إسماعيل شفيعي سروستاني
وبعد المشروطة، فان منعطفنا المهم والتاريخي في إيران ، تمثل في الثورة الاسلامية، الواقعة التي كانت تحمل في طياتها السؤال من الغرب وإنكار أساس علم وجوده.
وبعد المشروطة، فان منعطفنا المهم والتاريخي في إيران ، تمثل في الثورة الاسلامية، الواقعة التي كانت تحمل في طياتها السؤال من الغرب وإنكار أساس علم وجوده.
وكان هذا السؤال مقدرا في الثورة الاسلامية، لانها إعترضت في الأساس والجوهر، على الإستغراب والانبهار بالغرب وأدى هذا إلى أن ينعت الغربيون منذ السنوات الأولى للثورة، هذه النهضة بالحركة الإصولية.
إن نعت الثورة الاسلامية في ايران بالإصولية، كان مسبوقا في الغرب لاسيما في الولايات المتحدة. لذلك فانهم ولاسيما المفكرين وأصحاب الرأي منهم، كانوا يشيرون وقبلنا نحن، إلى القوة الكامنة في النهضة الاسلامية للشعب الايراني.
لقد كانت الثورة الاسلامية، تعترف بغيب العالم وعالم الغيب وتعترض على النظرة الظاهرية والسطحية إلى العالم ولا تعتبر الإنسان كائنا أحادي البنية ومرتبط بعقل المعاش والحواس الظاهرة، بل تعتبره مسافرا في الطريق، يمر من المنزل الظاهر ليكتشف باطن وحقيقة الوجود والكون. وهذه النظرة الأصولية فصلت النهضة الاسلامية ودعاتها عن الانسان الغربي والعالم الغربي وكانت تذكر بهذه النقطة:
إن قدر لهذه النهضة أن تظهر بشكل كامل، فانها سترسي “تاريخا حديثا” و “فكرا جديدا” و “ثقافة وحضارة قائمة على الإنطباع الدين عن العالم”.
إن السؤال الجاد من الغرب، كان يجب أن يوضع في صدر المشروطة على جدول أعمال الحماة والحراس الثقافيين لهذه البلاد. إن ضرورة طرح هذا السؤال كانت بشكل بحيث أنه إن قرر سكان الشرق، التحول إلى النزعة الغربية التامة والكاملة في مختلف ميادين الحياة، فان الردود التي كانت ستحصل، كان بامكانها ان تمهد لهم السبيل للتحول إلى الطريقة والنزعة الغربية، لكن بما أن هذا لم يحدث، فان سكان البلدان الاسلامية، لم يصبحوا غربيين ولم يبقوا شرقيين.
ولم يكن مهما، العرض والطول الجغرافي للغرب أو الشرق، بل المهم كان الإنتماء والجذور وجوهر الإنطباع والنظرة الخاصة والمتفاوتة إلى العالم، ذلك الشئ الذي كان يفصل الغرب عن الشرق، الواقعة التي أدت إلى ألا يكون الشرق قائما بمفهومه الحقيقي، لانه اليوم وبرغم الإقامة والسكن في شرق العالم والتكلم بلغة الشرقيين، فان الجميع أضحوا يعيشون في كنف الثقافة والحضارة الغربية، ويتكلمون بلغة الغرب.
وفي مستهل تعرف سكان الشرق على الغرب، كانت صورة اللغة أي ألفاظها وأصواتها وعباراتها مختلفة كما سيرتها، أي حقيقة وجوهر علم الوجود الشرقي، وكان يضفي معنى ومغزى مختلفا وخاصا على الألفاظ والعبارات. وفي هذا الخضم، ساهمت عوامل مختلفة في الإستئناس بالثقافة الجديدة، بحيث أن الإنطباع العام لسكان الشرق عن العالم والانسان، تغير في ذيل التاريخ الغربي وأصبحت الصورة اللفظية للغة، تعكس معنى ومغزى الثقافة الغربية، لكنه لم تتيسر لسكان الشرق، إمكانية الدخول والسكن في العالم الغربي.
إن آلاف المفردات والمصطلحات الرائجة اليوم في الحوارات العامة والأعمال المكتوبة والفنية لهذه البلاد، تنشر اليوم بيننا الشحنة المعنائية والأدبية الغربية، وتسحب من جغرافيا أدبنا وأدبياتنا المفاهيم السابقة، بحيث أن أيا من المفردات والمصطلحات المهمة بما فيها التربية والنمو والفكر والعقل والعلم واللغة والفن والانسانية والأدب والكمال والعالم والشعب والقلب وما شابهها، لا تحمل المعانى والمفاهيم التي كانت سائدة ومعتمدة لدى مفكري وشعراء حقل الثقافة والحضارة الشرقية والإسلامية بمن فيهم مولوي وسعدي وحافظ وجامي وسنائي وعلماء وعرفاء حقل الدين والمعرفة الدينية، بل أنها وطنت مجمل إنطباعات الانسان الغربي ما بعد عصر النهضة والتي نشأت في العالم الغربي، بحيث قلما نجد أحدا منا يقف على تعريف وانطباع المتقدمين منا عن العقل والعلم والفن و… . بعبارة أخرى فان هذه المفردات والمصطلحات تحولت فحسب إلى أداة لنقل صورة عن مفاهيم الحقل الثقافي والفكر الغربي، وأصبحت آذاننا جاهزة للإصغاء إلى هذه المفاهيم الجديدة. وهذا جلب كارثة أكثر هولا، ألا وهي تقديم تفسير وترجمة حديثة عن أعمال مفاخر هذه الديار الشرقية والدينية. بعبارة أخرى، تحولت هذه الأعمال إلى أعمال دنيوية وغربية وعلمانية وتفسر العالم والانسان كما يفسرها الإنسان العصري.
إن هذا التحريف الفظيع وعلمنة المصادر الثقافية، أتى على لب وجوهر الثقافة الشرقية، وحول القشرة المتبقية منها إلى أداة للتفاخر والتبجح الجاهل. لذلك، فاننا أصبحنا لا نعيش في كنف الثقافة والحضارة الشرقية والايرانية والاسلامية، بل نسير في جغرافيا ايران القديمة كانسان غربي. إن هذه الواقعة، طرأت على جميع الأمم والشعوب، ولا يمكن اليوم العثور على بقعة من العالم بقيت بمأمن ومنأى عن هذه الغارة والتحول.
وكما قلنا، فان السؤال من الغرب، كان واجبا يثقل كاهل حماة وحراس حريم الثقافة الإيرانية، لكن ماذا يمكن فعله عندما، تغتصب جماعة من المثقفين بولع الموقع السامي لأهل الرؤية والفكر وتحل محلهم. وحينها وبولع ومن دون أي تساؤل، تذهب لإستقبال الغرب وتجر معها عوام الناس.
ومنذ تلك السنوات وإلى يومنا هذا، فان الحديث عن الموضوعات، بات حكرا على جموع محدودة لم تضطلع بدور يذكر في التطور الثقافي وتشكيل السيرة والصورة التاريخية لحياة الشعوب المسلمة، ولم تملك صلاحيات في هذا المجال.
يذكر أنه على مدى كل العقود المنصرمة، منذ عهد ناصر الدين شاه وحتى عام 1979، فان جميع رؤساء الوزراء والوزراء وأساتذة العلوم الانسانية والشعراء والكتاب و… في هذه البلاد إما خضعوا مباشرة للتعليم على يد المعلمين الماسونيين (الماسونيون من أنصار المذهب الانساني) أو كانوا متأثرين بالماسونية ممن نشروا الأدبيات والأدب الذي تعلموه من معلميهم في الأوساط المختلفة، بحيث أن أساس النظام التعليمي والتربوي في ايران بني خلال كل هذه السنين على أساس الأفكار الغربية، مع اختلاف أساسي ألا وهو إن أيا منهم لم يتمكن من التحول إلى النزعة والفكر الغربي بالكامل بل تأثروا فحسب بأشكال الحضارة والثقافة الغربية، فاصبحوا منبهرين بالغرب وأرسوا بذلك تاريخ الإنبهار بالغرب لهذا الشعب على مدى مائة عام وخمسين عاما.
إن حادثة الإستغراب والإنبهار بالغرب إجتاحت ثلاثة ميادين عامة في حياتنا:
1- الميدان النظري وعلم الوجود للمسلمين بمبادئه وأسسه الخاصة التي تشكل أساس وجوهر حياتهم؛
2- الميدان الأدبي والثقافي بوصفه روحا توجه جميع علاقاتهم ومناسباتهم على امتداد التاريخ وتجعل من الممكن فرز وتشخيص منطلق المسلمين ووجهتهم ومسارهم عن سائر الأمم، لاسيما الأمم الغربية التي أرست بعد عصر النهضة أساسا جديدا في الحياة على يد المفكرين والفلاسفة.
إن جمعا كانوا يظنون، إنه سيكون من خلال هذا الأسلوب، أي تقليد صور الحياة والمدنية الغربية، بوسعهم التحول إلى النمط والنزعة الغربية بالكامل مستقبلا، لكن لم يمض وقت حتى نبذوا ورفضوا من الغرب وأصبح لا حول لهم ولا قوة في الشرق، بل وصموا بالمنبهرين المنفعلين بالغرب فحسب.
3- الميدان الحضاري، وفي هذا الميدان، ظهرت جماعة أخرى كانت تظن أنها ستكون من خلال تطهير هذه الثقافة الأجنبية، واقتباس المدنية وأشكال الحياة الغربية قادرة على السير في العالم الديني الشرقي، لكن ما إن استفاقت، حتى وجدت بعد التراجع التدريجي أنه لم يبق لها سوى صورة باهتة وطبعا علمانية ودنيوية عن الدين. وبالتالي فقد هبط هؤلاء في محطة الإستغراب والإنبهار بالغرب بين الصورتين الغربية والدينية.
إن حماية وصيانة المبادئ والأسس النظرية وتعميمها على جميع الحقول والساحات بما فيها الحياة الاجتماعية والمدنية، كانت مهمة الرجالات وكبار أهل الرؤية والنظر، إلا أن حكاية القافلة التي خرجت من ميقات الشرق لكي تكون بعد سلوكها الدرب، شريكا للغرب وتاريخه، هي حكاية أخرى. القضية التي جلبت العصرانية والسير على خطى العصرانية والحداثة فحسب.
ولا شك بانه في خضم الضوضاء والإستعجال وغلبة النفس الأمارة، فان أول جماعة تبقى منسية هم أهل النظر وأول موضوع يترك من دون اهتمام هو النظر.
وبعد واقعة المشروطة التي اعتبرناها المنعطف الأول، كانت واقعة الثورة الاسلامية الكريمة، المنعطف الثاني لسير وسفر شعب هذه البلاد. وهذه الواقعة قرعت أجراس نهاية تاريخ الإلحاد والنفاق في ظل المشيئة والوقت السماويين وبالإتكاء على إمامة رجل عار عن شوائب الإنبهار بالغرب وبالتماشي مع شبان ثوريين.
إن ما كان يفصل هذين المنعطفين عن أحدهما الآخر، هو المكانة والظرف التاريخي للغرب الذي كان مع الظهور المكتمل للتكنولوجيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، قد بلغ آخر مرحلة من مراحل النمو واستعراض جميع قدراته.
إن تاريخ وقوع الثورة الاسلامية تقارن مع السنوات النهائية لتاريخ الغرب، في حين أنه في صدر المشروطة، كان الكثير من المفكرين والمثقفين الغربيين، يسمعون صوت إنهيار القلعة الحصينة لتاريخ التمرد والإستبداد هذا وكانوا يتحدثون عنه في أعمالهم ، إلا أن الشرقيين بمن فيهم الإيرانيين المنادين بالحداثة والعصرانية، لم يكونوا جاهزين للإصغاء إلى هذه الرسالة وكانوا ينظرون إلى مستقبلهم في مرآة الحضارة الغربية.
لكن ما يبعث على الأسف البالغ أنه على الرغم من جلاء واتضاح هذه الواقعة وتوافر الظروف، فان السؤال من الغرب، أغفل مرة أخرى، بحيث أنه بعد السنوات التي أعقبت إنتصار الثورة والحرب، أجهزت الرغبة والتعطش إلى الحداثة والعصرانية مرة أخرى بلون وحلية مغلفة بثقافة إسلامية وشرقية على جماعة كانت تمسك بزمام جميع الأمور باعتبارها تضطلع بدور المدير والمعلم.
یتبع إن شاء الله