الجاهلية الحديثة ( الثانية) : معنى ومفهوم “الجاهلية” في حديث المعرفة

حوار مع حجة الإسلام والمسلمين سيد محمد مهدي ميرباقري
● نشكرك على الفرصة التي أتحتها لنا لنطرح أسئلة حول معنى ومفهوم ومصداق الجاهلية والتي وردت في حديث “مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمامَ زَمانِهِ ماتَ مِيْتَةً جاهِليَّةً”. السؤال الأول يتعلق بمكانة هذه الرواية الشريفة في النصوص الروائية للشيعة وأهل السنة وكيف تعاطى معها علماء الفريقين؟ لقد نقلت هذه الرواية عن النبي الأكرم (ص) بعبارات مختلفة لكنها متقاربة جدا من حيث المضمون: مَن ماتَ ولَيسَ لهُ اِمام، ماتَ مَيْتة جاهِلية” ؛ أو “مَن ماتَ ولَيسَ في عُنُقهِ بيعَة، ماتَ ميتة جاهلية” ؛ أو إن ثمة رواية معروفة نقلها الشيعة وأهل السنة: “مَن ماتَ وَلَم يَعْرف اِمام زَمانَه، ماتَ مَيْتَة جاهلية”.

 

حوار مع حجة الإسلام والمسلمين سيد محمد مهدي ميرباقري
● نشكرك على الفرصة التي أتحتها لنا لنطرح أسئلة حول معنى ومفهوم ومصداق الجاهلية والتي وردت في حديث “مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمامَ زَمانِهِ ماتَ مِيْتَةً جاهِليَّةً”. السؤال الأول يتعلق بمكانة هذه الرواية الشريفة في النصوص الروائية للشيعة وأهل السنة وكيف تعاطى معها علماء الفريقين؟
O لقد نقلت هذه الرواية عن النبي الأكرم (ص) بعبارات مختلفة لكنها متقاربة جدا من حيث المضمون: مَن ماتَ ولَيسَ لهُ اِمام، ماتَ مَيْتة جاهِلية” ؛ أو “مَن ماتَ ولَيسَ في عُنُقهِ بيعَة، ماتَ ميتة جاهلية” ؛ أو إن ثمة رواية معروفة نقلها الشيعة وأهل السنة: “مَن ماتَ وَلَم يَعْرف اِمام زَمانَه، ماتَ مَيْتَة جاهلية”.
ففي تلك الروايات من النوع الأول التي تقول “مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمامَ زَمانِهِ ماتَ مِيْتَةً جاهِليَّةً”، المقصود هو إمام الزمان (ع). وقد طرح هذا السؤال في روايات متعددة، بأنه هل المقصود، هو الإمام الحيّ؟ قال: “نعم المقصود هو الإمام الحيّ”. وليس أنه إن كان أحد قد عرف الأئمة السابقين فهذا يكفي لهداية الإنسان. وإجمالا، فإن المضمون الذي ورد في روايات الإمامية، هو المضمون الذي ورد في كتاب “كمال الدين وتمام النعمة” للشيخ الصدوق . وقد نقل المغفور له الشيخ الحر العاملي هذه الرواية في “وسائل الشيعة”  عن “كمال الدين وتمام النعمة” للشيخ الصدوق ” مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمامَ زَمانِهِ ماتَ مِيْتَةً جاهِليَّةً”. والمضامين الأخرى هي قريبة من هذا المضمون. وكذلك “مَنْ ماتَ ولَيسَ لهُ اِمام يَسمَعُ لهُ ويُطيعُهُ، ماتَ ميتة جاهلية” . إن هذا المضمون نقل في المصادر الشيعية لدرجة أنه يحظى باعتماد و وثوق أقرب إلى  اليقين من حيث السند وإن لم يكن متواترا، وقد زُعم بأن هذا الحديث نُقل بشكل متواتر والأمر كذلك لدى أوساط أهل السنة، وقد نقلوه في صحاحهم قريبا من هذا المضمون عن رسول الله (ص)، وإجمالا فإنه نُقل في مصادر أهل السنة بمستوى يحظى بالوثوق، لذلك فإن أحدا من محققيهم لا ينكر هذا الحديث. ولم أر أحدا أنكر هذا الحديث. ولذلك فإن البعض ادعى بأن هذا الحديث نقل بمستوى التواتر، وطبعا لم أستطع البحث بهذا الخصوص، لكن يمكن إنجاز هذا البحث. وما هو مؤكد ويمكن الزعم به هو أن هذا الخبر هو أكثر من خبر واحد، وفي حد الخبر المستفيض، بل وفوق ذلك. كما أن أهل السنة لم ينكروا هذا الخبر إطلاقا وبحثوا فقط بشأن دلالاته. ولذلك فإن هذا الحديث من حيث السند، والمكانة في النصوص الروائية للشيعة والنصوص الرواية لأهل السنة، يحظى بموقع مقبول، ولم يتم نقل وتكرار حديث بقدر هذا الحديث في الموضوعات التي تحظى بقول الفريقين.
● ما المقصود من معرفة الإمام في هذا الحديث؟ هل المقصود، المعرفة الاسمية والظاهرية أم شئ أبعد من ذلك؟
O لقد وردت بحوث واسعة لاسيما في المصادر الروائية للشيعة في باب معرفة الإمام، وهذا رهن بتعريف حقيقة ومكانة الولاية في نمو الإنسان ليتضح تاليا أين تكمن مكانة المعرفة في نمو الإنسان، لكن يُستفاد من نص هذه الرواية بأن هذه المعرفة، معرفة تزيل الجاهلية وأن غيابها يتسبب بجاهلية الإنسان، لذلك فإن المعرفة يجب أن تكون تلك المعرفة التي تخرج الإنسان من الجاهلية. لذلك فإن عرّفنا المعرفة بأي شكل كان، فإن هذا التعريف يجب أن يكون متناغما مع هذا المعنى، وهذه المعرفة هي بالتاكيد ليست معرفة ظاهرية، أي إن المعرفة الظاهرية والصفات الظاهرية للإمام (ع) لاتفيد في إعطائنا المعرفة المنشودة والمرجوة والتي تنقذنا من الجاهلية. لذلك، ومن أجل توضيح هذه المعرفة، فإن سبرنا غور هذه الرواية سنكون قادرين على استخراج هذه المعرفة من باطنها، لكن وقبل ذلك يتوجب الأخذ بعين الاعتبار عدة نقاط:
1-    ما المكانة التي تحظى بها الولاية والإمامة الحقة في نمو الإنسان؟ إن الولاية هي طريق سريان التوحيد في العالم، أي إن آمنا بأن الحقيقة هي الوصول إلى  درك التوحيد، فإن الولاية هي طريق سريان التوحيد في العالم وطريق الوصول إلى  التوحيد في قوس الصعود.إن حقيقة التوحيد في العالم تجري عن طريق الولاية الحقة فضلا عن أن درك حقيقة التوحيد لا يتحقق إلا عن طريق درك مراتب الولاية.
إننا نعتبر أن ثمة ثلاثة منازل للعبودية: منزلة التوحيد والولاية والشريعة. إن الشريعة هي مناسك سريان الولاية والتوحيد، وفي مرتبة الصعود فإن التحلي بالشريعة سواء الشريعة المتعلقة بالسلوك والأحكام العملية أو الشريعة المتعلقة بالمعتقدات وأخلاق الإنسان، يمثل المرحلة الأولى للنمو.
والمرحلة الثانية، هي درك حقيقة الولاية وهذه الحقيقة هي طريق الوصول إلى  حقيقة العبودية والتعبد لله، أي مثلث التوحيد والولاية والتوحيد، هو مثلث يُعرّف أبعاد العبودية وإن الولاية الحقة تشكل همزة الوصل بين الشريعة والتوحيد.
2-    إن الولاية الحقة هي طريق سريان الهداية الإلهية وأنوار الهداية، أي إن درك حقيقة الولاية الإلهية لا يتحقق إلا عن طريق ولاية الأئمة الأطهار (عليهم السلام).
3-    إن الولاية لا يمكن أن تتعطل، أي إنه إن لم يستسلم أحد في حدود صلاحياته ومسؤولياته ووعيه، للولاية الحقة وأعرض عنها، فإن ولاية أخرى ستمارس عليه وهي ولاية الباطل ونتيجة ولاية الباطل هي:
“وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلى  الظُّلُمَاتِ”؛
ومن معارف القرآن المسلم بها، هي أنه لدينا تيارين من الولاية وهذين التيارين لا يمكن تعطيلهما. فالإنسان لا يمكن أن يخرج من مدار ولاية الحق والباطل، وما أن يخرج من مدار ولاية الله سيدخل محيط ولاية الباطل. إن محيط ولاية الله هو محيط النور والهداية إلى  القرب والكمال والرضوان، فيما محيط ولاية الباطل هو محيط السير في الظلمات والابتعاد عن حقيقة الولاية ومعرفة النور.
وان سلّمنا بأن شأن الإمامة هو شأن الولاية والخلافة، حينها يتضح بأن درك حقيقة الولاية يؤدي إلى  درك النور والهداية وبالتالي يؤدي إلى  درك حقيقة الحياة.
وقد عبرت الروايات التي وردت في تفسير آيات القران، الحياة والحياة الباطنية بالولاية:
“أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”؛
وكأن الناس ميتين في ذاتهم وكذلك في ضلال. وقد ورد هذا المضمون في العديد من الأدعية والروايات. فعلى سبيل المثال، ورد في مناجاة الإمام علي (ع):
“مَوْلاي يا مَوْلاي، أنتَ الحيّ وأنا المَيّت”.
إنه حيّ ونحن الميتون، وهذه المسالة كانت دائما وستبقى كذلك. وبعد الخلق ووهب الحياة ورحمة الحيّ التي شملتنا، فإننا مازلنا ميتين.
“مَوْلايَ يا مَوْلايَ أَنْتَ الهادِي وَأَنا الضَّالُّ وهَلْ يَرْحَمُ الضَّالَ إِلاّ الهادِي”.
وبعد أن شملتنا رحمة الذات القدسية الإلهية ووهب لنا من حقيقة هدايته، لكن ما يحصل هو: 
“أنتَ الهاديَ وأنا الضّال”.
وليس أن هذه الحقيقة تتغير ونصبح نحن هادين، إننا دائما ومن تلقاء أنفسنا في الضلالة وفي مقام الموت. إن الله سبحانه وتعإلى  يخرج البعض من هذا الموت والضلال وهناك من يبقون في الضلال والحيرة والظلمة ومرتبة الموت. إن الروايات التي وردت بشأن هذه الآية، توضح بأن حقيقة النور والحياة التي يهبها الله للبعض، هي الولاية ليس إلا. وعن الإمام الباقر (ع) يقول في قول الله تبارك وتعالي: “أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس” فقال: “ميت” لا يعرف شيئا و “نورا يمشي به في الناس”: إماما يؤتم به “كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها” قال: الذي لا يعرف الإمام”؛ 
وبناء على ذلك فإن الحياة تتحصل من خلال التمتع بعلم الإمام الذي هو مصدر النور والهداية. وفيما يخص تفسير الآية  الكريمة:
“مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى”؛
وورد في الروايات بأن علم الإمام هو حقيقة هذه الأنهار في الجنة التي وُعِد بها المتقون. ورغم أن أنهارا يشرب منها توجد في الجنة لكنها باطنها ما هو إلا علم الإمام الذي يتجلى في هذه الأنهار. أو ورد في روايات أخرى بأن الحياة قائمة بعلم الإمام وإن علم الإمام هو مبدأ الحياة. لذلك فإن حقيقة النور والحياة الطيبة التي تخرج الإنسان من مقام الموت الذي يوجد فيه كافة البشر بحد ذاتهم ومن مقام الضلال ويهديهم إلى  مقام النور والهداية، هي حقيقة ولاية الإمام (ع) ليس إلا. لذلك فإن لم يصل أحد إلى هذا، فإنه سيبقى في مقام “الموت”.
“يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ”؛
إن ما يدعونا الله ورسوله إليه، هو حقيقة الولاية، أي ولاية أمير المؤمنين (ع) والأولياء الإلهيين وهي ولاية النبي الأكرم (ص) وولاية الله. وهذه هي نبع الحياة الطيبة. ودليل ذلك هو أن مراتب حياة الإنسان تتبع درك مراتب الروح وإن مراتب الروح مختلفة لدى المؤمنين. وذكر في رواية وردت في الكافي”:
قال أبو عبد الله عليه السلام: يا جابر إن الله خلق الناس ثلاثة أصناف، وهو قول الله تعالى: (( وكنتم أزوجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اولئك المقربون )) … فالسابقون هو رسول الله صلى الله عليه وآله وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس، فبه بعثوا أنبياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله وأيدهم بروح القوة فبه قووا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي يذهب به الناس ويجيئون، وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيؤون”.
إن جميع مراتب الروح هذه هي نازلة كلمة الروح وإن حقيقة الحياة في كلمة الروح هذه. لذلك فإن مراتب درك الحياة، غير ممكنة من دون درك مراتب حقيقة الروح، نازلة منها في المؤمنين والمرتبة الأسمى منها وهي روح القدس تقع في الأنبياء وتتجلى حقيقتها في المعصومين الأربعة عشرة (عليهم السلام) وهؤلاء من يؤيدون كلمة الروح بل هم عين كلمة الروح. وقال:
“وَنَحْنُ روحِ الله وكَلِمَتهِ” ؛
وقال أيضا:
“إنَّ روحَ المؤمِنِ لأشَدُّ اتصالا بروحِ الله مِنِ اتصالِ شعاعِ الشمسِ بها”؛
أي إن تجلي وشعاع من تلك الحقيقة، يقع في المؤمن.
وإن انتبهنا إلى هذا المعنى من أن الإنسان من وجهة نظر القرآن ومعارف أهل البيت (عليهم السلام)، في مقام الضلال والحيرة وفي مقام الموت بحد ذاته، فإنه ليس لديه أي درك عن مراتب الحياة والزاماتها ومتطلباتها، إلى أن يهبه الله تعالي حقيقة الحياة ونور الهداية، وكلا هذين في كلمة الروح. إن كلمة الروح هي جامعة الحياة والنور وكلاهما في الإمام (ع).
إن الإنسان وبقدر ما يصل إلى  حقيقة الإمام (ع)، يستفد من حقيقة الحياة وعلم الإمام والحياة الطيبة التي وُهبت للامام (ع) وينال حقيقة الهداية والحياة الطيبة؛ لأن الإمام (ع) هو عين ومبدأ تلك الحياة.
“السَّلامُ عليكَ يا عَيْنَ الحياة” . وفي هذا الطريق وبجانب هذه الحياة الطيبة يصل الإنسان إلى العيش الصحيح وجميع مراتب العيش الطيب الذي يوجد مع هذه الحياة الطيبة. وهذا موجود في دعاء ابوحمزة الثمالي:
“وَاجْعَلْني مِمَّنْ اَطَلْتَ عُمْرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ، وَاَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَرَضيتَ عَنْهُ وَاَحْيَيْتَهُ حَياةً طَيِّبَةً في اَدْوَمِ السُّرُورِ، وَاَسْبَغِ الْكَرامَةِ، وَاَتَمِّ الْعَيْشِ”؛
****إن دوام السرور والكرامة التامة واسبغ العيش، العيش السابق والجاري على حقيقة حياة الإنسان، كل ذلك هو من شعاع تلك الحياة الطيبة، وإن لم يبلغ الإنسان ذلك، لن يبلغ مراتب العيش ودوام الحياة ومراتب من هذا القبيل. وعلى أي حال فإن انتبهنا إلى أن مكانة الإمام (ع) وحقيقة الولاية في الوصول إلى  القرب والرضوان وحقيقة الحياة الطيبة ونورالهداية، فإنه يمكن تفسير هذا الحديث شيئا فشيئا لمعرفة سبب كون ميتة الإنسان، ميتة الجاهلية إن لم يصل إلى الإمام،. وتوضح بعض الروايات بأن موت الضلال هو الإنسان الذي لم يصل إلى الإمام ولم ترفع عنه الحيرة وإن حيرته لا تزول إلا عن طريق الوصول إلى  الإمام. بعبارة أخرى، فإن الله تعإلى  وضع الإمام لإزالة حيرتنا. فإن وصل أحد إلى  ذلك الإمام في أي مرتبة من مراتب وجوده من عالم الذرّ إلى عالم القيامة وما بعد القيامة، فإنه يكون قد وصل بطبيعة الحال إلى النور والهداية، وإن لم يصل فإنه في عالم الضلال سواء قبل هذه الدنيا أو في هذه الدنيا، لكن الأمر يكمن في أنه إن لم يستطع الإنسان في العوالم السابقة الوصول إلى  نور الهداية حتى لحظة الموت، فإن الطريق مفتوح للوصول، لكنه إن مات و رحل عن هذه الدنيا ولم يصل إلى النور، فإنه سيكون في الضلال إلى الأبد.
وقوله تعالى:

“أو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ”؛ 
وإن لم يكن النور الإلهي في مقابل هذه الظلمات التي تسود حياة الإنسان، فليس هناك من نور ليهديه، وهنا توضح الرواية:
“ومن لم يجعل الله له نورا إماما من ولد فاطمة عليها السلام فما له من نور إمام يوم القيامة”؛
أي إن هذه الظلمات ستكون إلى يوم القيامة. أي الضلال الذي يلف الإنسان. وقد ورد في إحدى الآيات القرآنية:
“يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ”؛
وفي تفسير هذه الآية، قال الإمام الصادق (ع):
“يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم؛ أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة”.
وورد في ادامة الآية  الشريفة:
“يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ”؛
إن المنافقين والمنافقات، لم يؤمنوا بالولاية، ويدعون الإسلام، لكنهم لم يقبلوا باطن الإسلام الذي هو الولاية. وقبلوا الظاهر لكنهم لم يقبلوا الباطن.
لذلك، فإنه إن لم يدرك أحد في عالم من العوالم، الإمام الذي هو عين النور والهداية، فإنه سيحرم من حقيقة نور الهداية. إلا إن عالم الدنيا هو عالم لا يمكن التعويض عن الماضي فيه، لكن ان لم يتمكن احد من الوصول حتى لحظة الموت، فإن الطريق سيغلق على هذا الإنسان.
وهناك من هم من أهل الضلال وأهل النفاق وأهل الكفر، وهؤلاء يختلفون عن بعضهم البعض. وقد يكون الطريق لاولئك الذين كان ضلالهم، ضلالا غير متعمد،  مفتوحا في العوالم اللاحقة للوصول إلى  نور الإمام، لكن لن يكون هناك طريق لاولئك الذين سلموا بولاية الطاغوت إن هؤلاء هم الذين يخاطبون يوم القيامة بأن عودوا  و ارفعوا من قِبَل النور. وبالنسبة للذين لم يرضخوا لولاية الباطل ولم يقبلوا ولاية الحق، وبعبارة أخرى لم يصلوا إلى مرحلة العناد مع الإمام ولم يصلوا إلى هداية الإمام، قد يكون إمامهم طريق في العوالم الأخرى للوصول إلى النور، لكن إجمالا إن مات أحد ولم يستطع الوصول إلى  ذلك النور، فإن موته سيكون ميتة الجاهلية، وهذه الجاهلية فسرت في بعض الروايات بميتة الضلال. لذلك فإن لم يصل أحد إلى  ولاية الإمام، فإنه يكون قد مات ميتة الضلال.
وورد في بعض الروايات بأن المقصود من ميتة الجاهلية، هو الموت في حالة الكفر والنفاق والضلال . إن أهل الضلال والكفر والنفاق، يختلفون في بعض الأشياء. فأهل الضلال هم اولئك الذين لم يدخلوا في مواجهة مع الولاية، لكن أهل الكفر والنفاق دخلوا في مواجهة. وقد ورد في تفسير الآية  الشريفة:
“اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ”؛
نقلا عن الرسول الأكرم (ص):
“شِيعَة عَليّ الذين أنْعَمتَ عَلَيهم بِولايةِ عَليّ بنِ أبي طالب (ع)، لَمْ يَغْضُبُ عَلَيهِمْ ، ولَمْ يَضلُّوا”؛
وينقسم الناس من حيث الوصول إلى  الهداية إلى  ثلاثة أقسام:
أنْعَمْتَ عَلَيْهِم ، مَغْضوبُون وضَالّون. مُنْعَمٌ عَلَيْهِم، لا مَغْضوبين وَلا ضَالّين.
وقد فسر المغضوبون في الروايات بأعداء الأئمة (عليهم السلام) والضالون بالمترددين، أي إن الذين يعيشون في حيرة تجاه حقيقة الولاية، لكنهم لم يناصبوها العداء.
لذلك فإن مات أحد ولم يدرك الإمام، فإنه في ضلال، لكن يكون أحيانا مغضوبا ولا يكون في أحيان أخرى. إن الذين يكنون الغضب والعداء، هم مغضوبون، وبناء على ذلك فإن للجاهلية مراتب، فأحيانا جاهلية الضلال وأحيانا أخرى جاهلية الكفر والنفاق، وأحيانا لم تصل إلى  حقيقة الولاية، وأحيانا أخرى تصل إلى  حقيقة الولاية وهذه النعمة لكنها تتنكر لها وتدخل في مواجهة معها وتناصبها العداء، الشئ ذاته الذي يظهر في إبليس. فإبليس يتشابك على أساس العصبية ويصل إلى  مرحلة العداء بسبب العصبية.
وعلي أي حال، فإن لم يدرك أحد، الإمام فإنه في ضلال وتكون ميتته ميتة الجاهلية ولا يصل إلى  النور، وعندما لم يصل إلى  نور الإمام فإنه لا يصل إلى  الحياة الطيبة، لأن الحياة الطيبة تتحصل بواسطة هذا النور. إن الآية  122 من سورة الأنعام، تؤكد هذا المعنى من أن الحياة والنور متلازمان.
● ونظرا إلى ما ذكرته، هل يمكن القول بأن عصر الجاهلية ما قبل الإسلام كان في الحقيقة عصر حرمان الناس من نور الهداية والإمامة والولاية وبسبب هذا الحرمان ألقى الضلال والتيه بظلالهما على جميع علاقاتهم الفردية والاجتماعية، سواء في مجال الزواج والطلاق والحياة الزوجية والعلاقات الأسرية وسواء في مجال الارتباط ببعضهم البعض. بعبارة أخرى فإن جميع انحرافاتهم الفكرية والعملية كانت ناتجة عن ذلك الضلال والابتعاد عن نور الهداية؟
O نعم، إن هذا هو شعاع وآثار وظهور لذلك الحرمان.
● السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو: ما المقصود من الضلال في الحديث المذكور؟
O يجب بداية النظر ما إذا كان الإنسان يملك الضلال المستقل أم مثلما أن الحياة الطيبة والنور هما شعاع من نور وحياة الإمام (ع) اللذان ظهرا لدى الآخرين، فالضلال يكون كذلك؟ ويبدو أن الضلال هو كذلك، أي إن الضلال هو في الأصل من أولياء الضلال والطاغوت. بعبارة أخرى فإن الفئتين من الخلق الذين هم في ضلال، سواء اولئك الضالون أو المغضوب عليهم وأعداء حقيقة الحق والولاية الحقة، فكلاهما يخضعان بشكل ما لأثر ولاية أولياء الطاغوت، أي إن ظلمتهم هي التي تبقيهم في الضلال. إلا أن بعضهم يسير في ضلال الباطل، ويصل بهم الأمر إلى  العداء وينتصرون لجهاز الباطل. لكن البعض ليسوا كذلك، ينفصلون عن الإمام لكنهم لا يتحولون إلى أعوان وأنصار لأولياء الطاغوت ولا يبلغون مرحلة العداء. إن العداء مع الأئمة (عليهم السلام) مرده أولياء الطاغوت:
“وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا…”؛
وعداء البقية، عداء تبعي، أي إنهم يخضعون لنظام الطاغوت وتظهر لديهم حقيقة العداء بقدر قبول هذا النظام ويظهر لديهم العداء للنبي الأكرم (ص) وآل بيته بقدر مناصرتهم لنظام الباطل.
وربما يمكن القول بأن هذا هو ميدان الجهاد الأكبر الذي اعتبره النبي الأكرم (ص) أهم من الجهاد الظاهر. بعبارة أخرى فإن باطن العالم هو مسرح المواجهة بين النبي الأكرم (ص) وأعدائه، وأن شعبة من هذه المواجهة هي في باطن وجودنا. فإن سلمنا مملكة وجودنا لولي الحق، فإننا نكون قد فتحنا أنفسنا للنبي الأكرم (ص) في هذا الجهاد الأكبر، وان لم نفتح مملكة وجودنا وقوانا فسنبقى إما في الضلال أو في العداء، أي إننا نخضع لولايتهم ولا يمكن لنا في ميدان الجهاد الأكبر هذا، فتح مملكة وجودنا نحو نور الهداية والحياة الطيبة. وعندما نبقى في ضلال وحيرة أولياء الطاغوت، أي كما أن الصفات الكريمة تتجلى في شعاع وجود المعصوم (ع) وشعاع وجود النبي الأكرم (ص)، فإن الصفات الخبيثة تتجلى هي الأخرى في شعاع وجود أولياء الطاغوت.
وتأسيسا على حديث العقل والجهل، فإن جميع صفات العقل موجودة لدى من يدركون حقيقة الولاية، أي الأنبياء والمؤمنون الممتحنون الحاملون للولاية، وحتى إنه ورد في تلك الرواية بأن جميع المؤمنين لا يملكون جميع الصفات النورانية حتى يصلوا إلى التبرّي الكامل. وإن وصلوا إلى  التبرّي ولم يكونوا في أي صفة من الصفات متمسكين ومتولين بأولياء الطاغوت وأعداء النبي الأكرم (ص)، فعندها يصبحون في مقام الأنبياء والعباد الممتحنين ويدركون حقيقة الولاية. لذلك يبدو أن الضلال والكفر والنفاق الموجود في المجتمع الجاهلي هو استمرار لضلال وكفر ونفاق أولياء الطاغوت. وبقدر ما يتمسكون بتلك الولاية يصبحون في الضلال والكفر والنفاق ويصبح هؤلاء جنود أولياء الطاغوت، لكن البعض يبقى فقط في مقام الضلال، والبعض في مقام الكفر والبعض الآخر في مقام النفاق. وكما ذكرنا، فإن المقصود في الرواية المذكورة من الجاهلية، ليست الجاهلية الظاهرية المحدودة بزمان وإطار اجتماعي، بل المقصود هو جاهلية شاملة وأثقل بكثير. وهذه جاهلية ولاية أولياء الطاغوت.
لذلك، فإن عرّفنا الحياة الطيبة بمحيط ولاية الله وعرّفنا ولاية المعصوم (ع) ونور الهداية بمحيط ولاية المعصوم (ص)، فإن النقطة المقابلة لها أي الضلال والكفر والنفاق هي آثار ولاية أولياء الطاغوت. لذلك فإن تيار أولياء الطاغوت هو بداية هذا الأمر.
● ما هي ملامح ومؤشرات هذه الجاهلية؟
O أينما حل تيار ولاية الطاغوت، فهناك الجاهلية، وهذه الجاهلية تجد طبعا شرح صدر في الكفر، وتقوم ببناء الحضارة وتطور مدنيتها، وهذه هي الجاهلية.
● ما هي آثار هذه الجاهلية؟
O إن أول ما تقوم به الجاهلية هو أن تدعو الإنسان إلى  ذاته وفي مقابل الله تعالى. إن حقيقة الولاية الحقة والحياة الطيبة والنور ما هي إلا دعوة إلى عين الحقيقة وحضرة الحق. وهذه الولاية، تجعل الإنسان يتجاوزها ليصل إلى  الله المتعال. وجاهلية أولياء الطاغوت مهمتها أن تدعو الإنسان إلى  الاستكبار على الله. وقد ورد في حديث العقل والجهل:
“إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلَقَ الْعَقْلَ … فقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثم قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ”؛
وقال حول الجهل:
“ثُمَّ خَلَقَ الْجَهْلَ … فَقَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَلَمْ يُقْبِلْ فَقَالَ لَهُ اسْتَكْبَرْتَ فَلَعَنَهُ”؛ 
إنه لا يطيع، بل مهمته الاستكبار وقال له الله تعالى:
“اسْتَكْبَرْتَ فَلَعَنَهُ”
إن مهمته مرتبطة بالاستكبار. لذلك فإنه يدعو الإنسان إلى  الاستكبار على الله ، أي الاهتمام بذاته، ويقيم لنفسه كبرياء وعزة. ويبدو لي أن جميع هذه الحالات تم توضيحها في الخطبة “القاصعة” للإمام علي أمير المؤمنين (ع) وهو تبيان حقيقة التوحيد ونسبته بالولاية. والنقطة المقابلة له هو ولاية إبليس وموضوع الضلال. لذلك فإن ما يحدث في عصر الجاهلية هو أن أولياء الطاغوت يدعوننا اليهم. وعندما يدعون اليهم، يحصل الاستكبار على الله، فيبعدنا الله سبحانه وتعإلى  عن محيط رحمته وولايته. إن محيط الرحمة هو محيط ولاية المعصوم (ص). في قوله تعالي:
“وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”؛ 
وعندما يرى الله سبحانه وتعالى اسكتبارا في مقابله، يخرجنا من محيط رحمته. وعندما نخرج من محيط ولاية الله، فعندها يتحول ذلك المحيط إلى  ولاية أولياء الطاغوت. إن المؤشر الرئيسي للجاهلية هو الدعوة إلى  نفسها، الاستكبار على الله. وهذا الاستكبار، يتجسد في أشكال مختلفة، فيمكن أن يكون في سياق المذهب الإنساني المعقد للقرن الحادي والعشرين أو سياق أنانية الذات لعصر الجاهلية العربية، ولا يفرق، أي إن الجاهلية الأوروبية الحديثة لا تختلف عن الجاهلية القديمة في “الجزيرة العربية” من حيث أن كلتيهما قائمتان على التفرعن وكلتيهما تتشكلان تحت ولاية أولياء الطاغوت. فكلتاهما يتشكل على أرضية الصفات الرذيلة والتلذذ والابتهاج بالنفس وعبادة الذات، والدعوة يتوسع نطاقها طبعا، وتجد لها شرح صدر في الكفر، وتحدث المدنية والحضارة المعقدة ويتأسس المجتمع المدني وإلزاماته. إن إلزامات المواطنة الحديثة لا تعني الخروج من الجاهلية، فكلها تتمثل في الدعوة إلى  الذات والدعوة إلى  الدنيا والحياة الفانية ولا شئ آخر. وكل هذا يضرب بجذوره في الدعوة إلى  الاستكبار على الله. لذلك فإن المؤشر الرئيسي للجاهلية، هو الاستكبار والمؤشر الرئيسي للخروج من الجاهلية هو السجدة لله الخالق المتعال. إن  الوصول إلى  مقام التوحيد وهو يجمع الحياة الطيبة والولاية والنور والهداية، لا يقع إلا بولاية الإمام وولاية الله وإن الخروج من التوحيد يقع بولاية أولياء الطاغوت الذين يدعون الإنسان إلى  الاستكبار. وهذا هو ميدان الجهاد الأكبر حيث يدعونا المعصوم (ص) إلى  العبودية وحيث فيه الحياة الطيبة والنور والروح والراحة والفضل والفلاح والرضوان وكل شئ، فيما يدعونا إبليس وأولياء الطاغوت إلى  الاستكبار على الله. وعندما يقع الاستكبار على الله ، يتجمع المستكبرون ويقودهم أمام المستكبرين ويبنون الحضارة والمدنية المعقدة، لكن هذا لا يعني الخروج من الجاهلية، أي إن عبادة الذات هي الوثنية وعبادة الأصنام سواء حدثت في اطر بسيطة أو هيكليات حديثة.
● هل يمكن القول بأن العصبية الجاهلية تتجلى وتظهر في العصر الحديث بحلة ومظهر آخرين؟
O ما هي العصبية أصلا؟ ألم يبلغ إبليس مقام الاستكبار إلا من خلال العصبية. فالعصبية تعني الاعتماد على أمر ما وجعله قاعدة للمواجهة مع الله سبحانه وتعالى. الشئ ذاته الذي يتبعه المذهب الإنساني، أي الاعتماد على ممتلكات الإنسان. وقد قال إبليس :
“خَلَقْتَني مِن نار”؛
قال: لقد منحتني إياه، لكني من نار ولي شأن حتى وإن كنت قد أعطيتني إياه. فالعصبية تعني الاستناد إلى  قاعدة واعتبارها من الله لكن وضعها في مقابل حضرة الحق و (نعوذ بالله) محاكمة الله من خلالها وممارسة العناد بدلا من الاستسلام. ماذا يفعل أنصار المذهب الإنساني في العصر الحديث آصلا؟ إن أنصار المذهب الإنساني هم على شاكلة إبليس. وأنصار المذهب الإنساني الموحدين منهم على شاكلة إبليس، ناهيك عن ملحديهم الذين يقولون أن الله قد خلقنا لكن بعد ذلك أصبح لنا شأن في مقابل الله، وهذا الشأن يحظى بالاحترام ويجب مراعاته. إنهم يلغون دور الأنبياء والتعالم القدسية ولا يعتبرون الحياة الاجتماعية للإنسان مجالا لتدخل الوحي والأنبياء و ولاية الله.
● بعبارة أخرى، فإن جميع العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تتبلور بمنأى عن الله وولاية الله، هي علاقات جاهلية حتى وإن كان لها ظاهر حديث؟
O نعم، إن هذه الجاهلية ليست جاهلية “الجزيرة العربية”. أولا: إن ما أدى إلى  تسمية ذلك العصر بالجاهلية، هو الإعراض عن الله تبارك وتعالى. وبناء على ذلك فإن الناس الذين يعيشون عيشة بسيطة لكنهم موحدون، ليسوا جاهلين ومن أهل الجاهلية. لذلك يمكن القول بأن الخروج من الجاهلية يقع على أساس إدراك حقيقة التوحيد ومراتب التوحيد فيما تعتبر الجاهلية سير في درجات الاستكبار.
ثانيا: إن السير في درجات الاستكبار يقع مع ولاية أولياء الطاغوت وأمام المستكبرين وأئمة الاستكبار لكن السير في درجات القرب يقع مع أئمة النور. لذلك فإن إدراك حقيقة ولاية الأئمة (عليهم السلام) هو الخروج من الجاهلية وهذا الخروج مستمر أي إنه يسير على الدوام من الجاهلية نحو المعرفة ومن الجهل نحو العقل ومن الاستكبار نحو العبودية. وبتعبير القرآن الكريم:
“اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى  النُّورِ”؛
وهذه الولاية هي ولاية تجلب السير في النور باستمرار. وفي المقابل:
“وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى  الظُّلُمَاتِ”؛
وهذا سير تدريجي، وهذا السير التدريجي يحدث ظلمات أكثر تعقيدا وتفرعنا يتسم بشرح الصدر، اسمه فرعونية الذات.
● يطرح أحيانا موضوع الخروج من الجاهلية في الحياة الفردية، أي إن شخصا ما يريد أن يخرج من الجاهلية والظلمات ويصل إلى النور، ويحدث أحيانا أننا نريد إخراج المجتمع من الظلمات وإنقاذه من الجاهلية وإيصاله إلى النور. كيف يمكن تصور هذا الأمر؟
O ما عدا الحياة الفردية، للإنسان حياة اجتماعية أيضا. وهذا مبحث جاد و واسع النطاق وهو من البحوث الجوهرية في المجتمع. وإن سلمنا بأن ثمة حياة اجتماعية للإنسان، فيجب أن تنور حياته الفردية فضلا عن حياته الاجتماعية، بنور الولاية. وهذا معناه بأن المجتمع يجب أن يتشكل حول محور الإمام (ع). بحيث تتبلور جميع مقومات وشؤون الحياة الاجتماعية على أرضية التوّلي بولاية الله و ولاية الإمام المعصوم (ع). وهذا معنى تحقق التوحيد في الحياة الاجتماعية للإنسان. وهذا يتطلب أن تقوم مجمل العلاقات الاجتماعية أي التوافق والتناغم الفكري والتعاون وبناء الهيكليات الاجتماعية والعقلانية الاجتماعية وكل ذلك على أساس التعاون على البرّ وأمر الولاية. فإن كانت جميع شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان تتجسد في موضوع ولاية الله فإن حياته الاجتماعية تستنير بنور ولاية الله وإلا إن كان الإنسان في مجال الحياة الباطنية، يتولى بولاية الله لكنه ليس كذلك في الحياة الاجتماعية، فإنه لا يصل إلى  الولاية في حياته الاجتماعية. فالأناس الذين لا يصلون إلى  الولاية في حياتهم الاجتماعية، هم فئتان: فئة تتبع الإعراض والتبرّي عن ولاية الباطل لكن أجواء حياتها الاجتماعية مدنسة بالظلمات. والفئة الأخرى من الناس يتولون في حياتهم الاجتماعية بولاية الباطل. والنقطة الأساسية تكمن في أنه إن نظر الإنسان إلى  الخير بالمطلق في الله ويعتمد عليه بالمطلق ولا يرى سوى الشرّ في أولياء الطاغوت، فإنه سيبقى سليما. لذلك فإنه ان وقع في اجواء الباطل فإن لديه نور الإمام، رغم أن المجتمع لم يتحلق بعد بصورة كاملة حول الإمام، لكن هذا المجتمع يتشكل شيئا فشيئا، حتى نصل إلى عصر الظهور، إلا أن الكفر يوصل مجتمعه إلى مرحلة شرح الصدر ويملأ جميع مجالات الحياة.
“بَعْدَ ما مُلِئت ظُلْما وجَوْرا”.
فالإنسان الذي يعيش هذه الظروف، إن أعرض عن هذه الولاية، لن يواجه الظلمات. وسبب تاكيدهم لنا على اللعن يكمن في هذا الشئ. وهذه هي اللعنة التي يلعنهم الله بها ويخرجهم من الرحمة. ويجب أن نعتمد هذه اللعنة لكي لا تشملنا ظلماتهم. فإن كان هذا اللعن والتبرّي وهذا الاصطفاف وما يتبعه من قتال أو اشتباك، فإن هذا الإنسان لا يستسلم للولاية الباطلة ولا ينصهر في الحياة الاجتماعية للولاية الباطلة، وبخلاف ذلك فإن قبل حياتهم الاجتماعية، فهذه ستكون نقطة البداية. لأنه كما قلنا، نقطة البداية هي أن يرى الإنسان هناك خيرا ويقول بأن حضارتهم ورفاهيتهم جيدة، وهذا يؤدي إلى أن يحصل على التولّي لأنه  عندما يرى الإنسان شيئا بصورة جميلة، فإنه يطلبه ويلجأ إلى التولّي تجاهه. وهذا اللعن والبراءة هما من أجل ألا يرى الإنسان جماليتهما، لأنهما لا يملكان جمالية أساسا. فإن كان الإنسان هكذا، فإنه سيكون قادرا على رؤية عصر الحياة الاجتماعية المستنيرة بنور ولاية الإمام وأن يعود ثانية.
والنقطة الأخرى هي أن السير نحو تلك الحياة الاجتماعية يتم بصورة تدريجية وهذا التدرج هو من أجل أن تحصل أولا الاستقطابات ومن ثم الصراع السياسي والثقافي والاقتصادي الشامل. فعلى المؤمن أن يقاتل في جميع الميادين، الحرب الثقافية والاقتصادية والسياسية. إن الصراع الشامل بين جبهة الحق والباطل هو الذي يُنشئ شيئا فشيئا أرضية تحقق النظام الاجتماعي حول محور الإمام (ع).
لذلك فإن أصبحنا فقط في حياتنا الباطنية مستنيرين بنور ولاية الله وأن نقبل بهذه الولاية فهذا لا يكفي حسبما يقول بعض العرفاء. إني أرى امتياز الإمام (رض) قياسا بباقي العرفاء في هذا الموضوع، بحيث أن الحمية التي كان يملكها الإمام تجاه ولاية الله، أوصلته إلى  درجة من البلوغ في إدراك ولاية الله بحيث أنه كان يريد إدخال هذه الولاية في الحياة الاجتماعية للإنسان، لذلك كان يقول:
طالما كان الشرك والكفر قائمين، فإن النضال قائم وطالما لا ترفع راية التوحيد على جميع القمم الرفيعة في العالم، فإن النضال قائم وطالما كان النضال قائما فإننا موجودون.
وبتقديري، فإن الفارق بين الإمام وسائر العرفاء يكمن في هذا، أنه كان يريد أن تسري حقيقة الولاية الحقة على مقياس الحياة الاجتماعية. وكما أن عارفا ما يرى أن مهمته تكمن في قيادة الأنفس بنور ولاية الله و نور ولاية الإمام، فإن عارفا متكاملا وجامعا يجب أن يجعل مهمته تنوير الحياة الاجتماعية بنور ولاية الله. ونحن نقر بأن الدين، لا يختزل في الشريعة فقط. إن باطن الدين هو الولاية والتوحيد والأذكار والآداب. لكن هل إن هذا الباطن يجب أن يسري فقط في ميدان الحياة الفردية أم أنه يجب أن يتحقق في ميدان الحياة الاجتماعية والتاريخية؟ ولهذا السبب تحاول منظومة إبليس إخراج جميع ميادين الحياة من ميدان ولاية الله وإقحام علاقات ولايتها فيها. وهذا هو الظلم والجور. لقد أكدت مرارا  بأن الظلم والجور ما هما إلا علاقات ولاية أئمة النار وأئمة الطاغوت وأولياء الظلمات، وأن العدل ما هو إلا علاقات ولاية الله والولاية الحقة أو علاقات ولاية النور. لذلك تسعى منظومة إبليس بأن تحول ميدان الحياة الاجتماعية للإنسان إلى  الاتجاه الذي تقوم فيه تدريجيا بحل حياة الأشخاص الذين قبلوا بذلك.
ان العلمانيين المسلمين يظنون أن بوسعهم فصل الحياة الفردية للإنسان عن الحياة الاجتماعية. متجاهلين أنه عندما قبلوا بولاية أولياء الطاغوت في ميدان الحياة الاجتماعية، فانهم سيقبلونها تدريجيا في مجال الحياة الفردية وستكون النتيجة هي أن اولئك الذين يدعون العرفان، يقولون تدريجيا بأن النبي الأكرم (ص) ليس وليّا، بل قدوة. وهذا بخلاف نص القرآن الكريم الذي يقول:
“النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ”
لماذا؟ لأن ولاية أولياء الطاغوت لا تجتمع مع النبي الأكرم (ص). وعندما يقبل الإنسان بظلمات أولياء الطاغوت، فإن هذه الظلمات واسعة لدرجة انها تغطي جميع مجالات الحياة الإنسانية. إن هؤلاء المثقفين يظنون أنه بوسعهم في ظل ما يسمى بالتنوير، النجاة من هذه الظلمات. إن من أصبح في الحياة الاجتماعية متوليا بولاية الطاغوت وقبل بالجاهلية في الحياة الاجتماعية، فإن هذه الجاهلية ستجثم على حياته الباطنية رويدا رويدا ويصل هذا في حياته الاجتماعية إلى  الجاهلية. وسيكون نتيجة ذلك أن ينتزع منه نور الهداية والولاية والحياة الطيبة. لذلك يجب أن نتحلى بالتحسس ازاء تيار ولاية الله في ميدان حياتنا الباطنية والاجتماعية، لأن هذا هو باطن الدين، ورغم أنه لا يمكن نيل الكمال من دون الشريعة، لكن بالأولى لا يمكن نيل الكمال من دون الولاية. وكما أنه لا يمكن اختزال الدين بالولاية لأن الشريعة هي مناسك الولاية وبالتالي لا يمكن بالأولى اختزال الدين في الشريعة ويجب إدراك حقيقة الولاية في ميدان الحياة الباطنية وميدان الحياة الاجتماعية. لا نقول بأن الحياة الاجتماعية يجب أن تدار فقهيا، بل نقول أنه يجب إدارتها دينيا، أي أن يقع فيها نور ولاية الله، وطبعا هذا بحاجة إلى  مناسك وشروط.
● إن سيادة ولاية الله على العلاقات الاجتماعية بشكلها الأتّم والكامل، تتحقق بطبيعة الحال في زمن ظهور ولي الله الأعظم (ع)، لكن إلى ما قبل ذلك، هل يمكن أن نقر بوجود مراتب لها؟
O نعم، يجب أن نبذل جهدنا، أي إنه لا يمكن أن لا نبذل جهدا من أجل تحقق الولاية الاجتماعية. إن حقيقة المعروف ما هي إلا ولاية الله وولاية الإمام وحقيقة المنكر ما هي إلا ولاية أولياء الطاغوت، وهذا هو الحديث الذي نقله الشيخ المفيد عن الإمام الصادق (ع):
سأله ابوحنيفة: ما الأمر بالمعروف؟ فقال (عليه السلام):
“المَعْروفُ في أهل السَّماءِ المَعْروفُ في أهلِ الأرض وذَلكَ أميرُالمؤمِنينَ عليُّ بن أبي طالبٍ (ع)”؛
قال ما المنكر؟ فقال (عليه السلام):
“اللَّذان ظَلَماهُ حَقَّهُ وابتزَّاهُ حقَّهُ وابتزَّاهُ أمرَهُ وحَمَلا الناسَ عَلى كَتِفِهِ”؛ 
لذلك فإن حقيقة الأمر بالمعروف هي العمل لتحقق ولاية الله في ميدان الحياة الاجتماعية وحقيقة النهي عن المنكر تتمثل في الحد من انتشار ولاية أولياء الطاغوت.
وللأسف فإن البعض ممن يقبلون حقا بولاية المعصوم (ع) ويعتبرون أنفسهم ولائيين، لا يجهدون لإقامة الولاية عندما يصل الأمر بهم إلى  ميدان الحياة الاجتماعية ولا يشتبكون مع ولاية أولياء الطاغوت، ويعتبرون منظومة هؤلاء الحضارية، خيرا. لا أدري كيف يقول هؤلاء بأنهم يفهمون ولاية المعصوم (ع) لكنهم يدخلون في صراع ان أريد تشكل حكومة، في حين أن تشكيل الحكومة هو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المكنر لا يمكن تعطيلهما أصلا، وهذا الفرع لا يمكن تعطيله في أي عصر من العصور. لذلك فإن من اللازم العمل للحيلولة دون بسط وانتشار ولاية الباطل في ميدان الحياة الفردية والباطنية وفي ميدان الحياة الاجتماعية أيضا. ولا يجب السماح بأن تتحول الحياة الاجتماعية إلى ساحة لحب الدنيا، فالحياة الاجتماعية يجب أن تكون ساحة التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد. لذلك فإن هذا يعد من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن الشيطان وأعداء الأئمة (عليهم السلام) يريدون إرساء ولايتهم في ميدان الحياة الاجتماعية وعلينا ألا نسمح بأن يحصل ذلك.
استغرب، لم لا يتصدى البعض لهذه المنكرات الكبرى، أي ولاية أولياء الطاغوت والتي تعتبر محور إقامة الكفر والفساد ويتصدون فقط لمصاديقها أي المعاصي في الفروع. إنهم يعتبرون هذا نهيا عن المنكر لكنهم لا يعتبرون ذلك هذا.
إن هؤلاء لا يدخلون في مواجهة مع هوليوود ومروجي الفحشاء، لكنهم يتصدون للذي لا يرتدي تحت أثر تلك الأجواء، ثيابا محتشمة. طبعا لا اقول أنه لا يجب التصدي لهذا المنكر، بل أقول لم لا يشاهدون المنكرات الأكبر ولم لا يتصدون للمنكرات الثقافية والسياسية والاجتماعية الكبرى.
إن المنظومة الحضارية الغربية تزعم خوض القتال من أجل نشر الليبرالية الديمقراطية في أصقاع الأرض وتعتبر محاربة الإسلام، بسطا لليبرالية الديمقراطية. إنهم يفهمون جيدا بأن نموذج إدارة الإسلام، ليس ديمقراطية، إن مكانة الشعب في الحكومة الدينية تختلف عن الديمقراطية. إن الشعب في هذه الحكومة يضطلع بدور حقيقي آخر، وليس كمسرح الدمى الذي أقامه هؤلاء. إن هؤلاء يفهمون هذا ولهذا يجيشون الجيوش ويشنون الهجمات العكسرية لنشر الليبرالية الديمقراطية وإيديولوجيتهم وثقافتهم على صعيد العالم وجعل ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وثقافة الإسلام، ثقافة تابعة وصغيرة. يجب أن نتحلى باليقظة والوعي. أن مهمتنا تكمن في هذا، لكن هل نحن قادرون؟ قطعا لا يمكن تحقيق الظهور، لكن بوسعنا العمل بواجبنا.
وطبعا اتفق على أن الأعمال الكبرى تتطلب رجالها وشخصياتها. إني أعطي الحق للكثير من الفقهاء الكبار الذين لم ينجزوا على مر التاريخ ما أنجزه الإمام الخميني (رض). إن هؤلاء لم يستطيعوا. ونقل في بعض الروايات بأن البعض كان يأتي إلى  الإمام المعصوم (ع) ويقول له:
لنذهب ونضع أقدامنا في الركاب ونعمل شيئا ما، فكان الإمام (عليه السلام) يقول ما مضمونه : لا تذهبوا لأنكم تهزمون، لأن إجراءكم هذا ليس في “الصحيفة الفاطمية”.
وهذا الموضوع مهم للغاية. لأن الصحيفة الفاطمية أملاها جبرئيل على السيدة فاطمة الزهراء (س) وكتبها الإمام علي أمير المؤمنين (ع). وهذه الصحيفة لا تتضمن الأحكام، بل الأحداث الكبرى التي تقع حتى عصر الظهور. وشاهدت في بعض أعمال الإمام الخميني (رض) بما فيها “صحيفة النور” كما سمعت منه بواسطتي سند يقول: ربما أن قصة وقضية الثورة قد تكون وردت في الصحيفة الفاطمية”  وإن عمل الإمام كان قد نشأ من هناك، ولهذا بقي خالدا وبقي رغم كل هذا العداء.
وكان إحسان نراقي مسؤول احتفالات “شيراز” الفنية في العصر البهلوي قد قال قبل سنوات: إن حجم الاستثمارات التي قام بها الغرب خلال الربع قرن التي تلت الثورة ضد الجمهورية الإسلامية، هي أكثر من مجمل الاستثمارات التي قام بها طوال الأربعين عاما من الحرب الباردة ضد المعسكر الشرقي، وأن تكون الثورة الايرانية باقية لحد الآن، أمر مدهش.
واتفق على أن أي أحد لا يمكن أن يضع القدم في الركاب، لكن إن جاء الآن مرجع ديني جامع للشرائط وبخصائص محددة وأنجز ذلك، فإن من واجبنا أن نمشي في ركابه. ولهذا السبب فإن بعض مراجع الدين بمن فيهم المغفور له آية الله كلبابكاني قال:
إن لم نعتبر مبدأ تأسيس الحكومة، أمرا لازما، لكننا نعتبر حفظها واجبا. لا يمكن التقاعس تجاه هذا المعروف.
● لقد تعرفنا إلى هنا على مفهوم الجاهلية ومؤشراتها وملامحها، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: ما هي المعرفة؟
O كما ذكرت: فإن أهم مؤشرات الجاهلية، هو الإعراض عن الولاية والغطرسة ومحورية الذات والاستكبار على الله والذي يحدث مصحوبا بالإعراض عن ولاية الله. وقد وردت مسألة هذا الإعراض في الخطبة “القاصعة” لأمير المؤمنين علي (ع) بأن السجدة امام الله تأتي عن طريق الخليفة. إن الإعراض عن الخلافة هو الإعراض عن التوحيد. والاستكبار على الخلافة هو الاستكبار على  التوحيد. وتبقى إذن المعرفة.
إن المعرفة التي تتميز بهذه الميزة وتوصل الإنسان إلى  حقيقة الروح والحياة الطيبة، هي في الحقيقة إدراك الأنوار الحقيقية للولاية ولها مراتب وردت في الروايات:
“إِنَّكُمْ لا تَكُونُونَ صَالِحِينَ حَتَّى تَعْرِفُوا وَلا تَعْرِفُونَ حَتَّى تُصَدِّقُوا وَلا تُصَدِّقُونَ حَتَّى تُسَلِّموا”؛ 
ويصبح الإنسان صالحا بعد اجتياز وادي التسليم والتصديق والمعرفة وإن الصلحاء هم الذين يصلون إلى  معرفة حقيقة الولاية الحقة، مثل إبراهيم الخليل (ع). لكن التسليم والتصديق يأتيان قبل المعرفة. وليس من السهولة بمكان أن يتمكن الإنسان من تصديق أولياء الله، لاسيما عندما يتم الامتحان بواسطة المجهولات، وموسى كليم الله لم يكن قادرا على التحمل في موقع ما. وطبعا لا أريد القول بأن النبي موسى (ع) لم يكن من المصدقين، بل هدفي تبيان صعوبة المسألة.
وفي رواية أخرى نقلها ابوخالد الكابلي عن الإمام الصادق (ع) تم الحديث عن ثلاثة وديان هي التسليم والتطهير والتنوير:

“يا أبا خالد النور – والله- الأئمة عليهم السلام يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها”؛ 
إن الاسمترار في التسليم حتى مقام السلم، هو بداية التطهير. إن الله تعالى  يطهر الناس بالبلايا والرياضة الروحية. إن الخوف والرجاء الذي يستحدثه في القلوب يحول الإنسان إلى عبد مُمتَحَن. فالامتحان الإلهي يوصل الإنسان إلى  مقام الطهارة. وعندما يصبح الإنسان مطهرا، يصل الدور إلى  التنوير. فالنورانية والولاية توهَب للإنسان في هذه المرحلة. وهذا المقام هو الذي يمهد الطريق. إن الإنسان وبقدر ما يصل إلى  مرحلة النورانية، يصل إلى  وادي التنوير ويصبح مستنيرا “هُمْ والله يُنَورَون قُلُوب المؤمَنين”. فالتنوير يحصل بهذه الطريقة.
وطالما لم يبلغ الإنسان مرحلة تحمل الولاية، لا يصل إلى  مرحلة التنوير ولا تظهر في روحه حقيقة ولاية الإمام ولا يصل إلى حقيقة النور والحياة الطيبة. وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، تنطبق عليه هذه الآية  الشريفة:
“أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
وطبعا هذه هي المرتبة الأكمل ومراتبه الدنيا هي بقدر التسليم. وبقدر ما تستسلم يحصل التطهير والتنوير.
لذلك فإن هذه المعرفة التي ترشد الطريق. المعرفة السارية في ميدان الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، بقدر ما نستسلم في إراداتنا الاجتماعية. إن الله سبحانه وتعالى  يطهر المجتمع بالبلايا الاجتماعية وهذا هو غير التطهير الفردي، مثل الحروب الكبرى والمجاعات وما شابه ذلك مما تحصل للمؤمنين. فمجتمع المؤمنين يتطهر، ويتم تطهيرعلاقاتهم الاجتماعية حتى يصلوا مرحلة التنوير. والآن الأمر كذلك. إننا وعلى مدى الأعوام  الثلاثين الماضية تنور فكرنا بقدر ما قاومنا. وخرجنا من الأسر الفكري للكفار ووصلنا إلى  التبرّي منهم، لأننا نؤمن بأن العلاقات الدولية هي علاقات جائرة وظالمة، وإلا كان جميع الطيبين يقولون قبل ذلك بأن الأمم المتحدة هي منظمة جيدة وكانوا يعرفون العلاقات الدولية جيدا. إن حياتنا الاجتماعية تتطهر بقدر البلاء الذي نتحمله في طريق الولاية ونصل إلى  التبرّي والنور وعندها فإن مرحلة التنوير ستكون مرحلة إفساح الطريق وتوصل الإنسان إلى الحياة والنور وتنقذه من الجاهلية سواء الضلال والنفاق والكفر.
● لقدعقدت سابقا مقارنة بين العلاقات الاجتماعية في الجاهلية الأولى والجاهلية الحديثة. رجاء إعطاء مزيد من الإيضاحات في هذا الخصوص.
O إن مقارنة كل ما ذكرناه مع الحضارة العصرية، موضوع جاد للغاية. إن هذا النمط من الجاهلية ليس من الجاهليات المتمثلة بعدم المعرفة. لأن من جنود الجهل، الجهل ومن جنود العقل، العقل ومن جنود العقل، العلم. إن الكثير من هذه العقلانيات الحديثة هي الجهل في حد ذاتها. إن حركتها وسيرها هي حركة وسير على طريق الجاهلية. لقد بيّنا ادعاءنا:
إن التوجه العام للعلوم بعد حركة النهضة في أوروبا والعلوم المعقدة التي كانت تسودها إدارة الأبحاث، تبلور على أساس الثقافة والإيديولوجية الحديثة، إن نوعية وتوجه هذا النوع من العلوم، باطل ونرى بأنه الجهل والضلال و أن السير فيه هو بمثابة الغوص في الجاهلية، حتى وإن كان اسمه علم. وهو في الحقيقة جاهلية أكثر تعقيدا اسمها الجاهلية الحديثة، والعقلانية المعقدة في حركة النهضة. الجاهلية الحديثة، أي العقلانية من دون إمام. إن العلمنة في العقلانية هو بهذه الطريقة، إن المذهب العقلي يعني عقلانية الكفر والنفاق. وأينما تحركنا حول محور ذاتنا، فهذا يشكل بداية للجاهلية. إن المذهب العقلي والمذهب الإنساني والليبرالية وجامعة كلها العلمانية، هي الجاهلية بعينها.
إنهم يتحدثون بهذا بصوت مرتفع وكيف يمكن لنا القول بأن هؤلاء قد نجوا من الجاهلية؟ إن الغوص في علمهم هو الغوص في جاهليتهم التي عقدّت مناخات الشيطنة وجعلت من الصعوبة بمكان النجاة من هذه الشيطنة، وأضفت على الشيطنة صبغة الحق والعدل. إن هذا هو الجور. “بَعْدَما مُلِئَت ظُلْما وجَوْرا”. يظهرون علاقات ولاية إبليس على أنها علاقات الولاية الحقة، ويقولون بأن الإدارة هي إدارة الحق، في حين أنها إدارة معاداة الإنسان وليست إدارة الحق. “إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ” . إدارة العداء، لكنهم يظهرونها على أنها إدارة الخير وحب الإنسانية ويصادقون على ميثاق “الأمم المتحدة”. لقد قتلت القوى العظمى الخمس، ستة ملايين إنسان وجرحت وشردت أكثر من هذا العدد، ومن ثم أسست الأمم المتحدة ومنحت لنفسها حق الفيتو، إنهم يكتبون ميثاق الأمم المتحدة، أي الظلم الفاحش. و واضح أنهم أثاروا هذه الحروب وهذه الإدارة من أجل التغلب على العالم ويسمون هذا الظلم الفاحش، انتصارا للبشرية ويطلقون عليه اسم ميثاق الأمم ويطلقون على ميثاق ولايتهم اسم ميثاق حقوق الإنسان.
وبقدر ما ندرك ظلماتهم الخفية والمستترة ونصل إلى  التولّي وولاية الله والإعراض عنهم، ننجو من هذا الجور، وإلا فإن رأى أحد خيرا لديهم، فإنه سينجذب اليهم. وعندما يكون في الظلمات، فإنه لن يكون قادرا على  تشخيص الظلمة. إن الإنسان يستطيع تشخيص الظلمة عندما يكون في النور ، لكن الإنسان الذي يقبع في الظلمات، لا يمكن له أن يشخص تلك البيئة.
وكما يقول حضرته عندما يتطرق إلى عصر الجاهلية الثانية: الظلمة العمياء. وتشتد الظلمات فتغشي على البصر. إذن كيف يتم التفريق والتمييز بين النور والظلمة. ومن غير الممكن أن يكون بمقدور الإنسان القابع في الظلمة العمياء، التمييز بين النور والظلمة. إن الأجواء التي تسود العالم الآن ، هي هكذا فضاءات. استمرار لمسألة السقيفة ولا شئ آخر، وأساسها هو هذا.
“وَحَملوا النّاسَ عَلى أكتافِ آلِ مُحَمِّد”؛
والمثال على ذلك هو المذهب الإنساني الذي أرسوه في حركة النهضة مقابل مسيرة الأنبياء وهو “وَحَملوا النّاسَ عَلى أكتافِ آلِ مُحَمِّد”، وعوضا أن يدعوا الناس إلى  التسليم في مقابل الولاية الحقة، يدعونهم إلى  أنانية الذات، وديمقراطيتهم هي نفس “وَحَملوا النّاسَ عَلى أكتافِ آلِ مُحَمِّد”. إن الديمقراطية تختلف عن السيادة الشعبية الدينية، لإن الديقراطية مبنية على المذهب الإنساني والمذهب العقلي والليبرالية والعلمانية. وهذا ما هو إلا “وَحَملوا النّاسَ عَلى أكتافِ آلِ مُحَمِّد”. ويحملون الناس عوضا عن مناصرتهم، وهذا لا يضر الإمام. وما ضرره للنور بحيث نهرب منها؟ ويحرمون الناس من حقيقة الحياة الطيبة والنور وولاية الإمام (ع). والكارثة التي حلت تتمثل في هذه الجاهلية الحديثة التي هي أكثر  تعقيدا من الجاهلية الماضية.

یتبع ان شاء الله

  1. الكافي، ج1، ص 378، ح 2؛ كمال الدين وتمام النعمة، ج 2، ص 412، 413 و 668
  2. مسلم بن الحجاج، صحيح، ج 3، ص 1478، ح 1851؛ ابوبكر احمد بن حسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، ج 8، ص 156
  3. كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص 409، صحيح مسلم، ج2، ص 475، عبد الجبار المعتزلي، المغني، ج 1، ص 116
  4. كمال الدين وتمام النعمة، ج 2، ص 409
  5. وسائل الشيعة، ج 16، ص 246
  6. الاختصاص، ص 269
  7. سورة البقرة (2)، الآية   257
  8. سورة الانعام (6)، الآية   122
  9. مفاتيح الجنان، مناجاة امير المؤمنين علي (ع) في مسجد الكوفة
  10. الكافي، ج 1، ص 185، ح 13
  11. سورة محمد (47)، الآية   15
  12. سورة الانفال (8)، الآية   24
  13. الكافي، ج 1، ص 271- 272، ح 1
  14. بحار الانوار، ج 25، ص 23، ج 39
  15. المصدر السابق، ج 58، ص 148، ح 25
  16. المصدر السابق، ج 99، ص 215، زيارة الإمام صاحب الزمان (ع)
  17. مفاتيح الجنان، دعاء ابوحمزة الثمالي، ص 322
  18. سورة النور (24)، الآية   40
  19. الكافي، ج 1، ص 195، ح 5
  20. سورة الحديد (57)، الآية   12
  21. الكافي، ج 1، ص 195، ح 5
  22. سورة الحديد (57)، الآية   13
  23. الكافي، ج 1، ص 37، ح 3
  24. سورة الحمد (1)، الآيتان 6 و 7
  25. سيد هاشم بحراني، البرهان في تفسير القران، ج 1، ص 119، ح 26
  26. سورة الانعام (6)، الآية   112
  27. بحار الانوار، ج 1، ص 109، ح 7
  28. المصدر السابق، ص 110
  29. سورة الأنبياء (21)، الآية   107
  30. سورة الاعراف (7)، الآية   12
  31. سورة البقرة (2)، الآية  157
  32. المصدر السابق
  33. سورة الاحزاب (33)، الآية  6
  34. بحار الانوار، ج 10، ص 208، الباب 13
  35. المصدر السابق
  36. صحيفة النور للامام (رض)
  37. الكافي، ج 1، ص 194، ح 1؛ بحار الانوار، ج 64، ص 190، الباب 11
  38. بحار الانوار، ج 23، ص 308، الباب 18
  39. سورة الانعام (6)، الآية  122
  40. سورة يوسف (12)، الآية  5
  41. مفاتيح الجنان، زيارة الإمام الرضا (ع)

 

شاهد أيضاً

الجاهلية الحديثة ( الثانية): الأصولية العلوية والماكيافيلية الأموية

تجميع : مهدي روحي في المنطق الماكيافيلي الذي يعتبر معاوية أحد مظاهرة الجلية، يجب استخدام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *