نجمه الداود فی التراث العالمی

النجمۀ السداسیۀ بوصفها علامۀ دنیویۀ:
یمکن القول بأن النجمۀ السداسیۀ لم تکن رمزاً یهودیاً بل کانت شکلاً هندسیاً وحسب. وهی حین ظهرت على بعض المبانی الیهودیۀ، لم تکن لها دلالۀ رمزیۀ، وإنما کان الغرض منها أداء وظیفۀ زخرفیۀ. وفی القرن الرابع عشر، سمح تشارلز الرابع للجماعۀ الیهودیۀ فی براغ بأن یکون لها علمها الخاص، فصُوِّرت علىه النجمۀ السداسیۀ. ومن ثم أصبحت النجمۀ رمزاً رسمیاً دنیویاً للیهود. واتخذها بعض طابعی الکتب الیهود فی براغ علامۀ لهم وانتشرت منها إلى إیطالیا وهولندا. ویُلاحَظ أن النجمۀ السداسیۀ کانت، حتى ذلک الوقت، مجرد علامۀ، لا رمزاً دینیاً أو قومیاً. وانتشر استخدام هذه العلامۀ من براغ إلى الجماعات الیهودیۀ الأخرى. واستخدمها أعضاء الجماعۀ الیهودیۀ فی فیینا سنۀ 1655، وحینما طُردوا منها حملوها إلى مورافیا ووصلت منها إلى أمستردام. ویُلاحَظ أنها لم تنتشر فی شرقی أوربا إلا مع بدایات القرن الثامن عشر، ففی هذا التاریخ بدأت النجمۀ السداسیۀ تتحول إلى شارۀ للیهود. وفی أوائل القرن التاسع عشر، بدأت تظهر هذه النجمۀ فی أدبیات معاداۀ الیهود رمزاً دالاً علىهم. وفی عام 1822، تبنت عائلۀ روتشیلد فی النمسا هذه النجمۀ رمزاً لها، بعد أن رُفع بعض أعضائها إلى مرتبۀ النبلاء. کما استخدمها هاینی، الشاعر الألمانی المتنصِّر، للتوقیع على خطاباته.
ولم تحمل النجمۀ بالنسبۀ إلى کل هؤلاء أیۀ دلالۀ دینیۀ أو قومیۀ أو إثنیۀ، فلیس لها امتدادات فی تواریخ الجماعات الیهودیۀ. ومن ثم، یمکن اعتبارها علامۀ ازدادت ارتباطاً ببعض الجماعات الیهودیۀ فی الغرب، وکان اختیار عائلۀ روتشیلد لها هو الذی منحها مکانۀ وشرعیۀ.

النجمۀ السداسیۀ باعتبارها رمزاً دینیاً:
یبدو أن عبارۀ «درع داود» لا تُستخدَم للإشارۀ إلى النجمۀ السداسیۀ إلا فی المصادر الیهودیۀ، إذ تستخدم المصادر غیر الیهودیۀ عبارۀ (خاتم سلیمان) . ویبدو أن التسمیۀ الأخیرۀ من أصل عربی إسلامی حیث کان یُشار إلى النجمۀ الخماسیۀ (وهی المنافس الأکبر للنجمۀ السداسیۀ) باعتبارها أیضاً «خاتم سلیمان». ولکن کیف ارتبطت عبارۀ «درع داود» بالنجمۀ السداسیۀ؟ یبدو أن النجمۀ کانت تُذکَر فی الکتابات السحریۀ الیهودیۀ (فی الأحجبۀ والتعاویذ) جنباً إلى جنب مع أسماء الملائکۀ. وبالتدریج، أُسقطت الأسماء وبقیت النجمۀ درعاً ضد الشرور. واکتسبت النجمۀ السداسیۀ هذه الصفۀ الرمزیۀ کدرع ابتداءً من القرن الثالث عشر. ومع هذا، استمر استخدام عبارتی «درع داود» و«خاتم سلیمان» للإشارۀ إلیها فی الفترۀ ما بین القرنین الرابع عشر والسابع عشر، کما کانت تُستخدَم عبارۀ «درع داود» للإشارۀ إلى شمعدان المینوراه. ولکن، بمرور الوقت، اقتصر استخدام هذه العبارۀ على الإشارۀ إلى النجمۀ السداسیۀ وحدها. وکانت النجمۀ تُستخدَم فی تمیمۀ الباب (میزوزاه)، فکانت تُکتَب علیها أسماء سبعۀ ملائکۀ، ویصحب اسم کل ملاک النجمۀ السداسیۀ. وتتحدث القبَّالاه عن العالم العلوی والسفلی المتقابلین. وبهذا یصبح المثلثان (ورأس أحدهما إلى أعلى ورأس الآخر إلى أسفل) رمزاً لهذا التقابل ولحرکۀ الصعود والهبوط، ومعادلاً رمزیاً لعلاقۀ عالم الظاهر بعالم الباطن. وأصبحت النجمۀ کذلک رمزاً للتجلیات النورانیۀ العشرۀ (سفیروت) حینما تأخذ هیئۀ شجرۀ الحیاۀ. وهی ترمز أیضاً إلى ظهور العام الأصغر المیکروکوزم (أی الإنسان) من العالم الأکبر الماکروکوزم (أی الکون) وزائیر أنبین من أبا وأما أی الأب والأم فی القبَّالاه. وکانت النجمۀ ترمز أیضاً إلى ظهور الماشیَّح من صدر إبراهیم. ولذا، کان یشار أحیاناً إلى النجمۀ السداسیۀ باعتبارها درع داود وإبراهیم. وکانت أطرافها الستۀ، ترمز إلى أیام الأسبوع الستۀ. أما المرکز فهو السبت. وکانت النجمۀ أیضاً رمزاً مشیحانیاً یمثل برج الحوت (21 فبرایر ـ 20 مارس)، وهو الوقت الذی کان یُفترَض أن یظهر فیه الماشیَّح. وأصبح درع داود رمز درع ابن داود، أی الماشیَّح. واستخدمه أتباع شبتای تسفی وأصبح رمزاً سریاً للخلاص. وکانت النجمۀ السداسیۀ مرسومۀ على الحجاب الشهیر الذی کتبه یوناثان ایبیشویتس (الذی أثار ضجۀ بین یهود شرقی أوربا فیما یُسمَّى «المناظرۀ الشبتانیۀ الکبرى») وکُتبَت علیه الأحرف الأولى لعبارۀ «درع ابن داود».
ولکن النجمۀ السداسیۀ لم تتحوَّل إلى رمز دینی یهودی إلا بتأثیر المسیحیۀ وتقلیداً لها. وهذه ظاهرۀ عامۀ عند کل من الیهود ومعظم الأقلیات: أنهم یکتسبون هویتهم من خلال الحضارۀ التی یوجدون فیها. وتبنِّی نجمۀ داود مثل جید على ذلک. فالیهودیۀ باعتبارها نسقاً دینیاً، على الأقل فی إحدى طبقاتها الجیولوجیۀ المهمۀ والرئیسیۀ، معادیۀ للأیقونات وللرموز، تماماً مثل الإسلام. ولکن یهود عصر الإعتاق أخذوا یبحثون عن رمز للیهودیۀ یکون مقابلاً لرمز المسیحیۀ (الصلیب) الذی کانوا یجدونه فی کل مکان. وحینما بدأت حرکۀ بناء المعابد الیهودیۀ على أسس معماریۀ حدیثۀ، اتبع المهندسون، الذین کانوا فی أغلب الأحیان مسیحیین، ذات الطرز المعماریۀ المتبعۀ فی بناء الکنائس. ولذا، کان لابد من العثور على رمز ما، ومن هنا کان تبنِّی النجمۀ السداسیۀ. ثم بدأت تظهر النجمۀ على الأوانی التی تُستخدَم فی الاحتفالات الدینیۀ مثل کؤوس عید الفصح. ولأن النجمۀ السداسیۀ کانت شائعۀ فی الأحجبۀ والتعاویذ السحریۀ، لم یعارض الأرثوذکس استخدام الرمز. ومن ثم، یمکن أن نقول إن انتشار الرمز فی القرن التاسع عشر کان دلیلاً على أن الیهودیۀ الحاخامیۀ بدأت تَضعُف وتفقد تماسکها الداخلی. ولذا، فإنها کانت تبحث عن رمز حتى یمکنها أن تعید صیاغۀ نفسها على أسس مسیحیۀ.
وهنا ظهرت الصهیونیۀ بوصفها أهم تعبیر عن أزمۀ الیهودیۀ الحاخامیۀ. وحاولت هذه العقیدۀ السیاسیۀ أن تطرح نفسها بدیلاً للعقیدۀ الدینیۀ، فتبنَّت النجمۀ السداسیۀ رمزاً لها، ذلک الرمز الذی ظهر على العدد الأول من مجلۀ دی فیلت التی أصدرها هرتزل فی 4 یونیه 1897م، ثم اختیر رمزاً للمؤتمر الصهیونی الأول ولعَلَم المنظمۀ الصهیونیۀ.
والواقع أن اختیار الصهاینۀ للنجمۀ السداسیۀ کان اختیاراً ذکیاً یُعبِّر عن غموض موقف الصهیونیۀ من الیهودیۀ. فالصهیونیۀ ترفض العقیدۀ الیهودیۀ ولکنها ترید فی الوقت نفسه أن تحل محلها وتستولی على جماهیرها. ولإنجاز هذا الهدف، احتفظت الصهیونیۀ بالخطاب الدینی والرموز الدینیۀ بعد أن أعطتها مضموناً دنیویاً قومیاً. وقد احتفظت الصهیونیۀ بفکرۀ القداسۀ الدینیۀ، ولکنها خلعتها على الدولۀ والشعب وعلى تاریخ الأمۀ، أی أن ثمۀ تداخُلاً کاملاً بین الدنیوی والمقدَّس.

شاهد أيضاً

بن غفير: زعيم الإرهاب قائدا للأمن!

بن غفير: زعيم الإرهاب قائدا للأمن!

الاخبار – القدس العربي: قام جندي إسرائيلي بتهديد نشطاء فلسطينيين وإسرائيليين كانوا يتضامنون مع أهالي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *