اسماعیل شفیعی سروستانی
ومن يُسلّم بهذه الفرضية فانه يكون جاهزا بشكل طبيعي لتوسيعها في جميع المجالات ويحتسب بان مبدأ ” الإرتقاء” أو “تطور الأنواع” هو قانون ثابت في جميع الحقول والميادين.
ومن يُسلّم بهذه الفرضية فانه يكون جاهزا بشكل طبيعي لتوسيعها في جميع المجالات ويحتسب بان مبدأ ” الإرتقاء” أو “تطور الأنواع” هو قانون ثابت في جميع الحقول والميادين.
– لا أفهم، كيف يقوم بتوسيع هذه النظرية في جميع الحقول؟
– أنظر، عندما عرضت هذه الفرضية من قبل داروين وتلامذته، قال بعض المثقفين الأوروبيين الذين لديهم دراسات وبحوث في مجال العلوم الإجتماعية بان مبدأ “الإرتقاء” أو “التطور” لا ينحصر على “علم الأحياء” بل يمكن توسيع نطاقه ليغطي التطورات الإجتماعية والتاريخية. واستمرت هذه النقاشات إلى أن أعلنوا أنه بنفس الطريقة التي تغيرت فيها الكائنات البدائية ووجد من بينها آدم، فان الأوجه البدائية للأفكار الاجتماعية قد تغيرت أيضا وأصبحت اليوم متكاملة. لذلك فان كل ما يقبل به الإنسان السابق (السالفون)، بما فيها المعتقدات الدينية والفلسفية لا تفيد لهذا العصر وبالتالي فان ما نتحدث عنه اليوم أي الفكر التنويري هو أكمل الأفكار.
لذلك ووفقا لمبدأ الإرتقاء، ذهبوا إلى الاعتقاد بان إنسان اليوم اكتسب أكمل وأزيد المعرفة عن الكون وأصبح في غنى عن الكتب السماوية والأنبياء الإلهيين و… .
وشيئا فشيئا أصبح الذين يتعرفون تدريجيا على الأقوال العلمية الجديدة يتهمون من دون معرفة القصد الذي يكمن خلف هذه الافكار، الذين يتحدثون عن الدين والقيامة والروح و… بالخرافة والتخلف.
وهذه الأفكار أوصلت المتنورين والمنبهرين بالتنوير الفكري إلى التسليم بان “الدين” لا علاقة له بالحياة وأنهم يبنون ويصنعون حياتهم تأسيسا على العقل المنقطع عن الوحي. ومن أراد فليذهب ليمني النفس بدينه وخرافته.
وكان أتباع الديانات يعارضون هذه الرؤية، لأنهم كان لديهم تعريف ونظرة مختلفة عن الانسان والعالم وكانوا يتساؤلون: ما شأن تقدم الانسان وتغير نوعية ملبسه ومأكله بالإرتقاء والكمال والنمو وما شأن “تطور” الأدوات العادية لحياة الانسان بسموه وكماله؟! وبناء على ذلك كانوا يقولون أنه على الرغم من أن الإنسان قد يملك أفضل أدوات العيش، لكن هذا لا يعني بان دركه الروحاني والمعرفي قد ارتفع وتنامى وارتقى بالتالي معنويا لأن حياته والأدوات العادية لحياته قد ارتقت؟!
إن خريجي مدرسة التنوير الفكري أستندوا في الحقيقة إلى مبدأ “التقدم” و “الرقي” ليعتبروا بانهم في غنى عن الاهتمام بعالم المعنى و”المعنوية” التي كانت مبدأ بالنسبة للاجيال السالفة، ولذلك فقد صبوا جل اهتمامهم على “العالم المادي” و”العالم الترابي”. الشئ الذي كان يضعه السابقون في المرتبة والمقام الثاني. والسبب هو أن هؤلاء كانوا ينظرون إلى الدنيا ك”جسر” للعبور، الجسر الذي يوصلهم إلى مزرعة المعرفة والرشد والكمال.
– وفي ضوء هذا، فان صنفين من الانسان وجدا بفكرين مختلفين حول أصل الانسان وجذوره؟ فان رسمت لي من خلال مثال صورتين عن هذين النوعين من الانسان وأفكارهما، سأفهم الموضوع بشكل أفضل.
إن أحد التباينات الجادة والأساسية بين نظرة المتأخرين والقدماء يكمن في أن القدماء كانوا يؤمنون بتمامية موحدة في منظومة الوجود ومن أن جميع الأجزاء المتفرقة في العالم هي على ارتباط وعلاقة ببعضها البعض ومع الوجود ككل. ولهذا السبب فان نظرتهم إلى الكون والوجود لم تكن سطحية. وكانوا قد توصلوا إلى نتيجة مؤداها بان شيئا آخر يقبع خلف هذه الصورة والظاهر العادي للحياة، أي أنهم كانوا متيقنين بان ما يرونه ليس أزهارا وجبالا وغابات وأحجارا، بل أن الماء والجبل والزهرة والغابة والحجارة هي كلها صور تعكس أمرا خفيا إن اكتسب أحد معرفة تجاهه قد يستطيع الافادة من تلك القوة المعقدة أو أن يصبح في خدمة تلك القوة ويواكبها للوصول إلى المزيد من المعرفة والسكينة والإستقرار.
لكن الانسان العصري يتنكر لوجود سرّ في الوجود ولا يقبل بسلطة قوة أشمل على الكون. ويظن بان الوجود ككل يقتصر على الشئ الذي يدركه بمدد الحواس ويرى أن أداة الحواس الانسانية كافية لدركه، لكن الحقيقة هي أن سرا وروحا تهيمن على الوجود بمجمله وتنجز عملها سواء أراد هذا الانسان أم لم يرد.
وذات مرة قرأت بمقتضى الضرورة مجموعة من أعمال أمريكي متخصصي بعلم الأعراق البشرية. والآن حيث تحب أن تعرف الفارق بين الجيل الحاضر والأجيال الفائتة، فاني أستعين بما قرأته في أحد هذه الكتب لتبيان وتوضيح هذين الانسانين المختلفين وأسرد لك تحليلي الشخصي. وواثق من أنك ستفهم الفارق بين هذين الاثنين إن أمعنت في التدقيق.
وكاستاندا عالم الأعراق البشرية الأمريكي يقابل خلال دراساته وبحوثه هنديا أحمر مكسيكيا يدعى دون خوان. وكاستاندا هو دارس وأكاديمي ومتخصص في العلوم الحديثة وخبير بعلم الاعراق البشرية وأمريكي مثقف اعتبره في هذه الدراسة رمزا لجميع الذين يعيشون اليوم في أرجاء المعمورة. وعليك أن تفترضه ممثلا لشعوب العالم المعاصر، لانه لا فارق كبيرا بينه وبيننا الذين نعيش في هذا الجانب من العالم.
ويرى كاستاندا، أن دون خوان هو هندي أحمر عامي وأميّ فاقد للعلم والمعرفة وبهذه العقلية يتعاطى معه ومن أنه لا يفهم شيئا، مثلما أننا نعتبر اليوم بعض مصادرنا وأعمالنا القديمة حصيلة أفكار أناس سذج وأميين ومتخلفين وبلا علم. وطبعا من منطلق التعريف الجديد الذي قدم حول العلم. لذلك فان دون خوان هو رمز للانسان المتبقية لديه رواسب وتراكمات من فكر إنسان ما قبل عصر التنوير الفكري.
وفي أول تعاط له، يجد كاستاندا نفسه غريبا تماما في العالم الذي يعيشه دون خوان، مثلما أننا نرى أنفسنا غرباء في عالم قدمائنا ونستشعر بان لا رابط يربطنا مع بعض. أي أننا إنسانان إثنان متعلقان بعالمين مختلفين.
وبما أن كاستاندا ربيب عصر التنوير الفكري، فان نظرته تختلف كليا عن نظرة ذلك الانسان العامي المؤمن بقناعات ومعتقدات العصر السالف.
إن كاستاندا هو مثال للانسان الأناني بكل معنى الكلمة. إنه يأتي بعلة وسبب في ذهنه لكل شئ يراه. إنه يعتبر إنطباعه الحسي وسيلة لمعرفة العالم والانسان ولا يمكن له أن يقبل أبدا بان ثمة أساسا ومكانا خارج وجوده للمعرفة وتعريف الوجود والكون. إنه يجعل نفسه محورا ومدارا للكون ككل ويرى أن دركه يكفي لتحديد إحداثيات العالم. لكن دون خوان الذي هو رمز للانسان التقليدي القديم، يعتبر أن الكون هو مجموعة متشابكة يسودها الغموض ولا تضع أسرارها بتصرف أحد بهذه البساطة، وأن الانسان بوصفه جزءا من هذه المجموعة، أعجز من أن يقدر على الإلمام بها. إنه يؤمن بانه يمكن من خلال مواكبة هذه المجموعة الوصول إلى بعض أسرارها. إلا أن كاستاندا باعتباره رمز الانسان العصري، يعتبر الأشياء والنباتات والحيوانات والأشجار والزهور والأحجار بانها ظواهر يمكن له أن يتعرف عليها من خلال قدراته وأن يتصرف معها كيفما يشاء. ويرى بان دون خوان باعتباره رمز الإنسان التقليدي، لا يعتبر أيا من الظواهر والكائنات، شيئا لا لسبب إلا لكونه يعيش في عالم آخر، بل يعتبرها تملك روحا هي بتصرف الروح الكلية والمعقدة التي تسود الوجود بمجمله.
إن كاستاندا ومن منطلق اللامبالاة لا يأخذ على محمل الجد أيا من معطيات وقناعات دون خوان ويطلب منه أن يخدمه لقاء مبلغ من المال يمنحه له. لكن دون خوان الذي يعرف أنانية وكبر كاستاندا ويدري أنه لا يعتبر أحدا غيره سيدا للعالم ويرى بان العالم سلعة يمكن شراؤها وتحويلها إلى أي شكل أراد، يصبح بصدد إفهامه بانه على النقيض مما يفكر ويظن، فان العالم ليس سلعة تُباع وتُشترى.
وفي هذه الرحلة التي يسعى فيها كاستاندا للعثور على نبتة غريبة، يطلب منه أن يفصل النباتات المختلفة عن أغصانها ويعطيها له لكي يتعرف عليها ويستفيد منها، لكن دون خوان يسعى لإفهامه بأن النباتات ليست من أجل أن تُشترى وتستخدم في مصانع انتاج الأدوية فقط. بل أن النباتات تملك بدورها روحا خفية تبدي ردة فعل وتتخذ موقفا من التعامل السلطوي للانسان معها. وكاستاندا غير القادر على فهم ودرك كلام دون خوان، يسخر منه، لكن تصرف دون خوان المتزن المتلازم مع الإستغناء، يحدث تزلزلا وهزة رهيبة في وجود كاستاندا.
وعندما يرى دون خوان الضعف الروحي لدى كاستاندا، يأخذه معه في رحلة إلى أعماق الارض ويلفت انتباهه رويدا رويدا إلى أنه غير قادر على درك الطبيعة وبل أنه ينظر إلى الطبيعة فحسب، وبما أنه ينظر فقط، لذلك لا يرى وجودها المستتر.
والآن لنرى لماذا يتهم دون خوان، كاستاندا بالنظرة السطحية إلى الطبيعة، لان كاستاندا تعوّد على إلقاء نظرة سريعة وسطحية ومن دون تفكير إلى الاشياء، وذلك على النقيض منه المولع بايجاد علاقة وصلة حيوية مع الطبيعة ليكون بذلك قادرا على الرؤية، ومن أجل أن يجعل عيني كاستاندا قادرتين على الرؤية، يجب تمريره بمراحل وأطوار مختلفة.
ويُلقن دون خوان، كاستاندا الذي يمر على كل نبتة وزهرة بطيش وغير مبالاة فيقطفها ويكسرها ويسحقها، بان النباتات تتمتع بالحس الذي تستحقه في الطبيعة، ويُفهمه بان الحادثة في عالمه (عالم كاستاندا) لا معنى لها، ومن ثم يرفض وجهة نظر كاستاندا حول وقوع الحوادث في عالم الوجود، ليقول له: إن القوة التي لا تعرفها أنت، أرشدتك نحوي وأن تعاملنا معا، لم يكن حادثا عرضيا بل هو مدروس بامتياز، لكي تكون قادرا على الاضطلاع بالدور الذي تحمله. وكاستاندا الذي لا يؤمن بحضور الانسان ودوره في الكون والحياة ولا يتقبل وجود أي سر في الكون ولا يعرف القوة التي تحكم العالم، وهو ممثل جيل يعتبر الانسان قادرا على إنجاز جميع الفنون والأعمال، لا يمكن له أن يتقبل بان قوة ما وراء طبيعية قادرة على توجيهه باتجاه محدد. وان الشعور بالارادة المستقلة، يضفي عليه تكبرا وغرورا خاصا لدرجة يدفعه إلى العصيان والتمرد.
لكن الإرادة المستقلة لا معنى لها في عالم دون خوان. فالارادة متعلقة بروح خفية، لكنها مفعمة بالقوة وهذه الروح القوية والمقتدرة تشرف على جميع الظواهر. ويذكرّ دون خوان، كاستاندا بنقاط في الطبيعة، إلى أن ينتبه هذا العالم الأمريكي المتخصص بالأعراق البشرية شيئا فشيئا بانه يبدو أن ثمة شيئا يتميز ويتفوق عليه.
ويقول له دون خوان، أنه مثلما أنك جئت إلى هذا العالم للإضطلاع بدور، فان أيا من الكائنات والمخلوقات لها شأن ومقام محددين ومن ثم يساعدة على اصطياد أرنب ويقول له: إن زمن لعب الأرنب في هذا السهل كان قد انتهى، لذلك فان تلك القوة الخفية، أرشدته نحوك وبالتالي فان الأرنب لم يكن يملك ارادة. لقد انتهى عهده عندما وقع في فخك. إعلم بانك أتيت من أجل الاضطلاع بدور ولست خالدا، وأن تلك القوة التي قدمت لك الأرنب اليوم، ستقدمك يوما ما إلى الموت.
ويلفت دون خوان في هذا الحوار، إنتباه العالم بالأعراق البشرية الامريكي إلى الخالق والموت، الموت القريب من الانسان جدا، ويؤكد بان الموت سيأتي إليه بامر من تلك القوة الخفية، عاجلا أم آجلا، لكن الموت في عالم كاستاندا لا معنى له سوى تآكل مكونات وأعضاء الجسم، وأن هذا التآكل حركة طبيعية.
إن “الموت” بالنسبة لكاستاندا هو حادث يأخذ به إلى عالم مظلم وحالك وغامض. ولا يفكر بالشئ الذي يخاف منه ويسعى لإرجاء وقوعه، لانه يعتبر العيش على الأرض، بانه الحياة الرئيسية، الحياة التي لها معنى في الحاضر ولا علاقة لها بالمستقبل وعالم ما بعد الموت. وهذا دفع بكاستاندا وآخرين على شاكلته، لاعمار عالمهم المادي فحسب، وأن يوظفوا كل شئ في هذا الطريق، وينتهكوا كل قاعدة وقانون ويعتبروا بنخوة وكبر، أن كل الخليقة والعالم، هم في خدمتهم ويظنون أنهم إن دفعوا مالا، فانهم سيملكون كل شئ لقائه، ولذلك فانهم يدمرون كل نظام الطبيعة، ويدوسون بالإقدام على التقاليد ويستهزئون بكل المعتقدات ويتسببون بوقوع كوارث طبيعية وبيئية ويعكرون صفو حياة الآخرين.
وهذا الإنطباع يدفع بكاستاندا وأمثاله للنظر إلى كل الكون والمخلوقات بنظرة الأشياء عديمة الروح. ويعتبرون الزهور والنباتات والبحار والسماء والأرض وجميع الحيوانات الأخرى بانها أشياء يجب الإستيلاء عليها لكي يبني هذا الانسان، جنته المفترضة، متجاهلين أن هذا يخلق في سيرورته التدريجية، أزمة ويعيق مواكبة الانسان للكون والطبيعة، لأنه يصبح غير قادر على سماع الإيقاع السائد بين الكون كله ورحلة الكائنات للوصول إلى الكمال.
يجب أن تعرف بان نظرة دون خوان هي أعمق من كاستاندا. إن معرفته ليست دينية، لكنها أقرب إلى المعرفة الدينية، وإن انتبهت إلى ما تبقى من الأساطير الايرانية والهندية والصينية القديمة ستجد بانهم وصلوا إلى درك عن الوجود بفعل التجربة لكن ليست التجربة الحسية فحسب بل مشاهدة الحوادث والتطورات بصورة طبيعية بحيث أن دون خوان وأعماله وسلوكياته تذكرنا بها.
وعندما كان أولئك يواجهون العواصف والزلازل والحوادث الطبيعية الأخرى، كانوا سيعتبرون أن القوانين والعلل المادية هي السبب الوحيد لوقوعها إن أرادوا مثلنا الإكتفاء بمشاهدة الظواهر. فمثلا كانوا سيعتبرون تداخل المنخفضات الجوية الباردة والساخنة السبب في هبوب الرياح والعواصف وغيرها، لكنهم وفي ضوء إيمانهم بوجود عامل خفي وقدرة ماورائية تؤثر على جميع الأشياء، كانوا يدركون بان أعمالهم وسلوكياتهم تسهم في نشوب ردات فعل الطبيعة وكانوا يحاولون اكتشافها من أجل النأي بانفسهم عن الوقوع في مدار ومسار يؤدي إلى حدوث البلاء والكارثة أو العكس. أضرب مثالا لكي يتوضح الأمر لك.
واليوم عندما نواجه ضائقة في العيش أو نقصا في تساقط الأمطار نرفع أيدنا إلى السماء للتضرع والدعاء، أليس كذلك؟
– لماذا؟
– الدعاء، هو التوسل إلى عامل خفي لكنه حقيقي وواقعي. عامل موجود لكنه لا يُدرك بواسطة حواسنا الظاهرة، إلا أننا ندرك ونلمس حضوره ووجوده بواسطة وجداننا وقوة إدراكنا. وطبعا هذا لا يعني نبذ العوامل والقوانين المادية التي نسميها “السنن الإلهية”. وإن رجعنا إلى مصادرنا وكتبنا الثقافية وحتى الأمم الأخرى (قبل أن تُصاب بالتنوير الفكري) سنجد نماذج وأمثلة كثيرة على ذلك.
وهل بوسعك القول أن الجحود بالنعمة لا علاقة له بنقص في الرزق؟ وألا نقول بان الإساءة إلى الأب والأم تؤدي إلى قصر عمر الانسان، وألا نسعى لدفع الصدقة من أجل إبعاد البلاء والآفة عنا؟
وإن أمعنت في التدقيق ستجد بان إيمانا يكمن خلف كل هذا. الإيمان بوجود قوة وقوى ماورائية، لكن مؤثرة وحقيقية. ترى للأسف أن مرض التنوير الفكري حرمنا من درك الطبقة الخفية للوجود. عسى أن أقدم لك مزيدا من التوضيح في فرصة أخرى.
– صحيح! لكني ومن خلال إختلاطي في المجتمع، شاهدت الكثير من الدارسين ممن يدافعون في حواراتهم ونظرياتهم عن الرؤية العلمية ويقيسون كل شئ بمقياس العلم ويرفضون كل ما هو غير علمي، لكنهم وأثناء وقوع البلاء أو مواجهة المسائل والمشاكل التي لا قدرة لهم على حلها يبتهلون إلى الله تعالى ويتوسلون بالنبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) ويستعينون بالقوى الغيبية.
– وهذه الكارثة تسببت بها “العلوم التجريبية” الحديثة لجميع البشرية وخاصة أمم الشرق. وأشير هنا إلى شعوب وأمم الشرق خاصة لإنها تملك خلفية دينية عريقة.
إن هذه العلوم وكما هو واضح من إسمها تهتم وتؤكد على “التجربة”. التجربة التي تتأتى من خلال حاسة اللمس أو الحواس الإنسانية الأخرى. وهؤلاء يصابون بالشك والترديد عندما يتواجهون مع كل شئ لا يمكن تجربته حسيا، مثل الروح والقوى ماراء الطبيعية وما شابهها. لأن الدارسين والمتعلمين المعاصرين تعلموا تدريجيا من دراية أو دون دراية بان العلم يقع في نطاق العلوم التجريبية وأن جزءا من التعاليم الدينية والعقائدية يخضع للشك أو حتى الرفض لأنه لا يمكن تجربته بالحواس المادية. وبعد عدة أعوام من الدراسة يبدأون بالإستهزاء من الآداب الدينية ويعتبرون أن تلك الآداب والتقاليد، خرافة ويعتمدون العلوم التجريبية كمقياس ثابت لقياس وتأكيد صحة أو حتى أحقية وعدالة كل شئ، لكن ثلاثة أمور لا تفارقهم:
1- التعاليم التي اكتسبوها في طفولتهم (لاسيما في العصر الذي تعاملوا فيه مع رجال ونساء تقليديين ومتدينين)؛
2- الفطرة الإلهية والنفسية التي تسيطر على جسم جميع أبناء البشر؛
3- تجربة بعض الحوادث والوقائع التي لا يملك العلم التجريبي جوابا لها.
وفي البلدان الشرقية لاسيما المجتمعات الاسلامية، ينمو الأطفال ويترعرون في أجواء ومناخات دينية نسبيا وتبقى التعاليم غير الرسمية لتلك الحقبة ماثلة في ذاكرتهم ومنقوشة على صفحة فؤادهم. وهذا التعاليم تُظهر بين الفينة والفينة إنفصالها وتعارضها مع تعليمات العلوم التجريبية وتؤثر على سلوكيات هذا المتعلم والدارس الجديد. ومن جهة أخرى فان الإنسان وفطرته لها إيقاعها ونكهتها الخاصة بحث أنها تلفت في بعض الأحيان حتى إنتباه أكثر الناس غفلة إلى وجود علم أسمى وأرفع من العالم المحسوس والتجريبي. صوت من الداخل لا يمكن لأي كان أن يتجاهله أو ينفصل عنه.
والصرخة التي يطلقها جميع الناس من أعماق قلبهم من دون وعي أثناء مواجهة حوادث مروعة مثل غرق سفينة في البحر، هي صرخة نابعة من روحهم وفطرتهم. وفي تلك الأثناء يتوجه الجميع نحو وجهة يقول ما في داخلهم أنها موجودة ويجب استدعاؤها، وحتى أنهم واثقون من تلقي الجواب. نعم، إن معظم الناس يواجهون طيلة حياتهم أحداثا غريبة ومذهلة، مثل تماثل شخص مصاب بمرض عضال للشفاء فجأة.
ونشرت مجلة “نيوزويك” الأمريكية مقالا في مايو 2000 بعنوان “متى تحدث المعجزة؟” ذكرت فيه أن 84 بالمائة من الامريكيين الراشدين يؤمنون بالمعجزات الإلهية وإن نحو 48 بالمائة منهم قالوا أنهم شهدوا معجزة أو جربوها شخصيا. واللافت أن هذه المقالة ذكرت أيضا بان 43 بالمائة من الأشخاص غير المسيحيين والذين ليس لديهم أي إيمان يقولون أنهم دعوا الله في لحظات للتدخل في حياتهم.
وقد تكون شاهدت النسخة القديمة لفيلم “تايتانيك”. وفي آخر لحظة وعندما كان نصف السفية تقريبا قد غطس في الماء، رفع جميع المسافرين الذين بقوا على متن السفينة، أيدهم إلى السماء للدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
إن الأمل في آخر اللحظات هو روعة الروح الإنسانية. عقد الأمل على قوة خارقة للعادة وماوراء تجربة الإنسان والتي يمكن لها أن ترفد الإنسان وتؤازره. والذين يستفسرون عن هذا، هم أناس مثلي ومثلك، مصابون بمجموعة من التعليمات، قسم منها تعليمات تجريبية والقسم الآخر باطنية. وعندما يجد هذا الإنسان أن المشكلة تفوق قدرته أو العلم المعاصر، يتوجه إلى وجهة أخرى على أمل أن يجد خلاصا وملاذا منها، ويبدأ من هنا توجهه نحو الله والنبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) والطلب منهم لحل المشكلة. والطريف أنه إن حصل على جواب، فانه يقدم الشكر والعرفان لفترة، ومن ثم يعود إلى المربع الأول، وهذا ناجم عن غفلته ونسيانه.
– لِمَ نهتم نحن اليوم بمكاسب الغرباء أكثر من اهتمامنا بماضينا الثقافي، وما سبب وجود كل هذا الولع والاشتياق لتحديث كل شئ؟
– إنك تسمع حتما بمفردة “الحداثة” و “العصرنة” عشرات المرات يوميا، لكن في السنوات الأولى التي تعرف فيها الايرانيون على الغرب، كان مصطلح “التجديد” والمتجدد” أكثر شيوعا. وإن رجعت إلى صحف ومجلات ذلك العصر، ترى مفردات ومصطلحات مثل الموضة وآخر موضة وعلى الموضة و… . ومن يعتبر “الحاضر” مهما بالنسبة له، فانه من أنصار الموضة أو التجديد. وأبسط صور هذه الثقافة والأخلاق تتجسد في “عبادة الموضة” والتصرف وفقا لما تمليه قضايا الساعة والعصر.
إن عبادة الموضة والتجديد وحتى كما يقول القدماء التوجه نحو الفرنج، يشكل الوجه الثاني لعملة الرقي. وإن من آمن من دون إرادة وعلم بمبدأ الرقي وأدار ظهره للماضي وكل أشكاله، فانه يلجأ إلى الحداثة، لانه يظن بان كل سعادته تتأتى من خلال تبعيته ل”الموضة” أو “الحداثة” وأن الجيل المعاصر يتفوق على القدماء، لان ظاهر حياته قد تغير، أي أن الانسان الغربي المعاصر وحتى المستغربين منا هم أفضل وأكثر فهما من جميع الحكماء والأنبياء والمفكرين والفلاسفة والفنانين والأدباء والشعراء السابقين ووجدوا الطريق الذي يوصلهم إلى السعادة والفلاح.
وهل فكرت أبدا بهذه الجملة التي يستخدمها معظم الشبان والأحداث بشكل دائم في كلامهم ألا وهي “يعجبني أن”؟ إنها عبارة بسيطة للغاية، لكن إن دققت مليا ستجد شيئا آخر من ظاهرها البسيط.
وعندما يقول أحدهم بحسم “ما يعجبني” و “ما أحب” و… فان “أنا” أو “نفسي” و “قلبي” تدخل على الخط وتتولى مهمة القياس والتقييم. وفي الحقيقة فان هذا الانسان هو الذي يشخص ويحدد صلاحه وفساده ويشعر بالإستغناء لانه يتصرف وفقا لمعاييره ومقاييسه ورأيه. إنه يعتبر نفسه هو الأصل والأساس.
يجب أن تعرف بان كون الشئ “أصلا وأساسا” في المصطلح الفلسفي يعني “الأساس الذي تُبنى عليه جميع القضايا والأحكام ويتم إثباتها بواسطته” لكن لا يتم الإستدلال بشأن الأساس أو الأصل نفسه بل يفترض أنه بديهي.
وفي جميع الديانات سواء المسيحية أو اليهودية أو الاسلام فان “الأصل” المسلم به والمشترك والحقيقة الأصيلة هي “الله” وحده وكل شئ يظهر إلى الوجود من خلال الانتساب إليه، أي أنه المعيار والمحك الذي يتم بواسطته قياس وتقييم جميع الاشياء كما أن الانسان ينظم عمله وقوله وفقا له ويقبل بالشئ الذي يتوافق مع إرادة الله وإن لم يكن كذلك، فانه يتخلى عنه حتى وإن كان يعجبه ويحبه كثيرا.
وبلا شك فقد قابلت طيلة حياتك رجالا ونساء يتحلون بالايمان ممن يسعون لان تكون جميع أعمالهم لله. إنهم يقبلون ويرضخون بالكامل لجميع الأحكام السماوية. وهؤلاء أناس يضفون الأصالة على معتقداتهم من خلال الله وأحكامه ويعتبرونه هو الأصل الثابت والوحيد.
وبهذه المقدمة، أستطيع الان الرد على سؤالك، ومن أن أساس التجديد والحداثة، يكمن في إضفاء الأصالة على الأهواء والرغبات الانسانية وشهواتهم النفسية. الانسان الذي لا يريد وفقا لرؤية وفكر آبائه وأجداده أن يرضخ للحكم السماوي بل أن تمنياته القلبية تشكل الأصل بالنسبه له. وهذا الفكر الحديث يطلق عليه اصطلاحا “المذهب الانساني”. فالمذهب الانساني يعني الإيمان بأصالة رأي الانسان في مقابل أصالة أمر الله. أي إضفاء الطابع البشري على كل الأمور بدلا من الطابع الالهي. وفي هذا النوع من الفكر، يجعل الانسان حكمه محل الأحكام الدينية والإلهية.
– تقصد إذن بأن المتنور يتبنى فكرة المذهب الانساني؟
– نعم. ولهذا السبب فان المتنورين أكانوا غربيين وأوروبيين أو شرقيين وإيرانيين، يشتركون جميعا في كونهم يعارضون “الدين” والأحكام “الدينية”. فالتنوير الفكري لا يلتقي مع التدين، لان الانسان المتنور وفي ضوء الخلفية والشرح الذي قدمته لك، يؤمن ب”أصالة الانسان” أو “المذهب الانساني” لكن “المتدين” يؤمين ب “أصالة الحق” وما يطلق عليه اسم “التأليه الديني” أو “التوحيد”. وواضح أن هذين الاثنين لا يجتمعان.
– متى دخل هذا الفكر أو كما تسميه هذا التيار إلى ايران؟
– إن هذا التيار له ماض مديد. فقد تحول التنوير الفكري في القرن الثامن عشر للميلاد والمعروف بعصر التنوير الفكري إلى ثقافة عامة في المجتمع الأوروبي ما بعد حركة النهضة. لكن وقبل أن تطرح سؤالا آخر، يجب أن أقول باني سعيد لكونك تتابع هذا البحث بولع وتشوق. فان رغبت فبامكانك تسجيل بعض المعطيات المفتاحية لديك.
– نعم! أظن أن من اللازم فعل هذا. وحاولت الاسبوع الماضي تسجيل خلاصة ما فهمته.
– وثمة كتب مختلفة يمكنك مراجعتها.
– سيد مهدوي أفضل أن أصغي، لاني مع سماع أجوبة أسئلتي أكون قادرا على تشخيص الرابط بين الموضوعات.
– وهل ترغب بكأس شاي؟
– يعني ذلك أن نكتفي بهذا القدر؟
ضحكت لكلامه هذا. كنت أفضل أن تكون لديه فرصة للتفكير بما سمعه. ولذلك قلت:
– ثمة فرصا كثيرة، ولا بأس من المشي قليلا في المتنزه واحتساء كوب شاي.
قبل ذلك وقال: حسبما تريد.
جمعت الدفتر والكتاب والأوراق المتناثرة على المقعد ووضعتها في حقيبتي. وقد أعجبني أدب أسعد وحُسن سلوكه. تمشينا باتجاه المقصف الكائن بوسط المتنزه. أدخل يده إلى جيبه لاخراج النقود ودفع مبلغ الشاي، فمنعته.
– كلا أسعد! لقد دعوتك أنا، وسأدفع المبلغ بنفسي.
ورغم أن الأمر كان صعبا بالنسبة له لكنه قبل.
وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة، حين مشينا باتجاه بوابة الخروج. شعرت وكأنه محب لتحديد موعد الاسبوع المقبل. فتوجهت إليه بالقول:
– أسعد! موعدنا في الاسبوع المقبل عند الساعة السادسة وعند نفس المقعد.
– شكرا جزيلا السيد مهدوي. آمل أن أكون تلميذا جيدا.
– الأفضل أن تقول صديقا! إسمح لي أن أوصلك بسيارتي. بالمناسبة أين يقع منزلك؟
– ليس بعيدا كثيرا، نهاية شارع “كاركر الشمالي”.
– إذن تعال لأوصلك إلى التقاطع اللاحق.
– كلا سيدي، لا أريد إزعاجك.
– لا إزعاج، لاني أسلك الطريق ذاته.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.