أسعد يولد من جديد (الماسونيون و عصر النهضة)

إسماعیل شفیعی سروستانی
… كنت قد قبلت قبل نحو شهر أو شهرين دعوة من وزارة التربية والتعليم لزيارة مدينة «بندرعباس» والمشاركة في دورة تدريبية لمعلمي الأدب الفارسي. كان مقررا أن ألقي محاضرات مكثفة عن الأدب الفارسي والنصوص القديمة. وفائدة هذا النوع من الفصول الدراسية هي التعرف على الأوضاع الثقافية للمناطق المختلفة على الأقل.

 

وقد غادرت الطائرة طهران عند الساعة 23 من يوم الأربعاء متجهة إلى بندر عباس، وبعد اسبوع من العمل القيت بنفسي مسترخيا على المقعد المخصص لي بجانب النافذة. ولم يكن شئ أفضل من أن يتغلبني النعاس ولو لساعة واحدة. لم أشعر متى أقلعت الطائرة من المطار. واستيقظت على وقع صوت عبور المضيفين وعربة اليد التي معهم لتوزيع الطعام على المسافرين.
وكان المسافر الذي يجلس بجانبي شاب يبلغ من العمر ستة عشر أو سبعة عشر عاما، أسمر البشرة وكانت بشرته التي أحرقتها الشمس تظهر بانه من الأهالي المحليين لمدينة بندر عباس. وقد أراني الشاب من خلف النافذة بيده القمر وقال:
–    سيدي هل تشاهد القمر! كم هو جميل!
–    نعم! جميل جدا.
وواصل الحديث قائلا: إن السماء والقمر ليسا بهذا الجمال والشفافية من الأرض.
قلت: هو ذنبنا. لقد لوثنا ووسخنا الأرض والسماء لدرجة أننا نشاهد القمر والكواكب، وهي كدرة غير شفافة.
وفيما كان منهمكا في فتح رزمة الطعام، أدار وجهه نحوي وقال:
–    عفوا سيدي! هل لي أن أسالك عن عملك؟
–    معلم الأدب الفارسي.
–    جيد! إذن تستطيع أن تخبرني طريقة تعلم مادة تاريخ الأدب.
لم أرد أن أقول له الأفضل أن تسأل ذلك من الذين حولوا أدب هذه البلاد وأعمالها الشعرية إلى دفتر للتسجيل في المقابر وجعلوا أولاد الناس ينفرون من كل ما هو أدب وشعر وثقافة، ولذلك تحدثت له قليلا عن الأعمال الأدبية. وكان سكوته يرمز إلى الرضا، فسألته:
–    ماذا تفعل؟ وما أسمك؟
–    جمال، سيدي! جمال اذري، تلميذ في المدرسة. في السنة الثالثة من الثانوية.
–    وأي مهنة تمارسها إضافة إلى ذلك؟
–    لا شئ يذكر! نبحر أحيانا مع الأصدقاء بزورق، ونذهب ليلا حتى قريبا من «الإمارات» ونشترى عدة أجهزة فيديو وأشياء طفيفة أخرى من اللنشات، ومن ثم نعود أدراجنا.
–    هذا العمل محفوف بالمخاطر!
–    نعم! خطير، لكنه أفضل من لا شئ.
و عندما هبطت الطائرة، أعطاني عنوانه وأصر على أن أزوره في بندرعباس. ودعته واتجهت نحو السيارة التي كانت قد جاءت لتنقلي إلى مقر الأقامة. وقد انشغلت يومي الخميس والجمعة في التدريس والمحاضرة بحيث لم تتح لي فرصة حتى الذهاب لمشاهدة البحر. والتدريس لنحو 16 ساعة مكثفة يرهق الانسان. وكانت الساعة الثانية من بعد منتصف الليل حيث عدت إلى طهران.
ومضى يوم السبت أصعب من الأيام الأخرى وأكثر انشغالا من يوم الجمعة. لم أنس الموعد مع أسعد. وصلت إلى المكان قبل السادسة مساء. لم يكن أسعد ليصل بعد. وكانت فرصة لأفكر حول أسعد وجمال وألوف الشبان الأخرين مثلهم، كان لون بشرتهم وطريقة عيشهم تختلف، لكنهم عقدوا العزم جميعا على البقاء والعثور على أجوبة للأسئلة التي كانت ترهقهم. الأسئلة التي كانوا يخبئونها تحت أنقاض الحياة العادية والتنقلات اليومية. وربما نفعل الشئ ذاته نحن الأناس: التهرب من الأسئلة التي يحتاج التوصل إلى أجوبة لها بذل مزيد من الجهد أو الخوف من الأجوبة التي قد ترغمنا على التفكير حول أنفسنا وكيفية صيرورتنا ووجودنا. وصل أسعد للتو. وكان جلب معه ثلاثة أو أربعة كتب.
–    السلام عليكم السيد مهدوي!
–    وعليك السلام، كيف حالك يا أسعد؟
–    الحمد لله، استميحك عذرا لوصولي متأخرا بعض الوقت.
–    لا عليك، كنت بانتظارك. ما هذه الكتب التي أتيت بها؟
–    كنت منذ مطلع الاسبوع أبحث عن الكتب التي تمكنني من قراءة موضوعات حول إنسان اليوم وإنسان الأمس، وأن أفهم أين أعيش من هذه الكرة الأرضية.
–    جيد، يبدو أنك بدات الحراك. لكن ماذا وجدت الآن؟
–    لم أجد شيئا ينفعني كثيرا. معظم هذه الكتب مترجمة. وهؤلاء ينظرون إلى العالم من خلف النظارة التي يرتدونها. وأعمال الإيرانيين في معظمها إستنساخ لتلك الكتب.
–    لا يهم. المهم أن تبحث. لان من جدّ وجد، ويلبي جزءا من مطالبه على الأقل. والأهم من ذلك يجب أن تعرف بان «السؤال والبحث» يشكلان مقدمة للخروج من القوقعة. وطالما لم يبدأ السؤال، يبقى الإنسان يعيش غرا حتى وإن بلغ الستين من العمر.
–    حاولت خلال اليوم أو اليومين الأخيرين كسب معلومات عن «عصر النهضة». فقد يمجده البعض فيما يتحدث آخرون عنه بامتعاض ويأخذون عليه مأخذا. أحب أن أسمع رأيك!
–    لقد حددت مادة «الفصل الدراسي في الهواء الطلق» هذا. لا بأس. سنتحدث عن عصر النهضة كما تحب.
–    على فكرة، أريد بداية أن أعرف معنى هذا المصطلح!
–    «عصر النهضة» يُستخدم للدلالة على التجديد والإحياء. مثل الشجرة التي تذبل في الخريف والشتاء وتفقد أوراقها، لكنها تستعيد عافيتها مع حلول الربيع فتنمو عليها الأوراق الخضراء النضرة، وفي الحقيقة فان الشجرة الذابلة والكئيبة «تحيي وتجدد حياتها». ومن هنا يجب أن تنتبه إلى أنه عندما يقال «التجديد والإحياء» فانه يحمل هذا المفهوم معه، أي إستعادة الحياة التي كان يملكها سابقا وفقدها لاحقا.
وقد أمضت «أوروبا» على غرار القارات أو البلدان الأخرى، أدوارا مختلفة. وقد ترسم لك الأشكال البسيطة التالية صورة عن تاريخ أوروبا.
00-18  18- 1500  1400-400 م. 5 م. ـ 5 ق.م.
وقبل أن يظهر السيد المسيح(ع) في القرن الأول للميلاد، كان الفكر «اليوناني» و «الرومي» المتسم بالشرك يهيمن على مجمل أوروبا الموحدة. وبلاريب فانك شاهدت العديد من الأفلام السينمائية بما فيها «سبارتاكوس» و «بن هور» وغيرها، الأفلام التي تصور المجالدين والقياصرة ومجلس الشيوخ الرومي و…. وكل هذه متعلقة بنوع ما باوروبا ما قبل ميلاد المسيح وثقافتها وحضارتها.
وشكل ظهور المسيح، منعطفا مهما، لان أفكار وتعاليم السيد المسيح(ع) وكتاب «الانجيل» نبذا مجمل أفكار وثقافة «اليونان والرومان» التي كانت قائمة على الإلحاد والنظام الطبقي. واستغرق الأمر ثلاثة قرون إلى أن استطاعت المسيحية الأولية أن تنتشر في أرجاء أوروبا وتمهد الطريق لتشكيل حكومة ونظام إجتماعي تأسيسا على الثقافة الدينية. وكانت الحياة في القرون الوسطى مبنية على الأيمان بالله. أخبرتك سابقا، بان «الشعب» الذي ينظر إلى الله كخالق للعالم ومدبر لجميع الأمور ويقدم مطلبه وإرادته على كل شئ، يؤمن بانه من غير الممكن تهميش الله، بل أن جميع الشؤون الإجتماعية والسياسية والإقتصادية يجب أن تتبلور على أساس ذلك المعتقد، وإلا فان جزءا من الأعمال الفردية وحياة الناس يتم تنظيمه وفقا للمطلب والقانون الإلهي والجزء الآخر وفقا للقانون البشري. ولا يفرق، فعندما لا يسود قانون الله، فان أي قانون آخر يجر الإنسان إلى النفاق والألحاد والشرك.
وفي هذه الحقبة كان أنصار السيد المسيح(ع) يديرون أمورهم وشؤون حياتهم تأسيسا على الأحكام والتعاليم الدينية للبابا الذي كان يعتبر خليفة الله. والبابا يعني الأب. يجب أن تنتبه إلى أن انطباع وفهم الانسان عن الدين كان يختلف عما نفهمه ونستخلصه نحن من الإسلام والكتاب السماوي. وأسهمت أسباب مختلفة لا مجال لبسطها وبحثها الان في حدوث تصدع وتراخ في هذا النظام.
وكان لهجوم بعض الأمم المتوحشة على وسط أوروبا وتفتيتها إلى البلدان الحالية (المانيا وفرنسا وبريطانيا و…) وبعض العوامل الأخرى أثر في هذا الموضوع. وفي نهاية العصر الذي عرف بالقرون الوسطى، بدات فرقا مختلفة من هنا وهناك بالدعاية والنشاط ضد الكنيسة والمسيحية ورجال الدين المسيحيين.
–    لما سُميّ هذا العصر بالقرون الوسطى؟
–    القرون الوسطى كما هو واضح من الإسم، تطلق على الحقبة الواقعة بين العصر اليوناني والروماني القديم وبين العصر الجديد الذي نعيش فيه.
–    وما هي الفِرَق والمجموعات التي كانت تعارض الدين؟
–    وكان يطلق على هذه الفرق اسم «البروتستانت». والبروتستانت تعني المحتج وأطلق على ما حدث اسم «البروتستانتية». وكانت البروتستانتية تيارات أفضت إلى «التجديد» أو «الإصلاح الديني» وشكلت مقدمة للشئ الذي أسميته «عصر النهضة». وكان معارضو الكنيسة من الذين اعتبروا أن الاحكام الدينية تتعارض مع تمنياتهم ورغباتهم ولم يكونوا جاهزين لتقبل حدودا للامر والنهي الديني. وحاول هؤلاء بداية القول بان المسيحية يمكن لها أن تواصل حياتها من دون وجود رجال الدين.
وفي منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، أقدم بعض الفنانين والشعراء على كتابة أشعار مناهضة لرجال الدين والمسيحية بمن فيهم فارسيليو الإيطالي واوغام وجان واي كليف البريطاني. وعقب ذلك حاول المتجددون إعطاء صورة عن رجال الدين والمسيحية تتسم بالجريمة والعنف ومعارضة العلم.
وقد شاهدت حتما في بعض أفلام الكارتون والأفلام السينمائية كيف أنهم يحاولون من خلال تضخيم عدة وقائع على مدى خمسمائة أو ستمائة عام تشويه هذه الحقبة الطويلة ومجمل الثقافة والفكر الديني المسيحي. وكانت هذه حصيلة محاولات أناس كانوا يطالبون بالتحرر اللا مشروط والتخلص من الدين والأحكام الإلهية.
ويمكن القول بان عصر النهضة شكل بداية لنمو وتكامل «الفكر غير الديني».
وفي ضوء المثال الذي ضربته لك سابقا عن «تجدد حياة» الشجرة، يجب أن تكون قد أدركت بان عصر النهضة كان بمثابة تجديد حياة وإحياء الفكر غير الديني للعصر القديم أي «العصر اليوناني والروماني» والذي كان قد وضع جانبا بعد ظهور المسيحية وتم إحياؤه مرة أخرى في عصر النهضة. ومذاك تم بسرعة إحياء الأعمال الفلسفية والفنية للعصر القديم أي اليوناني والروماني وبدأت مجددا عملية صنع التماثل الإنسانية العارية التي كانت سائدة في العصر القديم.
وبعد عصر النهضة، بدأت أوروبا صياغة تطوراتها الاجتماعية والسياسية تأسيسا على «المذهب الإنساني» واتسمت الأخلاق وصورة الحياة أو في الحقيقة الثقافة والحضارة الأوروبية بوضع يختلف عن القرون الماضية. وأصبح المتنورون يعطون لأنفسهم منزلة ومقاما يُضاهي مقام إله الأديان السماوية والأنبياء أصحاب الشريعة وجعلوا الأحكام البشرية تحل محل الشرائع السماوية. وخلاصة القول، أصبح المتنورون أنبياء العصر الحديث في الأرض. ومذاك، نفخ المذهب الانساني كالروح في جسد جميع النظريات السياسية والاجتماعية لاوروبا ما بعد القرن الثامن عشر للميلاد. ووصل هذا الفكر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى بلدان شرقية مثل «ايران» و «العثمانية» و «اليابان» وبلدان أخرى.
–    وما الفائدة التي جناها الناس من عصر النهضة؟
–    ومع عصر النهضة عادت الثقافة اليونانية والرومانية القديمة إلى أوروبا. تلك الثقافة التي كانت تجعل الانسان محورا ومعيارا لجميع الاشياء وأصبح مطلبه وتمنياته النفسية، مبدأ. الشئ الذي أسميته «المذهب الانساني». وعندما يصبح الانسان مظهرا للجمال والكمال ويقوم بدلا من الله بوضع القوانين والأحكام، يصبح جسمه العاري تمثالا للجمال والكمال. وبناء على ذلك فان الكتّاب من أنصار المذهب الانساني، يكتبون أبشع وأوقح القضايا الانسانية والرسامين من أنصار المذهب الانساني يرسمون الأجساد العارية للانسان ومنتجي الأفلام يصورون أكثر مشاهد الحياة خفية واستتارا على شاشة السينما. والسبب واضح، لان الانسان هو بالنسبة لأنصار المذهب الانساني مجرد جسد وجسدية.
وفي المقابل، فان أتباع الديانات، لا يعتبرون الانسان مجرد جسم ومحدود بالجسدية، بل يفضلون وجهه الروحاني والمعنوي على جزئه الجسدي ويطلقون على الجسد والرغبات الجسدية البحتة عنوان «النفس الأمارة»، ولذلك أقول بان النفس الأمارة للإنسان تحل في المذهب الانساني محل الله وهي التي تحكم الانسان، في حين يعتبر «الانسان» في التعريف الديني مخلوق الله وحصيلة روحه السامية التي تسعى من خلال تجاوز مزرعة الدنيا لتخليص الجسد من الرغبات الحيوانية وأن يصبح صاحب أخلاق في مدرسة الشريعة ليتعلم ألفباء المعرفة وفي هذه المراحل، فان معلميه هم الأنبياء والأوصياء الإلهيين ونهجه الدراسي هو كلام الله.
–    نظرا إلى ما أسلفت، فان التنوير الفكري أو بالأحرى المتنور هو ابن أوروبا ما بعد عصر النهضة؟
–    بالضبط !
–    إذن، لماذا لم ترد كل هذه المسائل في المناهج الدراسية والفصول الدراسية التي تلقيتها؟
–    إن ما تشير إليه يمثل مشكلة بالنسبة لنا سأتطرق إليها في المكان المناسب. لقد كان القائمون على شؤوننا الثقافية وحتى الكثير من مصممي النظام التعليمي ومدراء الصحف والكتّاب ومنذ السنين الاولى لظهور التنوير الفكري من دعاة التنوير الفكري. لذلك لم يتطرقوا إلى نقد الذات أبدا لا بل دافعوا على الدوام عن توجهاتهم الثقافية.
–    كيف دخل التنوير الفكري إلى البلدان المختلفة بما فيها ايران؟
–    كانت هناك أسباب مختلفة والأمر بحاجة إلى مزيد من النقاش، لكن إجمالا أقول بان المتنورين، قاموا في هيئة معلمين، بتنشئة واعداد جيل جديد كان لابد أن تتحقق جميع أمنياته وأحلامه في «الأرض». وأصبح هذا الانسان بصدد البحث والغور في الطبيعة بكل ما أوتي من قوة، وأن يصنع ويبني حياته حسب رغبته وأهوائه من خلال كشف القوانين الكامنة في الظواهر المادية.
وقد مهدت الثورة الصناعية والرحلات الإستكشافية والكثير من الأحداث لظهور وقيام هذا الكفر والثقافة على هيئة «الحضارة الجديدة والحديثة» القائمة على أساس نبذ السنن الدينية. وقام السلطان العثماني برحلة إلى بلاد الفرنجة عام 1283 للميلاد، وبعده قام بعض المنتمين للامبراطوية اليابانية بزيارة إلى تلك البلاد، كما أن بعض المتنورين الايرانيين بمن فيهم ميرزا حسين خان سبهسالار، مهدوا ووفروا مقدمات رحلة ملك إيران إلى الفرنج. وقد أورد فريدون ادميت شرح هذه الرحلة في كتابه «فكر الرقيّ» وزار ملك ايران في هذه الجولة كلا من روسية والمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا والسويس وايطاليا والنمسا وعاد إلى ايران بعد خمسة أشهر عن طريق الامبراطورية العثمانية والقوقاز. وخلال هذه الجولة زار ملك ايران برلمانات المانيا وفرنسا وبريطانيا والتقى شخصيات سياسية واقتصادية أوروبية بمن فيها روتشيلد اليهودي وحتى أنه اقترح في هذا اللقاء: من الأفضل أن تدفعوا مبلغا من المال لدولة كبيرة أو صغيرة وتشتروا بلدا لجمع جميع كل يهود العالم فيه وأن تتولوا أنتم رئاسته.
ترى أن هذا اللقاء لم يكن له أثر يذكر على عقلية ملك ايران، لانه لم يكن يفكر إلا بملذاته الآنية ومال الدنيا وأسباب العيش والطرب والبذخ، لكنه في أي حال، مهد الطريق لتنامي وانتشار التنوير الفكري الباهت والتابع.
وكل هذا كان مقدمة لكي أقول بان أخلاق التنوير الفكري أدخلها إلى ايران مسافرون قدموا من بلاد الفرنجة.
–    منذ متى بدأت هذه الرحلات؟
–    واضح أن الزيارات وتبادل الزيارات موجودان دائما بين الشعوب، لكن الهجرة والحروب والتجارة وغيرها تضطلع بدور مهم في التبادل الثقافي والمالي. واللافت بالنسبة لنا هو بدء تبادل الزيارات والرحلات بين البلدان الشرقية والأوروبية في حقبة ما بعد التنوير الفكري.
–    وقبل قرن أو قرنين من تولي القاجار السلطة (في ايران) سافر سياح مختلفون إلى ايران، بحيث أن عدة مجموعات جاءت إلى ايران وحتى بعدهم جاء مبشرون دينيون مدعومون من الكنيسة والمراكز الدينية المسيحية الغربية إلى إيران والعثمانية. وعمل هؤلاء على نشر الديانة المسيحية بين الناس. وماتزال اليوم بقايا العديد من المستشفيات التي أسسوها كوسيلة لاجتذاب المسلمين نحو المسيحية، قائمة. وفي الحقيقة فان هؤلاء المبشرين كانوا بمثابة معبدي الطريق للمتنورين الذين جاؤوا بعدهم ومهدوا الأرضية بدورهم لقبول الفرنجة بين المسلمين.
وربما يمكن القول أن عهد فتحعلي شاه وابنه ناصر الدين شاه، شكل منعطفا مهما في تاريخ دخول تيار التنوري الفكري إلى ايران.
وكان عباس ميرزا إبن فتحعلي شاه القاجاري، والذي حارب الروس بامكانات طفيفة بدعم من علماء الدين وهزم في النهاية بسبب عدم وصول الإمكانات اللوجستية والإمدادات والتموين إليه، بعث شخصين إلى أوروبا ليتعلما الرسم والطب. وقد توفى الطبيب المبتعث في بلاد الفرنجة، لكن طالب مادة الرسم انخرط في محفل للماسونية.
وفي المرحلة الثانية، أوفد خمسة أشخاص آخرين أشهرهم ميرزا صالح شيرازي الذي أسس أول مطبعة وأصدر أول الصحف الإيرانية بعنوان «ورقة الأخبار». ومن بين الأرمن كان هناك من ذهب إلى الفرنج. وتعرف هؤلاء خلال هذه الرحلة على صورة الحضارة الغربية، أؤكد أنهم تعرفوا على صورة الحضارة الغربية ولم يتعرف أي منهم على حقيقة وطبيعة الثقافة والفكر الغربي بل انبهروا بظاهر الغرب فحسب. فغيروا زيهم وأصبحوا ينتقدون الآداب والتقاليد الدينية ونثروا بعد عودتهم بذر التنوير الفكري بين الناس لاسيما أمراء القاجار وحاولوا من خلال ترجمة الأعمال الأدبية الغربية وتأسيس المحافل الماسونية وغيرها، نشر أخلاق التنوير الفكري في المجتمع.
–    أشرت إلى تشكيل المحافل الماسونية، وقد قرأت عن هذا الموضوع مرارا في الكتب والصحف، لكن موضوع الماسونية مازال غامضا بالنسبة لي.
–    إن أسئلتك المختلفة تجر كلامي إلى كل اتجاه. طبعا أعطيك الحق، لان لديك الكثير من الكلام والأسئلة التي يجب أن تطرح في هذا الخصوص، وأستطيع تبيان جزء منها، والباقي يعود إليك لكي تقرأ بشأنه بالتفصيل.
وأقول أن المؤسف هو أن التاريخ الماضي طرح في المناهج الدراسية بصورة سيئة ومبعثرة لدرجة أن التلامذة لا يبدون رغبة وحرصا على قراءة هذه الكتب، والسبب هو أن ذكر تاريخ وفاة عدة ملوك وعدة حوادث لا يعالج أمرا. إننا ومن أجل فهم الماضي لا بد لنا من قراءة وفهم الحوادث في ضوء التطورات الثقافية، وربما أن الكثير من القضايا الطفيفة لا تستحق القراءة والحفظ عن ظهر قلب.
–    يبدو أننا لا نعرف الكثير من القضايا التي يجب أن نعرف عنها ونتابعها، لانهم دفعونا إلى تعلم أشياء لا تنفع أبدا. وموضوع الماسونية الذي أشرت إليه هو من الفصول الرئيسية المهمة التي يجب دراستها.
إن قراءة التاريخ المعاصر من دون الاهتمام بالماسونية ودورها في هذه الحقبة من حياتنا نحن الإيرانيين على مدى الأعوام المائة والخمسين الأخيرة، ستكون قراءة ناقصة. كالطبيب الذي يسأل باستمرار عن ملبس المريض ودراسته ولون شعره وماركة ساعته ونظارته من دون أن يهتم بدراسة ماضي المرض وكيفية نموه وأعراضه وتأثيرها على مريضه.
إن الماسوني هي كلمة فرنسية، تعني البنّاء الحرّ واللوج تعني «المحفل». وكان الماسونيون حشدا من المعمارين البنائين الذين قاموا في القرون الوسطى بتشييد الكنائس الكبيرة والقصور. وكان هؤلاء يعقدون لقاءات مغلقة وسرية في نهاية كل يوم عمل في محفل يدعى «لوج» للحيلولة دون تسرب أسرار مهنتهم إلى الآخرين. وكانت هذه المحافل تضطلع في الحقيقة بدور «النقابات المهنية» في الوقت الحاضر وتدافع عن حقوق البنائين الأحرار.
وفي مطلع عصر النهضة حيث اجتاحت التحولات السياسية والاجتماعية، أوروبا ووقعت إضطرابات كثيرة، دخلت هذه المجموعة بشكل آخر إلى الساحة، أي أنها تحولت إلى تنظيم سياسي مهني وفتحت مذاك أبواب المحافل أمام سائر الأشخاص بمن فيهم المتنورون من أنصار المذهب الانساني، و استطاع اليهود النفوذ إليها. و عقب هذا التطور، تحولت المحافل الماسونية إلى تيار فكري ـ سياسي واضطلعت بدور مهم في التطورات الاجتماعية و السياسية في أوروبا.
إن العديد من قادة الثورة الفرنسية ومتنوري ذلك العصر بمن فيهم مونتسكيو وفولتير وروبسبير وآخرون ممن تخرجوا من هذه المحافل وتولوا قيادة حركة النهضة في أوروبا، أصبحوا يطرحون شيئا فشيئا فكرة الهيمنة على الشعوب المختلفة. وكان الإمساك بالسلطة وتدمير دعائم وركائز الحكومات ومعتقدات الجماهير تشكل الأهداف الرئيسية لهذه المحافل، لانهم كانوا يستطيعون بهذه الطريقة تغيير الشعوب وفق ما يرومون إليه. ولهذا السبب أصبح لا وجود للهيكليات والتنظيمات المهنية للماسونيين ماعدا بعض الرموز والنقوش التي كان يستخدمها البناءون سابقا في عملهم بما فيها الشاقول وزاوية الضبط القائمة (قونية) والمنقلة و….
و قد استخدم ماسونيو العهد الجدد هذه الرموز في أزيائهم وبوابات محافلهم وعلامات التعريف بهم وأعلامهم وأختامهم، بحيث نشاهد هذه العلامات والرموز في الوقت الحاضر.
إن نفوذ اليهود وهيمنتهم على هذه المحافل أدت إلى أضافة رموز وشعارات أخرى مثل نجمة داود والشمعدان اليهودي بخمسة أو سبعة فروع وغصن الزيتون و… إلى الرموز السابقة.
ويجب القول أنه خلال الأعوام ما بعد الثورة الفرنسية وبسط التنوير الفكري ونشر الثقافة والحضارة الغربية في أوروبا والعالم، لم تكن التطورات السياسية والإجتماعية للغرب في أي وقت من الأوقات بمنأى عن «الماسونية» و «طلب وعمل» الماسونيين.
–    لماذا معلوماتنا عن هذه المجموعة محدودة؟ وقلما يتم التطرق إليها بصورة رسمية؟
–    هذا الشئ يعود إلى مدى اختراق الماسونيين للتنظيمات السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب والبلدان التي كانت تخضع للنفوذ الغربي، ومن جهة أخرى فانه عندما يعلن المتنورون علانية أنهم يتولون قيادة وتوجيه المجتمعات الغربية والشرقية المختلفة، بديهي ألا يتطرقوا إلى أصلهم وأساسهم وسيخفون أنفسهم بين كدس من المفردات والأكاذيب.
و كيف يمكن أن يكون قرابة 90 بالمائة من قادة وموجهي الأنظمة السياسية الأوروبية ورؤساء وزرائها على مدى سبعين أو ثمانين عاما من الماسونيين وأن يسمحوا لاحد البوح بأسرارهم.
وطبعا السبب الآخر يعود إلى طريقة عملهم. و كما قلت فان أسلوب العمل المخفي والسري كان سائدا بين البنائين منذ الماضي أي القرون الوسطى، و كان يؤدي ألا تتسرب معلوماتهم إلى خارج المحفل. وهذه الطريقة واصلها ماسونيو العصر الحديث واتبعوا في الحقيقة طريقة «الإخفاء»، بحيث عندما تتأسس محفل الماسونية في ايران في عصر ناصر الدين شاه على يد المتنورين العائدين من الفرنج، أطلقوا عليه اسم «المحفل المنسي» أي المكان الذي إن خرج أحد منه يجب أن ينسى كل شئ، وهذه الطريقة كانت متبعة بالتحديد من قبل اليهود.
–    لذلك فانك تعتبرهم عاملا في توسيع ونشر الأفكار غير الدينية؟
–    نعم، لدي سببان لهذا الموضوع وآمل أن أناقشه باسهاب في محله. السبب الاول هو كيفية تصرف وحضور هذه المجموعة في المجتعات خاصة الاسلامية والشرقية والآخر أفكارهم. لقد كانت المحافل الماسونية بؤرة ومركز قوة وأداء الرأسماليين واليهود الصهاينة والأجهزة الإستخباراتية، بحيث أن العديد من التيارات السياسية والاقتصادية والثقافية تأسست على يد هؤلاء. وربما إن عرفت بان الموقعين على اتفاقيتي «تركمان شاي» و «كلستان» اللتين تسببتا في خسارة ايران للكثير من مدنها الشمالية، كانوا من الماسونيين أو أن هويدا وشريف امامي والكثير الآخرين من عملاء امريكا وبريطانيا كانوا منخرطين في هذه المحافل، ستفهم هذا الجزء من كلامي بشكل أفضل.
والموضوع الثاني، النظام الفكري والعقائدي الخاص بهم، وما أن قبله أحد يتحول إلى تابع للمحافل الماسونية الاوربية وراع للمصالح الغربية والصهيونية.
وفي كتاب «الغزو الثقافي والدور التاريخي للمتنورين» (الذي صدر عام 1993) يأتي المؤلف على ذكر جانب من الموضوعات والمصاديق، بوسعك الرجوع إليه للمزيد من المعلومات، لكن يبدو أننا ابتعدنا عن الموضوع، أليس كذلك؟
–    ربما! لكن التعرف على هذه القضايا كان ممتعا أيضا.
–    لكني كنت أتحدث عن الأسباب التي دفعت الشعوب الاسلامية بما فيها الايرانيين إلى الإصابة بمرض التنوير الفكري.
–    وهل كان الماسونيون، يرجون لهذا الفكر؟
–    نعم! إن هذا التيار يستحدث نوعا من تغير الرؤية والنظرة الثقافية لدى أعضائه والنتيجة الاولية لهذه الرؤية تؤدي إلى أنقطاعهم وزوال حرصهم على الثقافة والتصديق شيئا فشيئا بانه يجب الإنضمام إلى الثقافة العالمية. ومع تنامي هذه القناعة لدى الشخص، فانه يفقد شيئا فشيئا تعصبه وتبعيته للكثير من الأشياء بما فيها الثقافة الوطنية والدينية ويذهب في هذا الطريق إلى حد أنه يضع على جدول أعماله الذود عن الثقافة والمصالح والسياسات الغربية، ويرفده بلسانه و قلمه.
–    وكيف انتشرت هذه الثقافة في ايران وعلى يد من؟
–    في عصر ناصر الدين شاه، ذهب شخص يدعى ميرزا يعقوب من قرى منطقة «جلفا» التي يقطهنا الأرمن إلى روسيا وتعلم اللغتين الروسية والفرنسية، وبعد عودته إلى ايران عمل في السفارة الروسية. ومكنه إلمامه باللغة الفرنسية وتواصله مع رجالات وشخصيات البلاط من تسجيل ابنه ملكم البالغ من العمر عشر سنوات في مدرسة الأرمن. وبعد دراسته في هذه المدرسة أرسل ملكم إلى خارج البلاد وبعد تعلمه لمادة بولي تكنيك وبعض الموضوعات السياسية والعلمية وحتى خدع الشعوذة عاد إلى ايران. وتصادف وصوله مع أواخر وزارة أمير كبير أي عام 1888 للميلاد. وبعد فترة عمل كمعلم ومترجم في مدرسة «دار الفنون» وحظي باهتمام رئيس الوزراء آنذاك اقاخان نوري.
ويقول خان ملك ساساني في كتاب «واضعو سياسات العصر القاجاري» بان ملكم توجه عام 1894 برفقة فرخ خان أمين الملك غفاري إلى بلاط نابليون وانضم الى المحفل الماسوني الفرنسي ولدى عودته إلى ايران أسس «المحفل المنسي».
ويعتبر «المحفل المنسي» أول محفل ماسوني في ايران، وحتى أن ناصر الدين شاه كان يتردد عليه، لكن ملكم لم يكن يدع أن يتعرف الشاه على ما يجري فيه، وكما يستشف من مجموعة كتبه انه عندما كان الشاه يزور المحفل كان هو يقوم باعمال شعوذة وغيرها لاظهار أن كل ما يدور ويجري في المحفل هو هذا.
ويرى بعض الباحثين أن هذا المحفل تأسس عام 1896 للميلاد. وكان ميرزا يعقوب وابنه ملكم يديرانه، لكنهما كانا قد قبلا على الظاهر بجلال الدين ميرزا ابن فتحعلي شاه ليكون رئيسا له. وبعد سنوات كان ملكم قد أخبر أحد العلماء البريطانيين ويدعى ويلفرد بلنت:
إن هذا الأسلوب كان دائما متبعا في البلدان الاسلامية بما فيها ايران، والسبب واضح لان الثقافة التقليدية والدينية كانت تطغى بشكل فاعل وحي على المجتمع الايراني على مدى قرون متمادية، ولم تكن في نطاق عقيدة بسيطة وشخصية، بل كانت ممتزجة باخلاق واعمال وممارسات فردية وجماعية فضلا عن أن التيار التربوي والتعليمي الذي كان يتبعه رجال الدين وحضورهم بين الجماهير شكل عقبة كأداء أمام الفكر والممارسة غير الدينية، ويجب أيضا الإنتباه إلى أن هذه العقبة أي الدين أدت إلى أن يكون «الدين الأصيل» معرضا للضرر من ناحية الدين والمتدينين لان الحصانة أمام الأفكار غير الدينية ممكنة عندما تكون هذه الافكار قد دخلت الساحة بصورة مباشرة، وعندما تتسم الثقافة والفكر غير الدينيين، بطابع ديني، عندها تكون لها تداعيات.
وكان ملكم خان قد فهم هذا الموضوع جيدا، لذلك فانه تم لحد الان استغلال طريقة تشكيل الكفر بظاهر ديني إلى أقصى حد لايجاد انحراف وشرخ بين المسلمين وتعريضهم للأفكار الباطلة.
ولم يمض وقت حتى أصدر ناصر الدين شاه قرارا بحل «المحفل المنسي» وأرغم جلال الدين ميرزا الذي كان رئيس المحفل على البقاء في المنزل. وتم نفي ملكم وأبيه من إيران إلى بغداد. وبعد مدة، اضطر ملكم للتوجه نحو اسطنبول ليكون في خدمة حسين خان مشير الدولة الذي كان في تلك الفترة سفيرا لايران لدى الدولة العثمانية. وجاء في مقدمة «مجموعة أعمال ملكم» أن ملكم اعتنق المسيحية أثناء وجوده في الدولة العثمانية وحتى أنه تخلى عن الجنسية الايرانية. وساهمت العلاقات الودية بين سفير ايران وملكم في تعيين السفير ملكم مستشارا له.
وخلال هذه الفترة عمل حسين خان مشير الدولة بمساعدة ملكم خان على التمهيد لزيارة ناصر الدين شاه إلى الفرنجة. وفي عام 1911 عين ملكم وزير مفوضا لايران لدى لندن بعد العفو عنه وساهم ملكم في التخطيط لزيارة ناصر الدين شاه هذه.
ومهد حسين خان مشير الدولة لاتفاقية امتياز تأسيس بنك ومد خطوط السكك الحديد وقضايا أخرى لكي يتم خلال زيارة ناصر الدين شاه إلى الفرنجة التوقيع عليها مع سائر الإمتيازات الخاصة من قبل البارون جوليوس دو رويتر والشاه.
وكان أحد عملاء الإستعمار البريطاني المخضرمين ويدعى اللورد كرزن قد قال في موقع حول هذا الإمتياز:
إن هذا الأمتياز كان هبة قدمتها ايران وإن كانت الحكومة البريطانية قادرة على المضي قدما في هذه اللعبة حتى النهاية، ليس كان بمثابة «كش مات» لشاه ايران فحسب بل كان سيوقف قيصر روسية عند حده.
وإن كان هذا الإتفاق يوقع، لكانت أهم مصادر الثروة والصناعة والزراعة الايرانية تقع بيد بريطانيا. الشئ الذي لم يكن يحلم به البريطانيون إطلاقا، لانه بموجب الاتفاق كان سيتم نقل جميع خطوط السكك الحديد الايرانية إلى البارون جوليوس دورويتر لمدة سبعين عاما فضلا عن وضع جميع مناجم الذهب والفضة والأحجار الكريمة بتصرف صاحب الإمتياز، وإضافة إلى ذلك فان جميع الشؤون الجمركية وإرواء الأراضي وامتياز بناء القنوات كانت ستنقل أيضا.
والآن أتعرف ماذا كان سيحدث في ضوء هذا الإتفاق؟ كانت ايران ستوضع كليا بتصرف بريطانيا.
–    ألم يكن مشير الدولة سفيرا لايران وألم يكن يعرف فحوى هذا النوع من الإتفاقيات؟
–    لقد كان ميرزا حسين خان مشير الدولة والذي لقب لاحقا ب «سبهسالار» (أمير الجيش) قد أنضم في الدولة العثمانية أو تركيا إلى عضوية المحفل الماسوني وكان من عملاء بريطانيا. وقال اللورد كرزن الذي كان ماسونيا وسياسيا بريطانيا:
لم يكن تشوق وحرص إيران على الصداقة الحميمة مع بريطانيا بقدر ما كان عليه إبان عهد ميرزا خان سبهسالار.
ومن أجل أن تعرف عمق خيانة أشخاص مثل مشير الدولة أود أن تتعرف على أقوال الأجانب وأحكامهم بشأن هؤلاء الأشخاص. فعلى سبيل المثال ثمة كتاب للسير هانري راولينسون بعنوان «بريطانيا وروسية في الشرق»، ويذكر في هذا الكتاب أن برنامج ميرزا حسين خان مشير الدولة الذي كان الصدر الأعظم كان له نفوذ في جميع القضايا والأمور، وقد طرح لاحياء إيران وكان ينوي توحيد مصالح إيران مع مصالح بريطانيا.
وكان ميرزا حسين سفيرا لايران في اسطنبول لعشر سنوات وكان ناشطا في المحافل الماسونية وبدأ عضويته في الماسونية العالمية المعروفة في محفل «غراند رويال» ومن ثم انتقل إلى المحفل رقم 175 التابع لمنظمة «انغلند».
وأذكرّ بان مشير الدولة كان له نفوذ وتأثير كبيرين على ناصر الدين شاه وفي ظل ذلك دفع الشاه إلى التوقيع على إتفاقية عار أمدها سبعين عاما وهي غير مسبوقة في تاريخ الإتفاقيات الإستعمارية، وبالتحديد مع يهودي بريطاني.
–    وما التعهدات التي التزم بها طرفنا في الإتفاق أي بريطانيا لقاء كل تلك الإمتيازات؟
–    وفي مقابل كل هذه الإمتيازات التي قدمها أستاذ الماسونية الايراني إلى الماسوني البريطاني البارون جوليوس دورويتر، تهد الأخير بتقديم قرض قدره ستة ملايين جنيه استرليني إلى إيران بفائدة خمسة بالمائة. والطريف أنه إن لم تكن إعتراضات واحتجاجات المسلمين المجاهدين ولم يعرض احتجاجاتهم، موقع ناصر الدين للخطر، لما كان الأخير يضطر لإلغاء الإتفاق وعزل سبهسالار. لانه وبعد هذا العزل القسري عينه بعد فترة في منصب وزير الخارجية واختاره لاحقا صدرا أعظما له.
–    كيف يكون هذا؟! لِمَ كل هذه الدونية؟
–    ودائما ينجذب المتنورون إلى ظاهر الصورة المغرية للحضارة الغربية وينبهرون بها، وليس يخلقون في ضوئها تطلعا وغاية يعتبرون أنها زاخرة بالسعادة فحسب بل يعتبرون من الضروي ترويجها في أرجاء المعمورة ولذلك يصبحون في خدمة نشر تلك الثقافة والحضارة.
إن ملكم يعتبر من أوائل المجموعات الحداثية التي تعتبر أن الحكمة والحصافة تكمن في أن يتلقف الايرانيون الحضارة  الغربية برحابة صدر.
ويسلط فريدن ادميت في كتابين له بعنوان «فكر الرقيّ» و «فكر الحرية» الضوء على آراء وأفكار المتنورين في عصر الحركة الدستورية في ايران (المشروطة) بمن فيهم ملكم خان. ويكتب في الصفحة 113 من كتاب «فكر الحرية» عن مدى انجذاب ملكم على لسانه:
إن شرط الحكمة هو أن نتقبل بكل وجودنا الحضارة الأوروبية ونجعل اتجاهنا الفكري يواكب تكامل التاريخ وروح العصر.
وكان ملكم في تاريخ نشر الحضارة الغربية في ايران، مبدعا ومبتكرا لمبدأ إقتباس الحضارة الفرنجية من دون تصرف إيراني فيها. إنه كان يؤمن في الحقيقة بالإستسلام المطلق ومن دون قيد أو شرط أمام الحضارة الأوروبية وكان يرى بان الإيرانيين يجب أن يقبلوا في جميع أوجه حياتهم السياسية والإقتصادية بمبادئ الحضارة الغربية، لان مبادئ الرقي والإزدهار تسير معا في كل موقع ومكان. وكان يقول أنه خلال اقتباس مبادئ الحضارة الجديدة ومبادئ الرقي العقلي والفكري لا يحق لنا أن نسعى للإختراع، بل يجب أن نقتدي بالفرنجة وأننا كنا ومازلنا بحاجة إلى الآخرين بدءا من صناعة البارود ووصولا إلى صناعة الأحذية. وهل تساءلت يوما أنه لماذا لم نكن قادرين منذ المشروطة وحتى عام 1979 على تخطي المرحلة الأولية للتكنولوجيا الغربية رغم امتلاكنا هذا الكم الهائل من الدارسين والمتعلمين الأكاديميين وأهل العلم والادب وغيرهم؟
–    نعم! كان هذا السؤال قد خطر على بالي، لكني لم أجد جوابا له.
–    لان معلمي المتنورين كانوا يركزون جميعا على التقليد الأعمى للغرب في جميع الحقول والميادين وجميع أوجه الحياة.
وكان أسعد يصغي بدقة. وكان يبدو كظمآن حصل على الماء للتو. وكان يطرح السؤال تلو السؤال. وكنت مرتاحا لكونه جلب معه دفترا وقلما يكتب فيه ما يريده. وكان يكتب بسرعة أثناء الحديث. وكان حرصه وتشوقه للإصغاء والفهم يذكرني بفترة حداثتي وشبابي. العصر الذي كنت أتنقل فيه بسبب أنعدام المعلم، من فصل دراسي إلى آخر ومن متحدث إلى آخر.
كنت أشعر بارهاق وتعب يد وأصابع أسعد الذي كان يسجل الموضوعات بسرعة ولهذا السبب غيرت الموضوع وقلت:
–    أسعد!
–    نعم سيدي!
–    أريد أن أخبرك عن الرحلة القصيرة التي قمت بها هذا الاسبوع.
–    إلى أين سافرت؟
–    إلى بندرعباس.
–    عظيم، إنه مكان جيد! يعجبني الجنوب كثيرا.
–    وأنا أيضا كنت أحب جنوب البلاد كثيرا. ففي الجنوب كل شئ ساخن، الأرض والسماء والبحر على غرار حميمية أهله.
–    لأي غرض سافرت؟
وأعطيت نبذة عن الرحلة ومن ثم غادرنا المتنزه ونحن نتمشى. وكالأسبوع المنصرم، رافقني حتى تقاطع الشارع. وعند الوداع أخذت رقم هاتفه لأطلعه إن طرأ طارئ وتغير موعد اللقاء اللاحق.

شاهد أيضاً

أسعد يولد من جديد : القسم الثاني

إسماعيل شفيعي سروستانيوككل أيام السنة، أمضيت أسبوعا صاخبا ومليئا بالمتاعب، لكني كنت أتذكر موعد الإثنين. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *