الثلاثي المقدس (القسم الثامن : الشرق الاسلامي يؤسس لحضارة الغد)

اسماعيل شفيعي سروستاني
إن عددا محدودا من الامم كان لها طوال التاريخ دور تاريخي مهم في بناء الثقافة وارساء الحضارة. ان عدد الامم والشعوب التي تنتشر في المعمورة كبير، لكنها لم ولن تكون قادرة  على الاضطلاع باثر خالد في التاريخ او ان تقوم ببناء ثقافة وحضارة. وربما سبب ذلك يعود الى ان الظهور من العيار الثقيل على الساحة التاريخية له متطلباته ومقتضياته لا تملكها جميع الامم. بعبارة اخرى فان جميع الامم لا تتميز بهذه الميزات والصفات.

اسماعيل شفيعي سروستاني
إن عددا محدودا من الامم كان لها طوال التاريخ دور تاريخي مهم في بناء الثقافة وارساء الحضارة. ان عدد الامم والشعوب التي تنتشر في المعمورة كبير، لكنها لم ولن تكون قادرة  على الاضطلاع باثر خالد في التاريخ او ان تقوم ببناء ثقافة وحضارة. وربما سبب ذلك يعود الى ان الظهور من العيار الثقيل على الساحة التاريخية له متطلباته ومقتضياته لا تملكها جميع الامم. بعبارة اخرى فان جميع الامم لا تتميز بهذه الميزات والصفات.
ولا تبرز اي حضارة الى حيز الوجود الا اذا كانت مدعومة بثقافة عريقة. اي ان شرط ظهور حضارة ما هو السند الثقافي. ان الاناس الذي يطلعون فجاة من بين غابة لا يستطيعون بناء حضارة راقية. او تاسيس منظومة اجتماعية كبيرة. ان هؤلاء هم بداية بحاجة الى اطار ثقافي. لذلك لا بد لهم ان يملكوا اطارا ثقافيا سليما وشاملا لكي يتمكنوا بالاعتماد عليه من بناء حضارة. فضلا عن انهم بحاجة الى صرح ثقافي وكذلك اساسات فكرية صلبة.
إن الواجهة الخارجية لمبنى ما يمكن رؤيتها من الخارج، لكن المساحة الداخلية للمبنى لا يمكن مشاهدتها من النظرة الاولى، كما ان اساسات المبنى هي في باطن الارض ولا يمكن مشاهدتها. ان ما هو في الخارج ويمكن رؤيته، هو الحضارة.
إن الحضارة ما هي الا الواجهة الخارجية والمكشوفة لحياة قوم ما على الارض.
وكلنا يسلم بان المبنى المشيد، شيد على يد معمار. وهذا المعمار غير مرئي. فان لم يكن المعمار لما ارتفع هذا المبنى بهذا الشكل، ولما كان بالامكان بناء الجدران والشبابيك. وان وجود الغرف والمطبخ والاقسام الاخرى من المبنى مؤشر على وجود معمار تولى بناؤه. ان المعمار هو الذي وضع تصميم المبنى وبناه على اساسه. ان العمل الرئيسي انجزه المعمار في الحقيقة لكن عمله هذا مستتر. والا فانه يمكن تحويل الاجر والحديد والاسمنت الى اي هيئة كانت.
إن ذلك الجزء الخفي من الثقافة، هو كمعمار ذلك المبنى. واردنا بهذا المثال توضح العلاقة القائمة بين الحضارة والثقافة.
ويمكن تمييز ثقافة امة ما من وضع عمارتها. ان ما يميز الحضارات عن احداها الاخرى ويساعد مثلا على تمييز الحضارة الاسلامية عن الحضارة الرومانية واليونانية او الصينية، هو الوجه الثقافي.
ويمكن تشخصيص المجالات الثقافية من خلال مشاهدة واجهة المبنى.
لقد كنا في الماضي نعيش في كنف الحضارة الاسلامية، لكننا نملك اليوم آثار ورموز هذه الحضارة فحسب. بعبارة اخرى، فاننا كنا نعيش في يوم من الايام داخل حدود ثقافة وحضارة اسلامية من العيار الثقيل، لكن الامر ليس كذلك الان.
وبقي من هذه الحضارة اليوم اثارها ومعالمها، بقيت كتب وخبراء قادرون على دراسة مواصفات وخصائص تلك الحضارة. ان نماذج تلك الحضارة منتشرة في هذه الحدود الجغرافية، لكن هذه الحضارة الاسلامية اخذت تتراجع بسبب عوامل مختفة – لا لمجال لمناقشتها في هذا البحث – واصبحت منعزلة تحت اثر حضارة جديدة، وهذه الحضارة الجديدة بمعماريتها الخاصة بها، القت بظلالها على حضارتنا الاسلامية.
أي، اننا كنا ذات يوم نعيش تحت ظلال حضارة اسلامية من العيار الثقيل، كانت مجالاتها الفكرية والثقافية والمادية متماسكة، لكننا نعيش الان في الحدود الجغرافية لتلك الحضارة لا في حدودها الثقافية.
إننا نعيش في هرات وسمرقند وبخارى وري واراك لكن زمننا ليس زمن غلبة الحضارة والفكر الاسلامي. بل هو زمن غلبة الحضارة الغربية. لذلك فاننا نعيش في اطار الحضارة الغربية ونشيد مبانينا على ارض ارسيت عليها في يوم من الايام الحضارة والفكر الاسلامي. ولا توجود الان الآصرة بين الثقافة والحضارة الاسلامية، بل امتزج واختلط كل ذلك واصبح في ظلال الحضارة الغربية.
وليس ان شعبا وامة كانت تملك يوما ما ثقافة وحضارة عريقة، ستبقى في الظل الى الابد او ان تدمر وتباد. فان اتيح لها المجال وان يبلغ شعبها مرحلة من الوعي اللازم وان يحين الوقت ويساعدها الله تعالى، وان يستيقظ مثقفوها ومفكروها ومعلموها من جديد، فان ثمة امكانية للعودة ثانية الى تلك الحضارة الراقية. ان هذه الامة يمكن لها ان تستعيد قوتها وحضارتها وامجادها من جديد وان تبرز كل عناصرها في هذه الحضارة.
إن الغرب يتنفس لاربعمائة عام في فضاء حضارته وفكره ودفع خلال هذه الفترة جميع الثقافات والحضارات غير الغربية الى الهامش، سواء الحضارة الاسلامية او الحضارة الصينية والكونفوشيوسية او حضارة سائر الامم، الحضارات التي كانت ذا شان ومرتبة في يوم من الايام واصبحت الان تعيش في الهامش.
وبما ان الحضارة الغربية اخذت تتراجع لاسباب مختلفة بعد اربعة قرون، اتيحت فرصة لان تتنفس الحضارات الاخرى التي كانت تعيش على الهامش، الصعداء. وان تحظى بتجربة جديدة وتنهض من كبوتها من جديد، وتخرج من الظل وتترك الحياة الطفيلية لتبدا حياة جديدة.
وتتهيأ بذلك جميع متطلبات الثقافة الاسلامية لتجدد حياتها، لان الغرب يمر بازمة وتقهقر واصبح الانسان الغربي يواجه انفعالا واصبحت الاذان مستعدة للاصغاء الى الصوت والنداء الجديدين القادمين من الشرق الاسلامي والمعنوية. ان الانسان الغربي قد سئم وملّ من المادية ويبحث بشكل ما عن العودة الى المعنى والمعنوية للتخلص من الازمات المتراكمة عليه. وطبعا لا يجب نسيان ان الانسان الغربي لا يمكن له ان ينظر الى العالم والكون كما ينظر اليهما الانسان الشرقي.
ولهذا التيار عوامله المختلفة لا مجال هنا لتوضيحها. وبكل الاحوال، تتهيأ فرصة وارضية لكي تستعيد الثقافة والحضارة الاسلامية امجادها وعزها وقوتها من جديد.
ونقول ان الغرب على علم تام بهذا الشئ. ان الغرب الآيل الى الانهيار يعرف بان هذا التيار الجديد، يتنامى باطراد، ولهذا فانه يبذل محاولات مستميتة للحد من ان يبصر هذا المولود الجديد، النور.
وهناك الكثير من القرائن والشواهد التي تشير الى ان موسم اضمحلال وانهيار الغرب، قد حان. ويُسمع صوت التاريخ والحضارة المستقبلية والثقافة الجديدة، وهذه الثقافة ستشهر نفسها باسم الله وباسم الدين والمعنوية.
وفي الغرب ذاته، هناك اناس يتحدثون عن هذا الشئ وان هذا الكلام لا يصدر عنا فقط.
وكان هذا الخبر قد اذيع في الغرب قبل سنوات مديدة، بين مجموعة من الشعراء والفلاسفة لاسيما فلاسفة التاريخ والمنظرين السياسيين من أن المسار الذي يسلكه الغرب الان، سينتهي به الى انحطاط الحضارة الغربية فزوالها وانهيارها.
إنهم كانوا ينظرون من الخارج الى حركة القافلة الغربية وتوقعوا بالتالي هذه الخطوة.
وعندما ننظر الى الشعراء والادباء الغربيين، من امثال “غوته” الالماني و “كريستوفر مارلو” البريطاني و”الدوس هوكس لي” البريطاني نرى انهم كانوا شعراء وكتاب وكانوا على علم بالحالة التي يمر بها الغرب وكانوا يذكّرون بها بحالة من السخط والكراهية والتحذير ويعلنون بان هذا المسار سيفضي الى سقوط الغرب وانهياره. وكانوا يرسمون مستقبل الغرب في سياق المسرحيات والقصص والروايات.
فعلى سبيل المثال، الف الدوس هوكس لي، مسرحية بعنوان “العالم الجميل الحديث” وهي رواية خيالية. ويقدم فيها صورة عن مستقبل الغرب. ويجسد مدينة، كل شئ فيها ميت، شعر ميت، دين ميت، فن ميت، كنسية منهارة، انجيل وكتاب مقدس مضمحل، ولا مكان فيها للحب والعشق. وتحول الانسان فيها الى كائن ميكانيكي وآلي.
وهذه المسرحية، تظهر عصر الغلبة التامة للتكنولوجيا على البشر. وهذه الغلبة مضت قدما لدرجة ان الانسان ينتج في المصانع ويقرر مصير بين المكائن والاليات.
وهناك يتم انتاج اناس ضمن مجموعات غاما وبيتا والفا تحت اثر العوامل الكيماوية، ويعثرون على فرصة عمل من دون ان تكون لديهم ذائقة شعرية او فنية وارادة. وهذا العمل، يرسم صورة عن مستقبل الغرب.
ومعظم الاعمال التي تتحدث عن انحطاط الغرب وزواله، تعتبر ان السبب الرئيسي للانحطاط هو اخلاقي بشكل عام، فضلا عن العلمانية المستولية على الغرب والتي تضفي لونا ماديا على كل شئ.
وعلى مدى اربعمائة عام مضت، اعتمد الغرب، عملية ازالة القدسية عن العالم. ونحى جانبا كل ما كان له علاقة بالدين والقدسية والاسطورة، وانتزع عنها الكرامة وقبل بالنظرة المادية البحتة.
وفي المجال الفكري، نحى جانبا الحق ووضع محله الفكر المبني على المذهب الانساني. ونبذ شريعة الاديان واتبع محلها الليبرالية في الاخلاق ووضع الاحكام الانسانية محل الاحكام السماوية كما وضع جانبا الحياة والنهج في المعنى، واعتمد اللذة والتمتع بها بشكل كامل. ان هؤلاء الفنانين والحكماء كانوا يرون بان ازالة القدسية عن العالم وانتزاع الكرامة المعنوية من الانسان والطبيعة واعتماد الليبرالية في الاخلاق ستؤدي عاجلا أم آجلا الى الانهيار.
وربما لم يكن وضع العالم الغربي في عهد الشاعر الالماني “غوتة” كما هو عليه الان. لكن هذا الشاعر وسائر المفكرين كانوا يرون في مرآة قلوبهم ماذا سيحدث.
ونرى اليوم بان مرض قوم لوط ، اصبح مرضا يعم الغرب لدرجة ان الكنيسة اضفت عليه طابعا رسميا، واعترفت به الجمعيات الرسمية وحتى انهم يصدرون ترخيصا لزواج المثليين جنسيا.
وربما لم يكن احد يتصور في ذلك الوقت بان الغرب والانسان الغربي سينتهيان الى عبادة الشيطان. ويصلان الى السحر والشعوذة في كل علاقاتهما. وربما لم يتصوروا بان موسيقى الغرب ستتخطى مرحلة الموسيقى الكلاسيكية وتتحول يوما الى موسيقى مبتذلة وهابطة مثل موسيقى الراب والميتال، وهي الاداة التي اصبحت بيد الشيطان للتغلب على الانسان. لكن العلماء كانوا يرون بنور قلبهم بان هذا المسار سيؤدي الى سقوط الغرب.
وفلاسفة التاريخ هم من ضمن المجموعة الثانية ممن تناولوا مستقبل الغرب برؤية يغلب عليها العلم والتفكير.
والمجموعة الاولى تناولت هذا الموضوع باسلوب شاعري والثانية برؤية عالمة.
ويقول فيلسوف التاريخ “توين بي”:
“ربما ان الله وحده قادر على انقاذ الغرب ولا سبيل امام الغرب للعودة الى الكنيسة والدين”.
أي انه كان يرى ما يحدث. او ان فيلسوف التاريخ “اشبنغلر” يؤلف كتابا بعنوان “انحطاط الغرب” وهذا الكتاب معروف لدى فلاسفة التاريخ في الغرب. لذلك نرى بان هناك من كان من بين فلاسفة الغرب تحدثوا عن مستقبل الغرب وانحطاطه.
ويشاهد هذا التكهن والتوقع بالانحطاط الحتمي للغرب، بين المنظرين السياسيين ايضا. كما انهم كانوا يتوقعون بان المستقبل سيكون حليفا للاسلام وهذا التوقع نراه بين المجموعات الثلاث وهي الادباء والشعراء وكذلك الفلاسفة وايضا بين المنظرين السياسيين، وكانوا يعتبرون بالاجماع بان المستقبل سيكون حليفا للاسلام والمتدينين.
ويقول اشبنغلر بصراحة:
“ان المستقبل سيكون للاسلام وان الغرب سينهار امام الاسلام”.
كما ان المنظرين السياسيين كانوا يقولون بان الاسلام سيسود الغرب.
وفي العصر الحديث الذي نعيشه، هناك اشخاص مثل “الوين توفلر” و “صمويل هنتينغتون” و “فوكوياما” اعترفوا بهذا المصير سواء بشكل مباشر او غير مباشر. وهؤلاء الذين يعتبرون من المنظرين السياسيين في الغرب اعلنوا:
“ان الثقافة والحضارة الغربية ستدخل في مواجهة مع الثقافة والحضارة الشرقية. سواء الحضارة الصينية او الحضارة الاسلامية، وان هذا الاتصال سيؤدي الى صدام”.
ويتحدث هنتينغتون عن “الصدام بين الحضارات”. وان هذا الاعلان اي قرب وقوع صدام بين الحضارة الغربية والشرق، ادى الى ان يلجا الساسة المستكبرون استنادا الى هؤلاء المنظرين، الى اجراءات رادعة.
ويمكن القول بان اطلاع الساسة الغربيين لاسيما ادوات الصهاينة القابعين خلف الكواليس، خلال العقود الثلاثة الاخيرة على هذه التوقعات، دفعهم الى وضع مشاريع وخطط تحسبا للحقبة التي قد تشهد وقوع هذا الصدام، تؤدي الى زوال وانهيار ما تبقى من الفكر الاسلامي وتكفل بقاء الحضارة الغربية.
وفي ضوء ذلك، فانهم اعتمدوا على مدى العقود الثلاثة الاخيرة سياسات، ليست حالت دون اندلاع هذا الصدام فحسب بل يريدون وأد الحضارة الاسلامية في المهد قبل ان تنمو وتترعرع لكي لا تتاح لها امكانية التوليد.
إن تجربة الازمات الشاملة، عززت هذه الاحتمالات وبناء على السياسيين ذاتهم، فانهم يرمون من خلال الاستعانة بالاجراءات العسكرية الى الحيلولة دون تنامي الثقافة الاسلامية وولادتها من جديد.
ولا بد من معرفة ان الساسة ورجال العسكر، ليسوا قادرين ابدا على بناء حضارة او احياء ثقافة، وكل سياسي يريد اختبار هذه التجربة فان محاولته ستبوء بالفشل، الا اذا كان حكيما قبل ان يكون سياسيا. لان موقع السياسة والعسكرتارية، هو في مرتبة ادنى من الثقافة. ان الامم والشعوب، هي ليست الابناء المعنويين لرجال السياسة والعسكرتارية، بل ابناء رجالات الثقافة. والحضارة ليست من صنع رجال السياسة والعسكرتارية، بل هي حصيلة اداء رجالات الفكر والثقافة. كما ان التطورات الثقافية لا تتم على يد رجال السياسة والعسكرتارية، بل على يد رجالات الثقافة.
واينما اصبح رجالات واصحاب الثقافة في عزلة، فان تلك الحضارة ستؤول الى السقوط حتى وان نشط رجال السياسة والعسكر. ان امة او شعب او قوم ما لا يستمدون قوتهم من السياسة والاقتصاد والعسكرتارية.
وان شبهنا، الامم ومجيئهم ورحيلهم وزوالهم بجسر كبير، فان لهذا الجسر دعائم يستند عليها. وهذه الدعائم هي رجال الفكر والثقافة، ومع بناء كل دعامة، يتم زيادة طول الجسر فضلا عن الحفاظ عليه. ان رجال السياسة والعسكر يعملون على هذا الجسر، او انهم يحرسونه. فاما ان ينظفونه ويكنسونه واما ان يحولوا دون انهيار احجاره. ان هؤلاء ليسوا دعائم رئيسية. وعندما نمعن النظر في جميع الثقافات، نرى بان اصحاب الثقافة هم حماة الامة والشعب.
وفي الفلسفة والحكمة، نواجه نوعين من الحكمة، هما الحكمة النظرية والحكمة العملية. فالحكمة العملية، تستند على الحكمة النظرية.
والحكمة العملية هي السياسة المدنية وتدبير المنزل وهي التي ينشغل فيها رجال السياسة، وتقع في ذيل الحكمة النظرية. ولهذا السبب، فان رجل السياسة اما ان يكون حكيما او يعتمد على حكيم على اقل تقدير. وفيما عدا ذلك، فان لم يكن حكيما ولا يعتمد على حكيم، فانه يفسد كل شئ. ان رجال السياسة لا يتمتعون ببنية فكرية متينة.
ان مبنى وجسر حياة امة ما، قائمان على الدعامة الثقافية. ان رجال الثقافة لا يظهرون في العلن، لكن حضورهم جاد وذي اثر.
وفي الوقت الحاضر، لا يوجد في الغرب، معلم ولا مفكر. وكل ما هو موجود، هي العسكرتارية والسياسة والاقتصاد. وان جميع هذه الابعاد تفتقد الى الجذور والبنية الثقافية، لماذا؟ لانها ليست ثقافية حتى تضفي قواما على السياسة والاقتصاد والعسكرتارية. وعندما يريد الغرب النيل من الاسلام والحضارة الاسلامية عن طريق السياسة والاقتصاد والعسكرتارية، فان بامكانه ضرب بنائها الظاهر فحسب. اي انه قادر على تاجيل نمو الحضارة الاسلامية عن طريق الحرب والسلاح فحسب. انه غير قادر على ضرب العامل الرئيسي التي يمدها بالحياة الا وهو الثقافة والفكر. في حين ان الثقافة والفكر في الشرق، هي التي تتوالد وتتكاثر. لذلك فان هؤلاء يقدرون فقط على ابطاء الحركة لا الاطاحة بها. وعلى الرغم من ان الصدام حتمي في ميدان الفكر والثقافة والحضارة، لكن القطاع السياسي والعسكري والاقتصادي هو الذي سيتضرر في هذا الصدام فحسب، لان الغرب يملك في الوقت الحاضر السياسة والاقتصاد والعسكرتارية فقط.
وهل الغرب قادر على القضاء على الحضارة الاسلامية اصلا؟ الجواب هو كلا. لانه لا يملك الاداة اللازمة لذلك. لكنه يعمل لترويج الابتذال في المجتمعات الاسلامية.
لكن عهد ان يستطيع الحد من نمو الثقافة الاسلامية بواسطة هذا السلاح ، قد ولى. بل انه قادر فقط على ابطاء هذه الحركة. وان لم يتحل رجال السياسة والعسكر في الشرق بالوعي، فانهم سيسهمون في عملية الابطاء هذه من دون ان يدروا.
وان لم ينفقوا في المجال الثقافي ورصدوا جميع اموال الدولة للسياسة والعسكر والاقتصاد، ولا يعيروا اهمية للثقافة، فان هذه النبتة التي تريد ان تنمو وتكبر، ستضعف. وعلى هؤلاء ان ينتبهوا الى ان الثقافة هي ركيزتهم التي يرتكزون عليها وهي التي تكفل بقاءهم.
وقد يتصور المرء بان هناك العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية القوية والفعالة في الغرب، لكن ما يتغلب على هذه المراكز هي الرؤية السياسة والعسكرية، لا الجانب الثقافي.
وقد اجتاز الغرب خلال الاعوام الاربعمائة الاخيرة ثلاث مراحل مهمة واساسية. ان القرنين السادس عشر والسابع عشر، يعدان قرنين مهمين لنضح ونمو الفكر والفلسفة، حيث ان كل هيكلية الغرب قائمة اساسا على هذه الفلسفة والفكر.
ان القرن الثامن عشر في الغرب هو قرن الثقافة. وكل ما نشر وصدر في حقل الثقافة في الغرب، صدر في هذا القرن كما ان الثقافة الغربية انتشرت في العالم في هذا القرن. وقد صب الغرب جل جهوده في القرنين التاسع عشر والعشرين على بناء الثقافة. وفي نهاية القرن العشرين، برزت التكنولوجيا الغربية بكامل هيئتها. ان الغربيين يعتبرون ان “نيتشة” هو اخر فيلسوف. اي انهم يعتقدون بان الفلسفة قد انتهت مع فردريد نيتشة ولم يعد لديهم بعد ذلك فلسفة. اي انهم كلما انتقلوا من القرن السادس عشر باتجاه القرن العشرين، كلما انتقلوا من الطبقات التحتية الى الطبقات العليا وانشغلوا بسطح الحياة. بحيث ان التكنولوجيا تعد اليوم مظهر هذا التيار برمته. وكلما ابتعدوا عن الماضي كلما وصلوا الى الابتذال في الثقافة. بحيث لا يشاهد الان ادب اصيل وفن اصيل وموسيقى اصيلة في الغرب. الجميع وصلوا الى الاسفاف والابتذال. ان الادب الاصيل والفن الاصيل تحولا في الغرب الى تيار خاص، في حين ان الادب والثقافة والفن كان التيار السائد في السابق، لكنه تحول اليوم الى تيار خاص له متلقيه الخاصين به وعددهم محدود.
وان درس الغرب خلال القرنين الاخيرين، الشرق والثقافة الشرقية بواسطة المستشرقين، فانه لم يكن من اجل التحول الى الصبغة الشرقية، بل من اجل التعرف على الشرق والنيل منه. ان هدف هذه الدراسات هو التعرف على الشرق في سبيل الهيمنة عليه.
ويجب القول بان الغرب، يمر في القرن الواحد والعشرين، بمرحلة السقوط والانهيار التام.
ان هذا الانهيار قد حدث في حقل الثقافة قبل ان يحدث في حقل الاقتصاد والسياسة، وكما اسلفنا، فان هذا السقوط كان قد تكهن به المفكرون والعلماء الغربيون.
ولاسباب مختلفة بما فيها:
•    ملل الانسان الغربي من “النظرة الاحادية” و “المادية”.
•    الانفعال والركود الحاصلين من الحياة الالية المرهقة التي تفتقد الى الروح والجوهر.
•    إن عدم الحصول على النتائج المرجوة من الجنوح نحو الدنيا والعالم الخالي من المعنوية وعدم الاستقرار والسكينة وبالتالي الازمات متعددة الاوجه مهدت للعودة الى المعنوية والشرق لاسيما الاسلام.
وهذا يعني نشأة الحاجة لدى الانسان الغربي. 
ان الروح والنواة الرئيسية للمعنوية والدين سارية في الشرق الاسلامي وبين المسلمين. فضلا عن ان القدرات المتاحة في هذا المجال، اتاحت فرصة ولادة ثقافة وحضارة جديدة من رحم الشرق. ولا بد للغرب واقطابه القابعين خلف الكواليس الذين هم يهود وصهاينة في الاغلب، اختيار احد هذه الخيارات الثلاث:
1-    مواجهة ومحاربة هذا التيار الجديد
2-    مراجعة الذات وعملية الاحياء والتجديد
3-    الاستسلام للشرق والتاريخ الجديد
وكما قلنا، فان لا مجال للاحياء والتجديد في الغرب. لان البنية اللازمة لذلك غير متوافرة.
إن الطبيعة الاستكبارية والشيطانية تمنع الغرب من الاستسلام امام الشرق والتاريخ الجديد، لذلك فانهم افترضوا ان الخيار الوسط هو الخيار الذي يجب ان يتبنوه. وهو الدخول في جدال ومواجهة وصراع مع الشرق والثقافة الاسلامية والانسان المسلم. وهو الشئ الذي نواجهه اليوم بكل ابعاده. وهذا يعد وجها اخر للحقد الذي يكنه الغرب للاسلام والمسلمين لاسيما الشيعة. 
يتبع إن شاء الله  
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من ادارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

شاهد أيضاً

الثلاثي المقدس ( القسم الثاني عشر: وجود القدس في الشرق الاوسط)

اسماعيل شفيعي سروستانيواضافة الى ما ذكر، فان مدينة القدس تقع في هذه المنطقة. ولا بد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *