العولمۀ والعالمیۀ المهدویۀ

العولمۀ والعالمیۀ المهدویۀ

 

عماد جمیل خلیف

الاهـــــــداء

الى امل المحرومین والمستضعفین ……………

الى قاصم الجبارین والمتکبرین ………………..

الى ناشر رایۀ الهدى والصلاح ………………….

الى سیدی ومولای الامام المهدی المنتظر (عج) ……………….

 اهدی هذا الجهد المتواضع .

 

تمهید

لاشک ولا ریب إن الإنسان فی وقتنا الحاضر – وعلى الرغم من کل التقدم العلمی والحضاری والتکنولوجی – یموج فی بحر من الظلمات والفتن ، فمنذ ان بدأت الخلیقۀ وحصلت أول جریمۀ فی تاریخ البشر حینما قتل قابیل هابیل غاصت البشریۀ منذ ذلک الوقت فی بحر من الدماء فلا زالت شعوب الأرض تتصارع فیما بینها لأتفه الأسباب لا لشیء سوى الأنانیۀ وحب السلطۀ والمال ، فنسی الخلق خالقهم أو تناسوه ، وغفلوا عن سبب الوجود وغایته ، قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون ) ، وتعامت أبصارهم عن الحق ونصرته ، فعم الفساد والظلم وشاع الجور والعدوان ، ولا یزال الله عز وجل یبطش بطشته الکبرى بکل جبار عنید ، وکل امۀ ظالمۀ کی تکون عبرۀ لمن یعتبر ودلیلا لمن یستبصر .

ولازالت رسله تترى على أهل الأرض امۀ بعد امۀ ، مبلغین ومنذرین وهادین لطریق الرشاد والسداد ن حیث السعادۀ الأبدیۀ برضا الرب وراحۀ النفس وطمأنینۀ القلب ، بشرائع إلهیۀ فیها نظم أمر الإنسان فی دنیاه وسعادته فی آخرته ، فکانت الیهودیۀ والنصرانیۀ بتوراتها وإنجیلها ، حتى إذا حرفتا وغیرتا ، ختم الله بالإسلام وجعله کاملا متکاملا فیه کل ما یحتاجه الإنسان لإصلاح أمر دنیاه من قوانین وتشریعات ، لم تترک ناحیۀ من نواحی الحیاۀ إلا وبینت فیها الحکم وفصلت فیها القول .

لکن الإنسان یأبى إطاعۀ هواه فنبذ فریق منهم کتاب الله وراء ظهورهم وعادوا إلى غیهم وبدؤا یکیدون لبعضهم البعض وبرز شیاطین القوم ینظرون ویقننون لأنظمۀ وضعیۀ یریدون من خلالها تحقیق مصالحهم وغایاتهم الشخصیۀ ورغباتهم النفسیۀ ، من خلال الضحک على عقول الجهال ممن لا دین لهم إنما همج رعاع یلهثون وراء کل ناعق .

فظهرت فی القرون الماضیۀ النظریات المادیۀ التی تنکر الوجود الإلهی ولاتحد هدفا لوجود الإنسان إلا تحقیق ملذاته وشهواته وغرائزه ، فتجعله کالبهیمۀ همها علفها ، إذ لا آخرۀ فلا حساب ولا عقاب ، إنما هی حیاتنا الدنیا نموت ونحیا .

فظهرت فی قبال الأطروحۀ الربانیۀ والشریعۀ الإلهیۀ ـ الإسلام ـ  نظریات وأنظمۀ وضعیۀ معارضۀ ، قام بتنظیرها بعض من أهل الغرب فکانت الشیوعیۀ والرأسمالیۀ ، وکل منها بهرت عقول الملایین من أهل الشرق ـ الاتحاد السوفیتی ـ وأهل الغرب ـ أوربا وأمریکا ـ فطافوا فی الأرجاء مبشرین بتوحید العالم ، وتخلیصه من الفقر والأمراض والظلم والفساد .

وکل یعد أنصاره بالنصر وبحیاۀ لا مثیل لها ، وبنعیم لیس له حدود ……

 ولکن هیهات یأبى الله ذلک ………..

لقد عجزت جمیع القوانین والمذاهب الوضعیۀ الإنسانیۀ عن تلبیۀ حاجات الإنسان فی الحیاۀ الحرۀ الکریمۀ والعیش الرغید فی مجتمع متوحد متسامح لا شائبۀ فیه .

وجمیع الأدیان الإلهیۀ وخاصۀ الأدیان الثلاث (الیهودیۀ والمسیحیۀ والإسلام) جاءت بما یخدم الإنسان فی دینیاه وآخرته من قوانین وتشریعات وطریقۀ سلیمۀ وصحیحۀ للحیاۀ ، لکن الإنسان کان دائما ما یعزف عن کل ما هو خیر له ویسیر خلف أهوائه ونزعاته الشیطانیۀ التی تجره نحو الهاویۀ .

لذلک ترى إن المجتمع الإنسانی یسیر یوما بعد یوم نحو الدمار والخراب ، وما هذه الحروب والنزاعات بین الدول والشعوب إلا دلیل على فشل القوانین والأنظمۀ الوضعیۀ فی إدارۀ حیاۀ الإنسان ،والسبب فی هذا کله یعود إلى أن واضع هذه التشریعات غالبا ما کان یراعی فی وضعه لهذه الأنظمۀ أهواءه الشخصیۀ ورغباته النفسیۀ ومصالحه الآنیۀ ، دون النظر إلى رغبات الآخرین وتطلعاتهم وآمالهم .

کما إن المقنن لهذه القوانین لیس بذی خبرۀ تمکنه من استیعاب کل المشاکل الإنسانیۀ وإیجاد الحلول المناسبۀ لها . لذلک نرى أن الشیوعیۀ فشلت قبل أن تولد ، ولم یبق منها سوى شعاراتها التی نادت بها ولم تطبق منها شیء یذکر .

واللیبرالیۀ تقترب یوما بعد یوم من نهایتها المأساویۀ ، فإذا کانت الشیوعیۀ انتهت بتفکک الاتحاد السوفیتی فان الرأسمالیۀ اللیبرالیۀ ستنتهی بدمار الدول المتبنیۀ لهذا النظام المستبد بسبب نزاعات إقلیمیۀ ودولیۀ على مصادر الطاقۀ ومنابع النفط ومراکز الثروات لأنها تعلم جیدا إنها لن تستطیع الاستمرار التسلط إلا من خلال دیمومۀ هذه المصادر واستمراریۀ السیطرۀ علیها ، وسحق الشعوب المستضعفۀ لان البقاء للأصلح کما تدعی .

إن الدولۀ الإسلامیۀ العالمیۀ المهدویۀ سوف تظهر بعد أن ییئس الناس من إیجاد الحلول لمشاکلهم المتوارثۀ والتی صنعوها بأیدیهم من خلال الابتعاد عن التشریع الإلهی ونبذهم دین الله وراء ظهورهم ، عند ذلک فقط سوف تتوحد الشعوب وتنهض الأمۀ الإنسانیۀ لبناء مجدها على هذا الکوکب المحطم ، بقیادۀ الإمام المهدی المنتظر “عج” .

بعد أن یکونوا قد جربوا کل ما لدیهم من أفکار ونظریات وعلوم وتقنیات فلم ینجحوا .

      لکل أناس دولۀ یرقبونها                                 ودولتنا فی آخر الزمان تظهر

المبحث الأول

مقدمۀ .

تعریف العولمۀ .

العولمۀ الاقتصادیۀ .

العولمۀ السیاسیۀ .

العولمۀ الثقافیۀ .

العولمۀ الاجتماعیۀ .

أهداف العولمۀ .

نتائج العولمۀ ومستقبلها .

مقدمۀ

بعد انتهاء الحرب العالمیۀ الثانیۀ وظهور قطبین کبیرین  عالمیۀ هما الاتحاد السوفیتی والذی کان یتبنى المذهب الشیوعی ، والولایات المتحدۀ الأمریکیۀ التی کانت تتبنى المذهب الرأسمالی ، بدأت بوادر صراع جدید بین هذه الدول على اثر تقسیم ألمانیا ، فظهر ما یسمى (بالحرب الباردۀ ) والتی أنتجت سباق التسلح فیما بین الدولتین ، ومحاولۀ کل منهما بسط نفوذه على مناطق ودول إقلیمیۀ اقل شأنا .

حتى جاء العام 1961 م حیث التقى الرئیس الأمریکی (کندی) والرئیس السوفیتی (خروتشوف) فی فینا واتفقا على إنهاء الحرب الباردۀ .

” غیر أن أمریکا کانت ترید القضاء نهائیا على روسیا الاشتراکیۀ ، ولذلک أعلنت حرب النجوم وسباق التسلح ، واستجابت روسیا لهذا السباق وهذا الصراع إلى أن انتهى بسقوط الاتحاد السوفیتی وانهیاره وتفککه ، وکان طبیعیا أن تعتبر أمریکا هذا الانهیار والسقوط انتصارا للمبدأ الرأسمالی بوصفه نظاما طریقۀ عیش وانتصارا سیاسیا لها . “(1)

فانتهت الشیوعیۀ الاشتراکیۀ قبل أن تولد وقبل أن تحقق أهدافها وشعاراتها وفی مقابل هذا کله کان المد الأمریکی یتقدم بکل قوۀ نحو الدول الضعیفۀ والنامیۀ ، فقد قامت أمریکا باحتلال أکثر من ثلاثین دولۀ طوال فترۀ نشؤها بشتى الحجج والذرائع وطوعت النظام الدولی من اجل خدمۀ أغراضها ، فقد تم إنشاء جمعیۀ الأمم المتحدۀ بعد الحرب العالمیۀ الثانیۀ من قبل الدول الخمس العظمى ، فوضعت القوانین وشرعت بما یلائم مصالح هذه الدول وأعطیت حق النقض (الفیتو) على أی قرار من شانه ان یضر بمصالحها ، وانبثق عن هذه الجمعیۀ مجلس الأمن الدولی والذی کان العصا الغلیظۀ التی تستخدم لضرب کل من یحاول الخروج عن طاعۀ هذه الدول .

حتى جاءت حقبۀ التسعینات من القرن الماضی وخاصۀ بعد أحداث الخلیج والتی أوجدت فرصۀ لأمریکا للتدخل فی مناطق نفوذ حیث مرکز العالم النفطی والثروات الهائلۀ فاخذ الساسۀ الغربیون یطرحون أفکارهم وآرائهم عن مستقبل العالم ونهایۀ التاریخ ، فطرحوا فکرۀ النظام العالمی الجدید ، وأخذت وسائل الإعلام الغربی تطرح لفظۀ العولمۀ ثم تبناه السیاسیون واخذ یتداول على ألسنتهم ن ولم یتم تعریفه بشکل دقیق اوتوضیحه وتحدیده من قبل هؤلاء ، بل ترک کی یلعب بعقول الآخرین ویفعل فعله السحری شأنه شأن الکثیر من ألفاظ الاستعمار الساحرۀ والتی لا یمکن تعریفها أو إیجاد تعریف متفق علیه من قبل اثنین لها .

کالحریۀ والدیمقراطیۀ والمساواۀ والوطنیۀ والقومیۀ وغیرها من الألفاظ التی تستخدم للضحک على عقول شعوب الدول المستعمرۀ .

ان (العولمۀ) هی ولیدۀ النظام الرأسمالی وولیدۀ الفکر المادی لهذا النظام ، وتعد مرحلۀ من مراحل التطور التاریخی للرأسمالیۀ العالمیۀ المتمثلۀ (بأمریکا) إذ أنها بدأت مرحلۀ جدیدۀ من الاستعمار والهیمنۀ والتوسع خاصۀ بعد فترۀ التسعینات من القرن الماضی والذی یمثل بدایۀ الانطلاقۀ الحقیقیۀ لفکرۀ العولمۀ وتبلورها کأطروحۀ تدعو لها اللبرالیۀ الرأسمالیۀ فی الغرب وانتهجت لها طریقا خاصا فی التطبیق من خلال الزحف باتجاه الدول الفقیرۀ والنامیۀ والسیطرۀ على اقتصادیاتها ومواردها وثرواتها عن طریق فرض الشروط والعقوبات لکی تفتح هذه البلدان أبوابها أمام منتجات الغرب .

تعریف العولمۀ

هناک اختلاف کبیر بین الکتاب والمثقفین فی تعریف العولمۀ ، ویرجع السبب فی ذلک إلى أن هذا المصطلح حدیث العهد فی السیاسۀ الدولیۀ ، ولم یتم لحد ألان إشباعه بالفهم والدراسۀ فلم یدخل فی میدان الدراسۀ الأکادیمیۀ فی الجامعات والکلیات .

والسبب الثانی هو اختلاف وجهات النظر لدى الکتاب والمثقفین أنفسهم فی تعریف العولمۀ فلا ینظرون إلیها من وجهۀ نظر واحدۀ ، فالکاتب الاقتصادی ینظر من زاویۀ الاقتصاد فیسمیها العولمۀ الاقتصادیۀ ، والسیاسی ینظر إلیها من زاویۀ تأثیرها فی السیاسۀ فیسمیها العولمۀ السیاسیۀ ، والباحث الاجتماعی ینظر إلیها من زاویۀ تأثیرها فی المجتمعات وثقافۀ الشعوب فیسمیها العولمۀ الاجتماعیۀ والثقافیۀ ، وهکذا .

فی حین أن العولمۀ کنظام وأطروحۀ رأسمالیۀ شاملۀ لکل ما قیل أو یقال فی الشأن الدولی من سیاسۀ واقتصاد وثقافۀ واجتماع وغیرها .

لذلک فنحن هنا سنأخذ المعنى اللغوی للعولمۀ لنبدأ به ، ثم ننتقل لنعرض بعض التعاریف التی فسرت العولمۀ لکی یتم لنا الإلمام بالمعنى الحقیقی للعولمۀ وفهمها ولو بشکل یسیر .

” کلمۀ العولمۀ فی اللغۀ العربیۀ ، والبعض سماها (بالشوملۀ) ، هی ترجمۀ للکلمۀ الانکلیزیۀ globalization     ، والکلمۀ الفرنسیۀ    mondialisation  .

فالکلمۀ تعنی وضع الشیء على مستوى عالمی ، اوتعمیم خاص وطنی لیصبح عالمیا”(2)

وقیل أیضا : ” العولمۀ ترجمۀ فرنسیۀ تعنی الشیء على مستوى عالمی ، أی نقله من المحدد المراقب إلى غیر المحدد الذی ینأى عن کل رقابۀ وهی أیضا ترجمۀ لکلمۀ globalization   الانکلیزیۀ التی ظهرت أول ما ظهرت فی الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ ، وتعنی تعمیم الشیء وتوسیع دائرته لیشمل الکل .”(3)

فی حین ان البعض الآخر یسمیها بتسمیات أخرى ( الکوننۀ ، الکونیۀ ، الکوکبۀ ، الشوملۀ ، الحداثۀ ، الحداثویۀ ) .

ولکن الکلمۀ العربیۀ التی شاع استعمالها فی ترجمۀ الکلمۀ الانکلیزیۀ هی (العولمۀ ) .

وهذه الصیغۀ (فعولۀ ) تستخدم للدلالۀ على تحویل شیء إلى شیء آخر أو صیغۀ أخرى .

أما فی الاصطلاح فقد عرفت بعدۀ تعریفات منها ، أنها :-

” مصطلح سیاسی عرفه البعض بأنه :نظام عالمی جدید یقوم على العقل الالکترونی والثورۀ المعلوماتیۀ القائمۀ على أساس المعلومات ، والإبداع التقنی غیر المحدود دون اعتبار للأنظمۀ والحضارات والثقافات والقیم والحدود الجغرافیۀ والسیاسیۀ القائمۀ فی العالم .(4)

” وعرفه آخرون انه :القوى التی لایمکن السیطرۀ علیها للأسواق الدولیۀ والشرکات المتعددۀ الجنسیۀ التی لیس لها ولاء لأیۀ دولۀ أو قومیۀ .”(5)

أو هی :

” تحرک متسارع نحو عالمیۀ متکاملۀ عززه إلغاء القیوم التنظیمیۀ والتفاعل مع التغیرات المتسارعۀ فی تکنولوجیا الاتصالات والحاسب “.(6)

وقیل هی : 

” مسعى لإزالۀ الحدود والموانع ما بین الدول للسماح بحریۀ الأفکار والثقافات والأموال والسلع دون قیود تفرضها السیادۀ الوطنیۀ أو الخصوصیات القومیۀ.(7)

والبعض الآخر عرفها بأنها :

” کل المستجدات والتطورات التی تسعى بقصد أو دون قصد إلى دمج سکان العالم فی مجتمع واحد “.(8)

من الملاحظ أن جمیع هذه التعریفات لم تکن دقیقۀ التوصیف للعولمۀ الرأسمالیۀ ، لان الکثیر منها یرکز على الجانب الاقتصادی من العولمۀ ، والحق معهم فی ذلک لان العمود الفقری للرأسمالیۀ هو الاقتصاد والربح المادی السریع .

کما أنهم یرکزون على الجانب العلمی والتطور التقنی الحاصل فیعدونه سبب رئیسی فی ظهور العولمۀ فیعرفونها به .

بعد هذا کله یمکننا تعریف العولمۀ تعریفا جامعا مانعا بأنها :

مصطلح سیاسی رأسمالی یصف مرحلۀ من مراحل التطور التاریخی للیبرالیۀ الرأسمالیۀ فی العمل على توحید العالم بصورۀ مباشرۀ أو غیر مباشرۀ سیاسیا واقتصادیا وثقافیا واجتماعیا تحت قیادۀ الرأسمالیۀ العالمیۀ أمریکا .

العولمۀ الاقتصادیۀ أو الجانب الاقتصادی للعولمۀ

لقد أعدت الرأسمالیۀ العالمیۀ الخطط الکفیلۀ بالسیطرۀ الاقتصادیۀ على الدول الفقیرۀ والنامیۀ ، مستغلۀ البون الشاسع ما بینها وبین هذه الدول فی مجال التطور العلمی والتقنی والتکنولوجی ، فقد أنشأت صندوق النقد الدولی والبنک الدولی :

” وهما منظمتان أممیتان ، فالأول یقوم على ضبط النقد الدولی واستقراره ، والآخر یمارس عملیات الإقراض ودراسات الجدوى فی مجال الإنشاء والتعمیر للدول المتضررۀ من الحروب والدول الفقیرۀ ضمن شروط قاسیۀ “. (9)

ولما کان صندوق النقد الدولی من إنشاء الدول العظمى فقد :

” کانت طریقۀ إنشائه مصوغۀ بشکل یؤدی إلى هیمنۀ أمریکا على قراراته فقد جعلوا الأصوات التی تتمتع بها الدول تتوقف على حصتها فی الصندوق ولما کانت حصۀ أمریکا هی الأکبر (2 ,27 %) من رأس المال فان قراراته کانت قرارات أمریکیۀ کما تفرع عنها البنک الدولی للإنشاء والتعمیر وابرز إغراضه إعادۀ اعمار ما دمرته الحرب ومساعدۀ الدول المتخلفۀ اقتصادیا وتقدیم القروض والضمانات لدول العالم النامی “(10).

لذلک فان أیۀ دولۀ تقع فی أزمۀ أو ظروف طارئۀ وتحتاج إلى الدعم الدولی فإنها سوف تتجه نحو صندوق النقد الدولی والذی تتحکم به أمریکا ، فیقوم بالإقراض لهذه الدولۀ بفوائد مرکبۀ وضمن شروط قاسیۀ وصعبۀ للغایۀ ، حیث یفرض على هذه الدولۀ السیر فی نهج اقتصادی متشدد ، من خلال تقلیل الإنفاق الحکومی العام ، ورفع الدعم عن السلع الضروریۀ ، ورفع أسعار المشتقات النفطیۀ وخصخصۀ القطاع العام وتحویله إلى الخاص ، وفتح أبواب الاستثمار للشرکات العالمیۀ فی جمیع القطاعات الحیویۀ للدولۀ کالنفط والغاز وغیرها .

إن هذه الإجراءات وغیرها کفیلۀ بان تجعل هذه الدولۀ أسیرۀ لصندوق النقد الدولی ولا تستطیع التخلص من هذا الکابوس الذی الم بها ولفترۀ طویلۀ جدا ومن ثم تعجز عن النهوض من جدید فتقع تحت الوصایۀ الغربیۀ .

ثم إن هناک مؤسسۀ اقتصادیۀ أخرى تم إنشاءها من قبل الغرب قامت على أنقاض اتفاقیۀ (الجات) -الاتفاقیۀ العامۀ للتجارۀ والتعرفۀ الکمر کیۀ – التی لم تر النور ، فتم إنشاء منظمۀ التجارۀ العالمیۀ” فی مراکش عام 1994 م ، وبدا العمل بها 1995 م “.(11)

حیث تم سن قوانین خاصۀ باقتصادیات السوق الحرۀ وحریۀ الملکیۀ الفردیۀ والاستثمار والتجارۀ بین الدول ، وإنشاء هیئۀ لفض النزاعات والتحکیم ، وقوانین حقوق العمال وغیرها.

حتى انک لتجد الیوم الکثیر من الدول العملاقۀ (کالصین) مثلا تحاول جاهدۀ الدخول فی هذه المنظمۀ لکن بدون جدوى ، إذ أن الدول الغربیۀ تفرض علیها شروط قاسیۀ من اجل ترکیعها ولکی تسمح بفتح أسواقها للبضائع الغربیۀ وتخفیض الرسوم الکمر کیۀ على السلع المصدرۀ إلیها .

إن هذا الثالوث الذی ذکرناه (صندوق النقد الدولی ، والبنک الدولی ، ومنظمۀ التجارۀ العالمیۀ ) لکفیل بإذلال وإخضاع الدول التی تقف بوجه الدول العظمى أو تحاول أن تنهض باقتصادها لکی تنافس الدول المتقدمۀ ، کما انه یضمن استمراریۀ تدفق السلع والخدمات إلى الدول الفقیرۀ والمستهلکۀ دون أی منافسۀ أو رسوم کمرکیۀ وبأقل تکلفۀ وأعلى قیمۀ من الربح .

حتى ترانا الیوم نلاحظ وبشکل واضح سیطرۀ الشرکات الغربیۀ على جمیع مفاصل الاقتصاد فی العالم حیث تدل التقاریر على أن :

” خمس دول غربیۀ فیها 127 شرکۀ من أصل 200 شرکۀ کبرى فی العالم ، وهی أمریکا ، والیابان ، وفرنسا ، وألمانیا ، وبریطانیا “. (12)

لقد نجحت هذه الشرکات فی الهیمنۀ على الأسواق والسیطرۀ على معظم التجارۀ العالمیۀ من خلال إنتاجها الکبیر ورأس مالها الوفیر ، بحیث أنها أصبحت قادرۀ على زعزعۀ أنظمۀ دول قائمۀ بذاتها .

” وعلى سبیل المثال نصیب أمریکا من السوق العالمیۀ من برامج الکمبیوتر سابقۀ التجهیز سنۀ 1994 م ،60 % ونصیبها من سوق الکتب العالمیۀ سنۀ1995 م ، 32 % “.(13)

لقد أدت عولمۀ الاقتصاد إلى تحکم مجموعۀ قلیلۀ من الإقطاعیین بقوت الملایین بل الملیارات من البشر ، وظهر بشکل جلی مآسی العولمۀ الرأسمالیۀ حیث أصبح الفقر سمۀ عالمیۀ وبلغ حدا لا یمکن تصوره .

ففی “عام 1998 م کان فی الولایات المتحدۀ وحدها 170 ملیار دیرا ، بینما لم یکن عددهم فی عام 1982 م یزید على 13 ملیار دیرا ، ویکفی أن ملیار دیرا واحدا هو بیل جیتس رئیس شرکۀ میکروسوفت یملک ثروۀ ما یعادل صافی ثروات 106 ملیون مواطن أمریکی أی ثلث السکان تقریبا “. (14)

فی حین نجد :

” 30 % من سکان العالم دخلهم الیومی یقل عن دولارین ، و 20 % من سکان العالم یقل دخلهم الیومی عن دولار واحد وکلهم من الدول النامیۀ “.(15)

بعد هذا کله کیف لأی دولۀ من الدول النامیۀ أن تنهض باقتصادها أو یمکن لها التمتع بثرواتها دون تدخل أجنبی غربی أو دون العودۀ إلى هذه الشرکات المتعددۀ الجنسیات لکی تستثمر فیها وتجعلها متسلحۀ بسلاح التقدم العلمی والتکنولوجی الذی قطعت فیه الشعوب الغربیۀ مراحل متقدمۀ لن تستطیع الدول النامیۀ وخصوصا الإسلامیۀ من اللحاق برکبه حتى قیام الساعۀ ، خاصۀ فی ظل حکام الجور والفساد الجاثمین على صدور أبناء هذه الشعوب .

ومن الجدیر بالذکر إن ” العولمۀ الاقتصادیۀ هی المجال الوحید الذی اتفق على تعریف له : حیث تبنى مؤتمر الأمم المتحدۀ للإدارۀ والتنمیۀ unctad   تعریفا له یقوم على فکرۀ فتح السوق والتبادل الحر وتقلیل سلطۀ الدولۀ على حرکۀ الاقتصاد “.(16)

لذلک فان المرحلۀ الرئیسیۀ والأولى للعولمۀ تأتی من خلال السیطرۀ الاقتصادیۀ والتی تمثل حجر الزاویۀ فی هذا المخطط الرهیب للعولمۀ ، لان ذلک یعنی التحکم بمصیر شعوب تلک الدول وتقییدها وخضوعها للغرب ، وان حاولت هذه الشعوب التمرد أو الثورۀ فإنها سوف تصطدم بالحالۀ الاقتصادیۀ المتأزمۀ والمشاکل المستعصیۀ فی البلاد ، أو بانقلابات عسکریۀ لبعض عملاء الغرب الذین زرعتهم فی المؤسسۀ العسکریۀ لخدمۀ أغراضها .

وهذا ما یفسر الاضطرابات الکثیرۀ فی الدول النامیۀ والفقیرۀ وعدم الاستقرار السیاسی وکثرۀ الحروب والدماء ، وهذه الأمور کلها لصالح هذه القوى الخارجیۀ من اجل الهیمنۀ والتسلط .

وکما یقول ” ابرازموس 1508 م (إذا حاربت بسیف المال فستکون الغالب دوما ) “.(17)

وقد أشار کتاب (فخ العولمۀ – الاعتداء على الدیمقراطیۀ والرفاهیۀ ) الذی ألفه هانس بیتر مارتین وهارالد شومان الألمانیان إلى مستقبل العولمۀ ونتائجها فی الجانب الاقتصادی : فقد ذکرا فیه ” إن العولمۀ من خلال السیاسات اللیبرالیۀ الحدیثۀ التی تعتمد علیها إنما ترسم لنا صورۀ المستقبل بالعودۀ للماضی السحیق للرأسمالیۀ ، فبعد قرن طغت فیه الأفکار الاشتراکیۀ والدیمقراطیۀ ، ومبادئ العدالۀ الاجتماعیۀ ، تلوح الآن فی الأفق حرکۀ حضارۀ تقتلع کل ما حققته الطبقۀ العاملۀ والطبقۀ الوسطى من مکتسبات ، ولیست زیادۀ البطالۀ وانخفاض الأجور وتدهور مستویات المعیشۀ وتقلص الخدمات الاجتماعیۀ التی تقدمها الدول وإطلاق آلیات السوق وابتعاد الحکومات عن التدخل فی النشاط الاقتصادی ، وحصر دورها فی (حراسۀ النظام ) وتفاقم التفاوت فی توزیع الدخل والثروۀ بین المواطنین وهی الأمور التی ترسم ملامح الحیاۀ الاقتصادیۀ والاجتماعیۀ فی غالبیۀ دول العالم کل هذه الأمور لیست فی الحقیقۀ إلا عودۀ الأوضاع التی میزت البدایات الأولى للنظام الرأسمالی إبان مرحلۀ الثورۀ الصناعیۀ (1750 – 1850م) وهی أمور سوف تزداد سوءا مع السرعۀ التی تتحرک بها عجلات العولمۀ المستندۀ إلى اللیبرالیۀ الحدیثۀ “. (18)

العولمۀ السیاسیۀ أو الجانب السیاسی للعولمۀ

إن الجانب السیاسی للعولمۀ یعد من أهم الجوانب والذی یلعب دورا مهما فی إخضاع الشعوب وإذلالها وهو یتخذ جانبین ، جانب عسکری باستخدام القوۀ العسکریۀ لتطویع الدول وترکیعها ، وجانب سیاسی دبلوماسی باستخدام سیاسات الضغط والابتزاز عن طریق مؤسسات ومنظمات أنشأت من قبل الغرب لهذا الغرض .

فقد تم إنشاء منظمۀ الأمم المتحدۀ وبشک یلائم التوجهات الغربیۀ ، فبعد سقوط ألمانیا برزت قوتین عظیمتین على الساحۀ الدولیۀ هما (الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ ، والاتحاد السوفیتی) . ومن اجل إعادۀ ترتیب الأوضاع بعد الحرب العالمیۀ الثانیۀ تم إنشاء الجمعیۀ العامۀ للأمم المتحدۀ ، التی انبثق عنها مجلس الأمن الدولی الذی یتکون من خمس عشرۀ دولۀ  بضمنها خمس دول دائمۀ العضویۀ هی ( أمریکا ، الاتحاد السوفیتی ، فرنسا ، بریطانیا ، الصین ) . وهذه الدول هی دول نوویۀ .

ومن الجدیر بالذکر هنا أن جمیع القوانین والأنظمۀ التی یطلق علیها أممیۀ أو عالمیۀ أو دولیۀ من قبل هذه المنظمات هی فی الأصل قوانین غربیۀ وشرعت من قبل المشرع الغربی ولم یکن للشعوب النامیۀ أو المستضعفۀ والإسلامیۀ منها خصوصا ، أی دور فی صیاغتها ، بل إنها حتى لم تراعی التشریعات والقوانین الإلهیۀ التی جاء بها الإسلام الحنیف ومع ذلک نجد أن الدول التی تدعی إنها إسلامیۀ سارعت إلى الانضمام إلى هذه المنظمۀ والاحتکام إلى قوانینها .

کما أن الغرب قد تنبه لأهمیۀ هذه المنظمۀ منذ البدء فجعل مقرها فی نیویورک فی الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ کی یتم السیطرۀ علیها بشکل دائم وکامل ولم یسمح بنقل مقرها إلى أی دولۀ أخرى کی تبقى هذه المنظمۀ ملبیۀ لحاجات الغرب التسلطیۀ .

إن من أهم أسالیب العولمۀ والهیمنۀ السیاسیۀ بشقیها العسکری والدبلوماسی ما یأتی :-

عقد الاتفاقیات والمعاهدات السیاسیۀ والعسکریۀ بین الدول الکبرى من اجل إیجاد تحالفات وتکتلات لإخضاع الدول الفقیرۀ ، والوقوف ضد الدول التی تعادیها إیدیولوجیا ، ومن هذه التحالفات ( حلف شمال الأطلسی ، وحلف وارسو الذی انهار بانهیار الاتحاد السوفیتی) .

عقد اتفاقیات الدفاع المشترک بین الدول الکبرى وبعض الدول النامیۀ بحجۀ حمایتها ، ومن ثم إنشاء قواعد عسکریۀ دائمۀ فی هذه البلدان وهذا نوع جدید من أنواع الاستعمار .

التدخل السیاسی فی بعض الدول المضطربۀ ، عن طریق فرض قرارات من قبل منظمۀ الأمم المتحدۀ أو من خلال ما یسمى بقوات حفظ النظام التابعۀ لها ، والتی تکون بقیادۀ غربیۀ .

الاحتلال العسکری المباشر لبعض الدول الضعیفۀ وخاصۀ الغنیۀ بالثروات النفطیۀ والطبیعیۀ بحجۀ تهدیدها للأمن والسلم الدولیین ، أو دعمها للإرهاب والجماعات الإرهابیۀ .

فرض صفقات الأسلحۀ والمعدات العسکریۀ على الدول النامیۀ والفقیرۀ لضمان تبعیۀ هذه الدول عسکریا .

إیجاد مناطق توتر عالمیۀ وخاصۀ فی الشرق الأوسط حیث منابع الثروات ومنها البترول لضمان السیطرۀ الغربیۀ وإیجاد الذرائع للتدخل السیاسی والعسکری بحجۀ بسط الأمن وحمایۀ إسرائیل .

القیام بانقلابات عسکریۀ فی بعض الدول لزعزعۀ استقرارها عن طریق تدریب وتجنید ضباط وقادۀ عسکریین فی الغرب وإرسالهم إلى بلدانهم حیث یکونون عملاء تابعین یطبقون الأوامر الغربیۀ .

الضغط على بعض الدول سیاسیا عن طریق بعض التقاریر التی تتحدث عن انتهاک حقوق الإنسان أو انتهاک للحریۀ والدیمقراطیۀ فی هذا البلد أو ذاک ، حیث یستخدم هذا الأمر کوسیلۀ ضغط وابتزاز ضد الدول من اجل القیام بإصلاحات سیاسیۀ وإیجاد المبررات لقیام المعارضۀ المدعومۀ غالبا من الغرب بالتحرک الجماهیری لإسقاط الحکومۀ .

ازدواجیۀ المعاییر فی تطبیق القوانین والتشریعات التی یدعى أنها دولیۀ حیث تعمل الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ فی فرض القرارات لإغراض نفعیۀ وشخصیۀ فی حین تستخدم حق النقض الفیتو ضد أی قرار .  

10- صناعۀ بعض القادۀ فی هذه البلدان وإعدادهم لاستلام السلطۀ ومحاولۀ إظهارهم

       بالمظهر اللائق أمام شعوبهم فی حین أنهم یعملون لتکریس مصالح الغرب . 

لقد کانت البوادر الهیمنۀ والإخضاع للشعوب یتمثل :

” بإسقاط أمریکا لأول قنبلتین ذریتین على مدینتی هیروشیما وناکازاکی بالیابان ، (حیث)  خطا الإنسان خطوات عدۀ فی أکثر من اتجاه على طریق السیطرۀ والإخضاع : خطوۀ على طریق القوۀ التدمیریۀ الهائلۀ للأنفس والممتلکات ، وخطوۀ على طریق التقاتل وإیقاع الخسائر بالعدو بأقل مواجهۀ تذکر مع استخدام أکثر للذکاء الإنسانی فی التخطیط والتنظیم والأدوات والتقنیات وخطوۀ على طریق التهدید بالقوۀ والبطش کرادع وقائی من اجل السیطرۀ والإخضاع “. (19)

لقد فضحت هذه الإعمال وغیرها استغلال الغرب لمصطلح الدیمقراطیۀ وحقوق الإنسان فی السیاسۀ الدولیۀ ، إذ أنها حینما یتعلق الأمر بمصلحتها الآنیۀ فان هذه الحقوق والمبادئ لا نکاد نراها أو نحس بها ولا یقام لها وزن .

وهی ” تعمل بجد کی تصبح هذه المفاهیم مقاییس وقناعات أمم العالم وخاصۀ الأمۀ الإسلامیۀ فقد عملت على إیجاد دول کارتونیۀ ترفع شعار الإسلام وتدعی إنها تطبقه وهی فی الحقیقۀ لا تطبق منه إلا بعض الإحکام وبشکل مشوه إلى أن جعلت الناس یضیقون ذرعا بهم “. (20)

بعد هذا نصل إلى قمۀ المأساۀ الإنسانیۀ فی خضوعها للرأسمالیۀ وسیاسۀ العولمۀ المنبثقۀ عنه واستغلال النظام الدولی إلى ابعد الحدود .

” فان هؤلاء السادۀ الذین وضع النظام الدیمقراطی الرأسمالی فی أیدیهم کل نفوذ ، وزودهم بکل قوۀ وطاقۀ ، سوف یمدون أنظارهم – وبوحی من عقلیۀ هذا النظام – الى الآفاق ویشعرون بوحی من مصالحهم وإغراضهم أنهم فی حاجۀ الى مناطق نفوذ جدیدۀ “. (21)

العولمۀ الثقافیۀ أو الجانب الثقافی للعولمۀ 

إن الغزو الثقافی من قبل دول العالم وخاصۀ الإسلامیۀ منها کبیر وخطیر جدا لأنه یمس ثقافۀ الشعوب وتقالیدها وأنماط عیشها کما انه لا یقف عند حد معین .

والعولمۀ الثقافیۀ یمکن أن نصفها (بتغریب الثقافۀ) أو (أمرکۀ الثقافۀ) .

ونعنی بها جعل الثقافۀ الغربیۀ وما فیها من قیم اجتماعیۀ وتقالید وأعراف وأفکار وأنماط معیشۀ نموذجا یحتذى به من قبل شعوب الدول الأخرى ، من خلال إلغاء ثقافات هذه الشعوب وتقالیدها لتحل الثقافۀ الغربیۀ محلها .

وبطبیعۀ الحال فان هذا یعنی مسخ الهویۀ الدینیۀ والوطنیۀ والقومیۀ لهذا الشعب وقطع الجیل الجدید من الشباب من جذوره العریقۀ وحضارته المتوارثۀ لتحل محلها الثقافۀ والقیم والعادات الغربیۀ .

وهنا تکمن خطورۀ العولمۀ الثقافیۀ لأنها بالنتیجۀ تغزو العقول والأفکار ، وهی لا تحتاج فی هذا الأمر إلى جیوش وأساطیل وسلاح أو حروب ودماء ، وإنما هی تعمل عملها السحری من خلال استغلال التطور التقنی والمعلوماتی الحاصل فی العالم ووسائل الإعلام التی تخترق جمیع الحدود والبلدان بلا رقیب أو حسیب .

والدول الغربیۀ وظفت هذا الأمر جیدا فی مصالحها من خلال استغلال وسائل الإعلام والاتصال وسیطرتها علیها ، حیث تقوم بترویج الفساد الأخلاقی من خلال عرض الأفلام الإباحیۀ والفضائح الجنسیۀ والمخدرات والمشروبات الکحولیۀ والترویج لها حیث أن :

” هناک نصف ملیون موقع على الانترنت تتعامل مع الصور المخلۀ بالآداب ، وتشرح طرق استعمال المخدرات ووسائل استخدام العنف 1997 م . “. (22)

وما جعل المرأۀ سلعۀ تباع وتشترى إلا مثال واضح على ذلک ، إذ أنها تستخدم فی الدعایۀ الإعلانیۀ للمنتجات والسلع الغربیۀ وخاصۀ مستحضرات التجمیل والعطور والملابس ، وکذلک شیوع تجارۀ الجنس وغیرها من رذائل النظام الغربی .

لقد ساعد انتشار الفضائیات واستخدام الانترنت ووسائل الاتصال الأخرى بشکل واضح وسریع ف نشر الفکر الغربی الفاسد والترویج للثقافۀ الغربیۀ ، ویقابله من ناحیۀ أخرى الضعف الثقافی والدینی لشعوب الدول الفقیرۀ والنامیۀ وعدم وجود أسالیب دفاع وحصانۀ للشباب إمام هذا السیل الجارف من المعلومات والأفکار والبرامج والأفلام المستوردۀ .

ویسجل الکاتب والمؤلف (هنری غوباز) فی کتابه :” إن هذه الحرب هی اخطر والعن من الحرب الساخنۀ لان الأخیرۀ (أی الساخنۀ) تعیی الجماهیر ، بینما الأولى تشل الإرادات حیث تتسلل بمکر تدریجیا وتدق بمطرقتها بإلحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتسممها لیصبح المرء عبد قیم وأخلاقیات مستوردۀ غربیۀ “. (23)

لذلک فلیس من المستغرب إن نسمع الرئیس الأمریکی بیل کلینتون وهو یقول :

” إن أمریکا تؤمن بان قیمها صالحۀ لکل الجنس البشری ، وأننا نستشعر إن علینا التزاما مقدسا لتحویل العالم إلى صورتنا “. (24)

هذه القیم المتمثلۀ بالانحلال الأخلاقی کالتحرش الجنسی والمخدرات وشرب الخمر هی صورۀ أمریکا کما یقول کلینتون صالحۀ لکل الجنس البشری ، وکأنه غفل عن إنها لو کانت صالحۀ لشرعها الله عز وجل ولما حرمها .

ثم من أین لبشر أو إنسان عادی غیر معصوم أن یحدد ما هو صالح أو طالح للبشریۀ جمعاء وإنهم یجب أن یکونوا علیه وعلى صورته ؟

لقد أشار مؤلفا کتاب فخ (العولمۀ ) إلى هذا الأمر حینما قالا :

” إن ثمۀ جهود خارقۀ تبذل لکی یتخذ العالم صورۀ واحدۀ ، ولا ریب فی أن المحصلۀ النهائیۀ لمثل هذا التطور ستکون فی المجال الثقافی کما یتبناها ابن نیویورک الفنان(کورت روی ستون) بسیادۀ الصراخ والزعیق الأمریکی بمفرده فی العالم اجمع “. (25)

ومن الجدیر بالذکر الإشارۀ هنا إلى إن الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ وأوربا یسیطران على 80 % من وسائل الإعلام فی العالم . کما إن اکبر قنوات الاتصال فی العالم هی غربیۀ ، وقد جعل فیها اللغۀ الإنکلیزیۀ هی اللغۀ السائدۀ ، وخاصۀ فی مجال شبکۀ الانترنت والتی تستخدم من قبل جمیع شعوب العالم وتسیطر علیها شرکات غربیۀ متعددۀ الجنسیات .

ویملک الغرب اکبر محطات ووکالات إعلام هی :-

” الوکالۀ المشترکۀ للصحافۀ (اسوسایتدبرس ) الأمریکیۀ .

الوکالۀ المتحدۀ للصحافۀ (یونایتد برس ) الأمریکیۀ .

وکالۀ رویترز الانکلیزیۀ .

وکالۀ فرانس برس الفرنسیۀ “.(26)

إن استخدام التقنیات ووسائل الاتصال الحدیثۀ والتقدم العلمی استخداما معقولا وسلیما لا إشکال ولا ضیر فیه بل هو من صلب الثقافۀ العالمیۀ من اجل التواصل بین الشعوب والدول والملاقحۀ بین الثقافات العالمیۀ ، وإیجاد القواسم مشترکۀ للتفاعل الحضاری ولکن ما یراد هنا هو عولمۀ الثقافۀ ، فإننا :

” إذا فرقنا بین عالمیۀ الثقافۀ وعولمۀ الثقافۀ عرفنا البون الشاسع بین مجرد الانفتاح الثقافی العالمی وبین فرض الهیمنۀ على العقلیۀ الاجتماعیۀ البشریۀ ، فعالمیۀ الثقافۀ تجسدها تکنولوجیا الاتصالات والحواسب والتشابک الاقتصادی ، بینما تشکل العولمۀ الثقافیۀ فرض نهج بذاته ومصالح وقیم ثقافیۀ بذاتها ، وکل ما تراه القوۀ ذات الهیمنۀ أمرا نافعا وضروریا لها وفاء لمصالحها “.(27)

العولمۀ الاجتماعیۀ أو الجانب الاجتماعی للعولمۀ

أما فی الجانب الاجتماعی فان الغرب یعمل بجد کی یفرض النمط الغربی فی العیش ویجعل الأسرۀ الغربیۀ هی مثال الأسرۀ المتقدمۀ ، وهو یستخدم منظمۀ الأمم المتحدۀ وما ینبثق عنها من مؤسسات من اجل توظیف هذا الأمر ، ویکرس الجهود الحثیثۀ لفرض قیمه وآراءه على مجتمعات الدول النامیۀ والفقیرۀ ن حیث یقوم بعقد المؤتمرات والندوات التی تخص الأسرۀ والطفل والشباب والمرأۀ وغیرها . فیطرح مواضیع خطیرۀ وحساسۀ نحو حریۀ المرأۀ والمساواۀ بینها وبین الرجل فی الحقوق والواجبات والحریۀ الجنسیۀ ، ویجعل المقیاس الأسری الغربی هو المقیاس الحقیقی للأسرۀ الناجحۀ .

إن الطامۀ الکبرى هی أن هذه المؤتمرات والندوات غالبا ما تعقد فی البلدان النامیۀ والفقیرۀ ،  ویسارع أهلها إلى تطبیق ما یصدر عنها من آراء وأفکار وتوصیات وتعمل حکومات هذه الدول على تبنی أطروحاتها ، من دون النظر إلى ما یراد منها من محاولۀ لطمس الهویۀ الثقافیۀ والاجتماعیۀ لهذه البلدان ، وتحویلها إلى النمط الاجتماعی الغربی .

بل إن الغرب یرى أن الدولۀ التی توجد فیها مطاعم (ماکدونالد) هی دولۀ متفتحۀ وراقیۀ ، کما أن الدول الغربیۀ تستغل مسالۀ حقوق الإنسان وتجعلها ذریعۀ للتدخل فی المجتمعات الأخرى فتدعو إلى إطلاق الحریات الشخصیۀ وفتح الباب على مصراعیه أمام الشباب لیفعل ما یشاء .

بل إنهم ذهبوا إلى ابعد من ذلک ، حین قاموا بعقد الندوات والمؤتمرات التی تناقش حقوق الحیوان ، وکانت آخر صیحۀ فی هذا المجال مؤتمر (الحمیر) الذی عقد فی مصر عام 2007 م ، برعایۀ بریطانیا وبمشارکۀ بعض الدول ، من اجل النظر فیما تعانیه (الحمیر) من ظروف عمل صعبۀ فی بعض البلدان ، واستغلال وضرب شدید وتجویع .

ولعمری إننا وصلنا إلى مراحل متقدمۀ من الرقی الإنسانی حینما تقدس الشعوب الغربیۀ المجتمعات الحیوانیۀ للکلاب والقطط والحمیر إلى حد العبادۀ ، وتطالب بالحقوق الخاصۀ بها ، فتنام کلاب أمریکا قریرۀ العین متخمۀ البطن لایجفل لها طرف فی حین أن شعوب العالم ومجتمعاته تعانی فقرا مدقعا یلتحف فیه الفقراء التراب ویأکلون الحشائش دون أن یعقد لهم أی مؤتمر دولی أو أممی لحل مشاکلهم ، وما نراه الیوم فی المجتمع الإفریقی لخیر مثال على هذا الأمر .

إن هذه الازدواجیۀ فی النظر إلى الأمور ینبع من أن :

” النظام الرأسمالی الدیمقراطی لیس منبثقا عن عقیدۀ معینۀ عن الحیاۀ والکون ، ولا مرتکزا على فهم کامل لقیمها التی تتصل بالحیاۀ الاجتماعیۀ وتؤثر فیها “(28).

فمثلا انبثق عن مؤتمر بکین وثیقۀ تؤکد ک

” على حریۀ الإنسان فی تغییر جنسه ، وعلى حق الفتاۀ والمرأۀ بالتمتع بحیاۀ جنسیۀ آمنۀ مع من ترید وفی أی سن ترید “.(29)

ویمکن أن نعدد ابرز ما یخرج من هذه المؤتمرات والندوات من توصیات : –

” الحریۀ الجنسیۀ وإباحۀ العلاقات الجنسیۀ خارج إطار الأسرۀ ، وتقلیل قیمۀ الزواج

تکریس المفهوم الغربی للأسرۀ ، وهی أنها تتکون من شخصین فأکثر ولو کانا من نوع واحد .

إباحۀ الشذوذ الجنسی بکل أنواعه ، ومن المعلوم انه مقر فی بعض القوانین الغربیۀ .

فرض مفهوم المساواۀ الشکلی بین المرأۀ والرجل فی الحقوق والواجبات والحیاۀ العامۀ ” . (30)

من الملاحظ إن هذه الأمور موجهۀ لتدمیر المجتمعات المحافظۀ کالمجتمع الإسلامی لأنها تؤدی إلى تدمیر عقول الشباب بما تحمله من إغراءات ودعوات لإطلاق الشهوات الدفینۀ فی النفس البشریۀ ، وهی موجهۀ بالخصوص إلى الأسرۀ المسلمۀ لأنها أسرۀ مترابطۀ ذات علاقات متینۀ مبنیۀ على الحب والاحترام المتبادل والطاعۀ للوالدین .

والإسلام بطبیعۀ تشریعاته وقوانینه واطر عمله یقوم على قاعدۀ رئیسیۀ ولبنۀ أساسیۀ هی الأسرۀ والتی تعد النواۀ الحقیقیۀ لقیام المجتمع الإسلامی وتحطیم مشروعه الحضاری العالمی .

” لقد صمم الغرب الصلیبی الزاحف أن یهدم ویدمر ، لکن بأسلوب غیر أسلوب التتار والصلیبین القدماء ، لقد اتجه إلى تدمیر العقائد والأفکار وهدم القیم والأخلاق وتحطیم الآداب والتقالید بمعاول خفیۀ لا تراها الأعین بسرعۀ ولا تلمسها الأیدی بسهولۀ ، وبأسالیب ماکرۀ لا تثیر الشعوب ، ولکن بغیر إطلاق الرصاص ، بل بطریقۀ السم البطیء .

وبعد تحطیم کل ما یملک الإنسان من عقیدۀ یؤمن بها وفکر إنسانی حقیقی یسیر نحوه ، وطریقۀ عیش ینتفع بها فیسعد ویسعد مجتمعه معه ، یصبح عند ذاک إنسان لا قیمۀ له غارق فی بحر الشهوات والملذات غیر مکترث بما یدور حوله ولا یشعر به ، ویعیش على الهامش ویذوب فی بحر المجتمع المادی الذی انشاءه الغرب ویدعو إلى تبنیه .

” وینطلق من هنا عملاق المادۀ ، یغزو ویحارب ، ویقید ویکبل ، ویستعمر ویستثمر ، ارضاءا للشهوات وإشباعا للرغبات “.(31)

أهداف العولمۀ

” العولمۀ تبشیر سیء یهدف المبشرون به إلى إرجاع العالم إلى العصور القدیمۀ المظلمۀ فی تاریخ البشریۀ حیث کان العالم مقسما إلى طبقتین طبقۀ الإقطاع وهی الأقلیۀ الضئیلۀ ، وطبقۀ الأکثریۀ الساحقۀ وهی طبقۀ الفقراء والعبید ط (32).

إن أصحاب فکرۀ العولمۀ یدعون إلى أن یصبح العالم عبارۀ عن قریۀ کونیۀ صغیرۀ متوحدۀ بإدارۀ غربیۀ رأسمالیۀ ، یساعدهم فی ذلک التطور العلمی الهائل الحاصل فی مجال الاتصالات ونقل المعلومات ، وان یسود النظام الاقتصادی والسیاسی والثقافی الغربی على جمیع اقتصادیات وثقافات المجتمعات الإنسانیۀ .

إن المشرعین لهذا النظام یرون بأنهم الأحق فی قیادۀ العالم من غیرهم بما یمتلکون من قوۀ وسلطۀ ومال وتقدم علمی وتقنی یدعمه اقتصاد رأسمالی عملاق .

” إن الهدف المعلن من العولمۀ هو إزالۀ الحواجز وتذویب الفروق بین المجتمعات الإنسانیۀ المختلفۀ لسیادۀ آلیۀ رأس المال التی تأبى أی قیود ، والیۀ المعلومات التی تأبى أی رقابۀ ، وکذلک إشاعۀ القیم الإنسانیۀ المشترکۀ التی یراد لها أن تجمع البشر وتکون أرضیۀ لإنفاذ آلیۀ رأس المال وآلیۀ المعلومات المشار إلیها ، فإجراءات العولمۀ الحالیۀ تحاول ان تشمل الاقتصاد والسیاسۀ والاجتماع والإستراتیجیۀ والثقافۀ ، من خلال نظریۀ لیبرالیۀ شاملۀ جاعلۀ شعارها (المصیر الواحد للبشریۀ) .(33)

إن رفع شعارات الحریۀ والدیمقراطیۀ وحقوق الإنسان والمصیر المشترک ومحاولۀ توحید العالم تحت إطار لیبرالی غربی ، لا یلغی الحقیقۀ التی تختفی خلف هذه الشعارات والتی تعود الغرب على إخفائها خلف شعاراته البراقۀ ، هذه الحقیقۀ التی أشار إلیها احد الکتاب الامریکین وهو فوکویاما حین قال ” إن هذه التحولات هی نهایۀ للتاریخ بعد أن تسقط کافۀ المبادئ والمذاهب وتسیطر الرأسمالیۀ اللیبرالیۀ وینتهی التاریخ “. (34)
” ومع ذلک یجب التأکید بان العولمۀ التی یراد لها أن تسود هی نتاج حضارۀ الغرب والصیغۀ الأکثر حداثۀ وفجاجۀ لهذه الحضارۀ ، والتی تجسدها الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ ، إنها تجسید وتکثیف المابعدیات ، ما بعد الرأسمالیۀ وما بعد الحداثۀ ، وما بعد الایدیولوجیا ، وما بعد سیادۀ الدولۀ القومیۀ “

شاهد أيضاً

نفاق

ما هو النفاق من منظور الإمام علي(ع)؟

مقالات العربیة – ایكنا: یقول القرآن الکریم “لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ” وهکذا یبیّن لنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *