الجاهلية الحديثة ( الثانية):الرأسمالية، تؤسس للتبرج الجاهلي

حوار مع الاستاذ شهريار زرشناس
ان موضوع الفارق بين الثروة ورأس المال، موضوع مهم للغاية. إن الخلط بين مفهومي هاتين المفردتين يحول دون تمكننا من وضع حدود محددة تفصلنا عن النظام الرأسمالي. ان رأس المال  هو مفهوم حديث تماما ولم يكن له ماض قبل هذا. إن ما كان يعرف في العصور السابقة، بالثروة أو الكنز، يختلف تماما عن مواصفات ومؤشرات رأس المال

حوار مع الاستاذ شهريار زرشناس
● رجاء، بداية ما الفرق بين رأس المال والثروة؟
O ان موضوع الفارق بين الثروة ورأس المال، موضوع مهم للغاية. إن الخلط بين مفهومي هاتين المفردتين يحول دون تمكننا من وضع حدود محددة تفصلنا عن النظام الرأسمالي. ان رأس المال  هو مفهوم حديث تماما ولم يكن له ماض قبل هذا. إن ما كان يعرف في العصور السابقة، بالثروة أو الكنز، يختلف تماما عن مواصفات ومؤشرات رأس المال. ان سلطة رأس المال التي تلقي بظلالها على النظام الرأسمالي تطلق على الأنظمة التي بنيت على أساس مفهوم رأس المال وتشكل النظام الاقتصادي للعصر الحديث. إن هذا المفهوم لم يكن له مصداق في القرون الوسطى وقبلها وكذلك في الحضارات الشرقية المندثرة في “الصين” و “إيران” و”بين النهرين”.
مواصفات مفهوم الرأسمالية
1-    إن رأس المال يتحرك باتجاه الجشع والربح الفاحش اللا محدود وغير المشروط ولا يحده شئ. ويقول عالم الاقتصاد الأمريكي المعاصر هايبرونر بأن الإنسان لم يكن في الأزمنة الغابرة حتى في العصر الكاثوليكي أو العصر اليوناني القديم، يصبو للربح الفاحش اللامحدود وغير المشروط ، بل ان هذا الإنسان هو وليد العصر الحديث. إن ارسطو الذي كان ينتمي إلى  الغرب اليوناني ويفتقد إلى  الفكر الديني، يندد بالجشع والنهم والربح الفاحش. إن الربح المشروط والمحدود الذي كان سائدا في الغرب قبل العصر الحديث ، كان بقدر معقول ومحدود يوفر قوت الإنسان بقدر ما يحتاجه بمنأى عن الكماليات والبذخ والترف والأغراض غير الضرورية؛
2-    إن أهم مؤشرات الرأسمالية هي أن الرأسمالية القائمة على سلسلة العمليات المتعاقبة ذي علاقة بالتخزين المستمر والمتتالي والمتزايد لرأس المال الذي يتحرك باستمرار على أساس زيادة الربح. في حين أن الثروة كانت تكتنز بعد جمعها ولم يكن لها تحرك؛ لكن رأس المال يحدث مناخا ومدارا في حواليه. وإن كان ملك في قديم الزمان يملك جبلا من ذهب، فإن هذا الجبل من الذهب لم يكن ليغير حياة وثقافة أحد ما، مثلما أن كل ذهب ملوك الهند لم يحدث تغيرا طيلة آ لاف السنين على الحضارة الهندية، لكن رأس المال يتحرك بدافع الربح والاستغلال اللامحدود واللامشروع باتجاه الزيادة وإيجاد تحرك ومناخ جديدين من أجل المزيد من الانتفاع والتكدس وهذه العملية لا نهاية لها وتستحدث تغيرا على الدوام طوال هذه الحركة. وهذا الموضوع يصرح به علماء الاقتصاد الغربيون، بمن فيهم هايبرونر وماركس وسومبارت (عالم الاجتماع وعالم الاقتصاد ألماني)؛ ولهذا السبب نشهد نظاما حافلا بالتغير في هذا التيار، وطبعا أضفت عليه التيارات والإعلام الغربيين، عنوانا قيميا وسمته بالديناميكية.
ومنذ القرن السابع عشر حيث سيطر النظام الرأسمالي على أوروبا وبعده في القرن الثامن عشر حيث بدأت الثورة الصناعية، شهدنا تغيرات وتطورات هائلة في العالم، وتغيرت كل حالات وعلاقات الحياة وعوامل الإنتاج. وشهدنا منذ عام 1850 حتى 1970، ثلاث موجات من الثورات الصناعية والتطور في التكنيك هي: ثورة البخار، ثورة الكهرباء والثورة الإلكترونية.
ومنذ عام 1980 ولحد الآن طرأت التغيرات بسرعة فائقة. ويقدم نظام العالم الحديث، هذه التغيرات على أنها قيمة، لكن لا يمكن اعتبار أي حركة ، قيمة، لأن القيمة هي التحرك باتجاه الكمال ومنح الكمال، وبهذا تكتسب قيمة لاسيما وإن هذه التغيرات والتطورات، تبعدنا عن الكمال ومنظومة القيم. إننا انتبهنا إلى عالم نتحرك من خلاله نحو الأدنى والأسفل على الدوام. والمهم أننا نتحرك وهذه الحركة الانحدارية تمثل قيمة الرأسمالية؛
3-    والنقطة الأخرى هي أن الرأسمالية في الغرب، لا يمكن تصورها من دون اليهود، واليهود هم من أسسوا الرأسمالية. وقد أنجز سومبارت بحثا مسهبا في هذا المجال و وضح سبب تمكن اليهود من إرساء هذا النظام في العالم: أولا، إنهم لا يتمركزون في موقع بعينه بل ينتشرون في أرجاء أوروبا والعالم، ثانيا، أنه على الرغم من هذا الانتشار، فهم على صلة وترابط معا في جميع أصقاع الأرض، مثلا انظروا إلى  عائلة روتشيلد، كان أحدهم مقيما في هولندا وآخر في بريطانيا في عصر لم تكن فيه الاتصالات كما هي عليه الان، وكانوا على ارتباط مع بعضهم البعض، وبرزت هذه الاتصالات بسبب الترابط القومي بينهم، فمثلا عندما كان يصدر يهودي حوالة في روما، كان يهودي آخر في لندن يستقبلها ويحولها إلى  مال، ثالثا، إن معظم السيولة النقدية كانت وماتزال في قبضتهم. ومنذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر كان جميع المرابين ومعظم الصرافين والمصرفيين والتجار في مختلف المدن الأوروبية من اليهود. وحتى إن ماركس اليهودي يقول: الرأسمالية تعني جعل العالم يهوديا. إن منطق الربحية وتكدس رأس المال والربا موجود فقط لدى اليهود، وحتى إن الثقافة الكاثوليكية في أوروبا كانت تستهجنه وتعتبره الكفر والإلحاد بعينهما؛
4-    والسمة الأخرى للرأسمالية، تتمثل في تجسيد علاقة استغلالية وشيئية وأدواتية مع الطبيعة والإنسان، تلك العلاقة التي نطلق عليها علاقة تكنيكية لا تكنولوجية. إن النسبة التكنيكية من دون وجود التكنولوجيا قد تحدث. في ضوء هذه الرؤية، فإن بإمكانكم تحويل كل ما هو أمامكم إلى  شئ.
● من أين انطلقت الرأسمالية وإلى  أي اتجاه تتجه؟
O من الناحية التاريخية، بدأت الرأسمالية من موانئ إيطاليا، بما فيها “البندقية” أو فنيسيا التي كانت بيد اليهود، وبلغت ذروتها مع توجه كريستوف كولومبوس الذي كان يهوديا متخفيا، إلى  أميركا والاستيلاء على أموال الناس في هذه المنطقة. ووقعت المرحلة الثانية مع احتكار إنتاج وتجارة القطن في حدود القرنين الرابع عشر والخامس عشر.  وتشكل أول رأس مال تجاري على يد اليهود القاطنين في جنوب أوروبا. وقد هاجر هؤلاء إلى  أوروبا الشمالية والمركزية لأسباب خاصة وتحركت بذلك أقطاب الرأسمالية إلى  هذه المناطق، لدرجة أن هولندا تحولت في القرن السابع عشر للميلاد إلى  قطب رأسمالي، وانتشرت الرأسمالية بعد ذلك في جميع أنحاء أوروبا لأسباب متعددة، منها ظهور البروتستانتية اليهودية الصبغة لاسيما البيوريتانية. ويقول سومبارت في هذا الخصوص:
إن البيوريتانية هي اليهودية. انظروا إلى  علم المهاجرين الأمريكيين وكتابة أسد يهودا.
وقد ساند الاستعمار، التيار الرأسمالي بقوة. وذهب الأوروبيون في هذه الحقبة الزمنية إلى  بلدان مثل أندونيسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية والمركزية. ومنذ القرن الثامن عشر فصاعدا، ذهب البرتغاليون بداية ومن ثم البريطانيون إلى  الهند لنهبها. وهذا النهب والسلب كان يحدث أحيانا عن طريق التجارة غير المتكافئة وكذلك عن طريق الاستعمار وتجارة الرقيق. وفي أعقاب هذا النهب والسلب، حدث تكدس هائل لرأس المال. وتكدس رأس المال هذا يبدا عملية جديدة حسبما تمليه الرأسمالية. وتبدا الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر للميلاد. وبداية تم تدشين ورشات يدوية للرأسمالية في القرن السابع عشر وتحولت في مطلع القرن الثامن عشر إلى  مونوفاكتور تم فيها تقسيم العمل وبالتالي زيادة المردودية وسرعة تنامي رأس المال.
وبعد اختراع مكنة البخار بدأت الثورة الصناعية والرأسمالية الصناعية رسميا. وهذا التيار، رسخ الاستعمار. ومنذ القرن التاسع عشر فصاعدا بدأت الرأسمالية الصناعية الليبرالية. وبرزت الاحتكارات في مطلع القرن العشرين وظهرت بعدها الرأسمالية المالية وبعدها الاعتمادية وفي النهاية الأزمات التي يشهدها عصرنا الحاضر.
● كيف يمكن تحديد مواصفات وملامح الرأسمالية في الحياة الفردية والاجتماعية الروتينية في العصر الحاضر؟
O إن الرأسمالية تنشئ إنسانا نفعيا وربحيا واستغلاليا. إن الإنسان الحديث يتصف وفقا لتعريف مفردة human بثلاث صفات: السلطة، الثروة، طلب اللذة والاستمتاع. وهذه الأوجه متشابكة مع بعضها البعض. إن بعد الثروة لديه هو بعد البحث عن رأس المال والربح الفاحش. إن دراسة الإنسان نفسيا ممكنة في ظل توضيح الرأسمالة وصفات طلب اللذة والاستمتاع والبحث عن الربحية والنظر إلى  باقي الناس كأداة، وفقدان القيم الأخلاقية لأولويتها أو إيجاد مسوغات باتجاه تحقيق الأهداف الاقتصادية والنفعية و… . وحتى إن الدين يتحول إلى  الأولوية الثانية أو الثالثة للشخص وتصبح الدنيا ذا إصالة ويتم نسيان الآخرة أو أن تفقد أهميتها.
إن الرأسمالية أسست منذ بدايتها لثقافة فاسدة  في غاية الفساد وترابطت بقوة مع التحلل الخلقي. واتسمت في القرن السادس عشر في أوروبا المركزية بظاهر ديني مع ظهور البروتستانتية وأصبحت في خدمة التيار الرأسمالي. وهذا العملية استمرت حتى القرن الثامن عشر. وفي هذا القرن أظهرت الرأسمالية ترابطها مع المادية علانية لاسيما في فرنسا وإلى  حد ما ألمانيا وبريطانيا ونشأت حركة التنوير أو بالأحرى  الحركة الظلامية. وظهر بعدها نوع من المادية والمذهب التجريبي. وتحولت الرأسمالية في القرن التاسع عشر إلى  مذهب الإمساك والتكديس وقلما نشاهد فيها صفة الاستهلاك. وسبب ذلك يعود إلى  أن هؤلاء لم يصلوا بعد إلى  الإنتاج الغزير. إن الإنتاج الغزير هو الذي يمهد للاستهلاك الغزير.
ومنذ أواسط القرن العشرين يبرز الاستهلاك الغزير في ضوء تحقق الإنتاج الغزير وهنا تدخل الرأسمالية مرحلة الدعاية للاستهلاك وترويج الموضة وقضايا من هذا القبيل. وارتبطت الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر بظاهرة الفمينية. وكانت ماري استون كرافت البريطانية أم الفمينية على ارتباط مع المحافل الماسونية بمن فيهم جونسون وباقي الماسونيين وربما كانت هي ماسونية أيضا.  وعندما طرحت رؤاها في كتاب ما يسمى “استيفاء حقوق المرأة” عام 1795 أو حتى قبل هذا عندما أصدر كوبج في فرنسا إعلان حقوق المرأة استكمالا لإعلان حقوق الإنسان عام 1791 ، دعمت الرأسمالية هذا التيار بقوة. وسبب هذا الدعم يعود إلى  أن الفمينية جعلت المرأة تدخل ساحات العمل كقوة عاملة فاعلة وبالتالي أصبح بوسع الرأسماليين الإفادة من المرأة بقدر الرجل في العمل وإعطائها نصف أجر الرجل، وتسليم جميع الوظائف والأعمال الرجالية الشاقة إلى  المرأة تحت شعار المساواة بين المرأة والرجل.
وتعرفت إيران منذ عام 1896 وأواسط سلطنة ناصر الدين شاه على الرأسمالية. وكان أوائل رأسماليينا من الماسونيين: صنيع الدولة مؤلف كتاب “طريق النجاة” وأمين الضرب وميرزا ملكم خان ونظام الدولة وجمال الدين واعظ الذي ألف كتابه عام 1902. وكان هؤلاء منظري الرأسمالية أيضا، الرأسمالية التي ظهرت شأنها شأن التيار التنويري مع ظهور الاستعمار والماسونية في إيران. وقد قطع هذا التيار مراحل مختلفة في إيران.  وبلغت الرأسمالية في هذه المرحلة في الغرب الإنتاج الغزير والتسويق لذلك فإن الرأسمالية دخلت إلى ايران مع ثقافة الاستهلاك والإسراف وقد تعرفنا على الرأسمالية مع هذه الملامح والأوجه. لذلك فانها بادرت إلى  نهب وسلب الموارد والقوى العاملة في المجتمع وروجت لثقافة الاستهلاك والموضة والإعلانات التجارية في إيران، وبالتالي برزت في مجتمعنا تداعيات هذه الرؤية مثل الربحية والنظر إلى الإنسان كشئ في المجتمع. ومع اتساع نطاق الرأسمالية تراجع الاهتمام بالدين والأخلاق   والمشاعر الإنسانية، وحلت محلها النظرة المتسمة بالربحية والشرخ في العلاقات الإنسانية والانسلاخ عن الذات.
● ماذا كان يقف وراء بقاء وديمومة الرأسمالية؟
O ما إن دخلت الرأسمالية مرحلة الإنتاج الغزير، ترافقت مع عاملي الموضة والدعاية، لأنه لم يكن من الممكن نجاح الإنتاج والبيع الغزير من دون الاستهلاك الغزير. وثمة تضاد في الرأسمالية ينبع من مسألة ما، وهي أن الرأسمالية تميل إلى اعتماد الأتوماتية والإفادة من الحد الأدنى من العمال وبالتالي يجب تسريح العديد من العمال من العمل لكن مع البطالة تقل فرص العمل في المجتمع ويتراجع حجم المبيعات معها. وسبب بقائها وديمومتها لحد الآن يعود إلى أن كل الأرض كانت سوق استهلاكها، فإن لم تكن بلدان العالم الثالث أو الدول الرأسمالية من الدرجة الثانية والثالثة وآسيا وأفريقيا والبلدان التي تعرضت للنهب والسلب، لما كان من الممكن نقل رساميل هذه الدول إلى  العالم الإمبريالي ولكانت الدول الرأسمالية تزول بسرعة في غياب أسواق البيع. إن الرأسمالية حية لنحو مائة عام من خلال الاستهلاك وإيجاد أسواق جديدة. وقد استطاعت كل مرة الوقوف على قدميها بالكاد من خلال إيجاد تطور تكنيكي والإنتاج الوفير وإيجاد الشعور بالحاجة في المجتمع وبعدها تداول الثروة ورأس المال وكسب الربح. إن هذا التيار لا يمكن له أن يستمر إلى  الأبد بطبيعة الحال. ومع انحسار الثورة الصناعية بدأت الثورة الإلكترونية وتوجهوا بعدها نحو أجهزة الكومبيوتر والأجهزة الدقيقة وترافق ذلك مع ظهور الهاتف الجوال و… ، وفي ظل هذه التطورات الجديدة يدخل منتج جديد كل مرة إلى  السوق. وبعد فترة يأتي منتج جديد آخر من خلال إدخال تعديل طفيف على المنتج السابق وهذه التغيرات الطفيفة والمنتجات المنوعة التي تفتقد في الوقت ذاته إلى  الجودة، مازالت مستمرة، لأنهم إن أرادوا تصنيع بضاعة ذات جودة عالية وتدوم، فإنه لن يكون هناك سوق للمنتجات اللاحقة.
إنهم يروجون لثقافة الاستهلاك عن طريق الدعاية والإعلانات التجارية وترويج الموضة. إن هذه الإعلانات والموضة تستحدث الشعور بالحاجة لدى المتلقى وتوحي له بأنه يتعين عليه شراء المنتج الجديد. إن إنسان عصر الرأسمالية يجب أن يشعر بالحاجة ومن أنه مصاب بفراغ وأزمة الهوية وإن بوسعه من خلال الشراء ومواكبة الموضة ملء هذا الفراغ. إن النقص لدى الإنسان يزول مرحليا مع الاستهلاك والشراء المتواصل، لأنه مع مجئ البضاعة الجديدة فإن المرء سيكون بحاجة إليها وسيكون ناقصا وذا عيب من دونها!
إن الموضة والحداثة مأخوذتان من مفردة “مدوس”. وكما ان الحداثة تعني الجديد والتجدد والعصرنة، فإن الموضة تعني أيضا الحداثة والتجدد. وعندما ننظر إلى  الحضارات القديمة وحتى الشرقية المندثرة منها، نرى أن الناس كانوا متمسكين بتقاليدهم القديمة ولم يكونوا يشعروا بالضعف والهوان من خلال العمل بها. إن الإنسان القديم لم يكن يعتبر التنوع والتعدد، قيمة محمودة، بل إنه كان يعتبر التقيد بالتقاليد الحكيمة ذات الجذور القدسية، يشكل قيمة، بالضبط على النقيض من الرأسمالية التي هي في صراع مستمر مع الماضي البعيد والقريب للإنسان وتقدم التقيد بالماضي على أنه قيمة مضادة وتحول شخصية المرء إلى  عنصر سوقي. ويقول إريك فروم رغم أنه كان يهوديا ومدافعا عن الرأسمالية، في كتاب “الامتلاك أو الكينونة”:
“إن الإنسان العصري، هو شخصية سوقية، بمعنى إنني أكون كيفما تريدون ولا أملك لنفسي هوية ثابتة”.
فإن لم تكن هوية الإنسان في العصر الحديث، سيالة فإنه من غير الممكن إيجاد الشعور بالحاجة لديه.
● ماذا تعني الموضة؟
O إن الموضة يحولها النظام الرأسمالي وفقا لاحتياجاته إلى  قيمة اجتماعية. إن صفة الموضة هي كونها متغيرة. فهي تتسم اليوم بلون وشكل خاص وغدا بلون وشكل آخر. إن السمة المهمة للموضة إنها لا شأن لها بالقيم الراسخة والمعنوية والإنسانية والأخلاقية والدينية، بل تتنزل إلى  مستوى الحياة الحيوانية والناسوتية والغريزية. والوجه الآخر للموضة أن لا عمق لها، لأنه إن كان لها عمق لن تكون قادرة على التغير بسرعة. إن الموضة بحاجة إلى  التغير الدائم، ويجب أن تصبح ضيقة أو فضفاضة أو … في غضون عدة سنوات أو عدة أشهر. ويوما تصبح هذه السيارة موضة ويوما آخر تلك السيارة.
إن الموضة تنشأ على أرضية رأس المال والثراء الفاحش، لأن الإنسان المعوز لا يمكن له أن يمشي وراء الموضة ويواكبها. فالإنسان الفقير في البيئة الرأسمالية يفتقد إلى  القيمة مهما كان صاحب فضائل إنسانية، لأنه لا يملك المال حتى يكيف نفسه مع ظواهر الموضة وتلوناتها.
ومع الموضة، تتحول الرذائل إلى  فضائل ويتقبلها الإنسان فاقد الهوية بسهولة، لأنه تابع لظروف البيئة وإيحاءاتها. إن القوى التي تدير هذا التيار من وراء الكواليس، هي الرأسماليون والماسونيون والصهاينة الذين يلهثون وراء مصالحهم الاقتصادية والسياسية و… . ومع انتشار واتساع نطاق الموضة، فإن الاهتمام بأي نوع من التفكير والتعمق والتذكر والتراث الحكمي والديني والمثالي، يفقد معناه، وعندها يخسر الإنسان كل شئ قيم في حياته ويفقد الإنسان هويته المبنية على الفطرة، أي إنه تضمحل الشخصية الأصيلة للإنسان وتحدث له “أنا” زائفة تتبع الايحاءات التي يروج لها الإعلام والمجتمع. إن الإنسان المحب للموضة يعتمد اختياراته الرئيسية في حياته على أساس الموضة: الفرع الدراسي والزواج وانتخاب الزوجة أو الزوج و… وحينها ندرك تداعيات هكذا رؤية وتوجه في المجتمع.
● ما الوضع السائد في المجتمع الايراني من حيث الموضة والدعاية؟
O عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، كان نظاما رأسماليا من الدرجة الثالثة قائما في إيران يطلق عليه اصطلاحا اسم العالم الثالث. من فئة البلدان التي يتم نهبها في العالم ولا تحظى بأي استقلال اقتصادي وفكري وسياسي حقيقي. ومنذ الحركة الدستورية في ايران التي عرفت ب “المشروطة” فصاعدا، تصاعدت الرأسمالية في ايران. ويجب اعتبار رضا شاه المؤسس الجاد للرأسمالية في إيران. وفي الحقيقة كانت الرأسمالية هي الفكر السائد على الثقافة في إيران وزالت جميع عناصر ومكونات الاقتصاد التقليدي وحل محلها اقتصاد غير منتج ملزوم ذاتيا وتابع.
وشنت الثورة الإسلامية حربا على الثقافة الرأسمالية. وغيرت الهيكلية والبنية السياسية بالكامل كما بدأت هذه المعركة في المجال الثقافي أيضا.
● ما هي تداعيات مواكبة الموضة في المجتمع؟
O إن مواكبة الموضة تصيب المجتمع بأزمات عديدة، بعضها يتمثل بالإضرار بالاقتصاد الوطني وإهدار الرساميل والإمكانات والطاقات المنتجة في المجتمع وزوال التوازن بين القطاعات الاقتصادية غير المنتجة . لكن الضرر الرئيسي لمواكبة الموضة يكمن في أنها تفرغ الإنسان من هويته الإنسانية ، أي تستحدث إنسانا طمست هويته الإنسانية ويتنزل إلى  مستوى حيوان، وما تتبعه من ثقافة إمعية مؤيدة للآخرين والغفلة عن مسألة الحق والباطل وتجاهل الأهداف والتطلعات والقيم في المجتمع. إن مواكبة الموضة تظهر نفسها في هذه الثقافة على هيئة الثراء الفاحش وامتلاك أحدث طراز السيارات وارتداء الملابس ذي الماركات الشهيرة و… . وتتحول أشياء إلى  قيمة في المجتمع لا تمت بصلة للتضحية والإيثار والأخلاق  والعفة والعدالة والنزعة المثالية والمعنوية وإجمالا القيم الإنسانية.
● ما العمل لتحسين هذا الوضع؟
O هناك الكثير الذي يمكن فعله في هذا الخصوص. إن هذا النضال حساس ومهم ومصيري بالنسبة لثقافتنا ودولتنا والجمهورية الإسلامية والتشيع والمسلمين في المنطقة والعالم، وقبل كل شئ فإن هذا التركيز لازم وضروري. ويبدو لي أنه يجب القيام بعملين أساسيين:
1-    الثورة الاقتصادية : يجب القيام بسلسلة إصلاحات اقتصادية جادة في مجال مكافحة الرأسمالية الليبرالية العلمانية، حتى وإن لم نرد الإطاحة بهذا النظام الرأسمالي فيجب إدخال إصلاحات جادة عليه تحظى بتوجهات تحمل العدالة. وإن لم نفعل ذلك فإن ثقافة الرأسمالية لن تتوقف؛
2-    الثورة الثقافية : في ثقافتنا العامة والآكاديمية، إن لم يتم حل مسالة العلوم الإنسانية في نظامنا الجامعي، فإن مخرجاتنا الآكاديمية ستظل تكنوقراطية بوروقراطية تابعة للثقافة الحديثة والموضة والرأسمالية. ولا يمكن التغلب على هذه القضية من دون مكافحة ما يسود النظام الآكاديمي ورواج ثقافة الرأسمالية في الثقافة العامة. إن مكافحتنا هذه لا يجب أن تكون سلبية فقط بل يجب تغذيتها بالفكر الديني والإسلامي والمعنوي وتمكين المجتمع. يجب الرد على الشبهات واتخاذ موقف هجومي في الميدان الثقافي ونقد الأسس النظرية الغربية الحديثة وإلقاء ظلال من الشك على أركان هذه الثقافة.

شاهد أيضاً

الجاهلية الحديثة ( الثانية): الأصولية العلوية والماكيافيلية الأموية

تجميع : مهدي روحي في المنطق الماكيافيلي الذي يعتبر معاوية أحد مظاهرة الجلية، يجب استخدام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *