محمد رجبي
من أجل الفهم الأمثل لآراء ونظريات ماكيافيلي، لابد بداية من معرفة مفهوم التجدد أو الحداثة وعدّ خصائصه لكي نصل إلى ماكيافيلي مؤسس عصر الحداثة والفلسفة السياسية هذه. إن إحدى المفاهيم العامة للحداثة ، يتمثل في الإيمان ب”الكتاب المقدس” للعالم الدنيا. ان Secularized Biblical Faith يعني أنه قد انقضى عهد وتاريخ الدين الأخروي وأصبح متعلقا بالعالم الدنيا بشكل أساسي. وبلغة مبسطة، عدم عقد الأمل على الجنة السماوية والعمل على بناء جنة الأرض وبالمنطق البشري فحسب.
محمد رجبي
من أجل الفهم الأمثل لآراء ونظريات ماكيافيلي، لابد بداية من معرفة مفهوم التجدد أو الحداثة وعدّ خصائصه لكي نصل إلى ماكيافيلي مؤسس عصر الحداثة والفلسفة السياسية هذه. إن إحدى المفاهيم العامة للحداثة ، يتمثل في الإيمان ب”الكتاب المقدس” للعالم الدنيا. ان Secularized Biblical Faith يعني أنه قد انقضى عهد وتاريخ الدين الأخروي وأصبح متعلقا بالعالم الدنيا بشكل أساسي. وبلغة مبسطة، عدم عقد الأمل على الجنة السماوية والعمل على بناء جنة الأرض وبالمنطق البشري فحسب.
لذلك يمكن اعتبار أن منجزات عصر التجدد والحداثة تتمثل في التحول إلى الناسوت والعلمانية أو فقدان وزوال الإيمان الإنجيلي. أن خلقة الإنسان الإلهي تمثل إحدى حالات معارضة ماكيافيلي للدين الانجيلي. ان Image of godوجميع الكائنات الأرضية أصبحت مسخرة له، لكن الإنسان ليس حاكما على كل شئ، إنه وضع في حديقة لكي يعمل فيها ويحميها. وفي الدين هناك شان ومنزلة للإنسان وأن التقوى هي عبارة عن طاعة النظام الإلهي المقرر، وكما في الفكر الكلاسيكي فإن العدالة متسقة مع النظام الطبيعي فإن الإقرار بحظ خارج حدود القدرة الآدمية، بمثابة الاعتراف بالتقدير الإلهي غير المعروف، لكن ماكيافيلي يرفض مجمل هذه السنة الفلسفية والكلامية ويقول:
إن الفلسفة السياسية يجب أن تبدأ من طريقة عيش الناس وأن تحول بوصلتها من السماء إلى الأرض. وأول نتائج هذه الرؤية هي إعطاء تفسير جديد عن الفضيلة. فلا يجب اعتبار الفضيلة ذلك الشئ الذي وجد من أجله الاجتماع السياسي، بل إن الفضيلة وجدت من أجل المجتمع السياسي، أن الحياة السياسية الحقيقية ليست تابعة للأخلاق، بل يجب القول بأن الأخلاق خارج المجتمع السياسي، غير ممكنة وإن المجتمع السياسي هو الفرض المسبق للأخلاق. إن المجتمع السياسي إن أصبح في حدود الأخلاق فلا يمكن له أن يتشكل ولا يمكن أن يستمر ويدوم. والدليل البسيط على ذلك هو أن المعلول أو الأمر المشروط لا يمكن أن يحدث قبل العلة أو الشرط.
ولد ماكيافيلي في فلورنسا في 3 مايو 1469. وأول منصب تقلده كان رئاسة الديوان الثاني في مدينته، وعندما دخل ماكيافيلي إلى الديوان، كانت قواعد صارمة تتبع للتوظيف في الدوائر الرئيسية. فالمتقدمون بتقلد الوظائف كان يجب أن يقدموا أدلة تثبت براعتهم في الدبلوماسية، فضلا عن مهارتهم فيما كان يسمى “الفروع الإنسانية”. وقد أخذ مفهوم العلوم الإنسانية في فلورنسا من مصادر رومية وعلى وجه الخصوص سيسيرون الخطيب والفيلسوف والسياسي الرومي الشهير الذي كان يدعم الحكم الجمهوري. وكان يحب الفصاحة والبلاغة والأخلاق. وكانت إيطاليا القرن الرابع عشر للميلاد أحيت تطلعاته التربوية من جديد ونال نفوذا استثنائيا في الجامعات والحياة الاجتماعية لإيطاليا تدريجيا. وكان أنصار المذهب الإنساني يتميزون في المرتبة الأولى بكونهم ملتزمين بنظرية خاصة حول المحتوى الصحيح للتعليم والتربية والصدق الإنساني وكانوا يؤمنون بأن التلميذ يجب أن يكون ملما باللغة اللاتينية ومن ثم يتطرق إلى فن البلاغة وتقليد أسلوب الأساتذة اليونانيين والروميين وينهي تحصيله العلمي بدراسة التاريخ والفلسفة القديمة. إن الاعتقاد بأن هذا النمط من التعليم، يعد أفضل نمط من الجهوزية لدخول الحياة السياسية، كان سائدا لمدة طويلة.
وأول مهمة انيطت إليه في يونيو 1500 للميلاد، عندما زار البلاط الملكي ل لويس الثاني عشر ملك فرنسا ليجري محادثات حول صراعات مدينة فلورنسا مع مدينة “بيتزا”. واستمرت إقامته هناك ستة أشهر. وفي تلك الفترة اطلع على الوضع المضطرب للحكومة في المدن الإيطالية.
وأول نصيحة له في هذا الخصوص كانت:
إن الجهاز الحكومي لمدينة فلورنسا يبدو مرددا وهزيلا بشكل غير منطقي ومثير للسخرية من وجهة نظر كل من يتلقى تعليمه في المدرسة الجديدة للسلطنة. ويحذر ماكيافيلي من أن التسويف لا ينم عن حكمة وإن الذي يبدو مرددا وغير مصمم يواجه خطرا محدقا، سواء في الحرب أو في السياسة. يجب التصرف على جناح السرعة وبجرأة.
والحادثة الثانية التي أثرت عليه، كانت تعرفه على سيزار بورجيا، الذي هاجم عامي 1501 و 1502 شمال ووسط إيطاليا واخضعهما لسلطته. وكان يريد إقامة اتحاد مع الفلورنسيين، ولذلك أرسل مبعوث من جانب فلورنسا وهذا المبعوث لم يكن سوى نيكولا ماكيافيلي. وهذه المهمة كانت في الحقيقة بداية عهد تبلورت فيه أكثر من أي وقت مضى الحياة الدبلوماسية لماكيافيلي. وفي ذلك الوقت استطاع التعرف مباشرة على طرائق إدارة الدولة وتقييمها. وغالبا ما يقول بأن كتاب “السفارات” لماكيافيلي هو حصيلة ونتيجة هذا العصر. وعندما بلغ ماكيافيلي مرحلة تثبيت وتسجيل أحكامه النهائية حول القادة والسياسيين، توصل إلى نتيجة مفادها بأن أيا منهم لم يفهموا بشكل صحيح النصيحة البسيطة والأساسية في الوقت ذاته وبالتالي فإما إنهم هزموا جميعهم أو إن نجحوا عن طريق الصدفة فحسب لا بسبب حنكتهم السياسية. وبرأيه، فإن الضعف الأساسي لجميع الحكام يكمن في عدم مرونتهم تجاه الأوضاع والمتغيرات في مجتمعاتهم. فعلى سبيل المثال كان سيزار بورجيا يعتد بنفسه مزهوا مغرورا. فيما كان ماكسي ميليان إمبراطور “روما” المقدس يلتزم دائما جانب الحيطة والحذر بينما كان جوليوس بابا إيطاليا يبدي على الدوام تهورا واهتياجا. وجعل ماكيافيلي في النهاية هذه الأحكام محورا لتحليل القيادة السياسية في مؤلفته “الأمير”. وكان قد اكتسب هذه النظريات طوال سنيي عمره ونشاطه الدبلوماسي.
مفردتا فورتونا وفيرتو في الفلسفة السياسية لماكيافيلي
إن مفردة فيرتو هي ترجمة لفظة “آره ته” اليونانية ومشتقة من كلمة Vir اللاتينية وتعني الرجل وترجمت في اللغة اللاتينية بمعنى الرجل الشجاع والمحارب أو بمعنى الفضيلة والورع والتقوى ويستخدمها ماكيافيلي غالبا بمعنى الرجولة والبسالة. أما مفردة فورتونا فتعني الحظ والنصيب وكان الروم يعتبرونها إلهة طيبة. وكل خير ونعمة يمكن تصورهما ويطلبهما جملة البشر، كانتا بتصرف هذه الإلهة. ويقول ماكيافيلي:
إن الحظ ، حليف الشجعان، أي الذين قلما يترددون ويخافون ويتمتعون بالحماسة ويوسع نطاق هذا المعنى ويقول أن ما يثير الحماسة لدى هذه السيدة الإلهة ويحدث لديها ردة فعل إيجابية هو الفيرتو.
وبتقدير ماكيافيلي فإن الحظ يغضب لغياب الفيرتو أكثر من أي شئ آخر ويُثار حقده. والفيرتو هو بمثابة المتراس الذي يقف بوجهه، لذلك فإن الحظ يصب جام غضبه على المكان الذي يعرف أنه يفتقد إلى أي متراس وسد حصين، ويذهب ماكيافيلي حتى أبعد من ذلك ويقول:
إن الحظ يستعرض عضلاته عندما لا يقف الرجال من أصحاب الفيرتو بوجهه.
ونتيجة هذا القول هي: إن الحظ يمجد هذه الصفة لدرجة أنه لا يجعل الأناس الذين يبدون من عندهم الفيرتو، ضحية لاعنف غضبه. ويعتبر ماكيافيلي أن أسمى هدف الأمير يتمثل في تأسيس حكومة تجعل من نصيبه الفخر والشرف. وبتقدير ماكيافيلي فإن الأمير ومن أجل بلوغ ذروة الفخر والجاه والموقع عليه أن ينمي وينشئ لديه الصفات اللازمة للقيادة الملكية. ويقول ماكيافيلي أن أي حاكم يريد الوصول إلى أعلى وأسمى هدف له، فإنه سيرى بأن طريق الأخلاق ليس دائما طريق العقل. وتوصل ماكيافيلي إلى نتيجة مفادها أنه باتت الضرورات تقتضي أن لا يتقيد الأمير الحاكم الناجح بالمحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق مبتغاه وينتبه إلى الأوضاع والظروف لكي يعرف متى يستخدم تلك القوة ومتى ينبذها. والأمير الحصيف يمارس الفضيلة متى ما أمكن ويعرف أنه إن اقتضى الزمان، كيف يمارس الشرّ. لذلك بات ينبغي على الأمير الحاكم وفق ماكيافيلي ، تجنب تلك الفضائل المفترضة التي قد تؤدي إلى إضعافه واعتماد تلك الرذائل المفترضة أيضا ، التي قد تدعم موقفه ، فالواقع والحياة قد علما الأمير أن الكثير من الفضائل التي يتطلبها الحكام من شعوبهم بشكل عام قد تؤدي إلى إضعافهم ، وبالتالي إلى إسقاطهم إن طبقوها على أنفسهم بشكل خاص. ويؤمن ماكيافيلي بأن رمز النجاح في الحكم، يكمن في معرفة الأوضاع والظروف والقبول بضروريات الزمان ومجاراة العصر. وحسب رأيه، فإن الذي يريد أن يكون سعيدا دائما يجب أن يعتمد الحكمة والحصافة ويجاري الزمان. وإن تحكم أحد بهذه الطريقة بذاته وجعل سلوكياته تتناغم مع زمانه، فإنه سيكون أميرا ناجحا.
ويذهب ماكيافيلي إلى الاعتقاد بأن الموضوع الذي يجب أن يعرفه الأمير هو أن المبادئ السامية تكتمل مع الفنون الضرورية والمراوغة والخداع. و يستخلص بشكل أساسي ضرورة أن يكون الأمير “الحاكم ” مخادعاً ، يتقن الكذب والمراوغة ، فيحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية ويعطي شعبه في الوقت نفسه الانطباع بأنه رحيم ونزيه وإنساني ومستقيم ، ومتدين معاً . إنه لا يحب الدين قيد أنملة لكنه يهتم بدوره في إثارة مشاعر وعواطف الناس والإبقاء عليهم على طريق العمل الصالح وفضح الشريرين والطالحين. لذلك فإنه يكلف قادة المجتمع بالقبول بما هو لمصلحة ومنفعة الدين وتضخيم ذلك حتى وإن كان كذبا.
إن ماكيافيلي شأنه شأن أرسطو يعتبر السياسة منفصلة عن الأخلاق ويرى أن من الخطر أن يتحلى الأمير الحاكم بالخصائل الأخلاقية. ويعفي الساسة من التقيد بالقوانين الاخلاقية ويرى بأن الحاكم والمحكوم لا يتبعان قوانين أخلاقية موحدة. إنه يرى من الضروري وجود جيش قوي لإدارة البلاد بشكل أمثل، لذلك يمكن اعتبار ماكيافيلي مؤسس مدرستين فيما بعده وهما:
1- القومية
2- العلمانية
لذلك فإن التحول والتطور في السياسة يحدث مع ماكيافيلي. إن نظريته القائلة بأنه يجب التضحية بأي هدف وتطلع من أجل الحقيقة، تشكل أحد ركائز السياسة الحديثة.
إنه كان في الحقيقة يريد أن يقول بأن: الإنسان العصري وفي ظل خصوصياته، يتغلب على حظه ويقرر مصيره بنفسه وتتحول السعادة والفضيلة إلى الرفاهية في ظل رؤيته ويرسى المجتمع بمعناه الجديد على أساس العقود.