اسماعیل شفيعي سروستاني
إن المعرفة والتحليل الدقيقين والشاملين للوقائع الاجتماعية والسياسية المعاصرة، رهن بمعرفة التطورات الماضية ورصد تغيرات وتطورات واثار تلك الوقائع حتى العصر الحاضر. ان ما يُشاهد اليوم ويغمرنا سعادة وبهجة او يُغرقنا حزنا وألما، هو القسم الظاهر من جبل الثلج الهائل الذي انبثق من صميم محيط الحياة. والقسم الاكبر من هذا الجبل، مغمور تحت الماء، ولا يتضح اساسه ونطاقه وعظمته من دون ملاحظته.
اسماعیل شفيعي سروستاني
إن المعرفة والتحليل الدقيقين والشاملين للوقائع الاجتماعية والسياسية المعاصرة، رهن بمعرفة التطورات الماضية ورصد تغيرات وتطورات واثار تلك الوقائع حتى العصر الحاضر. ان ما يُشاهد اليوم ويغمرنا سعادة وبهجة او يُغرقنا حزنا وألما، هو القسم الظاهر من جبل الثلج الهائل الذي انبثق من صميم محيط الحياة. والقسم الاكبر من هذا الجبل، مغمور تحت الماء، ولا يتضح اساسه ونطاقه وعظمته من دون ملاحظته.
إن اتخاذ القرار بشان القسم الظاهر رهن هو الاخر بهذه المعرفة، وفي ما عدا ذلك فاننا سنصاب بخيبة امل وهزيمة دائمة.
وللاسف فان سكان الشرق وبسبب ولعهم غير الحكيم لنيل الحداثة او حسبما يقال مسايرة قافلة الحضارة، ليس يدمرون كل معالمهم ونتاجهم الثقافي والحضاري فحسب، بل يتناسون كل الماضي والخلفيات والمواجهات والتعامل واساسات العداء والصداقة القديمة مع سائر البلدان والامم، ولا يتحدثون عنها ايضا، بحيث ان مصادرهم التاريخية والتعليمية والمدرسية، اكثر شبها بدفتر التسجيل في المقابر منها من كونها مصدرا لتمكين الشبان لمواجهة العصر وتحفيزهم على التولي والتبري في الظروف العصرية، واكتشاف النماذج والقدوات للتمسك بها والنهوض مجددا بعد تجربة كل هزيمة واخفاق.
ومنذ الماضي السحيق، فان واقعة صلب السيد المسيح (ع) شكلت احد اهم المنعطفات في تاريح حياة المسيحيين وعلاقتهم ببني اسرائيل. وقد وجه المسيحيون اصابع الاتهام نحو بني اسرائيل وكانوا ينددون بهم بجريرة ايذاء عيسى بن مريم (ع) وصلبه على يد الرومان.
ولا حاجة لتكرار هذا الامر الجلي بان السيد المسيح (ع) لم يصلب اطلاقا، بل رفعه الله الى السماء، وصلب الرومان رجلا اخر شبيها له.
وعلى اي حال، فان واقعة الصلب، احدثت هوة سحيقة بين انصار الصليب وصهيون.
ومذاك دخل بني اسرائيل، مرحلة حياكة المؤامرات لردم هذه الفجوة لان هذا الحقد الدفين، ليس دفع ببني اسرائيل الى العزلة للابد في جميع البلاد التي يقطنها المسيحيون وجعلهم يعيشون حالة من انعدام الامن والامان فحسب، بل حال دون تحقيق اهداف بني اسرائيل ايضا، واعتبر موضوع المنقذ والمسيح بحكم المنتهي، بحيث ان بني اسرائيل لم تبق لديهم ذريعة للاستمرار الزائف لعصر فاعلية اليهود، في حين ان مجمل الحياة الشيطانية لبني اسرائيل رهن بتزوير انتظار اليسوع.
وعلى الرغم من صعوبة التعويض عن هذه الكارثة والجريمة، لكن ثمة منعطفين مهمين اخرين احدهما الاتيان ببولص القديس في القرن الاول للميلاد وفي العقود الاولى للمسيحية والاخر ظهور مارتين لوثر في المانيا في القرن السادس عشر للميلاد، ليسا استطاعا الى حد كبير، ردم تلك الهوة السحيقة لبني اسرائيل فحسب، بل جعلا المسيحية والمسيحيين يخضعون تدريجيا لسلطة بني اسرائيل.
ولم يلتق القديس بولص، المسيح قبل صلبه اطلاقا ، ورغم انه كان يهوديا، وبالغ في ايذاء المسيحيين الاوائل واعتبر احد الاسباب الرئيسية لاستسلام المسيحيين امام الرومان، لكنه اعلن بغتة انه صاحب مقام الارتباط المباشر بالمسيح (ع) وادعى انه لاقى المسيح على طريق “دمشق”. وساهم بولس بوصفه مخزن الاسرار، بهذا الادعاء تدريجيا في حرف التعاليم الاولية والبسيطة للمسيحية وتخلى عن المسيحية البطرسية التي كانت الممثل الحقيقي للسيد المسيح (ع). وأرسى بولس تعاليمه على اساس التقليد اليهودي. ان حقد بولس على بطرس واضح لجميع المسيحيين، لكن منذ ذلك الحين فصاعدا، اصبحت جميع التنظيمات الدينية للكنيسة المسيحية، خاضعة لسلطة ورؤية بولس.
إن تعاليم التثليث التي يطغى عليها الشرك وزرع روح الاستسلام امام الحكام والعديد من التعاليم الاخرى التي تحظى بتاييد الكنيسة المسيحية، نابعة من كلمات ولاهوت بولص.
وبجانب كل ذلك، فان مشروع الصهيونية المسيحية ولد في عصره وعهده بفعل العبث بالمسيحية الاولى.
ويعد نبذ ضرورة العمل والتكليف في مقابل الايمان باخلاص وبطلان جميع الاناجيل ماعدا “انجيل بولص” واضفاء الطابع الالوهي على السيد المسيح (ع) اي تكريس روح الله في المسيح (ع) هي في مجملها انجازات لهذا القديس البني اسرائيلي.
وفي النهاية، سجن بولص وقتل على يد الرومان. وحدث ذلك في الفترة 54- 68 للميلاد. وبعد عام او عامين اي عام 70 للميلاد، هدم وازيل “معبد وهيكل بني اسرائيل”.
وفي المنعطف الثاني، تمرد مارتين لوثر الذي كان متحدرا من اصول يهودية، على الكنيسة الكاثوليكية واصبح في ظل هذا الاعتراض، مبدعا ومؤسسا للكنيسة البروتستانتية في اوروبا. واستند مارتين لوثر في حركته الاعتراضية الى تعاليم بني اسرائيل واكال المديح لليهود وطرح مرة اخرى فكرة ان بني اسرائيل هم الشعب المختار. وادى لوثر من خلال الاستناد الى “العهد العتيق” الى ايجاد تغيرات مهمة في المعرفة الدينية للمسيحية.
وكان يؤمن بنبوءات “التوراة” بشان نجاة كل بني اسرائيل كأمة. وكرس لوثر جل همته لتحويل المسيحيين الى يهود، لدرجة انه وصف المسيحيين بانهم كلاب على مائدة بني اسرائيل. وفي ضوء هذا وبعد سنين من الجهد الحثيث، تحصل ما كان يصبو اليه بنو اسرائيل.
وبعد لوثر، وتشعب البروتستانتية، لم يكن هناك اثر عن حقد المسيحية على بني اسرائيل، بل تحول المسيحيون الى خدام وخدم لبني اسرائيل.
وعرفت نهضة مارتين لوثر في القرن السادس عشر للميلاد، بنهضة الاصلاح الديني، وبعد هذه الواقعة، تحول “العهد العتيق” او بالاحرى “التوراة” الى مرجع رئيسي للمسيحيين البروتستانت، وتم قبول تفوق بني اسرائيل، وخرج الدين عن نطاق المسؤولية الاجتماعية واصبحت المسيحية علمانية بكل معنى الكلمة، وتم الاعلان عن تعلق الاراضي المقدسة باليهود كهدية ربانية لبني اسرائيل. ويجب اعتبار ان انعقاد نطفة الصهيونية السياسية مدين لمارتين لوثر الالماني، لانه احل الربا وكان وراء ولادة الراسمالية الاوروبية الجديدة.
يذكر ان القسم الاعظم من سكان “بريطانيا” هم من البروتستانت، كما ان ال 70 مليون نسمة من البروتستانت في الولايات المتحدة، يضطلعون بدور بالغ في الحياة الثقافية والسياسية وحتى السياسة الخارجية الامريكية.
إن تقديس بني اسرائيل واليهودية في الولايات المتحدة، بات امرا ضروريا بالنسبة للديانة المسيحية، ولا يمكن النظر اليه كموضوع سياسي بحت. ان الخدمة التي اسداها بولص ومارتين لوثر، حولت الحقد على اليهود الى حقد مشترك للصليب وصهيون على المسلمين.
والملفت والمهم في هذا الاتفاق الصليبي والصهيوني، هو انبثاق مشروع نهاية الزمان والمتمثل في العودة الثانية للمسيح بعد واقعة هرمجدون لبني اسرائيل ومن اجل بني اسرائيل، واعادة بناء “هيكل سليمان” و تاسيس حكومة بني اسرائيل الكونية، وعاصمتها القدس.
وكما تعرفون فان اتفاق الصليب وصهيون، سخر كل امكاناته خلال السنوات الاخيرة للتمهيد لتدمير “المسجد الاقصى”.
وقبل فترة اعتنق احد الاساقفة الايوانجيليكيين التابعين للكنيسة البروتستانتية العالمية، الاسلام. وبعد اعتناقه الاسلام، كشف ايلكر تشينار الاسقف السابق في الكنيسة البروتستانتية العالمية “تارسوس تركية” النقاب عن الكثير من الحقائق والفعاليات التبشيرية للايوانيجيليكيين. وعلى الرغم من انه هُدد بالموت وتعرض للايذاء مرارا على يد الاوساط الصليبية والصهيونية، لكنه اماط اللثام عن المآرب والخطط الخطيرة لاتفاق الصليب وصهيون في محاربة الاسلام واحتلال الاراضي الاسلامية واستعادة ما يسمى ارض الانجيل اي “الشرق الاوسط” و”الاناضول” و”بين النهرين” بوصفها اراض مقدسة.
إن المسلمين معرضون في الحقيقة لخطر المشروع الصهيوني من “النيل” الى “الفرات” من جهة، ولاطماع الصليبيين الانجيليين للاستيلاء على ما يطلقون عليه اسم “ارض الانجيل” (وقد صدرت خارطة هذه الارض المزعومة) من جهة اخرى. يذكر ان ارض الميعاد التي يطمح اليها الصهاينة، تقع داخل ارض الانجيل التي يدعي بها الايوانجيليكيون. ومن هنا يمكن معرفة سر تواجد الغزاة البريطانيين والامريكيين في “بين النهرين”. وهذا الاسقف الذي كان حتى قبل فترة يعتنق ديانة جورج دبليو بوش، يقول بشانه:
إن بوش منهمك بكل ما اوتي من طاقة بترويج وتوسيع البشرى الدامية في البلاد الاسلامية. ان مشروع الشرق الاوسط الكبير يتمثل في الحقيقة، في الحصول على “ارض الانجيل” التي يتابعها هؤلاء المبشرون بحدة ومن دون اي مرونة. انه يقدمهم على انهم جنود الحرب الصليبية ممن يستعدون لخوض حرب صليبية جديدة ضد المسلمين.
إن هؤلاء المبشرون يقومون بنشاط واسع بين الاكراد والعلويين في “تركيا”. وحسب اعترافات هذا الاسقف الانجيلي، فان هؤلاء التبشيريين يسعون لرسم صورة مهترئة عن الاسلام ويحاولون من خلال التقرب الى الجامعيين والناس البسطاء، تقديم انفسهم على انهم اشخاص مفعمون بالحب والحنان، ويقومون بتوزيع الاموال والمساعدات الخيرية لخطب ود الناس البسطاء وتضليلهم.
إن هؤلاء يعتبرون “تركيا” و “العراق” بانهما جزء من ارض الانجيل وحتى ان الامريكيين اشتروا في منطقة “حرّان” ارضا تبلغ مساحتها 48 كيلومترا مربعا.
إن حرّان هي منطقة مهمة واستراتيجية تقع في شمال “بين النهرين”. وهي تلك المنطقة التي هزم فيها الروم في 16/2/53 قبل الميلاد على يد الجيوش الايرانية.
وتكبد كراسوس الرومي هزيمة نكراء أمام جيش سورينا، القائد الاشكاني الايراني. وكان كراسوس يدعي السلطة على الشرق. وقد حصل على ممتلكات وكميات كبيرة من الذهب من خلال الحروب الداخلية “للروم” مع سبارتاكوس بجنوب شبه جزيرة “ايطاليا” والانتصار على العبيد المتمردين.
وكان سورنا الايراني البالغ من العمر ثلاثين عاما قد تواجه مع كراسوس في منطقة “حرّان” واوفد اليه بداية سفيرا ليحثه على العودة بسلام. وعندما شاهد السفير الايراني طيش كراسوس، اظهر راحة يده بابتسامة الى كراسوس وقال:
إن وجدت شعرة في راحة يدي، فانك سترى “سلوكية” عاصمة “ايران”.
وقد دخل الروم بقيادة بابليوس كراسوس الى ساحة المعركة من خلال فيالق مؤلفة من 60 الف عسكري، في حين ان جيوش “ايران” كانت تملك الف فارسا ثقيلا وتسعة الاف فارسا خفيفا. ومع ذلك، مني الروم بهزيمة فادحة وتكبدوا عشرين الف قتيل وعشرين الف اسير، وولوا مدبرين. وقد قتل كراسوس في هذه المعركة، ورفع راسه على رمح ليدفع بذلك ثمن طيشه وعدوانه.
ويقول بلوتارك المؤرخ اليوناني الشهير بهذا الخصوص:
وعندما اصر بابليوس (كراسوس) على ان تهاجم الفيالق، فرسان العدو [الايرانيون]، راى ان ايديهم ملتصقة بدروعهم وتثبتت ارجلهم في الارض كالمسمار، بحيث انهم لم يكونوا قادرين على الحرب او الدفاع عن انفسهم. وعلى الرغم من ان “سورنا” قتل بعد سنوات بسبب حسد القادة، لكن اسمه وهزيمة كراسوس ومنطقة حرّان بقيت في التاريخ الايراني العريق ومواجهاتهم مع الغربيين (الروم).
واليوم، وانطلاقا من هذه المنطقة بالتحديد، اي حرّان الاستراتيجية، يستهدف الحلفاء الصليبيون وصهيون، الشرق الاسلامي. وقد استولوا على الاف الهكتارات من الاراضي في منطقة الحدود العراقية (بين النهرين) وتركيا وسورية وبالقرب من منطقة الحدود الايرانية، وشيدوا عليها الوحدات السكنية ومصانع الاسلحة في محاولة منهم لايجاد اسرائيل اخرى في هذه المنطقة المهمة.
إن هؤلاء يستهدفون فرض هيمنتهم تماما على الشرق الكبير وتاسيس عالم احادي الحكم، كما اصبحوا يستهدفون “بيت المقدس” و “بين النهرين” و “تركيا” و “ارض الانجيل” حسب تعبيرهم.
ويجب التذكير بكل هذا واعادة قراءة الماضي، والتعرف على استراتيجية الغرب في مواجهة الشرق. وللاسف فقد نسينا بطلا مثل سورنا، ونريد ركوب الموجة من دون اي مقدمة وخلفية.
يتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.