الكلام عن الحقیقة تخلق فی ذهن المتلقی دائما حالة من الشك والارتیاب، ذلك أن الحقیقة ذات مراتب مشككة فی ذاتها ومعانیها، فبقدر ما یكون الإنسان مؤمنا بوجوده یكون مستعدا لفهم حقائق وجوده السامیة وبقدر ما یكون تائها فی وجوده یكون مرتابا فی درك أی حقیقة مهما كان مصدرها أو مدعیها؟ فهل نظریة الرجل الموعود فی آخر الزمان الذی سوف یملئ الأرض قسطا وعدلا حقیقة وجودیة أم أنها خرافة تاریخیة؟
الكلام عن الحقیقة تخلق فی ذهن المتلقی دائما حالة من الشك والارتیاب، ذلك أن الحقیقة ذات مراتب مشككة فی ذاتها ومعانیها، فبقدر ما یكون الإنسان مؤمنا بوجوده یكون مستعدا لفهم حقائق وجوده السامیة وبقدر ما یكون تائها فی وجوده یكون مرتابا فی درك أی حقیقة مهما كان مصدرها أو مدعیها؟ فهل نظریة الرجل الموعود فی آخر الزمان الذی سوف یملئ الأرض قسطا وعدلا حقیقة وجودیة أم أنها خرافة تاریخیة؟ ولكی یكون سؤالنا سؤالا وجیها وعلمیا دعونا نطرحه كما هو فی ذاته عن الحضارات الإنسانیة والوجدان الوجودی كما تعاملا مع هذه الظاهرة وتفاعلا معها فی ذاتها؟
الحقیقة التاریخیة (الإنسان الظاهر)
قبل آدم كان البشر، وقبل البشر كان آدم ، وقبل آدم كان الله وهو الآن كما كان ولا شیء معه.
لتوضیح ما تحمل هذه الجملة السابقة، الذی جاء القرآن لشرحها وتفسیرها للإنسان عبر واقعه الاجتماعی وتواجده التاریخی علینا أن ندرك فی وعینا حقیقة الوحی الإلهی الذی صحب حیاة الإنسان على الأرض، فبعدما تم الخلق الأول عبر دورات وجودیة سیطر فیها الجهل العرفانی على كیان الإنسان ووجوده، جاء الوحی السماوی لیرافق حیاة الإنسان المبسوطة فی الآفاق من أجل فهم نفسه وإدراك ما علیه فهمه فی سبیل خلاصه ووعی دوره الوجودی.
ولفهم العلاقة الوجودیة التی تربط البشر بالله علینا أن نفهم علاقة البشر بأبی البشر جمیعا ؟: أدم.
فی كل الحضارات الكونیة الإنسانیة التی عاشها الإنسان كان هذا الأخیر یسأل أسئلة تواجده عبر فلسفات، عبر خبرات روحیة، عبر سلوكیات حفظتها لنا خلایانا فی ذاكرتنا الجمعیة والجماعیة، وهكذا تكلمت الإنسانیة عن سر تواجدها فی منقولات فلسفیة وخبرات روحیة كانت فی أغلب الأحیان تجعل الإنسان الواعی بتلك الأسرار مسیطرا على الإنسان وقواه الخفیة المودعة فی كیانه، وهی ثلاث قوى رئیسیة :الكینونة والشاعریة والسحر.
وهكذا نستعرض مضمون هذه القوى الخفیة، ونقول:
الإنسان الكائن: یمتاز هذا الوجود بالفاعلیة والاختیار والإرادة والإبداع والنسیان والمعرفة والجهل والظلومیة والكفر والظلم والطلب والسعی والرغبة .
الإنسان الشاعر: یمتاز هذا الوجود بالتفاعل مع النفس والمحیط والعاطفة والإبداع والتعمق والغیب والكشف.
الإنسان الساحر: یمتاز هذا الوجود بالقوة، بالسیطرة، بالمكر، بالخداع بالغرابة، بالعجب، بالخرافة، بالتسلط على القوى الأخرى.
قد لا نكون قد أحصینا ما یتعلق بهذه القوى بشكل كامل غیر أن هذه الإشارات تكفی لطرح السؤال التالی كیف یمكن أن یكون الإنسان وقواه الخفیة مدركا لحقیقته وهی التی سلبته فی نفس الوقت هذا الإدراك؟
لقد وجد الإنسان نفسه یمتلك هذه القوى بالقوة ووجد نفسه تمتلكه هذه القوى بالفعل فحركاته كما أن خطراته ورغباته متسمة بهذه القوى كیفما كان وضعه الوجودی وفكره فیه، وهذا ما انتبه إلیه الفیلسوف صدر الدین الشیرازی بقوله :الإنسان هو المشكل وهو الحل.
فبقدر ما یستطیع الإنسان السیطرة على هذه القوى وفهم وجوده فیها وتواجده فیها كان محبا للسلام والمحبة والحوار والتسامی، وكلما سیطرت هذه القوى على كیانه فی غیاب ذلك الموجه الكونی الواعی (فی وعیه )، أحدثت فی كیان الإنسان حروبا وصراعات تجعله یقتل بعضه بعضا، تجعله ینزل إلى أسفل درك من الإدراك وإلى فهم ساذج غریزی یسعى للبقاء بدون هدف.
ففی مسار تواجد الإنسان على مسرح الحیاة الأرضیة عرف عدة معارف جعلته یطرح أسئلة أكثر نضجا أكثر عمقا أكثر تحیرا، لكن ذلك لم یأتی دفعة واحدة، فلقد عاش فی هذه الأرض سلالات بشریة خلقها الله لعبادته فی إرادة وجودیة إلهیة، غارقة فی الزمن الأول، تلك المجتمعات البشریة لم تكن لها علاقة بوعینا الإنسانی ولا بكینونتنا فالخلق الأول تم عبر دورات وجودیة كان فیها المخلوق البشری الإلهی یعیش فی دورات بدائیة ، لذا قلنا فی بدایة البحث كان البشر قبل آدم وكان البشر بعد آدم فما هو هذا النوع الذی كان قبل آدم وما هو هذا النوع الآخر الذی جاء بعد آدم؟
ذلك البشر الذی كان قبل أبونا آدم كان بشرا لا ندرك حقیقته وكنه تواجده أو كیفیة تواجده على الأرض لكن إذا ما تأملنا كلمة بشر المكتوبة والمنطوقة باللغة العربیة نجد أنها مكونة من ثلاث أحرف وهی الباء والشین والراء، فإذا ما أزلنا من هذه الأحرف الثلاثة حرف الباء تصیر الكلمة المتبقیة – شر- ، لكن قد یعترض علینا بعض الباحثین فی اللغة العربیة أو فی اللغات أخرى بفهم آخر وهو أن اللغة العربیة جاءت متأخرة نسبیا مقابل بعض اللغات الأولى ویقول أن تخریجتك هاته لم ترقنا ولم تتفوق فیها حیث حكمت على البشر بالشر بمجرد زوال الباء. وقد نجیبه بما نعیه نحن فی لغتنا القرآنیة التی وصفت ذلك المخلوق الإلهی الذی تواجد قبل آدم الإنسانی بالشر والظلم كما أن حرف الباء یدل على معانی یعرفها أهل العرفان والكشف والذوق بأنه حرف تكوینی إلهی . وكما جاء فی الزیارة الجامعة بكم فتح وبكم یختم والمقصود بذلك :أهل البیت علیهم السلام.
إذن فآدم فی دورنا الوجودی هذا وفی حیاة الإنسان هو كائن حباه الباری بعنایة إلهیة خاصة جعلت منه یحمل كل الصفات الإلهیة والأسماء الإلهیة فكیف تم ذلك؟ وبما تم ذلك؟
فالكیف نجده فی نهج البلاغة فی وصف خلق آدم حیث یقول أمیر المؤمنین علیه السلام : ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَْرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا ، تُرْبَة سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول، وَأَعْضَاء وَفُصُول: أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ ، لِوَقْت مَعْدُود، وَأجَل مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فِیها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان یُجیلُهَا، وَفِكَر یَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ یَخْتَدِمُهَا ، وَأَدَوَات یُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَة یَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، والاَذْوَاقِ والَمشَامِّ، وَالاَْلوَانِ وَالاَْجْنَاس، مَعْجُوناً بطِینَةِ الاَْلوَانِ الُمخْتَلِفَةِ، وَالاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالاَْضْدَادِ المُتَعَادِیَةِ، والاَْخْلاطِ المُتَبَایِنَةِ، مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، وَالبَلَّةِ وَالْجُمُودِ، وَالْمَساءَةِ وَالسُّرُورِ، وَاسْتَأْدَى اللهُ سُبْحَانَهُ المَلائكَةَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهمْ، فی الاِْذْعَانِ بالسُّجُودِ لَهُ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عزَّمِن قائِل: (اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِیسَ)وَقَبِیلَهُ، اعْتَرَتْهُمُ الحَمِیَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَیْهِمُ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِیَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: (إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِینَ إِلَى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، فوصف أمیر العارفین وروح العالمین علی علیه السلام خلق آدم بهذه الكیفیة یدل على حضوره فی هذا الخلق شهودیا وهذا یؤكد الحدیث المنقول إلینا عبر مدرسة أهل البیت علیهم السلام الذی جاء فیه( بعث مع جمیع الأنبیاء باطنا وكنت مع الرسول الخاتم ظاهرا) نقصد بذلك علی علیه السلام.
من خلال هذا الحدیث نستطیع القول أن أهل البیت علیهم السلام كانوا حاضرین فی كل الدورات الوجودیة السابقة بأرواحهم وهدایتهم ونورانیتهم، فعلی علیه السلام هو نقطة الباء التی فتح بها الله هذا الكتاب التكوینی، فإضافة الباء للبشریة جعلت لهذا الوجود الآدمی یخصص بنورانیة أهل البیت العظیمة فبهم فتح الله وبهم یختم كما جاء فی الزیارة الجامعة.
وإذا ما ربطنا هذا بالحدیث الذی جاء فیه كلنا واحد أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد، نكون قد جلعنا رحلة آدم فی الأصلاب الطاهرة ممتدة من ذلك الفیض الإلهی الأول ( الاسم الذی خرج منه وإلیه ) إلى آخر الزمان متمثلة فی الإمام المهدی علیه السلام فتعود الدائرة من حیث بدأت لكن هذه المرة لتطلق الحقائق والعیش فیها حضوریا بعدما كانت تسرها باطنیا.
ففی كل تلك الدورات التی تفاعل الإنسان فیها مع الطبیعة والحیاة والوجود كان یتعرف على ما فی كیانه من قوى وجودیة، لذا نجد الإنسان الذی كان یعبد الوثن قبل مجیء موسى علیه السلام كان یعبد أصله الوجودی وكینونته الوجودیة متمثلة فی صنم طینی صنعه من أصله الطینی حتى یمكنه تأكید كینونته فی هذا الصنم الذی یختزن عنصره الأولی الطینی فهذا الإنسان كان یحب كینونته، التی احتقرها إبلیس فی الجنة بقوله أنا خیر منه خلقتنی من نار وخلقته من طین، فكانت عبادة الصنم الطینی هذه رد فعل لا شعوری لتك الخافیة الموروثة من ذلك الحنین للخلق الأول والخروج من الجنة.
وفی عصر فی موسى علیه السلام وفرعون نجد أن الإنسان مازال یتعرف على ما تستبطن ذاته وبدأ یتعرف على أسرار نفسه وكیانه لذا نجده عندما سیطر ذهنه على قوى الطبیعة بدأ یحلل عناصر الأشیاء (بواسطة الكیمیاء) و بدأ فی تألیه نفسه وهكذا وجد الفرعون نفسه إلها من دون الله قائلا أنا ربكم الأعلى، كلمة تحمل حقیقة وجودیة غیر أنها مثقلة بجحود وكفر وجودی لحقیقة مصدر القوة التی جعلت الفرعون یؤله نفسه. فقوله أنا ربكم الأعلى هی فی الحقیقة حقیقة الإنسان لكن حیث لا خلق حیث لا تكلیف حیث لا دنیا حیث لا آخرة وهی تعنی رب نفسه فتلك الحقیقة هی حقیقة واقعة فی العوالم الإلهیة فالنطق بهذه الكلمة هی للإنسان وحقیقة مصدرها هو الله،فی تلك العوالم الغیبیة الإلهیة التی سوف ندخل فیها بشفاعة الهدایة الكونیة الوجودیة المتمثلة فی الإمام المهدی علیه السلام .
ففی كل تلك الدورات الوجودیة كنا (الإنسانیة) نتعرف على كیاننا كما یتعرف الصبی على جسده فی صباه.
ونصل الآن إلى مرحلة ظهور النبی الخاتم المسدد بالغیب كله سیدنا محمد علیه وعلى آله الأطهار أفضل الصلاة والتسلیم. فی هذا العصر بدأ یشعر الإنسان بشعور یتخلل كیانه فبدأ الإنسان (الجاهلی) یتحسس الغیب بواسطة الشعر فأبدع العرب أشهر القصائد فی معرفة الوجدان والطبیعة والكون. فكانت هذه المرحلة بمثابة المراهقة التی سوف یتمخض عنها وعیا كونیا سوف یستمر إلى آخر الزمان.
فبعدما خبر الكیان الإنسان قواه الثلاثة الساحریة والكینونة والشاعریة عبر دورات وجودیة عبد فیها ملیونین إله وبعدما عاش الإنسان تائها بین طقوس واعتقادات كثیرة سیطرت علیها هذه القوى الثلاثة على وعیه، جاء دور الهدایة الكونیة والإنسان الكونی الوجودی لفتح آفاق معرفیة أكثر نضجا وسلامة ومعرفة وسموا فی درجات الوجود السامی حیث أن الرسول الخاتم محمد صلى الله علیه وله وسلم المرسل إلى العالمین هو إنسان مؤید بالغیب الإلهی كله، كما أن شریعته تحمل كل الشرائع ومهیمنة علیها والسؤال المطروح هنا كیف یمكن أن تكون هذه الرسالة للعالمین بینها نحن نعیش فی عوالم محدودة ومعلومة ؟ هذا یؤكد على أن الرسالة الخاتمة هی رسالة مستمرة لحد الساعة بأشكال مختلفة وبطرق أخرى، فی كل العوالم.
فما هی هذه الطرق؟
إن ما یؤكد هذا ویجعلنا نسأل هذا السؤال هی كثرة العوالم التی خلقها الباری لتسبح فی ملكوته وعوالمه الخفیة الغیبیة، فلكی تكون الرسالة المحمدیة رسالة خاتمة ومطلقة فی كل العوالم یجب أن تستمر إلى آخر الزمان وتستعین بمن خبروا الغیب كله وهم أناس خصصوا لهذا الدور ولهذه المهمة وهم المذكورون فی الكتب السماویة جمیعا إنهم أهل بیت النبوة وموضع الرسالة محمد وآل محمد صلى الله علیه وعلى آله.
لقد كان مسار الإنسان التاریخی ملیئا بالأحداث ملیئا بالصراعات ملیئا بالخوف ملیئا بالهواجس ذلك أن وجوده یفقد فی كلیته ذلك الموجه الأعظم التی یحمل كیان الإنسان المتسائل إلى عوالم الهدایة الإلهیة لذا لم یكف الإنسان وهو یحمل الأمانة الإلهیة عن طرح الأسئلة فی سبیل معرفة هویته ودوره الوجودی ،فمجیء الرجل الموعود فی آخر الزمان هو مطلب كل الحضارات الإنسانیة على مر التاریخ حیث بذلت الروح فی سبیل هذا الهدف المتسامی وانتظرت ظهور هذا الأمر على وجه الأرض فی مجیء كل رسول وكل نبی وكل مصلح.
فالحقیقة التاریخیة هی حقیقة الإنسان وفعله على مسرح الحیاة، ففعله بدون القوى الإلهیة فعل بدون هدایة وحقیقته بدون هدایة هی حقیقة بدون فعل حقیقی.
وهكذا ننتقل إلى الحقیقة الوجودیة والدور التی سوف تلعبه فی إبراز ما خفی من الإنسان مقابل العوالم الإلهیة الغیبیة.
الحقیقة الوجودیة (الإنسان الباطن)
یقول مولى العارفین وروح العالمین سیدی ومولای علی بن أبی طالب علیه السلام اللَهُمَّ بَلَی لاَ تَخْلُو الاَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَیِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا وَأَیْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ ـ وَاللَهِ الاَقَلُّونَ عَدَداً وَالاَعْظَمُونَ قَدْراً، یَحْفَظُ اللَهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَیِّنَاتَهُ حَتَّی یُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَیَزْرَعُونَهَا فِی قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ.
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِیقَةِ البَصِیرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الیَقِینِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْیَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الاَعْلَی.
إن كلام أمیر الحكمة هذا یدل على وجود أناس سیحملون سر الإنسان والدین فی بواطنهم، بعد غیاب جسده على مسرح الحیاة، لكی لا تبطل حجج الله وبیناته، فمن هؤلاء الذین سوف یحملون ما لم یستطع الآخرون حمله؟ إنهم محبی الحق والحقیقة والمحبة الإلهیة والسلام والخیر للناس جمیعا، فهذا أویس القرنی یبكی شوقا لرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم، ویكابد ألم الفراق ویبیت متأملا نجوم السماء یداوی والدته المریضة منتظرا فرصة للقاء محبوبه رسول رب العالمین محمد صلى الله علیه وآله وسلم، الذی سمع عنه واشتاق إلى رؤیته. لقد تشوقت روح أویس إلى معانقة الرسول الذی رحل عن الدنیا علیه أفضل الصلاة والتسلیم وعلى آله وهو یوصی بجبته إلى أویس وبالدعاء إلى أمة محمد بالغفران.
وهذا سلمان الفارسی الذی صحب رسول الله وأحبه حتى أصبح سلمان المحمدی، فقال فیه لو علم ابو ذر رضی الله عنه ما فیه باطن سلمان لقتله وفی روایة أخرى لكفره، ونحن جمیعا ندرك ما وصل إلیه إیمان أبو ذر رضی الله عنه، ألا یعنی هذا أن باطن سلمان علیه السلام یحمل أسرارا وجودیة صعبة وخطیرة تجعل الذین وصلوا إلى أقصى درجات الإیمان یكفرونه.
وهذا كمیل بن زیاد الذی كان حامل سر علی علیه السلام وكان دائم السؤال فی حضرة أمیر المؤمنین علیه السلام عن كنه الأشیاء والمغیبات، الشیء الذی جعل أمیر المؤمنین علیه السلام یخصه بدعاء جمیل یحمل معانی عرفانیة ،فعندما یواظب المؤمن منا فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام الدعاء بهذا الدعاء فی كل لیلة جمعة، ویلتزم به یفتح الله له أبوابا من المعرفة الإلهیة، ألا یجعلنا هذا نطرح سؤالا آخر لماذا كان أمیر المؤمنین یناقش أسرار الوجود مع أناس مخصصین؟ هل ذلك یعنی وجود طائفتین من المؤمنین طائفة تحمل أسرار الشریعة وأخرى تحمل أسرار الطریقة والحقیقة .
فی القرن الأول انتشر عبر أقطار الأمة الإسلامیة الزهاد وكبار العابدین مثل أویس القرنی والحسن البصری وسفیان الثوری، الذین بدلوا أرواحهم العاشقة فی سبیله، فكانت سیرتهم الملیئة بالعبر والقدوة الحسنة والزهد والابتعاد عن كل الشبهات أهم ما میز هذا الجیل الأول من الزهاد العابدین، بعدها بدأت تتطور المدارس الفكریة والعرفانیة عن طریق الاحتكاك بالمدارس الأخرى الموجودة فی عصر ما قبل الإسلام فهناك الرهبانیة المسیحیة والدیانات الهندیة القدیمة بأطیافها ومعتقداتها ، وهنا بدأت التحدیات تهجم على العابد المسلم الزاهد لیبرز مكانته الوجودیة فی ظل هذه التحدیات ، وخصوصا مع وجود أئمة أهل البیت علیهم السلام الحاملین لكل سر وجودی وفهم إلهی.
وهكذا نجد أن الرجال الذین تربوا فی حضن الأئمة علیهم السلام كانوا عارفین تطلق علیه العامة كلمة صوفیة مثل أبی یزید البسطامی الذی أخد علومه الشرعیة على ید جعفر الصادق علیه السلام والمعروف بمقولته الشهیرة والخالدة فی الیوم الأول زهدت فی الدنیا وفی الیوم الثانی زهدت فی الآخرة وفی الیوم الثالث زهدت فی ما سوى الله وفی الیوم الرابع قیل له ما ترید قلت أرید ألا أرید ، یحكى أن إمامنا الصادق علیه السلام طلب من تلمیذه البسطامی یوما كتاب كان فوق رأسه فأجابه أین یا سیدی هذا الكتاب فقیل له فوق رأسك یا بسطامی، فأعاب علیه بعض الجالیس فقال لهم لم أنتبه إلى شیء قط وأنا فی محضر مولای الصادق علیه السلام. لكن الذین تربوا على ید هؤلاء العارفین الصوفیة مثل أبا یزید البسطامی كانوا متصوفین، یقلدون الصوفیة، وهنا بدأت الإنحرافات الباطنیة تدخل إلى مملكة باطن الإنسان، فتوسعت دائرة تلك الانحرافات على ید جماعة أخرى تتعلم من المتصوفین مستعینة بالرهبنة المسیحیة والزرادیتشیة والمانویة ، حتى سولت لهم نفوسهم عبادة شیوخهم، فكانت هذه الطبقة الذی سماها أحد الباحثین الإسلامیین بالمستصوفین، هی أكبر تحدی یعصف بمملكة الباطن ویجعلها تعبد نفسها كما عبد فرعون نفسه ، فالعرفان الإسلامی الأصیل هو ذلك العرفان المبنی على أسس قرآنیة وسیرة الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم فی قوله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونی یحببكم الله )، فهذا كلام الله وهذا قول رسوله ناطقا به القرآن ، وسیرة الأئمة علیهم السلام من بعده، لذا نجد الذین تربوا بعیدا عن هذه الدائرة وهم جماعة المستصوفین هم من أبدع الخرافات وزرع الضلالات عبر العصور إلی یومنا هذا.
لذا نجد شیوخ الصوفیة هرعوا فی تحصین علومهم فبدأوا یعلمون مریدیهم ظاهر الشریعة ومحاسبة النفس عن ضیاع أی ركن منها ولا یمكن للمرید الدخول فی أسرار الباطن حتى یتقن واجبات الظاهر، وهذا ما وجدناه عند صوفیة المغرب وخصوصا عند المتأخرین منهم مثل أبو عجیبة الحسنی والشادلی قدس الله سرهما وأعلى مقامهما فی القرن 19 المیلادی، حیث قاما بإصلاح دینی جهادی جعلهم یطورون أسلوب التربیة الروحیة وكان ذلك جلیا فی أتباعهم ومریدهم فی كل زوایا المغرب حیث الذكر ودروس الفقه یتعانقان معا داخل حضرة الشیخ المربی.
العرفاء والإنسان الكامل.
عرفت الأمة الإسلامیة عرفاء یحملون أسرار الرب المتعالی فی كیاناتهم، تربوا فی دائرة الولایة العلویة والحقیقة المحمدیة كالإمام النفری ومولانا جلال الدین الرومی والبسطامی والحلاج والسهروردی ومحی الدین بن العربی وفرید الدین العطار ونجم الدین كبرى وصدر المتألهین الشیرازی ، والسستری والفیض الكاشانی وعبد الكریم الجیلی والجنید والشبلی وبهاء الدین العاملی وحیدر الآملی والقطب المغربی عبد السلام بن مشیش وبومدین المدعو الغوث وأبو عجیبة الحسنی وعبد العزیز الدباغ والرفاعی المصری ومن المحدثین الشیخ أحمد الوائلی ومحمد باقر الصدر وموسى الصدر، والفیلسوف المجاهد العملاق مطهری مطهر الأفهام، والكثیر منهم انتشروا على بقاع المعمورة من شرق بلاد المسلمین إلى غربها، أما الذی جمع هذه العلوم الباطنیة وطبقها تطبیقا فی نفسه وزرعها فی أتباعه هو السید روح الله الخمینی الموسوی رضی الله عنه وأعلى مقامه فی فناء الذات الإلهیة المقدسة. وأخیرا ولیس آخرا الشیخ محمد تقی بهجت وتد العبادة فی هذا العصر وأحد الممهدین لظهور مولای أبا صالح المهدی عج.
یقول عبد الكریم الجیلی فی كتابة الإنسان الكامل: اعلم أنّ (الإنسان) هو نسخة الحقّ تعالی كما أخبر صلّی الله علیه و آله وسلّم حیث قال: خَلَقَ اللهُ آدَمَ علی صُورَةِ الرَّحْمَنِ . وفی حدیث آخر: خَلَقَ اللَهُ آدَمَ علی صُورَتِهِ . وذلك أنّ الله تعالی حَیٌّ علیمٌ قادِرٌ مُریدٌ سَمِیعٌ بَصیرٌ مُتَكلِّمٌ، وكذلك الإنسان حیّ علیم إلخ، [إلی آخر الصفات]. ثمّ یقابل الهویّة بالهویّة، والانیّة بالانیّة، والذات بالذات، والكلّ بالكلّ، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص .
وله مقابلة أُخری یقابل الحقّ بحقائقه الذاتیّة .
واعلم أنّ الإنسان الكامل هو الذی یستحقّ الاسماء الذاتیّة والصفات الإلهیّة استحقاق الاصالة والملك بحكم المقتضی الذاتیّ، فإنّه المعبّر عن حقیقته بتلك العبارات والمشار إلی لطیفته بتلك الإشارات لیس لها مستند فی الوجود إلاّ الإنسان الكامل . فمثاله للحقّ مثال المرآة التی لا یری الشخص صورته إلاّ فیها، وإلاّ فلا یمكنه أن یری صورة نفسه إلاّ بمرآة الاسم: الله، فهو مرآته والإنسان الكامل أیضاً مرآة الحقّ ؛ فإنّ الحقّ تعالی أوجب علی نفسه أن لا تری أسماؤه وصفاته إلاّ فی الإنسان الكامل، وهذا معنی قوله تعالی:
إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ علی السَّمَـاوَا تِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَن یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً. إلی أن یقول: وَلِلإنْسَانِ الْكَامِلِ تَمَكُّنٌ مِنْ مَنْعِ الْخَوَاطِرِ عَنْ نَفْسِهِ جَلیلِهَا وَدَقِیقِهَا ؛ ثُمَّ إنَّ تَصَرُّفَهُ فِی الاْشْیَاءِ لاَ عَنِ اتِّصَافٍ وَلاَ عَنْ آلَةٍ وَلاَعَنِ اسْمٍ وَلاَ عَنْ رَسْمٍ ؛ بَلْ كَمَا یَتَصَرَّفُ أَحَدُنَا فِی كَلاَمِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ـالخ
ویذكر ابن سیبنا فی الإشارات: َإذَا عَبَرَ الرِّیاضَةَ إلی النَیْلِ، صارَ سِرُّهُ مِرْآةً مَجْلُوَّةً مُحاذِیاً بِهَا شَطْرَ الْحَقِّ ؛ وَدَرَّتْ علی هِ اللَّذَّاتُ الْ علی ؛ وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ لِمَا بِهَا مِنْ أَثَرِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُ نَظَرٌ إلی الْحَقِّ وَنَظَرٌ إلی نَفْسِهِ وَكَانَ بَعْدُ مُتَرَدِّدَاً .
یقول مُحی الدین بن عربی فی كتابه « فصوص الحِكَم » فی فَصِّ الآدمیّ وهو یتحدّث عن حقیقة آدم وخلافته:
فَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ كَفَصِّ الْخَاتَمِ مِنَ الْخَاتَمِ الَّذِی هُوَ مَحَلُّ النَّقْشِ وَالْعَلاَمَةِ الَّتِی بِهَا یَخْتِمُ الْمَلِكُ علی خَزَآئِنِهِ ؛ وَسَمَّاهُ خَلِیفَةً مِنْ أَجْلِ هَذَا: لاِنـَّهُ الْحَافِظُ خَلْقَهُ كَمَا یَحْفَظُ بِالْخَتْمِ الْخَزَائِنُ ؛ فَمَا دَامَ خَتْمُ الْمَلِكِ علی هَا لاَیَجْسُرُ أَحَدٌ علی فَتْحِهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ فِی حِفْظِ الْعَالَمِ ؛ فَلاَ یَزالُ الْعَالَمُ مَحْفُوظاً مَادَامَ فِیهِ هَذَا الإنسانُ الْكَامِلُ .
الإنْسَانُ الْكَامِلُ بِالْفِعْلِ حَیْثُ إنَّهُ بِوَحْدَتِهِ جامِعٌ لِكُلِّ ما فِی الْوُجُودِ مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِی وَالاشْبَاحِ وَالاْرْواحِ ؛ لَیْسَ مِنَ اللَهِ بِمُسْتَنْكَرِ أنْ یَجْمَعَ الْعَالَمَ فِی وَاحِدٍ ؛ فَهُوَ بِحَیْثُ كَانَ الْكُلُّ مِنَ الدُّرَّةِ إلی الذَّرَّةِ مَرآئیّ ذاتِهِ كَمَا هُوَ مِرْآةُ الْحَقِّ وَمَقَامُ الْوَحْدَةِ فِی الْكَثْرَةِ.
وسوف نعلق على ما تكلمت علیه جماعة العرفاء حول الإنسان الكامل فی العنوان التالی.
تطابق الحقیقة التاریخیة والحقیقة الوجودیة فی شخص الإمام المهدی ع
القرآن یقول (إنما ولیكم الله ورسوله والذین أمنوا الذین یقیمون الصلاة ویوتون الزكاة وهم الراكعون، ومن یتول الله ورسوله والذین آمنوا فإن حزب الله همة الغالبون)
(الله نور السموات والأرض) (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) (لا إله إلاّ هو..) (كل من علیها فان) (ونفخت فیه من روحی) (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إلیه من حبل الورید) (اینما تولوا فثم وجه الله) (ومن لم یجعل الله له نوراً فماله من نور) ( قل هو الله أحد الله الصمد لم یلد ولم یولد ولم یكن له كفؤا أحدا) ( أنتظروا فإنی معكم من المنتظرین).
كل هذه الآیات تدل على عمق وجودی لطبیعة العلاقة التی تربطنا مع مصیرنا الغائی والأصلی المتمثلة فی الآیة : إنا لله وإنا إلیه راجعون.
فهذه الآیة تنقسم إلى قسمین الشطر الأول هو إنا لله وهو یطابق الحقیقة التاریخیة والإنسان الظاهر ومفهوم الشخصیة والمكانة الاجتماعیة.
والشطر الثانی هو إنا إلیه راجعون وهو یطابق الحقیقة الوجودیة والإنسان الباطن ومفهوم الفردانیة والنیابة عن الحق.
الإنسانیة عاشت الشطر الأول إنا لله عبر الرسالات السماویة وصولا إلى آخر النبیین محمد صلى الله علیه وآله وعرفت فی كل ذلك أنها مدعوة من طرف خالقها وبارئها لعبادته وتعمیر أرضه وتطبیق شرائعه، ذلك أن رسالة الرسل كانت عبارة عن شرائع ظاهریة مكتوبة ومقروءة، تقوم ظاهر الإنسان وتجعله یحیا الخلافة الإلهیة على الأرض كما ارتضاها الخالق له.لكن الخلافة لیست هی الوجه الوحید للأمانة ، حیث أن للأمانة وجه آخر سوف یختبره الإنسان المؤمن، فی الشطر الثانی من الآیة وهو إنا إلیه راجعون عن طریق أئمة أهل البیت علیهم السلام جمیعا ابتداءا، من مولانا علی علیه السلام إلى آخر أولاد الحسین علیه السلام التسعة قائم آل محمد فی آخر الزمان المدعو بالمهدی علیه السلام.
یقول أمیر المؤمنین علیه السلام معرفا بنفسه ودوره الوجودی وقیمته المعنویة
أَنَا وَجْهُ اللَهِ ؛ أَنَا جَنْبُ اللَهِ ؛ أَنَا یَدُ اللَهِ ؛ أَنَا الْقَلَمُ الاْعلی ؛ أَنَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ؛ أَنَا الْكِتَابُ الْمُبِینُ ؛ أَنَا الْقُرآنُ النّاطِقُ ؛ أَنا كهیعص ؛ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ؛ أَنَا طَاءُ الطَّوَاسِیمِ ؛ أَنَا حَاءُ الْحَوامِیم ؛ أَنَا الْمُلَقَّبُ بِیَاسِینِ ؛ أَنَا صادُ الصَّافَّاتِ؛ أَنا سِینُ الْمُسَبِّحَاتِ ؛ أَنا النُّونُ وَالْقَلَمِ ؛ أَنَا مَایِدَةُ الْكَرَمِ ؛ أَنا خَلِیلُ جَبْرَئِیلَ؛ أَنَا صِفْوَةُ مِیكَائِیلَ ؛ أَنا الْمَوصُوفُ بِ «لا فَتَی» ؛ أَنَا الْمَمْدُوحُ فِی «هَلْ أَتَی» ؛ أَنَا النَّبَأُ الْعَظِیمُ ؛ أَنَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِیمُ ؛ أَنَا الاْوَّلُ ؛ أَنَا الآخِرُ؛ أنَا الظَّاهِرُ ؛ أَنَا الْبَاطِنُ ؛ إلی آخِرِهِ .
فأمیر المؤمنین علیه السلام یمثل إذن جمیع حالات ومقامات الإنسانیة الإلهیة فی مسیرها العروجی إلى رب الأرباب، لذا وجب إتباعه.
فالإنسان الظاهری + الإنسان الباطنی = الوجود كله
والإنسان الأزلی + الإنسان الأبدی = الدهر كله
إذن فعلی علیه السلام خبر الوجود كله وكان هو الدهر كله، وكان بكل شیء علیم
وبما أن أئمة أهل البیت علیهم السلام كلهم واحد أولنا محمد وآوسطنا محمد وأخرنا محمد یكون الإمام الغائب هو المقصود بهذا المعنى الذی وصف به أمیر المؤمنین وهو قوله أَنَا الآخِر.ُ
یقول الإما النفری ذلك العارف المجهول الهویة فی وصف مولانا الحجة ع: كذلك یقول الرب إنما أخبرتك لظهور الأبد فاكشفی البراقع عن وجهك واركبی الدابة السیاحة على الأرض وارفعی قواعدی المدروسة واحملیهم إلی على یدیك من وافقك على الیمین ومن خالفك من الشمال وابتهجی أیتها المحزونة وتفسحی أیتها المكنونة وتشمری أثوابك وارفعی إزارك على عاتقك، إنی أنتظرك على كل فج فانبسطی كالبر والبحر وارتفعی كالسماء المرتفعة، فإنی أرسل النار بین یدیك ولا تدر ولا تستقر، إن فی ذلك لأیة تظهر كلمة الله فیظهر الله ولیه فی الأرض یتخذ أولیاء الله أولیاء، یبایع له المؤمنون بمكة، أولئك أحباء الله ینصرهم الله وینصرونه وأولئك هم المستحفظون عدة من شهدوا بدراً یعملون ویصدقون ثلثمائة وثلاثة عشر أولئك هم الظاهرون
فلنتأمل جمیعا قوله : أرسل النار بین یدیك ولا تدر ولا تستقر، إن قوله هذا یشیر إلى زمننا هذا بالضبط زمن العولمة والحروب وتضارب المصالح وضیاع الكرامات والشعوب، فی مستنقع الجهل واللامبالات.
المدرسة الإطلاقیة وشباب الطالقان والعرفان الذاتی الإلهی
لا یوجد ارتباط لغوی لكلمة الإطلاقیة وكلمة الطالقان لكل كلمة معنى یختلف عن الأخرى، لكن الارتباط الوحید هو فی الدور الذی سوف تلعبه المدرسة الإطلاقیة المهدویة فی طلق الحقائق الإلهیة والعیش فیها زمن ظهور الحجة المنتظر ع.
فعندما تكشف الأسرار وتنكشف للجمیع ویظهر الإنسان الظاهر بقوته وضعفه ومكره ویظهر الإنسان الباطن بانحرافاته وإدراكاته وعمقه، یأتی دور آدم الهدایة الإمام المهدی علیه السلام، فآدم أبونا علم الأسماء وآدم المهدی علم الهدایة وهكذا تتحقق الدائرة الوجودیة من حیث انطلقت، ویتصل الأول بالآخر، فالإنسان لا یتجاوز نفسه وهو فی فعل وجودی مع المجهول بقدر ما یكشف نفسه التی تستبط هذا الوعی المكنون لذا جاء فی الأثر من عرف نفسه عرف ربه.
وهكذا أقول فبعدما عرفت الإنسانیة دورها الوجودی وقوامها الكینونی حان الوقت لتعیش ما كانت تتأمل العیش فیه دائما وهو حقیقة المحبة والعشق الإلهیین، عشق الوجود المطلق، عشق المطلق اللآمتناهی المرسول إلینا عبر المواقف الإلهیة السرمدیة.
قد یتساءل المنتظرین للإمام المهدی علیه السلام من هم شباب الطالقان، وما هو دورهم الوجودی؟ جاء فی الأثر أنهم من خواص أصحاب الإمام المهدی علیه السلام والذین یحملون معه علوما إلى الإنسانیة فی مسیرة عودتها إلى رب الأرباب، هذه العلوم هی علوما لدنیة مرتبطة بالهدایة دائما فهذا الدور الوجودی هو دور الهدایة الكونیة والوجودیة والفطریة.
فكل مكاشف للعوالم الحیاتیة یكون له خلل فی هذه الهدایات لا یستطیع أن یكون له وعی وإدراك وجودیین یجعل منه إنسانا حقیقیا كما أٍرادت مشیئة الله وإرادته الساریة فی الآفاق وفی الأنفس.
یصرح الدكتور سامی مكارم فی مؤتمر العرفان الذی نظمه المعهد الإسلامی للمعارف الحكمیة حول الإمام الخمینی قدس ، فیقول أنا الحق الحلاجیة لیست هی أنا الحق الخمینیة، وتابع قوله بأن أنا الحق الحلاجیة كانت شهودیة بینما أنا الحق الخمینیة كانت بالله وكانت تحمل صفات المحبوب فی ذاتها.
وأرد علیه بقولی لماذا كانت أنا الحق الخمینیة بالله ولم ترى فصلا بین اللامحدود والمحدود ذلك أنها كانت- أنا الهدایة.-
فالإمام الخمینی كان یحمل أربعة معصوما ویحملونه، فمن یحمل المعصومین ویحملونه فی ذاته كانت له كل تلك الهدایات التی ذكرناها سابقا وهی الهدایة فی الوجود والهدایة فی الكون والهدایة فی الفطرة وهكذا یمكننا القول أن شخص الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم یحمل أمانة الهدایة الوجودیة ( لولاك لما خلقت الأفلاك)، كما أن الأئمة الإثنى عشر یحملون أمانة الهدایة الكونیة ((“…إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فی كتاب الله یوم خلق السموات والأرض …..) الآیة 36 ، أما سیدة نساء العالمین فهی تحمل كل هذه الهدایات وهی هدایة الفطرة، (فأقم وجهك للدین حنیفا فطرة الله التی فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق الله ذلك الدین القیم ولكن أكثر الناس لا یعلمون) الروم:30
فالمدرسة الإطلاقیة أقصد بها مدرسة المعارف المهدویة الكونیة فالإنسان المؤمن السالك عندما یقرأ القرآن ویطبقه فی نفسه تطبیقا، یفتح الله له به أبوابا للعروج فی درجات الله ( هم درجات عند الله) وهكذا یكون فتحه فی الأول قریب ثم یصیر مبین وفی آخر المطاف یصبح فتحه مطلق وفی الآفاق الأنفسیة والكونیة.
لذا فتفسیر بعض الأیات القرآنیة سوف یكون متزامنا ومترابطا مع ظهور ولی الأمر الأعظم الحامل لكل سر وجودی وفهم إلهی أرواحنا فداه السید الغائب المراقب الذی یغیب عنا بجسده لكن نعیش فی حضرته ونحس بوجوده معنا وفینا سیدی ومولای أبا صالح المهدی عج.
فالمسلمین لحد الساعة لم یعرفوا ماذا تعنی عدة آیات قرآنیة وتفسیرها یبقى فی أكثر الأحوال احتمالی، مثل آیة ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شیء علیم ) الموجودة فی سورة الحدید كما هو الشأن فی سورة الإخلاص.
فحتى الذین هم الیوم متعمقون فی العرفان یصرحون أننا لا نعرف شیئا عن الذات الصمدیة لأننا محجوبون بالذات الأحدیة ، كما أن أغلب العباد لا یصلون بإدراكاتهم إلى الذات الأحدیة (وما یؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) یوسف 106، وكما یؤكد سید العابدین علیه السلام فی دعاء له (یا مؤمن بلا نهایة) فإیماننا له نهایة وإیمانه هو لیس له نهایة لذا وجب الشرك على أكثرهم.
فالحاملون للعرفان الذاتی الإلهی هم المهدی وأصحابه علیهم السلام حیث أنهم سوف یفتحون آفاق كونیة ووجودیة لفهم مراتب القرآن والدرجات الرفیعة الإلهیة، فالله سبحانه وتعالى رفیع الدرجات، لذا فزمن وجود كلمة الله الباقیة مولانا المهدی عج هو زمن سیطلب فیه المؤمنین المخلصون هذه الدرجة الرفیعة بشفاعة الإمام المهدی علیه السلام.
الخلاصة:
فی زمن الإمبراطوریة الرومانیة الظالمة، ثار أحد الرجال إسمه سبارطكیس مریدا تحریر العبید من قبضة هذه الدولة المستعلیة، فكانت نهایته هی الشهادة فی سبیل هذا الهدف الأسمى، هذا نجده الیوم عند الأخ أحمدی نجاد والرئیس الفینزویلی تشافیز والسید حسن نصر الله یعنی هذا أن تاریخ الإنسانیة كله صراع من أجل الحریة، لكن بأی مقاییس الیوم نفهم هذه الحریة؟ هذا سؤال وجب طرحه؟
فحریة الغرب هی حریة من أجل الحریة فتصبح عبودیة للحریة فیكون الدور،وتقدمهم من أجل التقدم فیكون بدون هدف وبلا معنى.
نعم الحریة المطلوبة الیوم ونحن ننتظر مولانا المهدی عج هی حریة الحریات وهی الكرامة الإنسانیة وهی العودة إلى أنفسنا الحقیقیة ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم) فنسیان الله هو الذی جعلنا ننسى أنفسنا أهل البیت علیهم السلام، فنسیان أهل البیت والمیثاق الإلهی الأول هو ذاته نسیان الله فعندما ننسى أنفسنا الحقیقة أهل البیت ننسى فی ذلك الله،لذا تقتل الشیعة الیوم على مشارف العتبات المقدسة ذلك أنهم یذكرون الإنسانیة جمعاء المیثاق الإلهی الذی حمله الحسین بن علی سید الشهداء ففدى به الناس جمیعا ففداء الحسین علیه السلام هو الذی جعل النار بردا وسلاما على نبینا إبراهیم علیه السلام وهو الذی جعل السید المسیح علیه السلام حیا لحد الساعة، حاملا إلینا فی عودة خبرته مع جماعته الأسینیین، الیهود الذی هربوا هم الآخرین من بطش الظالمین فی عصر ما قبل ظهوره كنبی على مسرح الحیاة. فجماعة الآسینین كانت لهم خبرة فی جمیع أنحاء الحیاة الشیء الذی سوف ینقله لنا السید المسیح بنفسه مع أخیه وحبیبه المهدی والحسین بن علی علیهم السلام وهذا تأویل آیة قرآنیة أنه من یعلم سر الآیة الموجودة فی سورة الحدید (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شیء علیم) هم ثلاثة أشخاص فی آخر الزمان وهم الحسین الذی یمثل الإنسان الأزلی والمهدی الذی یمثل الإنسان الأبدی والسید المسیح صاحب الخبرة الحیاتیة الوجودیة.
والسلام علیكم ورحمته وبركاته.
ملحوظة
كتبت هذا الموضوع مختصرا لعدة فقرات لكن یمكن أن أتوسع فیه حسب الحاجة وحسب المتلقی الذی یحب الإطلاق على جوانب أخرى.
یوسف العاملی