قبيلة الرحمة (الفصل السادس: المُبشرّ)

وبعد الإتيان على ذكر النبي موسى (ع)، يتطرق “دعاء الندبة” إلى المنعطف السادس في التاريخ. إن آخر نبي لبني اسرائيل، عيسى (ع) يبشر بمجئ أحمد، نبي آخر الزمان. إن الهدف الرئيسي في الخارطة الإلهية العامة، وإرسال الرسل وإنزال الكتب، هو دين الرسول الخاتم والرسول الخاتم شخصيا، وإن كلا من الأنبياء السابقين، كانوا بمثابة مقدمة مهدوا وسهلوا، لجعل البشرية جاهزة لتقبل “الدين المتكامل والرسول الخاتم”.

ووردت رواية في “البرهان”، ج 1، ص 460 مضمونها هو أن الرسول الخاتم كان الغاية النهائية منذ خلق جميع الأنبياء.
“وَبَعْضٌ اَوْلَدْتَهُ مِنْ غَيْرِ اَب وَآتَيْتَهُ الْبَيِّناتِ وَاَيَّدْتَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَريعَةً، وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ اَوْصِياءَ، مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظ مِنْ مُدَّةٍ اِلى مُدَّةٍ”؛
وكان بنو اسرائيل قد اختيروا لتأدية مهمة خاصة، لكنهم وبسبب التمرد والعصيان، أغلقوا أذن الرأس والروح على الرسالة الإلهية ولجأوا على النقيض من مسيرة الأنبياء الإلهيين، إلى الوثنية والإستكبار، وبذلك وكما أسلفنا، ليس أزيلت عنهم المهمة فحسب بل أصبحت تلاحقهم اللعنة الأبدية وانضموا إلى قبيلة لعنة الله.
وكان النبي عيسى (ع)، آخر نبي بني اسرائيل، من الغصن الصغير لشجرة إبراهيم خليل الله (ع)، أي إسحاق النبي (ع)، وكان مبشرا بانتقال سلالة النبوة لأبناء النبي ابراهيم (ع) إلى غصنها الطويل، أي إبن اسماعيل النبي (ع).
وكان أنبياء بني اسرائيل من غصن إسحاق النبي (ع)، يتولون مهمة قومية وقبلية، وكانوا منضوين تحت الشريعة الموسوية ويفتقدون لموهبة الدين العالمي والقدرة على تشكيل الحكم الكوني.
وكانت البينة الجلية للنبي عيسى (ع)، هي البشرى بحلول فصل بعثة نبي آخر الزمان وظهور الدين المحمدي المتكامل، وبالتالي نشأة الحكم الكوني الموعود على يد أحد أوصياء نبي الرحمة والشفقة أي محمد بن عبد الله (ص).
ولم يطق أشرار بني اسرائيل ذلك، وتنكروا للنبي عيسى (ع) ليجربوا لعنة  الله وينزلوا إلى آخر درجة من التعاسة. وقد أجهز هؤلاء من منطلق الحقد والضغينة على أولياء الله، وسخروا كل طاقاتهم وأرصدتهم في سبيل الحد من تشكل وتحقق الإرادة الإلهية في نشأة حكومة الصلحاء.
ويبين “دعاء الندبة” إختصارا، الخارطة الإلهية العامة ويذكر الأركان والأعمدة الطويلة للصراط المستقيم، ليذكرّ المتلقين بضرورة قياس موقعهم وتوجهم بواسطة هذا المؤشر ويؤازرهم ويعينهم حتى الإستقرار في الصراط المستقيم وأخذ صبغة الله.
ويشير القرآن الكريم في العديد من الآيات إلى قيود شريعة النبي موسى (ع) ويذكرّ بني اسرائيل:

“وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً”.
كما يقول القرآن الكريم:
“وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ”.
وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي تؤكد إختصاص شريعة موسى (ع) ببني اسرائيل، مثلما أن “التوراة” تقدم النبي موسى (ع) على أنه منقذ بني اسرائيل وهاديهم.
ومن هنا نفهم بان رسالة هذا النبي الكريم ومن بعده النبي عيسى (ع)، لم تكن عالمية بل اقتصرت على بني اسرائيل. كما أن دراسة سيرة حياة النبي الأكرم (ص) تظهر بانه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يهوديا ولا مسيحيا، بل كان يتبع الدين الحنيف للنبي إبراهيم خليل الرحمن (ع).
ويُعرّف القرآن الكريم، بني اسرائيل بانهم ورثة موسى (ع) وشريعته:
“وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ”.
ويقول المغفور له العلامة طباطبائي حول عالمية رسالة عيسى (ع) في ذيل الآية “ورسولا إلى بني اسرائيل…”:
“إن ما يستشف من ظاهر الآية هو أن عيسى (ع) كان مبعوثا لبني اسرائيل فحسب، مثلما أنه يستشف ذلك من الآيات المتعلقة بموسى (ع). ومع ذلك يتضح من تفسير “الآية 213 من سورة البقرة” بان عيسى (ع) شأنه شأن موسى (ع) كان من أنبياء أولو العزم وبعث لجميع الناس في العالم. وإضافة إلى ذلك، فان ثمة أدلة أخرى أتي بها من القرآن وآيات سورة يس، من أن دين عيسى كان عالميا وليس مختصا ببني اسرائيل، بل انه بعث من بين بني اسرائيل”.
وقد بدأ بنو اسرائيل النزاع والمواجهة مع الأنبياء الإلهيين، وبما أنهم كانوا استنادا إلى “التوراة” على علم بمجئ نبي آخر الزمان من ذرية اسماعيل (ع)، فانهم ركزوا جل اهتمامهم على حرف الدين الموسوي وجره إلى المسار الذي يبتغونه، أي الهيمنة والسلطوية وتأسيس الحكم العالمي الغاصب والحد من تحقق الوعد الإلهي ببعث نبي آخر الزمان والدين العالمي المتكامل.
وكان بنو اسرائيل على علم بولادة عيسى (ع) وحتى طريقة ولادته. لذلك فانهم تجاهلوا جميع الشواهد والأدلة ، فاتهموا مريم المقدسة (س) بالبغي. وإن لم يكن عيسى (ع) يتكلم في المهد لكان هؤلاء المشترعون المخادعون، يرجمون مريم المقدسة (س) أمام الملأ بجرم البغي.
والملفت حسب تصريح القرآن، أن عيسى (ع) علم مريم (س) كيف تتواجه وتتعامل مع الناس:
“فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا”.
إن قبول بني اسرائيل للنبي عيسى (ع) كان بمثابة الإعتراف باخر فصل من نبوة بني اسرائيل ونهاية عهد فاعلية أنبياء بني اسرائيل وبالتالي الإمتثال لنبي آخر الزمان من ذرية اسماعيل (ع) أي محمد المصطفى (ص). لذلك فان الكتاب السماوي “الانجيل” كان مبشرا ومصدقا ل”التوارة” ومبشرا بمجئ أحمد (ص).
“وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ”.
وكان النبي عيسى (ع) صرخة مدوية بوجه بني اسرائيل الضالين والفريسيين  المختالين، ومصلحا للدين والشريعة الموسوية التي كانت قد حرفت على يد عبدة الدنيا.
إن النبي عيسى (ع) وعلى الرغم من دعايات رجال الدين المسيحيين، كان إنسانا ثوريا ومعترضا على الأساليب الجائرة لعلماء الهيكل والفريسيين المخادعين. فانتقض ضد تعاطيهم الربا وممارستهم الظلم، وأربك عليهم عملهم وتعاطيهم بالربا. وبعض أقواله في هذا الخصوص هي:
“… تبا لكم أيها الكتبة والفريسيون المرائون، الذين تغلقون باب ملكوت السماء أمام الناس! لأنكم لا تدخلونها وتمنعون الداخلين من الدخول إليها. تبا لكم أيها الفريسيون المرائون! لانكم تبتلعون بيوت الأرامل وتطيلون في الصلاة رياء، لذلك فانكم ستلاقون عذابا أشد. تبا لكم أيها الكتبة والفريسيون المرائون! لأنكم تجوبون البر والبحر للعثور على مريد، وما أن عثرتهم عليه، تجعلونه ثانية درعا لجهنم”.
وكان أصحاب البذخ والترف والرفاهية، يحملون منذ العصور الغابرة إنطباعا خاطئا عن المسيح. إن النبي عيسى (ع) وبهدف الكشف عن الأفكار المغلوطة، أعلن أن هدف رسالته هو:
“لا تحسبوا أني أتيت لأضع السلامة على الأرض، لم آت لأضع السلامة، بل السيف، لأني أتيت لأفصل الرجل عن أبيه والبنت عن أمها والعروس عن أم زوجها. وإن أعداء الشخص، سيكونون من أهل بيته”.
إن المسيحيين يعلقون شارة الصليب على أعناقهم كعلامة وتصورا لصلب المسيح عيسى (ع) من أجل ذنوب البشرية. وقد أكد النبي عيسى (ع) مرارا بان أتباعه الحقيقيين هم من يزيلون الصليب عن أعناقهم ويسيرون على خطاه. ويمكن من هذا الكلام إستنباط، أن ماضي تعليق شارة الصليب، يعود إلى عصر عيسى (ع)، ولا يجب اعتباره علامة على صلبه. ويجب تفسير هذا التقليد، بمثابة إنكار للذات والجهوزية للشهادة في سبيل الله”.
“وعندما كان حشد غفير يسيرون معه، توجه إليهم وقال: إن أتى أحد عندي ولم يعتبر أباه وأمه وزوجته وبنيه وأشقائه وشقيقاته، وحتى نفسه عدوا له، فانه لا يمكن أن يكون تلميذي. ومن لا يزيل صليبه ولا يمشي من ورائي، لا يمكن له أن يكون تلميذي”.
والآن قارنوا هذا الكلام الجهادي مع الإنطباع المحرف لبعض المسيحيين الذين يروجون لنوع من الإستكانة والمذلة ويعلنون: من وجه صفعة لك، فادر له الطرف الآخر من وجهك.
“ومن ثم دعا الناس وتلامذته فقال: من يريد أن يسير خلفي، فيجب عليه إنكار ذاته وإزالة صليبه ومن ثم يتبعني، لانه من يريد إنقاذ نفسه، فليهلكها ومن يريد هلاك نفسه من أجلي والإنجيل، فليحررها”.
إن اليهود المخادعين الذين رأوا الوجه الثوري لعيسى (ع)، تألبوا ضده. وأجروا مشاورات وصبوا جل سعيهم على إتهامه والبحث عن سبيل لمعاقبته على يد القادة العسكريين الرومان.
وجاب عيسى (ع) والحواريون معه، البلاد مدينة مدينة وقرية قرية، وأدى واجبه ومهمته الإلهية بقوة، لكن دخوله إلى “أورشليم” زعزع دعائم عرش الفريسيين واليهود المتغطرسين ودفعهم للتواطؤ ضده.
وبعد وصوله إلى “أورشليم” توجه النبي عيسى (ع) إلى “الهيكل”وعطل دكاكين الربا والمتجمعين في الهيكل وألقى موعظة لاذعة. وكل هذا كان كافيا لتواطؤ علماء اليهود والقبض عليه. وعندما أصبحت ملاحقة وإعتقال النبي عيسى (ع) حتمية وقريبة وعلم أنهم سيعاملونه كمجرم، بذل آخر جهده من أجل الدفاع المسلح، لكنه لم يلق ردا مؤاتيا:
“ومن ثم قال لهم: … من لا يملك سيفا، فليبع ثيابه، ويشتري به سيفا، لأني أقول لكم بان هذه الكتابة، أي التنبؤ يجب أن تتحق لدي، أن أحسب على المذنبين، لان كل ما هو بشأني سينقضي. قالوا:[أيها الرب، الآن سيفان]. قال: يكفي”.
وبما أن أنصار عيسى وبسبب تصورهم الخاطئ عن المسيح الموعود، لم يشعروا بالخطر المحدق به لذلك لم يأخذوا أمره بشراء السيف على محمل الجد، لكن عندما هاجمه جمع غفير بالسيوف والعصي، أدركوا حينها أهمية حمل السلاح، لكن إستخدام السيف في تلك الحالة الحرجة، كان عقيما بسبب عدم الجهوزية المسبقة وكان يؤدي إلى القصاص. لذلك فان النبي عيسى (ع) منعهم من هذا العمل في تلك الظروف.
إن معاناة المسيح عيسى (ع) في آخر أيام حياته بما فيها خيانة تلميذه يهودا له وإنكار بطرس ومحاكمته على يد اليهود بتهمة عدم الإيمان ومحاكمته لدى الحاكم الرومي بنطيوس بيلاطس بتهمة نقض القوانين المدنية وإدانته بالصلب، يميط اللثام عن علماء اليهود الذين كانوا غارقين في الفساد والضياع.
ومع ذلك فان المسيح (ع) أتم الحجة على مجتمع بني اسرائيل حتى آخر لحظات من تواجده بين الناس؛
بشرّ بحلول فصل بعثة نبي آخر الزمان؛
أرسى أساس الدين الإلهي المسيحي ليكون خطا مميزا واعلان نهاية عهد فاعلية الدين الموسوي.
وبعد عتاب طويل، توجه النبي عيسى (ع) إلى مدينة القدس وقال:
“يا أبناء أورشليم! قتلة أنبيائكم وراجمو مرسليكم، كم مرة أجمع فيها ظلم أبنائك، كالطير الذي يحتضن تحت جناحيه أفراخه ولم تطلبوا. والآن يترك بيتكم مدمرا لكم، لأني أقول لكم، بانكم لن تروني بعد الآن حتى تقولوا مبارك، أنه يأتي باسم الله”.
وبعد النبي عيسى (ع) مرت المسيحية الفتية بتحديات مختلفة. فالمسيحيون الأوائل وجدوا في زحمة إيذاء وأزعاجات اليهود، أن هويتهم الدينية والسياسية والفلسفية تواجه تحديا من قبل الأرضيات اليهودية السائدة والسيادة السياسية للقادة الروحيين والإنطباعات الفلسفية السائدة في ذلك العصر، وفتحوا للأسف ذراعيهم مبكرا أمام الأنماط المختلفة المحرفة في البحر الثقافي والإجتماعي والسياسي المتموج للقرن الأول بعد الميلاد.
إن أهم وأول تحريف، وقع على يد رجل من اليهود المتعصبين ويدعى بولس أو شاؤول اليهودي.
وكان شاؤول يعيش في مدينة “طرسوس” وكان أبوه من اليهود المؤمنين بالتقاليد والعادات اليهودية وأمه من الشخصيات المميزة وقدمت أعمالا ملحوظة. لذلك فان الحكومة الرومانية دعمتها من خلال مكافآت معنوية.
ومهد بولس من خلال التدخل  والتصرف في اللاهوت والشريعة المسيحية، لظهور الإنتقائية والإنحراف عن المبادئ والتعاليم الوحيانية للمسيح عيسى (ع).
ويقول الباحث المسيحي مايكل هارت في كتاب “مائة شخصية خالدة”:
“يجب القول بان مؤسس المسيحية لم يكن شخصا واحدا، بل أنها تأسست على يد شخصين، المسيح (ع) وبولس، ولذلك فانه يجب تقسيم هذا الإفتخار بينهما. ولذلك فان المسيح (ع) كان مؤسس المبادئ الأخلاقية للمسيحية، لكن مبادئها اللاهوتية وضعت على يد بولس. ومن هذا المنطلق فان المسيح لم يبشر باي من الحالات التي جاء بها بولس، وكان بولس أول من استدعى المسيح (ع)”.
ويقول غوستاف لوبون حول التغيرات الهائلة التي طرأت على هيكلية المسيحية البولسية:
“إن بولس أسس ديننا باسم عيسى، في حين إن كان المسيح على قيد الحياة، لم يكن ليدرك شيئا من هذا الدين، وإن كان يقال للحواريين الإثني عشر بان الله قد تجسد في عيسى، لما كانوا يطيقون هذه الفضيحة وكان يصرخون باعلى صوتهم اعتراضا على ذلك”.
وقد أدخل بولس طيلة سنوات نشاطه وبشكل تدريجي، تغيرات واسعة على المسيحية الفتية، بما في ذلك:
1.    إضفاء الطابع الألوهي على السيد المسيح (ع) (تجسد الله في المسيح)؛
2.    إبطال جميع الأناجيل ما عدا “إنجيل بولس”؛
3.    نبذ ضرورة العمل والتكليف في مقابل الإيمان البحت (كفاية الإيمان)؛
4.    حقن روح الإستسلام أمام الحكام؛
5.    التمهيد للمصالحة بين اليهودية والمسيحية؛
6.    عقد نطفة المسيحية اليهودية؛
7.    و… وقد تغلب تماما على المسيحية الأولية عام 140 للميلاد وأدى إلى قيام المسيحية المتهودة البولسية في العالم.
وهذا الكتاب ليس بصدد دراسة وتبيان جميع دقائق الأمور، بل يكتفي بالإشارة إلى المنعطفات المهمة في التاريخ. على أمل أن يهتم الشبان الأعزاء بدراسة كافة الدقائق والقضايا الرئيسية من المصادر الأخرى.
إن كلا من الأنبياء الإلهيين بدء من آدم (ع) وصولا إلى خاتم النبيين (ص)، كانوا في ضوء موقعهم ومنزلتهم والظروف التاريخية لعصرهم، صائنين للشريعة وأركان الدين التوحيدي. إنهم كانوا الحجة والدليل العلمي البين الذي أظهره الأولياء والأوصياء الحق وذكروا الناس بصراط نيل حقيقة المعنى. وحسبما جاء في “دعاء الندبة”
“وَلِئَلّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلى اَهْلِهِ، وَلا يَقُولَ اَحَدٌ لَوْلا اَرْسَلْتَ اِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً وَاَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِـعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ اَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى، اِلى اَنِ انْتَهَيْتَ بِالاْمْرِ اِلى حَبيبِكَ وَنَجيبِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ”.
إن أحد أسباب إنغماس الناس لاسيما شباننا في بحر الشبهات ووقوعهم في براثن الفِرَق والنِحَل، يعود إلى تعطل الدراسات الثقافية والقراءة السطحية للآيات والروايات والأدعية المأثورة. وعادة:
1.    إنهم وبناء على التعاليم المحرفة، لا يعتبرون مصدر الخلقة والأب الأول لخلق العالم، أي آدم (ع)، بانه يحمل ويحوي العلم والمعرفة والرؤية التوحيدية والمطلع على رسالة الأنبياء والعارف بالصيرورة في عصر الكون؛
2.    إن الجماهير، لا تميز سلسلة الهداية عن سلسلة الضلال؛ (عدم المعرفة حول الحجج الإلهيين)
3.    لا ينظرون إلى الوقائع والحوادث الكبيرة في المنعطفات التاريخية المهمة على هيئة تيار، ويعتبرون كل ذلك كنقاط أو جزر منعزلة عن بعضها البعض؛
4.    إنهم يغفلون الخارطة الإلهية العامة ويحسبون أن الكون متروك عنانه لاعصار الحوادث وهواجس الأشخاص؛
5.    لا ينظرون إلى الآفاق المستقبلية والمصير النهائي للعالم وسكان العالم (عالم المستقبل ومستقبل العالم) والذي أشير اليه في المصادر الدينية وأقوال عموم الأنبياء الإلهيين وأوصيائهم؛
6.    يفتقدون إلى المعرفة والوعي الجديرين بشأن النظرة العالمية والإنطباع العام لقبيلة اللعنة ومنكري ومعاندي ومبغضي قبيلة صبغة الله، في حين أن هذه النظرة العالمية أدت طوال التاريخ، ومن خلال تغير الهيئة (حفظ الطبيعة الشيطانية) إلى قرصنة ابن ادم جيلا بعد جيل وجره إلى الضلال والتيه.
وبناء على ذلك، فان هذه النقاط الرئيسية الست، تشكل الروح السائدة والخفية في هيكل عمود الأدعية والزيارات المأثورة. لكن المؤسف أن عامة الناس وعوامهم، ينظرون إلى هذه المجموعة الضخمة كسلم للصعود إلى الجنة والتكفير عن الذنوب وكسب الثواب.
إن غياب هذه المجموعة عن المصادر النظرية الشيعية، بين سائر مصادر المعرفة والغفلة عن هذا الأحتياطي في الحوزات العلمية والمراجع الجامعية والأكاديمية في العالم الاسلامي، يعد من أكثر الموضوعات الملفتة أسفا والقابلة للتوبيخ.
وللأسف فان المجال لا يسعني هنا لكي أسبر أغوار الساحات الباطنية لهذه المجموعة النفيسة، بل عرفت وذكرت حسب الدراسات الثقافية، وجها من أوجه هكذا مصادر.

سلمة واحدة حتى السماء السابعة
لقد تم تداول رسالة وتراث الأنبياء السلف نبيا بعد نبي إلى أن وصلا إلى آخر الرسل، خاتم الأنبياء (ص). وتم في “زيارة وارث” التعريف بهذه السلالة المقدسة وتراثها الحق.
وقد روى صفوان جمّال “زيارة وارث” عن الإمام الصادق (ع)، وكما يبدو من العنوان، فان الإمام عليه السلام وأثناء زيارة أبي عبدالله الحسين (ع)، يعتبر الإمام الحسين (ع) بانه وارث سلالة الأنبياء والأوصياء، ويقول في أول فقرة من هذه السلسلة:
“اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نَبِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ…”.
ففي الإنطباع الإلهي والإسلامي فان خلقة الكون مبنية على العلم والحكمة، بل أن أول مخلوق كان عالما ونبيا وحاملا لمهمة سماوية لهداية الناس، وحجة الله والواعي بمنطلق ووجهة سير وسفر الانسان في الأرض.
ونقرأ في فقرة أخرى من “دعاء الندبة”:
“اِلى اَنِ انْتَهَيْتَ بِالاَمْرِ اِلى حَبيبِكَ وَنَجيبِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ”.
إن النظام المعرفي المبني على الإنطباعات الوحيانية يعطي تفسيرا خاصا عن منطلق وغاية الوجود من خلال تقديم تعرف واعلان موقع الانسان والعالم المادي والكائنات المنتشرة في الكون، وهو تفسير يختلف من حيث المبادئ عما يعرف بعلم كونيات العصر الجديد.
إننا نواجه في العصر الجديد تفسيرا جديدا عن العالم والانسان، يختلف في الأساس عن منظومة علم الكونيات الوحيانية الدينية. إن النزعة الدنيوية وغير الدينية للقرنين السابع عشر والثامن عشر تجاه الوجود، أضفت الأصالة على الزمان والمكان الفانيين الدنيويين والماديين وزوقتهما وزينتهما في نظر الانسان، من خلال إزالة القدسية عن العالم ونبذ العلم المقدس وعلم الكونيات الديني. ومن هنا، فان الذات المحورية للانسان المنقطع عن السماء والمنفصل عن المصادر الوحيانية والتجارب الدينية، جعلت الإنطباع المبني على التجارب الحسية والموضوعية، أساسا للنظرية والتطبيق لديه ليبني بذلك عالما وانسانا حديثين.
إن قبول العقل الميكانيكي والمعاش كحجة نهائية، أفضى إلى إنكار ما بعد الطبيعة وكل أمر باطني وغيبي على امتداد الوجود، لكي يرفض وينبذ أنصار المذهب الوضعي  أحكام العلوم والإنطباعات الدينية في العصر الحديث. وحتى أنهم ألقوا بظلال من الشك على صحة الأحكام الواردة في المصادر الوحيانية وربطوا أثر أي حكم وقاعدة على قبولهما في محكمة العلوم الحديثة ومحك المذهب التجريبي.
إن المذهب التجريبي  يقيّم المعرفة على التجربة المباشرة والملاحظة التي تقوم على ما تدركه الحواس وحدها ويرى أن كل قول لا يمكن فحصه عن طرق الحواس لا معنى له.
وهذه الآلية أعادت في كل فرع من تفرعات العلوم الجديدة، النظر في أحكام العلوم المقدسة والتقليدية ما أدى إلى إعطائها تفسيرا جديدا بهذا الشأن.

وقيل حول عصر التنوير :
في عصر التنوير، تعتمد الآلية التجريبية والعلمية في جميع الميادين، باسم العقل، لمحاربة الخرافات والسذاجة والتعنت الديني. لتكن لديك الجرأة على المعرفة أو الشهامة على اتباع عقلك، هو شعار اعتمده كونت لعصر التنوير.
وأدى هذا العصر إلى ظهور نمط جديد من تصنيف العلوم والتعاريف والمصطلحات التفسيرية الجديدة حول نشأة الخلق ونشأة العالم والإنسان وبالتالي السير ونهاية الوجود والعالم.
وقلما نجد اليوم تلميذا أو طالبا لا يعرف شيئا عن فرضية “تطور الأنواع” و”الإنتقاء الطبيعي” والصراع من أجل البقاء، أو ألا ينظر من هذه الزاوية إلى نشأة الكائنات وموقعها في الكون.
والمؤسف أننا شهدنا خلال العقود الأخيرة، تفسيرات جديدة من هذا القبيل، حول العالم والانسان من قبل بعض علماء الدين أيضا.
واعتبر لامارك  بوصفه رائد علم الأحياء الحديث أن التغيرات والتحورات التي تطال جسم الحيوان والنبات، تتسم بطابع مادي. وكان أول من طرح نظرية التطور الطبيعي. ومن ثم جاء السير ويليام لورنس فوسع نظرية لاماراك من خلال محاضراته كما أدى تشمبر نفس الشئ في كتابه “الآثار المتبقية عن التاريخ الطبيعي للخلقة” واسبنسر في أول عمل له، كما حول تشارلز داروين في كتابه “أصل الأنواع” هذه النظرية إلى شكلها المعتمد.
ومذاك، أعلن من خلال الإستناد إلى مبدأ التطور:
إن كل نوع من الأنواع هو أكمل من الكائنات التي سبقته، وبعبارة أخرى، فان كل كائن في نسبة قريبة من الكائن الذي يخلفه، وهم متصلون كحلقات سلسلة واحدة، في حين أن الكائن السابق، هو أكثر نقصا وأقل نموا من الكائن التالي من أي ناحية. فضلا عن أن هذا التغير والتطور، يتسمان بطابع مادي ويؤديان إلى ظهور أشكال خاصة للأجسام.
إن كل استناد فلسفة علم الأحياء على الهيكلية الخارجية والوجه المادي للحيوانات. فقد أغفل هؤلاء الوجه الديني والماورائي للكائنات، ليعتبروا أن الكون، يستم بطابع مادي فحسب.
ويرى داروين، أنه يجب الإستدلال بأسس لبرهنة أن الانسان أصله حيوان:
أولا، إن الانسان ومن حيث الخصائص الجسدية، لا يتصف باي صفة خاصة به؛
ثانيا، إن نفسانيات الانسان ورغم النمو والتطور الخارقين، لا تعد من الخصائص الباتة، وفضلا عن ذلك، فانها من نوعية نفسانيات الحيوانات العليا.
والحصيلة أنه يجب إظهار، أنه ليس هناك أي تباين أساسي بين الانسان والحيوان من حيث النفسانيات فحسب، بل أن أوجه الخلاف بينهما تكمن في الكم ولا نوعية القوى العقلانية.
وإن كان ديكارت ، أعلن بعد شكه الكبير والمعروف:
“أنا أفكر إذن أنا موجود”. إنه افترض الفكر النفساني الذي بقي رهينة العقل الكمي، بانه مؤشر على العالم والانسان، كما أن الباحثين الذين اهتموا بموضوع الانسان، اعتبروا الحياة بانها مجموعة من الصفات المشتركة بين النبات والحيوان، تؤدي إلى الميلاد والتوالد والموت. وقد حدد علماء الأحياء مصير الموت والحياة بما يتناسب مع إنطباعاتهم، بحيث أن الموت كان مسالة منفصلة عن ماوراء الطبيعة وكانت تتميز بالقانون في الجهاز النظري لعلماء الأحياء، وبعبارة أخرى، فان مقام ومنزلة الانسان تنزلت من كائن يفكر بالموت والمعاد إلى حيوان يقف في المسار التكويني على قدميه، لان الانسان لم يكن ذلك الكائن الذي يحمل بباطنه الروح المجردة من المادة. ومن هذا المنطلق، فان الحياة السامية، تحولت إلى حياة حيوانية، لان البشرية صبت جل اهتمامها على إضفاء السلطة على القوى الحيوانية لكي تتمتع بجميع مواهب الحياة الحيوانية (الأكل والنوم والتوالد)، لا بل لتتواجه مع قضية تدعى الموت والتي يبدو أنها بقيت من دون حل، وتأخير حلوله المؤلم والأسود بمدد تلك العلوم الحياتية. وهذا التصور، أدخل حرصا وولعا لا ينتهيان إلى روح الانسان، لكي يعمل حتى بثمن القضاء على نظرائه في الخلق، على توسيع البيئة المحيطة به من أجل البقاء والمزيد من التمتع. لذلك فان الزمان الحاضر، بدا له مزخرفا ومزينا وخلابا، بحيث أصبح مذهب الحاضر، مذهبا مقبولا عنده.
ويتحدث كونت عن الإنجاز الرئيسي لعصر التنوير فيقول:
“إني أضع الإنجاز الرئيسي للتنوير أي خروج الانسان من الكمين ذاتي الصنع بين الشؤون الدينية. وعملي هذا يأتي من منطلق أن الحكام لا يميلون أبدا إلى الإضطلاع بدور المراقب تجاه أنصارهم في القضايا الفنية والعلمية. وفضلا عن ذلك، فان هذا الإعتماد الديني، أكثر ضررا ومذلة من جميع العوامل”.
إن مفروضات من هذا القبيل خلال القرون الجديدة، اتسمت بطابع علمي جديد أيضا وتحولت إلى مصدر للتعاليم الأكاديمية، ليعتبروا أن مجمل الإنطباعات والتعليمات السابقة (المبنية على التقاليد الدينية والعلم المقدس الوحياني) نابعة من الجهل والخرافة وليعلنوا بأن مجمل توجهات ومنجزات العصر الجديد هي أصيلة وتحظى باسمى مراتب الإنطباعات والمكاسب البشرية وهي حتمية وقطعية.
وهؤلاء أعلنوا في الحقيقة بان الانسان ومع تجاوزه مرحلة الطفولة والحداثة، وصل إلى مرحلة كماله ونموه الأكمل، وبالتالي فان الغرب ومنجزاته العلمية والحضارية، هو في ذروة المنجزات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب الماضية. لذلك فانه يتم تحديد تاريخ جميع الشعوب والأمم في ذيل ذلك وان عامة الشعوب والأمم يجب أن تقتفي أثر الغرب في النظرية والتطبيق وتتبعه في المجالين الثقافي والحضاري.
إنهم يتصورون بان قطار الحياة وحضور الانسان، قد عبر المحطة الدنيا والوضعية الأولية، ويمضي مرحلة بمرحلة إلى الأمام وقد وصل اليوم إلى المحطة الثقافية والحضارية للعصر الحديث. ويمكن اعتبار هذه المفروضات بانها تشكل جوهر وروح عامة تفرعات علم الأحياء وعلم النفس وعلم الإجتماع والسياسة والإقتصاد.
إن تحديد ونقد هذه المنظومة القائمة على المفروضات غير المتقنة وغير الوحيانية والمنتمية لهذا العالم المادي والتي تحمل وتحوي في طياتها رؤى أحادية النظرة إلى الانسان والعالم، رهن باعادة فحص ودراسة النظام المعرفي المبني على الإنطباعات الوحيانية، الأمر الذي اعتبر المعصومون أن من واجبهم رسمه وتبيانه وتفسيره بالإتكاء على الكلام القدسي الوحياني “القرآن”.
وربما لهذا السبب وبدليل أهمية وموقع النظام المعرفي وتقدمه على سائر الموضوعات، يبدأ الإمام المعصوم (ع) في “دعاء الندبة” من منشأ ومصدر الخلقة ونشأة الكون والوجود لرسم هذا النظام المعرفي، وعلى النقيض من المنظومة الغربية غير الوحيانية، فانه لا يعتبر أن هذا النظام نابع من الجهل والخرافة وهو لا يستند إلى المادة عديمة الشعور، بل يستند إلى أعلى وأكثر مراتب الخلقة نورانية وروحانية وعلما، أي الخلقة النورية التي تحمل أكمل كتاب سماوي وتروج لأكمل دين وحياني، أي الخلقة النورية للنبي الأكرم (ص) وأهل بيته المكرمين.
إن الأديان التوحيدية والكلام الوحياني، يربطان منشأ وبداية الخلقة بالحكمة والنورانية والعلم، ويعتبران أن سير التطور يتحرك من الوجود العالي الى الوجود الداني. لذلك، فانه يتم في السلسلة التراتيبية، تعريف الحيوان والنبات وبعدهما الجماد في أسفل المراتب. وفي هذه الرؤية فانه لا مكان للإرتباك والصدفة والعبثية وانعدام الهدف، وأن كل وجزء الوجود، يقعان في جميع المراتب الروحية والمادية، في ظرف تقديراتهم ومقدراتهم المحددة، ويتجهان من بداية الوجود نحو الوجهة النهائية، لكي يتحقق المقصد النهائي لخالق الكون، الله المتعال في جميع المراتب.
إن الأولوية والأفضلية في هذه المنظومة الشريفة، تعود إلى الوجود العالي الذي يحوي ويحمل أطهر وأجدر وأعلى وأسمى مراتب الصفات المتعالية وأن الآخرين يقعون حسب تمتعهم بهذه الصفات في المراتب اللاحقة.
إن هذه المنظومة وهيكليتها ومراتبها، تحتضن الفطرة الطاهرة والعقل السليم.
إن الإعراض عن هذه المنظومة والتوجه نحو العلم المنقطع عن الإنطباع الوحياني، أي ما حلّ في الحقبة الغربية المعاصرة بالانسان، أدى إلى إنقلاب الرؤية وبالتالي إنقلاب في الثقافة وإنقلاب في العمل والسير في الأرض، أي تحول سير وسفر الأنفس والآفاق، من الباطن إلى الظاهر، من الكل إلى الجزء، من عالم الروح إلى عالم الجسم، وفي المراتب اللاحقة، فان السير من الظاهر إلى الظاهر، طال أبناء البشرية.
إن هذه الواقعة، نبعت من الإقلاع عن التفكير، بالمعنى الأصيل للكلمة، وتم نسيان أن السير من الظاهر إلى الظاهر، أصاب الانسان بالنظرة الجزئية، والنظرة الجزئية إلى الكون والإعراض عن الإنطباع العام وبالتالي الغفلة عن الكل المطلق ورؤية الأجزاء المنتشرة في ساحة الوجود.
ويمكن إختزال كل هذا في الإصابة بالتنوير. إن التنوير هو حصيلة التغير والتحول. إن المثقف وفي ظل نظرته الظاهرية، يُعرض عن مشاهدة باطن الكون، ليجعل في عملية السير من الظاهر إلى الظاهر الذي هو من أعراض غلبة النفس الأمارة، العالم ساحة تصول فيه المجادلات والخلجانات والنفس الأمارة.
إن الإصابة بالشبهة العلمية والشهوة العلمية، تعد من أبرز أعراض مرض التنوير القاتل، بحيث يمكن اعتبار التغير والتبدل المتتالين في الإنطباعات والتحرك على طريق التجربة والخطأ، في زمرة هذه الأعراض. ويمكن اعتبار كل هذا، ناتج عن محورية الذات الانسانية المنقطعة عن الإنطباع الكلي المتفكر والنابع من الكلام الوحياني المزكى. إن التلون والتغير والنظرة الظاهرية والخلجان والهيجان والشبهة والشهوة والشك في النظرية والتطبيق، تعد كلها من النتائج الحتمية وتبعات محورية الذات. وحسبما يقول (الشاعر الايراني ) حافظ الشيرازي:
إننا نقطة الإستسلام في دائرة القسمة         اللطف هو ما تفكر به أنت والحكم هو ما تصدره أنت
ليس المهم ما هو فكرنا وما هو رأينا في عالم الشطارة   لان الأنانية والتزمت بالرأي هما كفر في هذا المذهب
إن أحد أهم مكائد إبليس اللعين ضد الانسان في العصر الجديد ونفذ على يد سلسلة من علماء اليهود الملحدين، هو إظهار أن الانسان يفتقد إلى التاريخ والجذور، ونسب خلق الانسان إلى منشأ غير إلهي وملئ بالجهل والخرافة.
ويعد تشارلز داروين إحدى حلقات هذه السلسلة. ونسب من خلال عرضه فرضية التطور، وعلى النقيض من الأديان الإلهية، منشأ الخلقة إلى الجهل وأكثر الطبقات ظلمة وتزويرا لكي يتم إظهار الانسان بانه كائن بلا تاريخ وجاء إلى الوجود على اثر سلسلة من الأحداث والقفزات بمنشأ حيواني بحت ويفتقد إلى أي وعي وحكمة ومعنى للمجئ والذهاب. وأول نتائج هذه المفروضات المزورة والمجهولة، هو إنفلات الانسان وتقلقله أمام الحوادث والهواجس. كقشة تطفو فوق أمواج بحر هائج.
إن الأديان التوحيدية التي عرفت الانسان على أنه كائن ذي نشأة إلهية ونابع من زلال الحكمة الرحمانية، أماطت قبل كل شئ اللثام عن الهوية الحقيقية للانسان، حتى يستند الإنسان إلى هذه الهوية ولا يخرج في مسار سلسلة الأنبياء والرسل عن الفطرة الإلهية الطاهرة، ويرتقي السلالم حتى تجربة أعلى مراتب الكمال. إن أدعية وزيارات مثل “دعاء الندبة” وفضلا عن أنها تذكرّ الانسان بداية بهذه الهوية الحقيقية، تعرف سلسلة الأنبياء والرسل، وتكشف عن المنعطفات، وتتحدث عن المقصد والوجهة، أي غلبة الدين الكامل على جميع الملل والنحل “تُظهر دينهُ عَلى الدين كُلهِ” وتبشر بحلول فصل تأسيس الدولة الكريمة العادلة تحت لواء الإمام المبين الحق، وتكشف النقاب عن مصير هذا السير والسفر وتمحو إلى الأبد الحيرة والإنفعال عن ساحة الحياة الفردية والاجتماعية للبشرية.
وإضافة إلى هذا، فان الأدعية والزيارات، تذكرّ الانسان المؤمن والموحد بالخلقة النورية والروحية وابتناء العوامل المادية على هذا العالم.
إن تبيان تقدم العالم النوري على العالم المادي في تعريف ولسان الوحي والروايات، في خلق العالم والانسان، يحطم جميع قيود العالم المُلكي والحصر الزماني والمكاني، ويربط الانسان بالأبدية والزمان الباقي. وفي المقابل، فان الإنطباع المادي يحصر مجمل الصيرورة في حدود الزمان والمكان الفانيين وينتزع من الانسان إمكانية ظهور وبروز جميع المواهب والطاقات فوق الزمانية والماوراء الطبيعية. ويرى أن الإنطباع الحديث للانسان هو في عرض سائر الموجودات كالنباتات والحيوانات ويعتبر أن كل طاقاته وقدراته ناتجة عن التفاعلات المادية ومن مظاهر المادة. ومن هنا فان العلوم الجديدة، تعجز عن تبرير وتفسير قسم كبير من تفاعلات الانسان، وتضطر للإنكار أو السكوت.
إن هذا الوجه من حقيقة الوجود وبسبب غلبة العلم الحديث، حذف للأسف تماما عن جدول أعمال الدراسات ورؤية الناس وحتى الحوزات العلمية.
إن صرح العلوم الحديثة والجديدة والإنطباع العام الناتج عنها حول الانسان والعالم، قائم على الرؤية المادية. لذلك فانه يتنكر أساسا للنشأة غير المادية والروحانية للوجود وينكر ابتناء الكون على الخلقة النورية وماوراء الطبيعة. لذلك فانه يعتبر تقدم وتأخر مجئ وذهاب الكائنات، متصل بتقدم وتأخر حضور وظهور صورتها المادية في الأرض.
ويمكن تصور مدى الدور الذي يضطلع به هذا الأساس في رسم منظومة الوجود ومبادئ النظرة إلى الكون وتعريف منطلق ومقصد مجئ وذهاب الكائنات، وما الآثار والتبعات التي يتركها على الأعمال والتعاملات ودوره في الحياة. إن عموم المراكز العلمية الشرقية وتبعا للعلم الجديد والعصري، أخذت تنتهج هذا المجال العلمي البحت وترى أنها مرتبطة به في جزء وكل هذه العلوم.
إن “دعاء الندبة” إذ يشير إلى فصل حضور وحياة النبي الأكرم (ص) ودورة فاعلية الشريعة المحمدية، يصفه بانه صفوة المصطفين من بين جميع الأنبياء والإصفياء الإلهيين. وأفضل جميع المنتجبين وأكرم المعتمدين ويذكرّ بتقدمه في الخلقة النورية.
وَصَفْوَةَ مَنِ اصْطَفَيْتَهُ؛
وَاَفْضَلَ مَنِ اجْتَبَيْتَهُ؛
وَاَكْرَمَ مَنِ اعْتَمَدْتَهُ؛
قَدَّمْتَهُ عَلى اَنْبِيائِك؛
وَبَعَثْتَهُ اِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنْ عِبادِكَ؛
وَاَوْطَأتَهُ مَشارِقَكَ وَمَغارِبَكَ؛
وَسَخَّرْتَ لَهُ الْبُراقَ؛
وَعَرَجْتَ (به) بِرُوْحِهِ اِلى سَمائِكَ؛
وَاَوْدَعْتَهُ عِلْمَ ما كانَ وَما يَكُونُ اِلَى انْقِضاءِ خَلْقِكَ، ثُمَّ نَصَرْتَهُ بِالرُّعْبِ، وَحَفَفْتَهُ بِجَبْرَئيلَ وَميكائيلَ وَالْمُسَوِّمينَ مِنْ مَلائِكَتِكَ وَوَعَدْتَهُ؛
اَنْ تُظْهِرَ دينَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ؛
وَذلِكَ بَعْدَ اَنْ بَوَّأتَهُ مَبَوَّأَ صِدْقٍ مِنْ اَهْلِهِ، وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ اَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ، فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ اِبْراهيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، وَقُلْتَ:
اِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً”
ثُمَّ جَعَلْتَ اَجْرَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ في كِتابِكَ فَقُلْتَ:
قُلْ لا اَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ اَجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبى.

 

  1. سورة المائدة (5)، الآية 26
  2. “التاريخ المنسي”، ص 78
  3. سورة الإسراء (17)، الآية 2
  4. سورة السجدة (32)، الآية 23
  5. سورة غافر (40)، الآية53
  6. “تفسير الميزان”، طباطبائي، سيد محمد حسين، ج 17، ص 84
  7. سورة مريم (19)، الآية 26
  8. سورة الصف (61)، الآية 6
  9. وكان الفريسيون أعضاء حركة يهودية ازدهرت قبل عصر المسيحية في فلسطين، وتسببت خلافاتهم باستحداث “اليهودية الحاخامية”. وتقول الرؤية التقليدية بان الفريسيين هم ممثلو تلك الفئة من اليهود الذين كانوا يؤمنون بالتقاليد الشفهية لتفسير “الكتاب المقدس”، في مقابل الصدوقيون الذين كانوا يميلون الى الفهم المبني على اللفظ للكتاب المقدس.
  10. وكان الفريسيون الفرقة الوحيدة في اسرائيل والتي بقيت بعد واقعة 70 للميلاد [هدم الهيكل]. وكان عيسى (ع) يشترك مع الفريسيين بشأن البعث والملائكة والشياطين، لكنهم قالوا أن مجالسته ل”المذنبين” وتفسيراته لبعض عموميات الشريعة، أثارت إحتجاجهم. كما أن عددا من الفريسيين انضموا إلى “كنيسة أورشليم” الأولية. (المصدر: “ثقافة أديان العالم”).
  11. الصدوقيون: بناء على السنة التلمودية، فان هذا الإسم نابع من إسم صادوق Zadok . وكان الصدوقيون طبقة النبلاء الحاكمة. وكانوا محافظون أثرياء ملتزمين بالتوارة بقوة، وكانوا يعارضون أي حداثة وعصرنة، ويقيمون تواصلا قويا مع الهيكل. وكانوا يحتفظون بمنصب الكاهن الكبير وشغلوا موقعا مهيمنا في الهيئة الحاكمة (سنهدرين). وبسبب تفوقهم السياسي على المجتمع اليهودي، أقام الساسة الرومان معهم علاقات وثيقة. ومن جهة أخرى، وبما أنهم كانوا أثرياء، فانهم كانوا يحرصون على إقامة علاقة جيدة وسلمية مع الروم. وبشكل عام فان الصدوقيين كانوا على طرف نقيض مع الفريسيين، وكانوا يعارضون الفريسيين بالكامل سواء من الناحية العقائدية أو الناحية السياسية. وكانت تعاليمهم تتسم باربع خصائص: 1. إنكار الشريعة الشفهية؛ 2. إعتماد الأسفار الخمسة (التوراة) في سائر كتب العهد القديم؛ 3. إنكار القيامة والبعث والنشور، كما أنهم كانوا ينكرون الثواب والعقاب، والملائكة والروح؛ 4.الإيمان بالرأي الإنساني المطلق والإيمان بالتفويض التام. وكان الفريسيون يعارضون الصدوقيين في هذه العقائد الأربع. فكان هؤلاء يولون قيمة للشريعة الشفهية تساوي التوراة، ويعتبرونها مصدرا مهما لدينهم. وكانت نظرتهم إلى الكتاب المقدس تختلف تماما عن الصدوقيين، وكانوا يعتمدون كتب الأنبياء وسائر رسائل الكتاب المقدس التي كان ينكرها الصدوقيون. وكان الصدوقيون الذين كانوا أقلية ضئيلة، يقيمون صداقة مع الحكام، ويتحاشون معارضة الروم، في حين أن الفريسيين، كانوا يقيمون علاقة وصداقة أكثر مع الناس العاديين والباحثين والمعلمين ولم يستسيغوا المشاركة السياسية مع الروم. (ضياء توحيدي، “معهد بحوث باقر العلوم”، www.pajoohe.com
  12. “متى” 23: 1 36؛ “لوقا” 11: 39 54؛ “التعرف على الأديان الكبرى”، حسين توفيقي، صص 119 و 120
  13. “التعرف على الأديان الكبرى”، ص 117، نقلا عن “متى” 10:34 36
  14. المصدر السابق، ص 116
  15. لوقا: 14: 25 26؛ “التعرف على الأديان الكبرى”، ص 116
  16. مرقس 8: 34 35؛ لوقا: 9:23 25؛ “التعرف على الأديان الكبرى”، ص 117
  17. لوقا 22:36 38؛ “التعرف على الأديان الكبرى”، ص 117
  18. المصدر السابق
  19. متى 23: 37 39؛ لوقا 13: 34 35؛ المصدر السابق، ص 121
  20. “تفسير العهد الجديد”، الفصل التاسع، هداية شاؤول
  21. “حياة الحقائق”، غوستاف لوبون، ص 187
  22. المذهب الوضعي، هو مصطلح فلسفي وضعه الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي اغوست كونت في القرن الثامن عشر. وكان كونت يؤمن بان الجبر التاريخي، سيأخذ بالبشرية إلى الإتجاه الذي تزول فيه الرؤية الدينية والفلسفية ويبقى شكل من الفكر المتعلق بالمعرفة اليقينية وتجربة العلم. وفي هذا العصر الجديد سيزول تاريخ المؤسسات الإجتماعية المتعلقة بالدين والفلسفة. ويكتفي أنصار  المذهب الوضعي بمعطيات الحواس وأضفوا عليها أصالة ويقينية.
  23. Empiricism
  24. إن المؤرخين يقسمون عادة التاريخ إلى عصور مختلفة، مثل العصر القديم والعصور الوسطى والعصر الجديد. وينقسم العصر الجديد بحد ذاته إلى عصور أخرى، بما فيها عصر النهضة والإصلاح الديني والتنوير. ويغطي عصرا النهضة والإصلاح، القرنين الخامس عشر والسادس عشر فيما يغطي التنوير القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكن لماذا سمي القرن الثامن عشر بعصر التنوير؟
  25. بما أن القرن الثامن عشر يشبه إلى حد كبير ثقافة “اليونان” في فترة 400- 530 قبل الميلاد، فانهم أطلقوا على هذا العصر شأنه شأن تلك الدورة من تاريخ اليونان، إسم عصر التنوير. ففي تلك الحقبة من تاريخ الثقافة اليونانية، يسعى العقل لفرض سيادته في جميع المجالات ومحاربة الخرافات التي ورثت عن العصور السابقة، ونجح في ذلك، وأرسى صرحا عقلانيا وفلسفيا [وغير ديني] بحيث أن العلم والفلسفة الجديدة بنيتا عليه حتى… إن أساس تنوير القرن الثامن عشر يمثل “الرؤية الدنيوية” عن الحياة، وبرز خلال عصر النهضة في الفن والدين والسياسة والعلم الطبيعي. ويجب البحث عن بدايات ومنطلقات فلسفة التنوير في بريطانيا. ومن ثم انتقلت هذه الحركة من بريطانيا إلى فرنسا ومن ثم إلى المانيا.
  26. ارنست كاسيرر، فلسفة التنوير، ترجمة يد الله موفق، نيلوفر للنشر، 1370، صص 16 و 17
  27. وتعادل مفردة التنوير، الكلمة الإنجليزية Enlightment   والألمانية Aofklaetung
  28. لوسين غلدمن، فلسفة التنوير، ترجمة: شيوا كاوياني، فكر روز للنشر، 1375، ص 16
  29. “ظهور وسقوط الليبرالية”، ص 279
  30. جان باتيست لامارك، عالم أحياء فرنسي وأول من أثار للمرة الأولى فرضية التطور. وهو واضع المذهب اللاماركي.
  31. بارنز ويبكي، “تاريخ الفكر الإجتماعي”، ج 2، ص 203
  32. المصدر السابق، ص 63
  33. رينة ديكارت، 1596 – 1650 للميلاد، رياضي وفيلسوف فرنسي
  34. “فلسفة التنوير”، لوسيون غلدمن، ص 33
  35. آية التطهير، سورة الأحزاب (33)، الآية 33

 

شاهد أيضاً

قبيلة الرحمة (الفصل الثاني: قبيلة صبغة الله)

إسماعیل شفیعی سروستانیوبعد أن يثني الإمام المعصوم (ع) على الله ويحمده في “دعاء الندبة الشريف” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.