفیها الشرق الاسلامی على عالم الغیب والقیامة ادت الى ان یقف الشرق الاسلامی فی مقابل مدرسة تعطی الاصالة ل “الحال” و “الزمن الحاضر”.
إن الانسان الغربی یعیش “بلا تاریخ” و “بلا مستقبل”. فهو لا یرسم مستقبلا له. لانه لا یاخذ بعین الحسبان عالما روحانیا ما بعد الحیاة على الارض. ان نهایة الحیاة بالنسبة له هی النهایة ذاتها. انه لا یقیم اتصالا مع العالم المعنوی ولا یتعلق بالماضی، لان كل شئ هو أمامه تاسیسا على مبدأ “التقدم” او “البروغرس” الا وهو التطور والتنمیة من حیث الكم، ویعتبر كل نتاجات وادراكات القدماء حصیلة الجهل والخرافة، الا اذا تم اثباتها عن طریق أداة التجربة والحس. لذلك فانه یعتبر الماضی حصیلة الجهل والخرافة فضلا عن انه لا مستقبل له، لانه مظلم وغامض وضبابی. لذلك فانه یعطی الاصالة للحال والوقت الحاضر. وربما یمكن مشاهدة النموذج الحقیقی لهذه القضیة فی الصحافة والاخلاق الصحفیة، وهو الشئ الذی یُدرس فی علم الاتصال والعلوم الحدیثة. وهناك یعطون ایضا الاصالة للحال.
لقد أجرى الغرب دراسات معمقة فی هذا الحقل وهو على علم تام بتباینه الجوهری مع الشرق الاسلامی.
وكنت اقرأ ذات مرة فهرس بحوث مركز الدراسات الشرقیة فی الیابان، واحد الموضوعات التی لفتت انتباهی هی الدراسة التی اجریت بشان “لكنة أهالی مدینة لارستان بمحافظة فارس الایرانیة”.  فی حین ان التلامذة الایرانیین لا یعرفون حتى این تقع “لارستان” وفی أی منطقة ومحافظة، لكنهم یدرسون لكنة اهالی لارستان.
وهذه القضیة تظهر مدى اتساع نطاق دراساتهم وبحوثهم.  انهم خاضوا غمار جمیع الطبقات المتعلقة ببحوث ودراسات الشرق.
إن الزیارات التی تمت خلال الاعوام المائتین او الثلاثمئة الاخیرة الى العالم الشرقی والزیارات التی قام بها مستشرقون وساسة واشخاص مثل “مستر همفر” البریطانی واسسوا فرقا مثل الوهابیة والكتب العدیدة التی الفت حول الشرق، تظهر كلها مدى عمق واتساع الدراسات التی اجراها الغربیون حول الشرق الاسلامی.
ویجب معرفة الفوائد التی یجنیها الغرب من هذا الامر؟
1-    إن الغرب وبعد اجتیاز عصر “القرون الوسطى” واعادة النظر فی التعالیم الدینیة انتقل الى التاریخ والعصر الحدیثین وأزال خلال عملیة طویلة اثار التعالیم المسیحیة من الطبقات والشرائح المختلفة من ثقافة الانسان الغربی وحیاته. لذلك فان العودة الى التقالید والتعالیم الدینیة واحیائها سیكونان بمثابة زلزال یزعزع التاریخ والثقافة والحضارة الغربیة. ان سر التاكید الدائم على ظلامیة القرون الوسطى وتحذیر الناس من اعادة النظر فی احداث تلك الحقبة الزمنیة یعود الى الخوف الذی یكتنف الغرب من اداء الاصولیة.
2-    والنقطة الثانیة تعود الى الشرق الاسلامی. ان هذا الامر، یساعد المنظرین والسیاسیین الغربیین الذین هم دائما بصدد فرض هیمنتهم على الشرق الاسلامی، لبسط ونشر العلمانیة واللیبرالیة بین الجیل الصاعد فی الشرق والعالم الاسلامی، تمهیدا لتقویض مبادئ الفكر والمعتقدات الاصولیة الاسلامیة وبالتالی ترسیخ وتثبیت دعائم وركائز الوجود والحضور الغربی فی الشرق.
وهنا یكمن الهدف الرئیسی من علمنة الشرق الاسلامی وثقافته. وهذا الواجب تتولى تادیته وسائل الاعلام وعلماء الاجتماع والمثقفون العلمانیون والاكادیمیون الغربیون والاخرون المنبهرون بالغرب وكذلك الفنانون وغیرهم. كما ان الماسونیة اضطلعت على مدى الاعوام المائتین الاخیرتین بدور رئیسی فی علمنة الثقافة والدیانة الشرقیة.
إن اهم البرامج والخطط الثقافیة الغربیة ضد الشرق الاسلامی والمسلمین تتمثل فی إثارة التخوف من التقالید والتمسك  بالتقالید واظهار الحداثة بانها على قدر كبیر من الجذابیة والحیویة والاهمیة والایحاء بان اعتماد الحداثة (من دون الدین والاخلاق) امر لا مناص منه من اجل استمرار الحیاة وبالتالی ایجاد هوة بین الاجیال السابقة والجدیدة. وهو الامر الذی یمكن التعبیر عنه ب “الغزو الثقافی”.

یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

 

شاهد أيضاً

الثلاثي المقدس ( القسم الثاني عشر: وجود القدس في الشرق الاوسط)

اسماعيل شفيعي سروستانيواضافة الى ما ذكر، فان مدينة القدس تقع في هذه المنطقة. ولا بد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *