الدكتور أحمد سيف
إن النظام الاقتصادي الرأسمالي مبني أساسا على إنتاج السلع. إن الإنتاج والتوزيع ومن ثم استهلاك السلع يؤدي إلى تكدس رأس المال لأجل المزيد من الإنتاج. وإن غابت أي من هذه الحلقات، فإن النظام الاقتصادي القائم سيتعثر. ومن هذا المنطلق فإن الدعاية التي تضطلع بدور مهم في نشر ثقافة الاستهلاك، تكتسي أهمية بالغة لإكمال هذه الحلقة. وفي بادئ الأمر كانت الدعاية تتسم بطابع الإعلام والإخبار. وقبل نحو مائة عام، كان يتم إبراز بعض خصائل السلعة التي تدخل السوق للتو،…
الدكتور أحمد سيف
إن النظام الاقتصادي الرأسمالي مبني أساسا على إنتاج السلع. إن الإنتاج والتوزيع ومن ثم استهلاك السلع يؤدي إلى تكدس رأس المال لأجل المزيد من الإنتاج. وإن غابت أي من هذه الحلقات، فإن النظام الاقتصادي القائم سيتعثر. ومن هذا المنطلق فإن الدعاية التي تضطلع بدور مهم في نشر ثقافة الاستهلاك، تكتسي أهمية بالغة لإكمال هذه الحلقة. وفي بادئ الأمر كانت الدعاية تتسم بطابع الإعلام والإخبار. وقبل نحو مائة عام، كان يتم إبراز بعض خصائل السلعة التي تدخل السوق للتو، على هيئة إعلانات تجارية. وقلما كان يحدث أن تكون الإعلانات التجارية تدور حول موضوع آخر غير السلعة. بعبارة أخرى فإن الدور الرئيسي للدعاية في هذه الحقبة الزمنية كان يتمثل في الإعلام والإطلاع. لكن ومنذ عام 1925 تغير هذا الأسلوب الدعائي. فقد توصلت الشركات إلى نتيجة مؤداها بأنه يجب اعتماد رؤية مختلفة ليكون هناك مزيد من المبيعات. ومذاك، حاولت الإعلانات التجارية ربط السلع بالطلبات والرغبات الإنسانية. وأحد أبسط مطالب الإنسان هو الرغبة الجنسية ومن هنا بدأت عملية استثمار – وفي الحقيقة استغلال– المرأة في الدعاية. وقلما يحدث أن تظهر السلعة بمفردها في الإعلانات التجارية بحيث أن القارئ أو المشاهد لا يتعرف كثيرا على مواصفات السلعة ذاتها. وفي المقابل يحاول الإعلان التجاري عرض سلسلة من الصور.
وفي هذه المحاولة يتم إقحام جسد المرأة في الصورة سواء كاملا أوجزئيا لكي يتم بيع السلعة المنشودة. وبصرف النظر عن باقي النتائج فإن أحد تبعات ذلك هو خلق صورة غير حقيقية تماما عن المرأة. إن نساء الإعلانات التجارية لا يوجدن في أي مكان. وفي المقابل فإنه يتم من خلال حقن الانعدام الأمني وعدم كمال المرأة ونادرا الرجل، الإيحاء في الإعلان التجاري بأن استهلاك السلع المستهدفة يزيل أي نقيصة – حقيقية كانت أم غير حقيقية-.
والرسالة الرئيسية في جميع الإعلانات التجارية تقريبا هي ما المواصفات والخصائل التي يجب أن تتحلى بها المرأة أو الرجل الماثلي. وفيما يخص الرجل الرسالة واضحة المعالم: يجب أن يكون قويا وثريا ورياضيا ويملك الاعتداد بالذات. وفيما يخص المرأة فإن القاسم المشترك في الرسالة هو أن المرأة يجب أن تكون جميلة. ولابد هنا من القول بأن الدعاية ليست هي مبدعة هذه الرؤية إلى المرأة، لكن ما فعلته وتفعله الدعاية هو جعل هذه الصورة عن الجمال بعيدة المنال أكثر فأكثر . واحدى التداعيات الجادة للدعاية هو أن هذا الجمال فريد من نوعه وحكري وحصري، وتكون العاقبة هو المزيد من العذابات والتالم للمرأة وربما موتها.
وهذه الصورة الفريدة والعارية عن أي عيب ونقص والتي تبرز الجمال والأنوثة هي صورة امرأة : شابة ونحيفة وذو عينين زرقاويتين وأسنان ناصعة البياض كبياض الثلج وجميلة التركيبة ووجه لا توجد فيه أدنى تجاعيد أو تغضنات. وهذه الصورة والتركيبة لا توجد أصلا على أرض الواقع في الحالة الطبيعية. كما أن هذه الصورة العارية عن أي عيوب هي غير حقيقية في معظم الحالات، أي إننا قلما نشهد أحدا بهذه المواصفات الجمالية. ويضطلع المصورون ومتخصصو الماكياج ومعالجة الصور وكذلك جراحو التجميل بدور أساسي في تجميل وتعديل هذه الصورة الجذابة والخلابة للغاية. بعبارة أخرى فإن هذه الصورة الجميلة والأسرة هي وهم يُختلق على يد مجموعة من الاشخاص. وكما قلنا فإن هذه الصورة يتم تخليقها بشق الأنفس. ومعظم الصور التي تنشر في المجلات والصحف هي تقريبا حصيلة ساعات من العمل يقضيها المصورون ومعدلو ومعالجو الصور وآخرون لتجميلها وتعديلها. ويقول لوئي غراب في هذا الخصوص:
إن وظيفة هذه الفئة من الفنانين هي تحسين وتعديل الصور الحقيقية وإزالة الثغرات والنقائص عنها.
وعندما نشاهد في بعض الأحيان صورة، هي في الحقيقة صورة مركبة. أي إنه يتم تجميع وتركيب الصورة وإلصاق فم من موديل وذراع من موديل آخر وساق من موديل آخر فيها. وإحدى نتائج هذا النوع من الإعلانات التجارية هو دفع النساء اللواتي يعشن الواقع إلى العبث بصورهن الحقيقية وغير المركبة والمعالجة لتصبح على غرار هذه الصور المفبركة وغير الحقيقية. وبذلك فإن إحدى النقاط التي يجب التركيز عليها هي دور الدعاية في النيل من الثقة بالذات لدى المرأة . وطبعا إن الثقة بالذات المحطمة هذه لقاء الثمن الذي يدفع للحصول على المنتجات والمستحضرات، من المقرر أن يتم إعادة تأهيلها. لكن هذا وعد لا يرى النور وليس مقررا أن يرى النور أصلا، لأنه إن كانت حقيقة تكمن في هذه المزاعم، عندها ستتعثر مبيعات هذه المنتجات والمستحضرات.
وحسب التقديرات المتوافرة يمكن فهم أن الثمن الذي تدفعه النساء لقاء انعاكاسات هذا النوع من الدعاية كثير قليلا. فعلى سبيل المثال، تنفق النساء في أميركا ما معدله 33 مليار دولار سنويا لإنقاص الوزن و 7 مليارات دولار على مستحضرات التجميل و 300 مليون دولار على جراحة التجميل.
ومنذ نشأة الدعاية الحديثة عام 1920، كان الهدف الرئيسي من الإعلانات التجارية هو تاجيج الشعور باللاأمان الفردي. أو بالأحرى فإن الهدف والدافع الرئيسي من هذه الدعاية هو جعل الجميع غير راضين عن الطريقة التي يعيشونها. وسبب ذلك واضح، لأن المستهلكين الراضين لن يشكلوا مصدر ربح وفير.
والهدف الرئيسي والأساسي من الدعاية هو تعميق الهوة بين ما هي عليه المرأة وبين الصورة التي تظهر في هذه الإعلانات التجارية. ان هذه الهوة الأعمق من شأنها أن تبدد الاعتداد بالذات لدى المرأة . وفي استفتاء أجري على 33000 امرأة في أمريكا، قال 75 بالمائة من المستطلع آراؤهن إنهن يظنن بأنهن سمينات في حين أن 25 بالمائة منهن فقط كان لهن وزن زائد. وحتى إن 45 بالمائة ممن كن يعانين من نقص الوزن، كن يظنن أنه يتعين عليهن إنقاص وزنهن، لأنهن كن يعتقدن بأنهن سمينات. ومن جهة أخرى فإنه عندما تواجه المرأة هؤلاء الموديلات النحيفات ورمز الجمال، يصبح تناول الطعام لهن حتى مصدر عذاب وألم. وورد في تقرير آخر بأن 25 بالمائة من النساء في أميركا يتبعن الرجيم الغذائي في كل لحظة و 50 بالمائة منهن قد انهين للتو رجيمهن الغذائي أو يفكرن ببدء حمية غذائية. ويتضح من هذا التقرير بأن 50 بالمائة ممن استطلعت آراؤهن كن يتعاطين الدواء من أجل إنقاص الشهية لديهن و إن 27 بالمائة منهن يتناولن الأدوية السائلة المنقصة للشهية. وكان 45 بالمائة من النساء يصمن من أجل إنقاص الوزن و 18 بالمائة منهن يستعمل المسهل و 15 بالمائة كن يعبثن بأنفسهم من أجل تقيؤ الطعام. وفي هذه الظروف التي تنهمك فيها النسوة بإنقاص وزنهن، تتابع هذه الصناعات إنتاج هذه الفئة من العقاقير المساعدة لتصبح أكثر غنى وثراء يوما بعد يوم.
إن النفقات الرئيسية للدعاية والتي تتحول إلى نوع من التوعية الذاتية الاصطناعية، لا يمكن قياسها. وبالنسبة للنساء اللواتي يتاثرن بهذه الثقافة الدعائية تتحول الحياة إلى تقييس دائمي مرهق وحتى مُشل في معظم الحالات. إن هذه النسوة يضطرن لمتابعة وفحص أصغر أجزاء جسدهن ونظرا إلى الصورة غير الحقيقية التي ترسمها الدعاية عن المرأة المثالية، فإن هذه النسوة يصبحن غير راضيات دائما عن أنفسهن وبالتالي فإن عدم الرضا الدائم يتحول إلى انعدام الشعور بالأمن.
ويصاب الرجال في بعض الأحيان بهذه الثقافة الاستهلاكية ويقارنون زوجاتهم بالمرأة المثالية البعيدة المنال ويؤدي ذلك إلى الكآبة لدى طرفي هذه العلاقة الإنسانية. وعلى النقيض مما يتصور العامة فإن الدعاية لا تروج للعلاقة الجنسية الحرة بين المرأة والرجل بل تروج لعدم الرضا الجنسي بينهما. وإن عدم الرضا الجنسي هو بمثابة الزيت الذي يصب على نار هذه الثقافة الاستهلاكية ليذكيها. إن هذه الأجساد المثالية لكن بعيدة المنال التي تظهر في هذه الإعلانات التجارية تشكل السبب الرئيس للاستهلاك لدى المرأة والرجل. إن الثقافة الاستهلاكية بحاجة إلى سوق يكون فيه الرجل بحاجة إلى شئ وتصبح المرأة جاهزة للتحول إلى شئ. ويتم تحديد مواصفات هذا الشئ من قبل السوق وحاجة مصنعي هذه المنتجات.
والهدف الرئيسي في كل مرحلة، رسم صورة خاصة جدا عن المرأة ، تتميز بكونها تختلف عن الأغلبية المطلقة من النساء على أرض الواقع. وكلما ازدادت الهوة بين المرأة الحقيقية وما تعرضه هذه الصور، كلما كان ذلك لصالح الدعاية.
والوجه الآخر للدعاية، يتمثل في رسم صورة عن الدور الاجتماعي للمرأة . وتعطي الإعلانات التجارية في معظم الحالات صورة عن المرأة وهي تعمل بجانب وظيفتها، في الطهي وتنظيف البيت وتربية الأولاد وأن همها الوحيد كيف تزيل فلان بقعة من على قميص الرجل أو الصحون. وحتى إن الإعلانات التجارية التي تصور المرأة وهي خارج المنزل، تعطي صورة غير حقيقية عنها، أي إن هذه المرأة تعمل خارج المنزل فضلا عن ممارسة الطهي والعمل في داخل المنزل وكذلك تنشئة الأولاد. وعندما تتفرغ من هذه الأعمال يمكن لها أن تتحول من خلال استخدام مستحضرات التجميل هذه أو السلعة الاستهلاكية تلك إلى سوبر موديل جميلة ومثيرة.
ومع ذلك، ثمة رؤية تقول بأن هذه الإعلانات التجارية هي مثل المرآة تعكس كل ما هو موجود داخل المجتمع الديمقراطي. ورؤية كهذه قد تكون صادقة، لكن الحقيقة أن هذه الإعلانات التجارية تواصل إرساء هذه القناعة وهذا الحكم المسبق بان المرأة هي شئ ليس إلا، ويمكن استغلالها كيفما يشاء الرجل. إن تحول الإنسان إلى شئ يعد الخطوة الأولى لإيجاد ظروف تضفي الشرعية على العنف المضاد للإنسان.
وفي مجتمعات ما قبل الحداثة، فإن الظلم الذي كانت تعانيه المرأة كان يشكل أعظم المشاكل الاجتماعية، ويبدو في المجتمعات الحديثة ان خطوات اتخذت لتخفيض الظلم هذا، لكن استغلال النساء قد تصاعد بدوره.