أسعد يولد من جديد : القسم الثاني

إسماعيل شفيعي سروستاني
وككل أيام السنة، أمضيت أسبوعا صاخبا ومليئا بالمتاعب، لكني كنت أتذكر موعد الإثنين. حلت الساعة الخامسة والخامسة والأربعين دقيقة من يوم الاثنين. لقد مر الأسبوع بسرعة. الزمن يمر متسرعا. مررت عبر ساحة ألعاب الاطفال. كان أسعد جالسا تحت شجرة الصفصاف تلك وعلى المقعد ذاته. وما أن رآني حتى رفع عن وجهه نظارته الشمسية الجديدة ونهض من مكانه ليلقي التحية فيما كانت ابتسامة حميمة ترتسم على وجهه.

وككل أيام السنة، أمضيت أسبوعا صاخبا ومليئا بالمتاعب، لكني كنت أتذكر موعد الإثنين. حلت الساعة الخامسة والخامسة والأربعين دقيقة من يوم الاثنين. لقد مر الأسبوع بسرعة. الزمن يمر متسرعا. مررت عبر ساحة ألعاب الاطفال. كان أسعد جالسا تحت شجرة الصفصاف تلك وعلى المقعد ذاته. وما أن رآني حتى رفع عن وجهه نظارته الشمسية الجديدة ونهض من مكانه ليلقي التحية فيما كانت ابتسامة حميمة ترتسم على وجهه.
–    مرحبا السيد أسعد، كيف حالك؟
–    لا بأس.
–    هل جئت لوحدك؟
–    وهل كان مقررا أن يأتي معي أحد غيري؟
–    كلا! كنت أظن أنه ربما تأتي كالاسبوع الماضي مع أصدقائك.
–    لم يكن لي موعد مع الاصدقاء في هذا اليوم. لماذا لا تجلس، تبدو وكأنك متعب بعض الشئ؟
–    نعم، متعب بعض الشئ، كم هو هواء لطيف ومنعش!
–    ومع هذا الإرهاق، فان موعد اليوم معك يزيد من إرهاقك.
–    كلا عزيزي، ليس هكذا. هل رأيت صحف اليوم؟ وإن لم تشاهدها، خذ هذه!
–    كلا! لا أريد أن أهدر فرصة التحدث إليك. سأقرأؤها لاحقا.
–    كيفما تحب! بالمناسبة أسعد، ما هو عملك؟
–    لقد تخرجت العام الماضي من المدرسة الثانوية، وكانت أمامي فرصة عام واحد فاما أن أذهب لتأدية الخدمة العسكرية أو ألتحق بالجامعة. وبعد أسبوع أو أسبوعين من الان أمامي إمتحان قبول الجامعات، وبعد ذلك نرى ماذا يقدر لنا الله.
–    ما الفرع الجامعي الذي تحبه؟
–    أنا أم أسرتي؟
–    واضح، أنت.
–    أحد فروع العلوم الإنسانية، وربما الصحافة، فلا يمكن الرهان على إمتحان قبول الجامعات. وتشاهد بغتة بانك أصبحت الشئ الذي لا تحبه. وتكون في الموقع الذي لم تكن تحبذه وتدخل في عمل تكرهه حتى آخر العمر. ولا يوجد حينها طريق للعودة إلى الوراء. إن الاسر مهتمة فقط بالمال والمهنة المرموقة والمكانة الاجتماعية وأشياء من هذا القبيل.
–    يبدو أنك من محبي القراءة والكتاب؟
–    ربما … أقرأ كثيرا. كنت أحب القراءة منذ نعومة أظفاري.
–    أي كتب تقرأ؟
–    لا يفرق كثيرا … التاريخ، الرواية، الشعر، التحليلات السياسية، السينما و… أقرأ كل ما أحصل عليه.
–    يجب أن تملك معلومات عامة جيدة؟!
–    وهذه لا تجلب المال والمكنة للمرء.
–    وهل يجب تحويل كل شئ إلى المال والمكنة؟ وهل خلق الله، الكون والانسان من أجل المال والمكنة؟
–    طبعا لا!! لكن؟
–    لكن ماذا؟
–    الصحيح أن المال والمكنة، ذريعة ليس إلا. كيف لي أن أقول. إني مصاب بالحيرة ولا أعرف من أنا؟ وأين أنا؟ وماذا أريد؟ وماذا يجب أن أريد؟ والمحيطون بي، هم كذلك. كل يغني على ليلاه، وكل يفعل شيئا ما، وقد اختلط الحابل بالنابل. الناس يقولون شيئا، لكنهم يسلكون طريقا آخر. وليس واضحا ماذا يريدون. أتمنى في بعض الاحيان لو كنت صرصورا، أو برغوثة، لا أدري، لا أستطيع أن أسال نفسي من أنا؟ وما موقعي ومكانتي؟ وإلى أين أريد الذهاب؟ لماذا كل شئ مرتبك ومضطرب؟ لكني أرى باني إنسان أحمل عالما من الاسئلة. مِن مَن؟ من أناس كلهم على شاكلتي، صدقني، إني مستودع من الأسئلة.
لقد سئمت من كل هذه الاسئلة التي بقيت بلا جواب، لدي قدر كبير من الاسئلة المتفرقة لا أستطيع جمعها وترتيبها والبوح عما يدور في خلدي. في ذلك اليوم الذي رايتك، لا أعرف لماذا هزني شئ بداخلي وصرخ بي: إذهب! لا تخف! إسأل، لان السؤال ليس عيبا! ربما يعرف، وربما يظن كالكثير من الأناس الآخرين بانك تريد المخاطرة. وكل ما كان، تجرأت وناشدتك أن نتحدث معا. أنت قلت بانك كاتبا، فان كنت كاتبا فيجب أن تكون قد فكرت بكل هذه الاشياء، وهدوءك يقول لي بانك توصلت إلى أجوبة، اذن أخبرني. أريد أن أعرف لماذا كل هذه الاسئلة تتراكم في ذهني؟
–    لقد رددت أنت على أسئلتك من دون أن تدري. صديقي! عندما تقول أتمنى في بعض الاحيان لو كنت صرصورا أو برغوثة لكي لا تتبادر كل هذه الاسئلة إلى ذهني، فهذا يعني أنك لست صرصورا ولا برغوثة بل إنسانا.
وهذا الفارق بينك وبين باقي الكائنات، أي “التساؤل حول الكون”. والان بوسعك إخباري عن سبب كل هذا الارتباك الذي يكتنف الناس في هذا الزمن؟ ولماذ هم منشغلون بابسط أعمال الحياة النباتية والحيوانية؟ ولماذا يظنون أن موقعهم هو بنفس موقع النباتات والحيوانات؟ والجواب على كل هذه الاسئلة واضح تماما. لانهم لم يبدأوا بعد التساؤل حول أنفسهم ومكانتهم ودورهم في الكون، وبما أنهم لم يبدأوا السؤال فان أمامهم مشوارا طويلا للعثور على الاجوبة الملائمة.
وعندما لا يبدأ المرء التساؤل وحتى أنه لا يواجه اضطرابا وهاجسا في هذا الخصوص، يتبين أنه مازال يرى أن لا فارق بينه وبين الطبيعة أو أنه يعتبر أن قدره هو ذات قدر الكائنات الاخرى ماعدا الانسان، لكنك متقدم على الاخرين بخطوة. أي أنك بدات التساؤل وعندما يبدأ المرء التساؤل، يتضح أنه يختلف عن باقي الكائنات، لان مقام التساؤل هو مقام الانسان.
–    السيد مهدوي، إن هذه الاسئلة تبادرت إلى ذهني في فواصل زمنية متباعدة وفي أطوار مختلفة من العمر. أتذكر جيدا، باني لم أكن أبلغ من العمر أكثر من ستة أو سبعة أعوام، كنت طفلا محبا للاستطلاع وحاد الذهن كنت أركز وأنتبه إلى كل شئ، كلام الكبار، خططهم، أمنياتهم، والجهود التي يبذلونها لجني المال والثروة والسلطة، كنت أفهم كل هذا. وذات ليلة رأيت في المنام باني على سطح الكرة الأرضية وقد تحولت الى سهل واسع ومستدير. كنت وحيدا فريدا وأرض لم تكن خضراء، بل بيداء قاحلة ورياح تهب ونقود ورقية كبيرة القيمة وملونة كانت تتطاير في الهواء كقصاصة ورق، وخزانات نصف مفتوحة مليئة بالذهب والمجوهرات التي تناثرت كحبات الرمل على  الأرض من دون أن تكون لها قيمة. وكان بعض هذه الخزانات قد تصدأ وبعض منها قد انغمس إلى النصف في رمال الصحراء، وكل هذا المال والمجوهرات والذهب عديم القيمة كان متروكا وأنا في المنام في حيرة من هذا.
أتذكر بان ذهني الطفولي كان مرتبكا لعدة أيام بعد هذا الحلم وكانت تخطر ببالي اسئلة كبيرة، لكني كنت أشاهد في عالم اليقظة بان الجميع منشغلون ويبحثون عن طرق للحصول على تلك الثروة أو يتحسرون للحصول عليها، لكني لم أجرؤ على طرح هذا السؤال. ومضى وقت مديد، حتى جعل اللعب والعبث واللهو والاستمتاع الطفولي، الغفلة تجتاح وجودي رويدا رويدا. لم يكن لدي سؤال مذاك إلى أن القيت لفترة لاحقة بظلال من الشك على كل شئ. وهذه الغفلة التي اجتاحتني هذه المرة استمرت لمدة أطول وأعمق، واليوم حيث تعرفت عليك، فان كل هذه الاسئلة التي بقيت من دون أجوبة، قد شلتني. وحتى لا أستطيع أن أخدع نفسي من خلال الحلوى والسكر نبات ودع نفسك عن كل هذا وما شأنك بهذا وحتى من خلال كرة القدم والسينما. أريد أن أعرف “من أنا؟” و “من خلقني؟” و “من أين أتيت؟” و “إلى أين ذاهب؟” و “ما هي الحقيقة؟” وبالتالي فاني كانسان عَمّ يجب أن أبحث؟
–    أنظر أسعد! على العكس منك التي بت مرهقا ومنهكا، فاني مرتاح وسعيد أن أرى أحدا يجلس أمامي ويطرح هكذا أسئلة!
–    لمشاهدة إنسان مرهق وحائر …
–    كلا! بسبب إلتقائي بشاب تخطر على باله أسئلة كبيرة وعامة بجانب المئات من الاسئلة الصغيرة والطفيفة …
–    أسئلة عامة؟ لا أفهم …
–    أنظر أسعد! الاسئلة تنقسم إلى فئتين. الفئة الاولى تشمل الاسئلة الطفيفة وقليلة الاهمية المتعلقة بقضايا الساعة، مثل المشاكل التي يمر بها المرء دائما في الشارع والمدينة والدائرة وهناك المئات بل الالاف من المتخصصين ممن وظفوا لمعالجتها. وهذه القضايا تتمثل في المشاكل المالية ومشاكل زحمة السير والطقس والسياسة والمعاملات والتجارة والمئات من الموضوعات المماثلة.
لكن الفئة الثانية تشمل الاسئلة العامة. أسئلة تشبه اللغز. وهي موجودة دائما وعمرها بعمر الانسان على الارض. أسئلة انبرى أشخاص مثل أفلاطون وأرسطو وإبن سينا للرد عليها. أسئلة جوهرية وأساسية حول سر الخلقة وسر الوجود وسر الموت وأسئلة حول قضايا العيش والحياة، وهذه الاسئلة تخص الانسان.
وقد يتغير وضع الحياة ومأكل الانسان وملبسه، وقد تتغير سيارته وبيته، لكن هذه الاسئلة والهواجس التي لا تنتهي لا تترك الانسان حتى يجد جوابا لها. وقد تغطيها الإنشغالات والأعمال اليومية للانسان بصورة مؤقتة، لكنها لا تمحى أبدا عن صفحة ذهن الانسان وقلبه.
ولهذا السبب قلت أن هذه الاسئلة خاصة بالانسان ونابعة من الشئ الذي يميزه عن سائر الكائنات وتضرب بجذورها في فؤاد الانسان وروحه. وجل جهود الانسان للوصول إلى السعادة و… تاتي في ظل هذه الاسئلة، لكن يجب أن تعرف بانه كلما ازداد توجه الانسان واهتماماته بالاعمال الجزئية وروتين الحياة، وأزدادت غفلته، كلما تراجعت هذه الاسئلة، وعلى العكس كلما تراجعت الانشغالات والغفلة كلما ازدادت هذه الاسئلة والهواجس للعثور على أجوبة لها.
ويحسب الناس البسطاء أنه إن سويت مشاكلهم المالية، سيرتاح بالهم، لكن قد تكون سمعت أو شاهدت أناسا تخلوا عن كل ما يملكونه وتركوا الأهل والديار من أجل إيجاد أجوبة للاسئلة الكبيرة التي شغلت ذهنهم على الدوام. وكان بوذا وكونفوشيوس وسقراط وجميع الحكماء والأنبياء يواجهون هذا النوع من الاسئلة، وبذلوا جهدا لايجاد أجوبة للاسئلة الكبرى وان المحتوى الرئيسي لاعمالهم وكتبهم يتمثل في الرد على هذه الاسئلة.
–    وإن كانت هذه الاسئلة خاصة بالانسان، ولم يتغير الناس، فلماذا كلما يتطور العالم أكثر ويتسع نطاق الاختراعات والاكتشافات، قلما يثير الناس هذه الاسئلة وقلما نرى من يسعى للعثور على جواب لها؟
–    ليس هكذا البتة، وإن كان كذلك، فان سجل اي خلاقية وابداع فني وذوقي والكثير من الأمور الاخرى، لكان يُغلق، لكن يجب الانتباه إلى أن الانسان لم يكن في أي عصر وزمن منشغلا بهذا القدر كما هو عليه في هذا العصر والزمان. وهل ألقيت نظرة على الحياة العصرية والحديثة والحضرية في العصر الحاضر؟ الكل يسعى منذ الصباح الباكر وحتى الغسق من الليل وراء لقمة العيش وأمور الدنيا. قف في صبيحة يوم ما في أحدى ساحات المدينة وشاهد إندفاعة الناس وكيف أنهم يخوضون بسرعة واستعجال بهذا الاتجاه وذاك الاتجاه! ترى أنهم منشغلون بامور حياتهم وأعمالهم الخاصة بحيث أنهم لا يشعرون حتى بتعاقب الليل والنهار. وتُلقى الأبدان بنفسها في آخر يوم من الاسبوع في البيت وهي منهكة مرهقة ويرقد الشخص لساعات ويُسلّي نفسه بانواع الادوات والوسائل. لان هذا التسرع والعجلة أصبحا عادة ثانوية للناس. وهذه الأدوات والوسائل المُلهيّة والمُسليّة أصبح مفعولها كالمخدرات وتجلب الراحة والسكينة للناس لفترة وجيزة حتى يحين يوم آخر وعود على بدء.
وهذا هو حال جميع شعوب العالم. والمسلمون منشغلون بهذا الوضع. وتؤدي الأبدان وهي متسرعة مستعجلة ومنشغلة الذهن والفكر، عدة ركعات من الصلاة. وربما هو أمر مثير للضحك بالنسبة لك، هل شاهدت التربة الرقمية التي يسجد الناس عليها وتُظهر عدد السجدات وعدد ركعات الصلاة. لماذا؟ لان الانشغال الذهني سلب من الجميع التركيز الذهني، بحيث أن المرء يجب أن يستخدم التربة الرقمية حتى عندما يعبد ربه وخالقه. فالضجر والسأم والتكدر والإرهاق والتعب المفرط والغفلة عن ضالة الانسان، أي “سر الكون” حل محل كل شئ. فقد حلت “المسألة” اليوم محل “السر”، و”العلم الجديد” محل “المعرفة”. وما كان يوجه الانسان نحو سر الكون، هو المعرفة، لكن العلم الحديث أصبح اليوم في خدمة العقل لمعالجة المسائل والمشاكل وهو يعيق الانسان عن بذل الجهد والعمل لكشف “سر الكون”.
ووسائل الإعلام (التلفزيون والإذاعة والصحف) تقصف الجماهير بالمعلومات ولا يبقى بين هذا القصف مجال للتأمل والتفكير. إن إنسان اليوم بصدد إكتشاف الواقع لا الحقيقة، الإنسان الذي يولد غِراّ ويموت وهو أكثر غفلة بباطن متكدر وذهن ملئ بالمعطيات التي لا تجلب السكينة والاستقرار النفسي.
–    وفي ظل هذا؟!
–    وفي ظل هذا من الأفضل أن تلقي نظرة على حواليك. لقد حَلّ الظلام. من الأفضل أن نغادر ونتحدث في الطريق. وربما أصبحت تحن إلى النقاش والحوار مع أبويك؟ إنهض!
–    لكن يجب أن تعدني بمواصلة هذا الحوار.
–    أعدك.
مازال أناس كثيرين يتمشون في المتنزه. الأزواج الشبان والأسر التي أتت لتناول العشاء، وحراس المتنزه وآخرون.
وبدأ أسعد المشي بجانبي بهدوء وصمت. ويبدو أن مئات بل ألوف الاسئلة مازالت تدور في خلده. تركته ليخلو مع نفسه. وعندما وصلنا إلى الشارع إنفصلنا عن أحدنا الاخر. وتابع هو طريقه على الرصيف فيما توجهت أنا إلى البيت …

یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

شاهد أيضاً

أسعد يولد من جديد ( القسم الثالث: وأما التقدم )

إسماعیل شفیعی سروستانی… ومرت الأيام، من دون أن تتاح لي إمكانية فهم تعاقبها. وكأن أسعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *