الكنیسة البروتستانتیة وعلاقتها بالمسیحیة الصهیونیة

لا یمكننا الحدیث عن الصهیونیة المسیحیة دون التطرق للكنیسة البروتستانتیة. ویبدو أن الدارس للأولى لا ینفك یجد نفسه یغوص فی تاریخ ظهور الثانیة. بعض المصادر التاریخیة تؤكد على العلاقة العضویة بین الاثنتین رغم إصرار مصادر أخرى على أن الصهیونیة المسیحیة سبقت التیار البروتستانتی بقرون وتربطها بحملة تنصیر الیهود فی الأندلس.
والبروتستانتیة إحدى طوائف الدین المسیحی نشأت على ید القس الألمانی مارتن لوثر فی القرن السادس عشر، أما اصطلاح البروتستانتیة فیعنی لغویا الاحتجاج والاعتراض. 
فدوى بنیعیش
كاتبة عربیة مقیمة بواشنطن
لا یمكننا الحدیث عن الصهیونیة المسیحیة دون التطرق للكنیسة البروتستانتیة. ویبدو أن الدارس للأولى لا ینفك یجد نفسه یغوص فی تاریخ ظهور الثانیة. بعض المصادر التاریخیة تؤكد على العلاقة العضویة بین الاثنتین رغم إصرار مصادر أخرى على أن الصهیونیة المسیحیة سبقت التیار البروتستانتی بقرون وتربطها بحملة تنصیر الیهود فی الأندلس.
والبروتستانتیة إحدى طوائف الدین المسیحی نشأت على ید القس الألمانی مارتن لوثر فی القرن السادس عشر، أما اصطلاح البروتستانتیة فیعنی لغویا الاحتجاج والاعتراض.  
مارتن لوثر والثورة على الكاثولیكیة
بدایة تهوید المسیحیة
علاقة الكنیسة البروتستانتیة بالصهیونیة المسیحیة
كتاب “الیهود وأكاذیبهم”
لوثر والثورة على الكاثولیكیة
ولد القس مارتن لوثر فی مدینة إیسلیبن بمقاطعة ساكس الألمانیة سنة 1483 لأب فلاح كانت أمنیته أن یدرس ابنه القانون ویصبح قاضیا، لكن مارتن لوثر حصل على الدكتوراه فی اللاهوت من جامعة فیتنبرج.
زار لوثر فی العام 1510 روما للتبرك بالمقر الرسولی، وكان یتمنى رؤیة القدیسین والرهبان الزهاد. غیر أنه ما إن حل بروما حتى فوجئ بمدى الفساد المنتشر داخل الكنیسة الكاثولیكیة حتى على أعلى المستویات.
كانت الكنیسة آنذاك تبیع صكوك غفران الذنوب وصكوك التوبة، بل إن بعض الرهبان كانوا یحددون المدة التی سیقضیها الإنسان المخطئ فی النار قبل أن یمنحوه صكوك الغفران التی تعتقه وتسمح له بالمرور إلى الجنة!
وقد أثرت تلك الصور كثیرا فی نفسیة مارتن لوثر المتحمس فأحس بالغبن وقرر إصلاح الكنیسة وتقویض سلطة البابا.
قام مارتن لوثر بتعلیق احتجاج صارخ على باب كنیسة مدینة فیتنبرج فی 31 أكتوبر/ تشرین الأول 1517 تضمن 95 نقطة طالب فیه بإلغاء النظام البابوی لأنه یمنح قدسیة كبیرة للبشر قد یسیؤون استعمالها تماما كما كان شائعا فی الكنیسة الكاثولیكیة آنذاك.
كما رفض لوثر أن یبقى القسیس بلا زواج مدى الحیاة، فأقدم على الزواج من الراهبة كاترینا فون بورا وأنجب منها ستة أطفال.
وكانت من بین مطالب لوثر أیضا المساواة بین الإكلیروس “رجال اللاهوت المسیحی” والمسیحیین العادیین. غیر أن ما سیؤثر على مستقبل الكنیسة الكاثولیكیة بشكل عام كان دعوة مارتن لوثر إلى جعل الكتاب المقدس المصدر الوحید للإیمان تأثرا بنظریة القدیس بطرس التی تقول ما معناه أن الإنسان الذی لوثته الخطیئة لا یمكن أن یطهره من تلك الخطیئة سوى الإیمان الذی یتجلى فی رحمة الرب وإرادته.
ودعا لوثر إلى إلغاء الوساطة بین المؤمنین والرب بمعنى إقامة علاقة مباشرة بین العبد والمعبود دون المرور عبر البابا أو أی شخص آخر.
وكان أخطر ما حملته مطالب لوثر دعوته للعودة إلى كتاب التوراة العبرانیة القدیمة وإعادة قراءته بطریقة جدیدة بالإضافة إلى اعتماد الطقوس العبریة فی الصلاة عوضا عن الطقوس الكاثولیكیة المعقدة.
بدایة تهوید المسیحیة
أرسل مارتن لوثر رسالة إلى البابا لیو العاشر فی روما سنة 1520 اتهمه فیها باستعمال الكنیسة الكاثولیكیة لتحقیق مصالح شخصیة له وللحاشیة التی تحیط به، مؤكدا أنه لن یتخلى عن نضاله لتقویض تلك الكنیسة مادام حیا.
فجاء رد فعل الكنیسة الكاثولیكیة قاسیا حیث اعتبرت لوثر من الخارجین عن الكنیسة وطردته من الدیانة المسیحیة واتهمته بالهرطقة، وهی تهمة كانت عقوبتها آنذاك الحرق على الملأ.
لجأ لوثر بعد ذلك إلى العمل السری وعمل على استمالة بعض الیهود الذین كان لهم نفوذ كبیر فی المجتمع عن طریق التأكید على أن مذهبه الجدید یعید الاعتبار للیهود الذین كانوا یعانون من ازدراء الكنیسة الكاثولیكیة.
أصدر لوثر كتابه “عیسى ولد یهودیا” سنة 1523 وقال فیه إن الیهود هم أبناء الله وإن المسیحیین هم الغرباء الذین علیهم أن یرضوا بأن یكونوا كالكلاب التی تأكل ما یسقط من فتات من مائدة الأسیاد.
ویرى الكثیر من الكتاب والمؤرخین أن هذه الفترة تعد الولادة الحقیقیة والفعلیة للمسیحیة الیهودیة.
وتقوم المسیحیة الیهودیة على تفضیل الطقوس العبریة فی العبادة على الطقوس الكاثولیكیة بالإضافة إلى دراسة اللغة العبریة على أساس أنها كلام الله.
ووصلت محاولة استمالة لوثر للیهود من أجل الدخول فی مذهبه حدا قال فیه یوما أمام عدد من الیهود الذین كانوا یناقشونه “إن البابوات والقسیسین وعلماء الدین -ذوی القلوب الفظة- تعاملوا مع الیهود بطریقة جعلت كل من یأمل أن یكون مسیحیا مخلصا یتحول إلى یهودی متطرف وأنا لو كنت یهودیا ورأیت كل هؤلاء الحمقى یقودون ویعلمون المسیحیة فسأختار على البدیهة أن أكون خنزیرا بدلا من أن أكون مسیحیا”.
وتشیر الكثیر من المصادر التاریخیة إلى أن رغبة مارتن لوثر الجامحة فی إعادة الاعتبار للیهود و”تمسیحهم” كانت تعود لإیمانه العمیق بضرورة وجودهم فی هذا العالم تمهیدا لعودة المسیح.
واعتبرت دعواته تلك انقلابا على موقف الكنیسة الكاثولیكیة التی كانت تنظر للیهود على أنهم حملة لدم المسیح عیسى بعدما صلبوه.
حیث دأبت الكنیسة الكاثولیكیة على تحمیل الیهود المسؤولیة الكاملة عن مقتل المسیح. وكان بعض المسیحیین فی أوروبا یحتفلون بمقتل المسیح عن طریق إحیاء طقوس عملیة الصلب، بل وكان سكان مدینة تولوز الفرنسیة یحرصون على إحضار یهودی إلى الكنیسة أثناء الاحتفال لیتم صفعه من قبل أحد النبلاء بشكل علنی إحیاء لطقس الضرب الذی تعرض له المسیح من قبل الیهود.
كما أن هناك نصا فی إنجیل متى یحمل الیهود مسؤولیة مباشرة عن مقتل المسیح ویذكر بالتفصیل كیف غسل بیلاطس الحاكم الرومانی للقدس آنذاك یدیه بالماء معلنا براءته من دم المسیح الذی كان الیهود على وشك صلبه قبل أن یصیح فیه الیهود قائلین “لیكن دمه علینا وعلى أولادنا”.
وهذه العبارة الأخیرة تطبع الاعتقاد المسیحی الكاثولیكی بشكل مریر ظهر جلیا فی الشعبیة الكبیرة التی نالها فیلم “آلام المسیح” للمخرج المسیحی میل غبسون الذی حصد مئات الملایین من الدولارات عدا حالات الإغماء الكثیرة التی شهدتها قاعات السینما التی عرضت الفیلم فی الولایات المتحدة لرجال ونساء مسیحیین لم یستطیعوا تحمل التفاصیل الملیئة بالألم التی حفل بها الفیلم.
علاقة الكنیسة البروتستانتیة بالصهیونیة المسیحیة
المسیحیة هی دیانة سماویة ورسالة حملها المسیح وتعد أكثر الأدیان انتشارا فی العالم، حیث یفوق عدد معتنقیها ملیاری نسمة. وجذور المسیحیة هی الدیانة الیهودیة التی تتشارك وإیاها الإیمان بالتوراة.
والصهیونیة اختصارا هی أیدیولوجیة تؤید قیام دولة قومیة یهودیة فی فلسطین بوصفها أرض المیعاد للیهود. وصهیون هو اسم جبل فی القدس وتقول بعض المصادر إنه اسم من أسماء القدس.
أما الصهیونیة المسیحیة فهی الدعم المسیحی للفكرة الصهیونیة، وهی حركة مسیحیة قومیة تقول عن نفسها إنها تعمل من أجل عودة الشعب الیهودی إلى فلسطین وسیادة الیهود على الأرض المقدسة. ویعتبر الصهیونیون المسیحیون أنفسهم مدافعین عن الشعب الیهودی خاصة دولة إسرائیل، ویتضمن هذا الدعم معارضة وفضح كل من ینتقد أو یعادی الدولة العبریة.
تقوم فلسفة الصهیونیة المسیحیة على نظریة الهلاك الحتمی للیهود. وهناك الكثیر من الدراسات اللاهوتیة فی هذا المجال خلاصتها أن هلاك یهود الأرض قدر محتوم وضرورة للخلاص من “إرث الدم” الذی حمله الیهود على أكتافهم بعدما صلبوا المسیح وهم سیتحولون إلى المسیحیة بعد عودته ولن یبقى شیء اسمه الیهودیة.
ومارتن لوثر الذی تحدثنا عنه أعلاه عمل على تهوید المسیحیة عندما أصر على اعتماد التوراة العبرانیة بدلا عن كتاب “العهد الجدید”. وقد قام عدد من رجال الدین البروتستانت مثل القس الإنجلیزی جون نلسون داربی بإعادة قراءة العقائد المسیحیة المتعلقة بالیهود، ومنحهم مكانة متمیزة حتى أصبحت الكنیسة البروتستانتیة هی حاملة لواء الصهیونیة المسیحیة أینما حلت.
وقد حصل انشقاق داخل الكنیسة البروتستانتیة نفسها بسبب الیهود. فبینما أعرب بعض البروتستانت الإنجلیز عن اعتقادهم بأن الیهود سیعتنقون المسیحیة قبل أن تقوم دولتهم فی فلسطین، ذهب بعض البروتستانت الأمیركیین إلى أن الیهود لن یدخلوا فی المسیحیة حتى لو قامت إسرائیل وأن عودة المسیح هی الشرط النهائی لخلاصهم وتوبتهم ودخولهم فی الدین الذی جاء فیهم أصلا.
وقد تزعم القس نلسون داربی هذا الفریق وینظر إلیه على أنه الأب الروحی للمسیحیة الصهیونیة قبل أن یعمل العشرات من القساوسة على نشر نظریته تلك. ونشر ولیم باكستون الذی كان من أشد المتحمسین الأمیركیین لأطروحة داربی كتاب “المسیح آت” سنة 1887 وترجم الكتاب إلى عشرات اللغات وركز فیه على حق الیهود التوراتی فی فلسطین. وبلاكستون كان وراء جمع 413 توقیعا من شخصیات مرموقة مسیحیة ویهودیة طالبت بمنح فلسطین للیهود وتم تسلیم عریضة التوقیعات للرئیس الأمیركی آنذاك بنیامین هاریسون.
أما القس سایروس سكوفیلد فیعتبر من أشد المسیحیین الصهیونیین تشددا وقام بوضع إنجیل سماه “إنجیل سكوفیلد المرجعی” نشره سنة 1917 وینظر إلیه الیوم على أنه الحجر الأساس فی فكر المسیحیة الأصولیة المعاصرة.
كتاب “الیهود وأكاذیبهم”
تتباین المراجع التاریخیة فی تقییم ما قام به مارتن لوثر، فهناك من ینظر إلیه على أنه ثائر إصلاحی خلص الكنیسة الكاثولیكیة من الكثیر من الأساطیر اللاهوتیة التی أفسدتها، وهناك من یرى أنه أفسد العقیدة المسیحیة بمنحه الیهود مكانة رفیعة جعلتهم یستعملون المذهب البروتستانتی لتحقیق أهدافهم الخاصة، غیر أن الكثیر من المصادر تتجاهل حقیقة عودة مارتن لوثر عن الكثیر من مواقفه وآرائه خاصة تلك المتعلقة منها بالیهود.
وقد كتب مارتن لوثر فی آخر أیامه كتاب “الیهود وأكاذیبهم” أعرب فیه عن خیبة أمله من الیهود وأقر بالفشل فی استقطابهم لعقیدته الجدیدة. كما أقر فی شبه استسلام تلقفه الیهود قبل غیرهم بأن دخول الیهود فی الدین المسیحی لن یتم إلا عبر عودتهم لأرض فلسطین وعودة المسیح الذی سیسجدون له ویعلنون دخولهم فی الدین المسیحی حتى یعم السلام العالم.
_______________
كاتبة عربیة مقیمة بواشنطن
المصدر:الجزیرة

شاهد أيضاً

نفاق

ما هو النفاق من منظور الإمام علي(ع)؟

مقالات العربیة – ایكنا: یقول القرآن الکریم “لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ” وهکذا یبیّن لنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *