الجاهلية الحديثة ولبس فَروْ الإسلام مقلوبا!
إسماعيل شفيعي سروستاني
نقل عن النبي الأكرم (ص) قوله: “بعثت بين جاهليتين لآخرهما شر من أولهما”.
كما ورد عن عبد الله بن زرارة عن الإمام الصادق (ع) قوله: إن قائمنا إذا قام استقبل من جهلة الناس أشد مما استقبله رسول الله (ص) من جهال الجاهلية”.
الجاهلية الحديثة ولبس فَروْ الإسلام مقلوبا!
إسماعيل شفيعي سروستاني
نقل عن النبي الأكرم (ص) قوله: “بعثت بين جاهليتين لآخرهما شر من أولهما”.
كما ورد عن عبد الله بن زرارة عن الإمام الصادق (ع) قوله: إن قائمنا إذا قام استقبل من جهلة الناس أشد مما استقبله رسول الله (ص) من جهال الجاهلية”.
فقلت: وكيف ذلك ؟
قال: إن رسول الله (ص) أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وإن قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله ويحتج به عليه”.
إن الجاهلية الأولى وما سادها من زحمة التعصب القبلي والفئوي و وأد الفتيات والتبرج والميسر وعبادة الأصنام المزمنة لم تزل إلا مع بعثة نبي آخرالزمان (ص) ونزول الوحي وتحمل المعاناة والمقاساة، بحيث يقول الإمام علي أمير المؤمنين (ع):
“بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِی حَیْرَة، وحَاطِبُونَ فِی فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْکِبْرِیَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلیَّةُ الْجَهْلاَءُ; حَیَارَى فِی زَلْزَال مِنَ الأَمْرِ، وَ بَلاَء مِنَ الْجَهْلِ”.
إن أمة ازدهرت حينما ذاع صيتها وانتشرت ثقافتها وأدبها وحضارتها في كل الأرجاء والآفاق، بحيث يمكن من دون مبالغة القول بأن جملة الثقافات والحضارات التي ظهرت على مدى أكثر من ألف عام مضت في أرجاء العالم، رهن ومدينة لذلك التطور الكبير والرجال الذين ترعروا ونشأوا في مدرسة خاتم الأنبياء (ص).
وبعد كل هذا التطور وبعد نبي الرحمة (ص) والاتحاد والاتفاق، أحدثت عناصر مثل الغفلة والدسيسة والتقاعس والاستبداد وتحت سمسرة إبليس الرجيم، انحرافا في مبادئ ومباني وسيماء هذا الدين السماوي بحيث توقع وصي رسول الله (ص) في الخطبة 107 من نهج البلاغة بأن : يُلبس الإسلام لَبْس الْفَرْوِ مَقْلُوباً.
واليوم وأكثر من أي زمان ووقت مضى، يُسمع فيه صوت ونداء الإمام علي (ع) حين قال:
” … ما لى اَراكُمْ اَشْباحاً بِلا اَرْواح، وَ اَرْواحاً بِلا اَشْباح ؛
ونُسّاكاً بِلا صَلاح، وَ تُجّاراً بِلا اَرْباح، وَاَيْقاظاً نُوَّماً، وَ شُهُوداً غُيَّباً، وَ ناظِرَةً عَمْياءَ، وَ سامِعَةً صَمَّاءَ، وَ ناطِقَةً بَكْماءَ …؛
اَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذاهِبُ؟ وَتَتيهُ بِكُمُ الْغَياهِبُ؟ وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَواذِبُ؟ وَ مِنْ اَيْنَ تُؤْتَوْنَ؟ وَ اَنّى تُؤْفَكُونَ”؟!
فهيهات! أن يكون الإمام علي (ع) وجد آذانا صاغية لتسمع كلامه ويد وقلب تؤازره على اقتلاع جذور شجرة الضلالة، لذلك فإن جملة توقعاته وتكهناته حول مستقبل تلك الأمة وثقافتها وحضارتها قد تحققت. مثلما كان يرى في مرآة قلبه وعلمه.
وكان الإمام علي (ع) قد توقع:
“فعِنْـدَ ذلِـكَ اَخَـذَ الْباطِلُ مَآخِذَهُ ؛
ورَكِبَ الْجَهْلُ مَراكِبَهُ ؛
وعَظُمَتِ الطّاغِيَةُ ؛
وقَلَّتِ الدّاعِيَةُ، وَ صالَ الدَّهْرُ صِيالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ؛
وهَدَرَ فَنيقُ الْباطِلِ بَعْدَ كُظُوم؛
وَتَواخَى النّاسُ عَلَى الْفُجُورِ، وَ تَهاجَرُوا عَلَى الدِّينِ؛
وَتَحابُّوا عَلى الْكَذِبِ، وَ تَباغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ.
فإذا كان ذلِكَ كانَ الْوَلَدُ غَيْظاً، وَالْمَطَرُ قَيْظاً، وَتَفيضُ اللِّئامُ فَيْضاً، وَ تَغيضُ الْكِرامُ غَيْضاً ؛
وَكانَ اَهْلُ ذلِكَ الزَّمانِ ذِئاباً، وَسَلاطينُهُ سِباعاً، واَوْساطُهُ اُكّالاً، وَ فُقَراؤُهُ اَمْواتاً ؛
وَغارَ الصِّدْقُ، وَ فاضَ الْكَذِبُ،
وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسانِ، وَ تَشاجَرَ النّاسُ بِالْقُلُوبِ ؛
وَصارَ الْفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الإسلام لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً”.
وكل هذا هو تفسير وتفصيل كلام النبي الأكرم (ص) حين قال بأن “الجاهلية الثانية شر من الأولى”.
وفي ضوء ذلك، فإن اقتلاع جذور شجرة الجاهلية الثانية أصعب وأشد بكثير من الأولى.
إن التركيبة متعددة الأوجه لصورة وسيرة الجاهلية، حنكة وتجربة قادة الجهل والتغيرات الهائلة لأوجه الحياة، قد حولت الكفر البسيط لعصر البعثة إلى جاهلية مركبة ومزمنة ومتعددة الأوجه. أضف إلى ذلك، تطاول يد العدو اللدود للإنسان أي إبليس وجنوده على أجساد بني البشر وأرواحهم لنفهم هذا المعنى كما وصفه الإمام الصادق (ع) حين قال: إن قائمنا إذا قام استقبل من جهلة الناس أشد مما استقبله رسول الله (ص) من جهال الجاهلية”.
وفي ذلك اليوم الذي سمع فيه الشيطان، نداء رب العالمين حين خاطبه يقول:
“فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ”
كان آخر طلب له وتمنى ان يُستجاب هو إمهاله للبقاء وأن يكون له عمر طويل للإغواء لا للإنابة والتوبة. وبهذه النية أقسم:
“فَبِعِزَّتِك لَأُغْوِيَنهمْ أَجْمَعِينَ”
فالإغواء لا يعني مجرد الضلال وسلوك مسلك خاطئ، فهذا النمط من السلوك هو ضلال بسيط. فالإغواء يعني الجهل المتلازم مع العقيدة الفاسدة.
وكان الشيطان يرى في آفاق مكائده وخدعه، اليوم الذي يتمكن فيه من تغيير معتقدات البشرية لدرجة تظن أنها عالمة رغم انغماسها في الجهل. أشباه العلماء الجهلة، وفي ذلك اليوم الذي يتصور فيه الإنسان بأنه يعيش حالة من العلم والمعرفة والأدب، فإنه مقيد بقيد الجهل بحيث أن العرب من عبدة الأصنام في عصر الجاهلية الأولى، ظلوا مندهشين من قبله.
إن الذي كان يعبد الحجر والصخر والخشب بدلا من الله الواحد الأحد، كان على الأقل قد اتخذ معبودا له من خارج ذاته، إلا أن أهم صفة للإنسان في عصر وعهد الجاهلية الثانية في البعد العقائدي، هي عُجُب الإنسان بنفسه واعتبار ذاته معبودا وإضفاء الإصالة على نفسه في مقابل الحق.
فالإنسان في هذه الحالة، يعتبر نفسه ركنا ركينا والمعيار وواضع المعيار والحجة والدليل الفارق بين الحق والباطل. ولذلك فإنه سيدخل في وقت ظهور الإمام المهدي (ع) في محاجة مع الحجة المعصوم والمعين من قبل الحق.
وربما سمعتم مرارا بهذه المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت إذ قال: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”!. وربما يمكن اعتباره وأطروحاته بأنهما يشكلان مدخلا لولوج البشرية عصر الجاهلية الثانية والحديثة.
وحتى قبل العصر الحاضر وغلبة التاريخ والفكر الغربي، كانت البشرية تغوص في الجهل البسيط. لذلك فإنها لم تفقد حظوظ الخضوع والخشوع أمام الحق بشكل كامل، لكنه ومنذ هذا العصر جعلت البشرية من ذاتها محورا وأعطت الإصالة للمعطيات المتأتية من تجربة الحواس الظاهرية واعتبرت نفسها حجة وقطبا ومنشأ المعرفة والفاعل التامّ وقدمت تفسيرا ماديا عن العالم والإنسان. ومن هنا اختلط الأمر عليها فجرت خالق الكون والكتب السماوية وكلام الأنبياء الوحياني والأوصياء الإلهيين إلى محكمة العقل الكمي المبني على الانطباعات الحسية وأصدرت أحكامها بشأنها.
فقد شيدت في الحقيقة بناء جديد على أسس جديدة ونشأ من هنا الله جديد وكتاب جديد وأحكام جديدة.
وكان هذا بداية المشوار، إذ صادق وأيد حجة العصر هذا، كل ما يمنحه السلطة والتمتع باللذة. ووقع على كل ما يتوصل اليه عن طريق محك التجربة الحسية. وضرب بعرض الحائط كل أمر ونهي وومانع ورادع ووازع يعيق هذه اللذة والتمتع وحب السلطة، واعتبره حصيلة الجهل والخرافة، وحدث ما حدث. فتولد عالم جديد وإنسان جديد وجاهلية جديدة.
إن المذهب الإنساني والأخلاق الليبرالية (الإباحية) والنظرة العلمانية أبرزت معا، المواصفات المهمة للجاهلية الثانية وقدمت الإله الجديد والأخلاق الجديدة والإنسان الجديد. وربما إن هذه الواقعة هي تفسير هذه الآية في القرآن الكريم وقد بينت على لسان إبليس:
“قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ”
وقد حدث الإغواء عن طريق تزيين الأرض لا عن طريق الأمر بالفحشاء وحتى تزيين السيئات، كما ورد في الآية الشريفة:
“وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”
إن المادية التي اتسمت بداية بطابع فلسفي تحولت إلى ثقافة، واجتاحت مذاك مجمل الحياة المادية للإنسان.
ومما لا شك فيه أن العلم مُزيل للعتمة والمجهولات وينير الطريق ويرشد نحو الحق. ومقدِم حجة الحق والفارق بين الحق والباطل. ذلك الذي كان يحمله ويبشر به ويدعو له كتاب الله وآل الله. ولذلك فإنه فيه شفاء، أما في عصر الجاهلية الثانية، فإن أكبرعائق خفي ومهدم لكتاب الله وآل الله، وأكبر منكر لحجة الحق تغلف بغلاف العلم واشتهر بالعلم والمعرفة، بل انقلب وأصبح معكوسا في كسوة الحجة الفارقة، أي إنه يقدم الحق باطلا والباطل حقا، والمعروف منكرا والمنكر معروفا.
وهذا بديهي بأن أي شئ لا يقدر على معرفة حجة الحق والفارق وتقديم الحجة، فهو ليس بعلم. فالعلم نور، ولهذا فإنه يرشد ويميز بين الصواب والخطأ. إن ما لا يستيطع الوصول إلى الفارق وحجة الحق، يقترن بالجهل ويكون مرشدا للجهالة ومن قبيلتها.
إن الجاهل في عصر الجاهلية الأولى لم يكن يعرف حجة الحق، لكنه ما إن استمع إلى كلامه، آمن به وحطم الأصنام ونبذ عبادة الأصنام، لكن جهلاء العصر المتأخر والجاهلية الثانية يواجهون حجة الحق بالحرب والإنكار. ولهذا فإنه نقل عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته مات ميتة جاهلية.
إن الإعلان عن تجربة الجاهلية الثانية أو بالأحرى الجاهلية الحديثة في سنوات ما قبل الظهور، من قبل النبي الأكرم (ص) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هو إعلان عن بطلان “مبدأ الترقي” أو التكامل والتطور الذي طرح من قبل مبشري التاريخ والفكر الغربيين.
ومع توهج فانوس العلم ذاتي المحور في العصر الجديد، ظن أناس مثل فرنسيس بيكن بأن هذا الفانوس سينشر ذلك النور الذي سيبرهن جهل وتحجر القرون السالفة وجميع الثقافات والحضارات التي جربت في الماضي، بل ومع تمهيد وتسوية الطريق، سيقرر مصيرا وضاء وزاخرا بالعلم والبصيرة للبشرية.
إن تبيان مواصفات وتقديم مصاديق ومظاهر الجاهلية الأولى قبل بعثة النبي الأكرم (ص)، كان يحمل في طياته معنى وتفسير العلم الإلهي والحياة المعرفية الطيبة والعارية عن الجهل.
إن هذه الطريقة في النظر إلى الكون وكيفيه الكينونة وطريقة التعامل والسير في الأرض تبين إن كان الإنسان قد دخل ميدان العلم والمعرفة أم إنه منغمس في الجهل.
إن بعثة الرسول الأعظم (ص) وإبلاغ الرسالة وإنزال الكتاب السماوي لعرب الجاهلية، كان بوابة الخروج من الجاهلية الأولى وبسط ونشر العلم والمعرفة الحقيقية، ذلك الذي غير كل شئ. وكأنه تسبب بولادة إنسان جديد وجماعة جديدة في الكون وادى إلى ان تطأ قدما الإنسان عتبة الإنسانية الإلهية وان يجد الاناس عديمو الاطلاع والمتورطون بالجهل، امكانية الدخول إلى ساحة الأمة الإسلامية. ومن هنا ولد المسلم والأمة الإسلامية. اولئك الذين اصبحوا في ظل القرآن وسيرة وسنة ذلك المعلم السماوي، حملة القرآن ورمز العلم والحياة العالمة في الأرض.
ولا شك بان الصورة التاريخية والحياة المادية والحضارية لا تنال اعتبارها واصالتها وموقعها من زخرف الأشياء وتنوعها وتعددها بل من صاحب الاصالة والجاه حقا.
إن الذي يضفي المعنى ويمنح الاعتبار لجميع الصور المادية والتعامل والعلاقات بين الناس، هو قبل كل شئ الروح المعنوية والثقافية لتلك الصور. تلك الهوية التي نبعت مع بعثة النبي الأكرم (ص) من كتاب الله وآل الله.
إن غياب كتاب الله وآل الله لدى الصورة الحضارية والحياة الثقافية جعل البشرية والمجتمع البشري ما قبل البعثة يتصف بالصفات الجاهلية. لكن حضور هذين الأمرين ازال تلك الصفة المذمومة عنه وادى إلى ظهور المدينة الفاضلة أو العالمة.
وفي عصر النبي الأكرم (ص) وحضور كتاب الله وآل الله، بلغت الحضارتان الايرانية والرومية مبلغا من التقدم والتطور الا ان الغفلة عن الروح الحقيقية السماوية المنعشة للحياة، حرمت تلك الحضارتين عن امتلاك عنوان الحياة الطيبة والمدينة الفاضلة والعالمة. ولذلك تعتبر الايات والروايات، بان التأمل في ساحة كتاب الله والتمسك والتوسل بساحة آل الله تمثل علامة الخروج من الجاهلية الأولى والمجتمع الجاهلي.
إن اعلان حلول موسم الجاهلية الثانية أو بالأحرى الجاهلية الحديثة، هو في الحقيقة الإعلان عن خروج الروح السامية لكتاب الله عن الثقافة والحضارة البشرية وغياب سيرة وسنة آل الله عن العلاقات والتعامل الفردي والجماعي للبشرية. وفي هذا التوجه ووفقا لتصور حماة ومبشري مبدأ الترقي أو الحداثة، فإن الحياة الحديثة والحضارة التكنولوجية تمثل المقياس والمعيار للتشخيص والعامل لاضفاء الاعتبار والمصداقية وشرط اعلان الحياة المستنيرة. ذلك الشئ الذي اصاب الإنسان الغربي بالوهم ودفعه إلى ان الظن بأنه قد تخلص من الجاهلية في ظل تجربة الحداثة ومَثُلَ امام شمس العلم والمعرفة.
وهذا الكلام، يميط اللثام عن تصور اخر: إن سير الحياة في الأرض ومرور الزمان الكمّي لا يعني بالضرورة سير الاكتمال وتجربة الكمال. وان كان غير ذلك، لما كان رسول الله (ص) يخبر امته مسبقا عن تجربة الجاهلية الثانية في اخر الزمان وسنوات ما قبل الظهور.
وكما اسلفنا، فإن الحضارتين الايرانية والرومية كانتا قد بلغتا في عصر البعثة، مراحل متقدمة من الرفاهية وتجربة الادوات المتطورة مقارنة بذلك العصر.
وبالنسبة لاولئك العظام والطاهرين، أهل بيت رسول الله (ص)، لم يكن من الصعب تنبؤ تجربة الحياة في ساحة الحضارة الغربية الحديثة، بحيث تحدثت العديد من الروايات عن التغير المادي والصوري للحضارة والحالات المادية للحياة البشرية في سنوات ما قبل الظهور، فهذا السير والحركة لا ينحيان منحى الكمال، بل ليس من اللازم ان تسير حياة الإنسان ومسيرته في الصور المادية والحضارية، نحو النمو الكمّي والطبيعي. ان ما يعطي المعنى والحياة لجميع الصور ويضفي عليها مصداقية وارتقاء، هو تطور النفس قبل تطور الادوات.
وعلى مدى قرون وسنوات، دفع الاعجاب بالساحة المادية الحديثة، الكثير من العلماء والمفكرين غير المسلمين لاعتبار تجربة الحداثة التي نشأت منذ القرن الثامن عشر فصاعدا، بانها الكمال والعلم عينهما، بل وذهبوا ابعد من ذلك لاكتشاف الضوابط والقواعد الخاصة التي تحكم التاريخ.
وهذا الكلام لا يعني بان تجربة الكمال والعلم وبالتالي الحياة الطيبة والمدينة العالمة والفاضلة، مقترنة بابسط صور الحياة على الأرض، بل ان الحديث يدور حول الاضفاء العبثي للاصالة على الصورة الحديثة للحياة والتمتع بالادوات التي تسهل وتبسط الحياة على الأرض. بحيث ان هذه التجربة أي الحداثة انطوت في حد ذاتها على التقهقر والرجعية والتوجه الجاهلي نحو الكون، السير في الظلام، حتى وان أضيئ الليل، بأحدث المصابيح ليصبح كالنهار. مثلما ان ساحة روح إنسان عصر الحداثة وفؤاده وثقافته واخلاقه غارقة في الظلمات وعتمة الجهل.
انظروا إلى جميع المظاهر والمصاديق التي تصف الجاهلية الأولى وكل ما نهى عنه كتاب الله وآل الله، لتدركوا هل ان ساحة الإنسان، مضيئة بنور العلم أم غارقة في الظلمة والجهل؟
والمثير للانتباه هو أنه على الرغم من تصورنا ووهمنا، فإن الجاهلية في العصر الملئ بنمو الحضارة الحديثة والتكنولوجية، تظهر أسوأ وأكثر شرا من الجاهلية الأولى.
وهي الرواية المنقولة عن النبي الأكرم (ص) : “بعثت بين جاهليتين لآخرهما شر من أولهما”.
فالتنبؤ يعلن عن حدوث الجاهلية الثانية من جهة، وكونها أكثر شرا وسوء من الأولى من جهة اخرى.
وفي رواية اخرى، يتم وصف متبعي هذه الجاهلية التي هي حصيلة تتبع الجاهلية الأولى، بالابغض حيث يقول النبي الأكرم (ص) “أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومتبع في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرء بغير حق ليهريق دمه”.
وربما يُظن بان الجاهلية الثانية التي يدور الحديث حولها تعود إلى السنوات أو القرون الأولى التي تلت بعثة النبي الأكرم (ص)، لكن مصاديق هذه الجاهلية الثانية التي تحدثت عنها الروايات المنقولة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، تظهر اوجه مختلفة.
الوجه الأول، ينسحب على الجاهلية في الميدان الفكري والعقائدي. وهو الذي يتسبب ببروز المصاديق الثقافية والحضارية للجاهلية.
ولدى أهل الذكر واولي الالباب من الأنبياء والأوصياء والحكماء، فإن التحلي بحلي الحياة الدنيا وتقدم وتراجع الاوجه الحضارية والمادية، لا يشكل المعيار والمقياس لتحديد ما إذا كانت حياة المجتمعات البشرية تتسم بالمعرفة أو الجهل. ان عموم العظماء، يعتبرون سلامة الدين والأخلاق وقيادة الجماهير على طريق الفلاح والنجاة، يشكل العلامة الأولى للمدينة العالمة.
وقد ورد في اقوال وكلام الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بان من لم يعرف امام عصره فإنه يموت ميتة جاهلية، الأمر الذي سيخضع الإنسان للسؤال والمؤاخذة بشانه. ونقل في هذا الخصوص عن الإمام علي أمير المؤمنين (ع) قوله ان رسول الله (ص) قال ” من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”.
وكما ورد في الادعية والزيارات الخاصة بان الإمام المعصوم والمنصوب من قبل الحق، هو صاحب وحامل العلم الحقيقي بل هو معدن العلم ومخزن سر الله ومختلف الملائكة ومستلهم بالعلم الغيبي ولذلك فإنه الفارق ومعيار تشخيص العلم عن الجهل والحق عن الباطل.
إن مقام الإمام هو مقام يميز الحق عن الباطل والعلم عن الجهل وان الجهل حول صاحب هذا المقام هو بمنزلة الجهل حول معيار تشخيص الحق عن الباطل والعلم عن الجهل وبالتالي الابتلاء بالشبهة والانزلاق نحو الباطل. وهذه الواقعة تقع بداية في المجال النظري وتؤدي إلى ظهور سيرة وسنة وأخلاق وثقافة مليئة بالباطل والجهل وتؤدي بالتالي إلى إيجاد حضارة مليئة بالباطل والجهل.
إن كل الحروب وسفك الدماء وإهدار الحقوق والأموال وألوف المفاسد الأخرى هي حصيلة بروز الشبهة وعدم تشخيص الحق عن الباطل وغياب الفارق بينهما. إن مقام الإمام هو مقام الحجة. إن خطاب الحجج الإلهية حول الأئمة (عليهم السلام) مؤشر على مقام الحجة ودليل على وجوده. ففي البحر المظلم والطرق المعتمة، فإن النجوم والكواكب والفوانيس البحرية هي التي ترشد التائه إلى الوجهة المنشودة وتحول دون فنائه في الصحراء والبحر.
إن الامواج العاتية لبحر العلاقات السياسية والاجتماعية تودي في لحظة بحياة الالوف من الاشخاص.
وليس من دون سبب قالت السيدة فاطمة الزهراء (س): وإِطاعَتَنا نِظامًا لِلْمِلَّةِ ، وَإِمامَتَنا أَمانًا لِلْفُرْقَةِ.
إن الخروج من دائرة الحجج الإلهية يفضي بالتالي إلى الامتثال لاوامر ونواهي الحجج غير الالهيين.
وبكل الاحوال، فإن الإنسان يختار في خضم الحياة وتقلباتها، اشخاصا كحجة له تظهر في ادبه وثقافته وتعاملاته المادية.
إن الوجه الخارجي لحياة كل عصر، هو تجسيد ذاتي للحجة التي يعتبرها الناس في كل عصر وزمان امامهم وحجتهم. فالناس ينظرون في مرآة الحجج إلى أنفسهم ويجسدون ويبروزن صورتهم في العالم الخارجي.
ومن المستحيل ان يكون عهد الناس وميثاقهم مع حجة ويمتثلون لاوامر حجة اخر. إن هذا الانفصال، يقضي على نظرة الإنسان وعمله. وإن ما يتغلب على الدوام ويحكم مملكة كيان الإنسان ويبرز أوامره، هو الحجة المطاع أمره والذي يتعلق الإنسان به.
إن ثقافة وحضارة الجاهلية الحديثة هي انعكاس موضوعي لحجة عصر الحداثة وغير المعصوم والتي وجدت امكانية ممارسة السلطة والإمارة، والفارق الجوهري بين هذا العصر وسائر العصور السالفة التي امتثلت فيها البشرية للحجة غير المعصوم، هو ان عبدة الأصنام واتباع الكهنة والكذابين كانوا في العصور الغابرة يعبدون طاغوتا أو إله أو كاهنا وحتى صنما خارج أنفسهم وكان لهم على الأقل نوع من الاقلاع عن الذات في اسفل المراتب، لكن الإنسان في العصر الحديث، يعبد ذاته، فهو الطاغوت بعينه، واستقر على محور الذات من دون وسيط، وهذا هو اسوأ أنواع الجاهلية التي تحدث في تاريخ الحياة الإنسانية.
وهذه الجاهلية تستحدث عالما مليئا بالظلم والجور. العالم الذي يحدث في نهاية الزمان واخر الزمان.
وفقط في حالة وجود الطاغوت وعبادة الأصنام يصبح العالم مليئا بالظلم والجور. وعندما يعتبر الإنسان نفسه الحق والمعيار والحجة، فإن كل ما يصدر عنه ظالم. وفي عصرنا، يتولد الإنسان من رحم الظلم ويعتبر بسبب الذات المحورية والفلسفة الإنسانية، منشأ ومصدر الظلم والجور. فالإنسان أصبح الاله والرب، والإنسان تحول إلى الحجة والمشرع ومنشأ صدور الشريعة، وصدور الحكم أصبح حقا للإنسان ومنه، وهو أصبح الميزان ومنفذ الاحكام، وهو الذي أصبح المبدأ والمنتهى والمسار والمقصد والوجهة.
وربما يمكن القول بان امام العصر (ع) هو أكبر محطم للاصنام في تاريخ البشرية على الأرض. فهو الذي يحطم صنم الإنسان في معبد اصنام ذات الإنسان.
إن كلام الإمام علي أمير المؤمنين (ع) مخاطبا فيه الناس في اخر الزمان مثير للانتباه حيث قال: يا قوم اعلموا علما يقينا أن الذي يستقبل قائمنا من أمر جاهليتكم ليس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهليتكم ، وذلك أن الأمة كلها يومئذ جاهلية إلا من رحم الله.
إن الحياة على الطريقة الجاهلية، تنطوي على الامتثال والتبعية والعمل بالثقافة والحضارة الجاهلية.
وطالما ان حضارة وثقافة لا تتفشى على نطاق واسع ولا تنتشر على مستوى العالم وطالما ان الناس لا يرضخون للثقافة والحضارة الظالمة والجاهلة في الأخلاق والسيرة والسنة والتطبيق، فإن الظلم لن يكون شاملا ولن يمتلئ العالم ظلما وجورا، إذن كيف في هكذا حالة والكل غارق في الثقافة والحضارة الظالمة والجاهلة، الذهاب لاستقبال الإمام؟
إن استقبال الإمام يتطلب التنكر للوضع والأسلوب الظالم والتبرّي منه وهذا التبرّي رهن بالمعرفة حول حق الزمان وتجلي وظهور الكفر والشرك والنفاق في الزمان.
ويبدا المشوار مع الإنكار والرفض. إن القوم الذين لا يبلغوا مرحلة الإنكار والرفض ولا يقولوا لا اله الا الله، كيف يمكن لهم ان يصروا على اثبات الحق؟ ان المعرفة حول الاسس الثقافية والعقائدية للحضارة الجارية والأسلوب المتبع والمعتاد، يؤدي إلى الإنكار والتبرّي وإن التبري ينطوي في حد ذاته على الامتثال للامام والتماشي معه.
وعندما يترسخ الظلم في الميادين الفكرية والاخلاقية والعملية ويتحول الإنسان إلى الظلم عينه ويغرق في الجور، فإن الإنكار والتبري يجب ان يغطيا بالضرورة كل المجال العقائدي والاخلاقي والعملي الظالم. إن هذا الرفض والإنكار يمهد للاستقبال. إن الاستقبال السيئ ربما يشكل أحد أسباب تاخر الظهور.
وفيما نكرم الأسلوب الجاهلي ونتخطى من أجل بقائه وديمومته، جميع الحدود المرسومة في المجالات العقائدية والاخلاقية وحرام كتاب الله وآل الله وحلالهما، نتحدث في الوقت ذاته عن امام الزمان (ع). وهذا هو الاستقبال الجاهل لحجة الله الحيّ. وهو الذي لا يفضي إلى الظهور والحضور.
ولعل أكبر نتائج غلبة الجاهلية الثانية والتي تتحصل بعد نسيان الحجة الحق تتمثل في انتشار الظلم على نطاق واسع. ولهذا السبب فقط أي انتشار الظلم وعموميته تمتلئ الأرض ظلما وجورا.
واحد معاني الظلم، هو الظلمة. إن الظلمة تحصل نتيجة غياب النور والابتعاد عن الشمس الساطعة، بحيث ان البشرية منغمسة اليوم بالعتمة والظلمة. لكن المعنى الآخر للظلم هو في مقابل العدل. إن الظلم يعني وضع الشئ في غير موضعه. وعندما يكون كل شئ في غير موضعه، يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا. وفي هذه الحالة يقع الظلم، وينتشر على نطاق واسع ويلقي بظلاله على القلوب والعيون، مثل الظلام. لكن أكبر ظلم في تراتيبية الظلم، هو الشئ الذي تحدثنا عنه أي إن الإنسان أصبح بديلا عن الحق وحجة الحق، بحيث ان أكبر منكر هو إنكار الإمام الحق وبقائه مغمورا، وأكبر معروف هو التعريف به. ففي هذا الظلم ووضع الأشياء في غير محلها، تزول الحساسيات تجاه المعروف والمنكر.
وهنا لابد من التذكير بان الابتلاء بالجاهلية يمهد جادة حياة الإنسان لارتكاب الجريمة. إن التلوث الحيوي والدنئ هو الابتلاء بالجاهلية. وفي هكذا وضع تنتشر القبائح على نطاق واسع وتتحول إلى شئ اعتيادي، والاسوأ من ذلك يتم اظهار القبيح على أنه حسن ويصبح مبعث فخر واعتزاز.
وهل فكرتم بهذا السؤال أنه لماذا سعى ويسعى إبليس وجنوده لتشجيع الإنسان على ارتكاب الذنوب؟
– إن تفشي الذنوب والتمرد على الحق، يجعل الإنسان في كل الطبقات من دون مأمن وملاذ، ويزيل جميع الجدران المحافظة لكي لا يبقى الإنسان مدافعا عن الحق وأهله، بل ينخرط في فسطاط إبليس ويصبح من جنوده.
إن الفساد والدنس والتلوث يفتح أبواب جنود إبليس لتردد الإنسان. إن الذنب والظلم لاسيما عندما يتحولان إلى ثقافة عامة، يفتحان الأبواب لولوج أجنة الشيطان وهم جنود إبليس، في حين لا يبقى أي مانع ورادع ووازع يحمي الإنسان ويصونه.
إن السباحة في بحر الجهل، أغرقت الإنسان في الذنب لدرجة نشأ اختلاط وامتزاج وتناسب مذهل بين الإنسان وقوى الشر.
– ولماذا يتم الحديث في عصرنا هذا وأكثر من العصور السالفة عن السحر والشعوذة وعبادة الشيطان والارتباط بالأجنة؟
ولماذا يتم إنتاج كل هذه الأفلام عن السحر والشعوذة؟
وهل دققتم النظر في أفلام الكارتون التي يشاهدها الأطفال عبر التلفزيون والقنوات الفضائية؟! إن عموم هذه الأعمال تحوي موضوعاومفهوما شيطانيا والارتباط بالقوى الشيطانية والسحر والشعوذة. إن موضوع ومحتوى أكثر الكتب انتشارا في تاريخ حياة الإنسان، أي “هاري بوتر” هو السحر والشعوذة كما أن فلما انتج على أساس هذا الكتاب وعرض في أرجاء العالم، وهذا الفلم كان من أكثر الأفلام مبيعا. وفضلا عن ذلك وعلى مدى الأعوام الأخيرة فإن بعض الفضول فتح أبوابا أخرى أمام جنود الشيطان لاختراق حياة الإنسان.
1- وتوجهت جماعة نحو الدفائن ونحو كتب السحر والشعوذة والعلوم الغريبة. وتوجه جمع نحو الرمالين ولجأوا إلى استحضار وتسخير الأجنة. وفكت بهذا الطريق طلاسم، طلاسم بقيت بلا تغيير لألوف السنين. إن اقتحام هذه المشاهد من العلوم الغريبة من دون إذن وتخصص جلب الكثير من الأمراض النفسية التي هي حصيلة رسوخ القوى الشيطانية، للبشرية.
إن الشياطين شجعت الإنسان على ارتكاب الكبائر لتتسلط عليه بهذه الطريقة وتحوله إلى أداة طيعة بيدها لتحقيق مآربها.
– إن قادة المحافل الخفية والمحافل الماسونية في المراتب العليا، يستمدون قوتهم من القوى الشيطانية ليتغلبوا على منافسيهم ويحفظون مناصبهم وبالتالي يردون الجميل على إبليس، ويعمموا الذنب والدنس نيابة عن الشيطان ويضفون عليهما طابعا قانونيا ونشرهما علانية، ويصبح الشيطان في هذه المعاملة والصفقة مسلطا على روح الإنسان وماله وجسمه وقلبه.
إن الترويج للمثلية الجنسية عن طريق ألوف برامج القنوات الفضائية وشرب الخمر والزنا والتجذيف والإساءة إلى الكتب السماوية وحرق المصحف الشريف وغير ذلك، ألقى أسرع من أي وسيلة أخرى، بجنود إبليس على رؤوس البشرية.
إن الأفلام تزيل قبح ومساوئ القتل والضرب والاعتداء وتظهر كل يوم الألوف من مشاهد القتل والجريمة أمام أعين الأطفال، لتصاب الروح العامة للمجتمع بالمرض، فضلا عن تكاتفها مع الذنوب لتمهد الطريق أمام جنود إبليس ليسيطروا على أفئدة البشرية و أرواحها.
وربما يبدو غريبا ذكر هذه الحالات، لكن دراسة ما يجري في كواليس قادة المحافل الخفية وحتى الكثير من ذائعي الصيت والشهيرين في ميدان العلم والفن، يظهر إصابتهم بالارتباط الغامض بالقوى الشيطانية والأسوأ من ذلك تركيزهم المبرمج على تدنيس البشرية وتلويثها بالذنب والخطيئة بشكل ممنهج.
– ومنذ الأزمان السالفة، كانت المساجد والمواقع الدينية وحلقات الوعظ والذكر وأولياء الله الصالحين وعلماء الدين يحمون كدرع حصين، الديار والمنازل من سهام جنود الشيطان. وللأسف فإن مثل هذه المجالس والحلقات تضاءلت خلال العقود الأخيرة في مختلف المناطق، وحلت شاشة التلفزيون محل المنبر والخطابة وتغيرت الصورة المعمارية ولم يسأل أي مهندس عن الحكمة الكامنة وراء كل عمارة وفجأة حاصرت المباني المثلثية والهرمية الشكل، المدن والشوارع وهي عمارات ومبان تجتذب القوى السلبية المنتشرة في أرجاء الأرض والمحدقة بالإنسان.
– وفي السابق، كان الناس يبدأون يومهم بأدعية وأذكار خاصة وكانوا معتادين عليها، بحيث أزعج ذلك الشيطان وأبعده عن الناس ومنازلهم وديارهم، وكل هذا تم نسيانه.
ووضع الجميع يدا بيد، حتى انهارت الحصون والقلاع المحافظة ولجأوا إلى العلوم الجديدة عديمة البنيان والأساس مثل علم النفس وعلم الاجتماع عسى أن يستطيعوا بمددها الكشف عن سر غزارة وقوع الجريمة والطلاق وسوء الأخلاق الاجتماعية والتطاول على الحرمات.
ولِمَ لا يفكر أحد بالجدران المحافظة التي انهارت؟
إن علاج كوارث السيول والزلازل والجفاف، لا يكمن فقط في بناء السدود وتحصين المباني وبناء صوامع الغلال. بل يجب البحث عن مصدر كل هذا في مكان وموقع آخر، أو أخذ ذلك المنشا والمورد على الأقل بعين الاعتبار.
إن الخطاب السائد في عصرنا الحاضر، هو السياسة، الاقتصاد، اللذة والاستمتاع. وأصبح بلوغ هذا الثلاثي يمثل الشغل الشاغل للصغير والكبير.
إن كل الإعلانات والدعايات التجارية، أصبح همها الوحيد تحفيز وتشجيع الناس على النوم والاستيقاظ والأكل. وسار الجميع من صغير وكبير على طريق النوم والاستيقاظ والأكل.
فالجيمع مهمتون بالدنيا وما فيها، لكن أين عُقبانا وآخرتنا إذن؟
وأليس كل هذا هو تفسير الآية الكريمة: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ”.
إن تجاهل ونسيان السماء، هو نتيجة الاهتمام بالأرض.
وبحسب الروايات، فإن امام العصر والزمان (عج) وأنصاره، يخوضون في سنوات الظهور العصيبة حربا مع جيش إبليس، وجنود إبليس من غير الإنسان أي الأجنة الشيطانيين. ويدخل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والملائكة والجنود الرحمانيين إلى الساحة ليحاربوا مع الإمام، جميع جنود الشيطان ويطهروا الأرض من دنسهم، لكي يتخلص الإنسان من كل ذلك ويتذوق الحياة الطيبة ويستقر في دولة كريمة.
وفي السنوات التي تسبق الظهور، فإن عمق واتساع نطاق الجهل من جهة والانفصال والابتعاد عن سيرة وسنة الرسول الأكرم (ص) والكلام السماوي (القرآن الكريم) من جهة أخرى يزيد للأسف من الشعور بالغربة لدى الناس وغربة الدين لدرجة تبدو عقيدة آخر وصيّ الرسول الخاتم (ص) المهدي المنتظر (عج) وكأنها عقيدة جديدة لدى الناس.
وقال الإمام الصادق (ع):
“إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء”.
إن المُهجّر والمُغترِب عن البلد والديار، عندما يحل في وطنه ودياره، يبدو غريبا وغير معروف، وإلا ليس هناك دين جديد ولا أمر جديد، مع أن الإمام الصادق قد قال:
«إذا قام القائم جاء بأمر جديد كما دعا رسول صلى الله عليه وآله في بدء الإسلام إلى أمر جديد».
إن البعد والغرابة والهوة هي التي تجعل دين الآباء والأجداد غريبا في أعين الجهلاء، بحيث أن الإمام المعصوم قال حول سيرة الإمام المهدي (ع) ما مضمونه إن ما سيقوم به المهدي هو نفس ما قام به رسول الله (ص)، فإنه سيدمر البدع السائدة مثلما أن رسول الله (ص) هدم أساس الجاهلية وعندها سيبني الإسلام من جديد.
إن البدع في السير التدريجي والتكويني، أخرجت جميع الُسنن من الميدان لتحل محلها ومدت الجاهلة الثانية جذورها، واتسمت بصورة وظاهر الثقافة والحضارة، وتسلحت بسلاح الفن والوعي والتجربة لكي تقف بكل ما أوتيت من قوة بوجه كل مصلح ومجدد.
ولهذا نرى أن دفتر الأيام والزمان زاخر بأسماء آلاف المصلحين والمجددين الذين اخفقوا في انجاز مهمتهم. اولئك الذين بذلوا قصارى جهدهم لمواجهة الأشكال المختلفة للجهل.
وربما لهذا السبب أو لأسباب أخرى سيكون تراث جملة الأنبياء السلف في وقت تجديد حياة الإسلام والظهور الكبير مؤازرا وداعما للمهدي (ع)، بحيث أن عصا موسى وقميص يوسف وخاتم سليمان وراية ودرع النبي (ص) والتوراة والإنجيل وسائر مواريث الأنبياء والأوصياء والتي كان لكل منها قوة ونفوذا في عصرها لإسقاط مختلف أنماط الشرك والكفر والنفاق الذي اصطف في مواجهة الأنبياء العظام الإلهيين، ستتدخل من أجل الإطاحة بالجاهلية التي هي حصيلة كل التجارب السابقة وكل المصاديق السابقة للكفر والشرك والنفاق، والتي ستظهر في حلة جديدة وهيئة جديدة وخادعة وفي الوقت ذاته ظالمة وجائرة وطاغية. فضلا عن أن مؤازرة ودعم جميع مواريث الأنبياء ومعجزاتهم بما فيها الكتب السماوية السابقة، هي مؤشر على الدين المتكامل والتام والأتمّ لآخر وصيّ رسول آخر الزمان (عج)، وهو الذي سيتغلب على كل المذاهب والعقائد لتكون الدولة الكريمة لحضرة صاحب الزمان (ع) هي الهادي والملاذ لجميع الملل والنحل.
وفي الروايات الواردة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) تم تبيان الأوجه المختلفة لهذه الجاهلية، واعتمادا على هذا الكلام الحكيم وعلى رغم تصور الذين يرون ظواهر الأمور فحسب، فإن المجتمع البشري سيغرق قبل ظهور الموعود المقدس (عج) في الجاهلية في المجالات الثلاثة الفكرية والثقافية والحضارية.
إن تصدع وتحطم سلسلة الجاهلية، رهن بظهور الحجة الحيّ، موعود آخر الزمان وإن تكليفنا يتمثل في الانخراط المخلص والمجد لحشود المنتظرين والممهدين. نأمل أن نحظى بهذا الحظ وهذه المسايرة العظمى.
إن شاء الله.
الهواشی :
- محمد الرشيدي، العقل والجهل في الكتاب والسنة، ص 273
- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 362
- النعماني، كتاب الغبية، ترجمة علي أكبر غفاري، ص 414، الباب 17
- نهج البلاغة، الخطبة 95
- المصدر نفسه، الخطبة 107
- بحار الانوار، ج 52، صفحة 362
- سورة الحجر، (15)، الآية 34
- سورة ص (38)، الآية 82
- سورة الححر (15)، الآية 39
- سورة الانعام (6)، الآية 43
- بحار الانوار، ج 51، ص 73
- بحار الانوار، ج 9، ص 223؛ الطبرسي، احمد بن علي، الاحتجاج، ج1، ص 98
- بحار الانوار، ج 51، ص 120
- بحار الانوار، ج 52، ص 191؛ الشيخ الصدوق، كمال الدين، ج 1، ص 201
- الشيخ المفيد، الارشاد، ج2، ص 384
- بحار الانوار، ج 52، ص 352