اسماعيل شفيعي سروستاني
إن بلدان امريكا اللاتينية وعلى الرغم من تاريخها وثقافتها، تعد اليوم من أكثر بلدان العالم تخلفا وضعفا. وهي مجموعة من الدول الكبيرة والصغيرة التي لم تتح لها خلال الاعوام الستمائة الاخيرة امكانية ابراز وجودها. مثلما ان مكائن امتصاص وابتلاع المصادر تحت الأرضية والمناجم الغنية لم تخمد فيها على الإطلاق، وعملت على الدوام على نقل الثروات الطائلة لهذه البلدان إلى خزائن الدول الاستعمارية.
اسماعيل شفيعي سروستاني
إن بلدان امريكا اللاتينية وعلى الرغم من تاريخها وثقافتها، تعد اليوم من أكثر بلدان العالم تخلفا وضعفا. وهي مجموعة من الدول الكبيرة والصغيرة التي لم تتح لها خلال الاعوام الستمائة الاخيرة امكانية ابراز وجودها. مثلما ان مكائن امتصاص وابتلاع المصادر تحت الأرضية والمناجم الغنية لم تخمد فيها على الإطلاق، وعملت على الدوام على نقل الثروات الطائلة لهذه البلدان إلى خزائن الدول الاستعمارية.
وعندما فقد سلاح الجنود البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين مفعوله في اسكات واخماد سكان هذه الرقعة المترامية الاطراف دخلت “كرة القدم” الساحة لتلعب دور السلاح القاطع والماضي للاستخفاف بشعوب هذه الديار والتمهيد لخروج المصادر الغنية لامريكا اللاتينية وتدفقها على الصناديق العريضة والطويلة للدول الاستعمارية.
إن وجود الاستعمار في البلدان الاسيوية والافريقية ، كان بمثابة حضور سيد منفلت العنان، مترافقا مع عقد من اتجاه واحد مع عملاء وصنيعي الدول الاستعمارية لنهب واستغلال الثروات والخيرات من دون قيد او شرط. وان كانت الخلافات الطائفية والعرقية قادرة على التمهيد لتواجد بريطانيا وفرنسا في البلدان الإسلامية، والافيون المجاني والمنتشر بوفرة في بلد كبير كالصين قادر على إغلاق العيون وصم الاذان لكي ينسى سكان هذه البلدان، وجود عدو غادر، فإن الوضع في امريكا اللاتينية كان مختلفا. ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، القى الاستعمار واقتصاده الخاص بظلاله على امريكا اللاتينية ووضع هذه البلاد في قبضته.
إن غياب التوجهات الدينية والفلسفية والعقائدية وعدم فاعلية الافيون، دفع الاستعمار لاستحضار واستعمال الرياضة الحديثة لاسيما “كرة القدم” للتواجد.
كان لكرة القدم لاسيما المحترفة منها، القدرة على ان تغلق عيون وتصم اذان الشعوب عديمة الجذور. لدرجة انها تنسى بأنها موجودة ولاجل ماذا تعمل … نرى كيف ان الاستعمار ومن أجل القهوة والمطاط في اوروغواي اصغر بلدان امريكا اللاتينية، نصب فخ الرياضة في هذا البلد عام 1926.
ونقرأ ضمن نبذة تاريخية عن بداية كرة القدم في اوروغواي ما يلي:
وحتى قبل بداية عام 1920، لم تكتسب الرياضة في اوروغواي مفهوما محددا ومشخصا. وفي هذه السنة بالذات، كانت ثمة شركة بريطانية تدعى “دوك لند كومباني” تعمل في مجال تجارة البن وتصدير المنتجات الحرشية لاوروغواي خاصة الاخشاب الثمينة جدا والصناعية إلى بريطانيا، رأت بأن العمال الاوروغويين يطالبون باجور اعلى وعمل اقل، فتجاهلت مسالة زيادة الاجور وفيما يخص فترة عمل اقل ابلغت العمال الاوروغويين بأنها جاهزة لتوفير وسائل الترفية والتسلية لهم … فقامت الشركة باستيراد كميات كبيرة من كرات القدم وتوزيعها بالمجان بين الاسر العمالية وتقديم طريقة لعبها لتستحدث بذلك ارضية انتشار كرة القدم … وعلى مدى عامين اي من 1920 إلى 1922، بلغ الأمر حدا بأن أصبحت الكرة وأدوات كرة القدم، الواردات الرئيسية لاوروغواي … وانطلقت اجهزة الدعاية وكانت الجوائز في البداية على هيئة مكافآت نقدية.
وكتب رئيس فرع شركة “دوك لند” في اوروغواي في رسالة إلى رئيس الشركة مباشرة في لندن:
السيد الرئيس، الصديق العزيز، اننا بصحة جيدة بلطفكم. الأعمال تسير باقصى سرعة وحصل تغير هائل في استثمار اخشاب الغابات. اني سعيد لاطلعكم ومجلس الادارة بأن عائدات هذا العام ستزداد بنسة ثلاثين إلى خمسة وثلاثين بالمائة مقارنة بالاعوام الماضية. وان لم يعكر المرض والملاريا والحمى الصفراء، صفو العمل، فإن لدينا الآن عمالا ينجزون اقصى نسبة من العمل باقل اجر. ومن الاخبار السارة ان رياضة كرة القدم قد تنامت هنا خلال السنوات الاخيرة بشكل سريع، بحيث انه لا يوجد الآن شخص في اوروغواي الا ويبدي حرصه على كرة القدم … وفيما يخص تطوير وتوسيع هذه الرياضة بتقديري انه يجب التصرف بشكل يعتبر الشعب الاوروغوائي هذه الرياضة كمبدأ وتقليد مقدس ويملأ كل اوقات فراغه بها.
والمفلت ان 32 وفدا رياضيا زار الاوروغواي خلال الفترة من 1922 إلى 1926 لدراسة اوضاع الرياضة في هذا البلد وصدر بيان بعدها اعلن فيه انه سيتم تشييد ملاعب رياضية من أجل سلامة وصحة ورقي ورفاهية الشعب الاوروغوائي. الخبر الذي تناقلته الصحف المحلية على نطاق واسع.
والرق الحديث المصرح له، كان يعرض وجها حديثا وجديدا عن الاستعمار في امريكا اللاتينية. وخلال فترة وجيزة، تم في البرازيل بناء 12 ملعبا رياضيا بطاقة استيعابية كبيرة، وانتشرت بدعم من امريكا المسابقات الرياضية الكبرى وبيع وشراء الرياضيين.
وبذلت امريكا قصارى جهدها لكي تسود كرة القدم، امريكا اللاتينية ك “شأن وطني”، وهذا الأمر كان يمكن له ان يصرف الاهتمام والطاقات والحمية والتعصب القومي في البرازيل واوروغواي نحو الكرة، وبالتالي اغفال عامة الناس عن وجود الاستعمار الحديث في امريكا اللاتينية، وتنفيذا لهذه السياسات، روجت كبريات الصحف لكرة القدم على انها تشكل “التقليد الكبير للبرازيل” واغرفت امريكا اللاتينية بامواج الرياضة المحترفة، لدرجة ان البرازيليين يعتبرون اليوم كبار لاعبي كرة القدم بأنهم انبياء كبار، ولا يمكن التغاضي عن انتهاك خصوصيتهم.
وكان “رولف كونيل” الصحفي الرياضي الالماني قد كتب في تقرير له:
ليس هناك شعب في العالم بقدر شعب البرازيل يعشق كرة القدم وبهذا يعتبر ان كرة القدم هي فوق كل شئ. وذات يوم سالت شخصا كنت اجري معه مقابلة صحفية عن سبب اهتمام البرازيليين هذا القدر وبصورة عمياء بكرة القدم؟ اتعرفون ماذا قال؟ قال: يجب ان عليكم ان تدركوا بأن الشعب البرازيلي يفتقد إلى قاسم مشترك يشده إلى بعضه البعض. اننا نفتقد إلى الحياة السياسية والحياة الثقافية وحتى الحياة الدينية.
إن زوال جميع الرساميل الثقافية والدينية وحتى السياسية لشعب ما والتي يمكن لها ان تكون عامل ربط ومقاومة في مواجهة الاخطار في الظروف الحساسة، يشكل في الحقيقة مقدمة تتيح للاستعمار ممارسة النهب والسلب من دون رادع ووازع وان يستولي على جميع المقدرات.
وفي هكذا وضع، فإن اميركا اللاتينية فتشت عن القاسم المشترك وعنصر الترابط والتواصل الوطني في كرة القدم، في حين ان هذه القضية كانت في قبضة الاستعمار تماما وزادت من نطاق الغفلة عن الرساميل والارصدة الحقيقية وما كان يجري على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لامريكا اللاتينية.
وكان المستعمرون قد ادركوا جيدا انه يمكن من خلال رواج رياضة كرة القدم الزاخرة بالضجيج والحماس، احباط القوى الكامنة والطاقات الفاعلة لشعوب امريكا اللاتينية وسوقها إلى مسار اخر للحيلولة دون ان تدخل هذه القوى في مواجهة مع العناصر الداخلية التابعة للاستعمار الناهب لجميع الرساميل المادية والثقافية.
وقد بذل عملاء الغرب جل جهدهم لبلسمة جراح شعوب امريكا اللاتينية من خلال إقامة مسابقات مكلفة وابراز الشان والشخصية الحقيقية والمهدورة لهذه الشعوب، بشكل اخر.
وقد اعلنت الحكومة الارجنتينية على لسان الجنرال “مرلو” المسؤول التنفيذي لإقامة كاس العالم في الارجنتين، الذي قال في مقابلة صحفية:
إن كاس العالم سيقام بافضل صورة ممكنة. وهذا قرار سياسي لا رجعة عنه. اننا ننفق سبعمائة مليون دولار لنعرض الوجه الحقيقي لبلدنا للعالم عن طريق كرة القدم. انه وجه مختلف … .
وكتبت مجلة “لا اوبينيون” في افتتاحيتها:
طبعا ان مسابقات كاس العالم لكرة القدم، تعد حدثا سياسيا وتتابع اغراضا سياسية.
والمفلت هو ان الوفود الدينية الأمريكية اقامت مسابقة في مدن امريكا اللاتينية ودعت الشباب البرازيلي لمشاهدتها بتذاكر مجانية لتطميع هؤلاء الشباب.
يذكر ان امريكا كانت قد صدرت منذ عام 1950 المكائن الزراعية إلى امريكا اللاتينية على نطاق واسع لكي تحصل من خلال مكننة الزراعة على البن والسكر والمطاط والمحاصيل الزراعية الأخرى. لكن وبما ان مكننة الزراعة تسببت بتفشي البطالة فعوضت عنها بكرة القدم. وهذا الاجراء يعيد إلى الذاكرة هذا الكلام الذي اطلقه المستعمرون:
اننا نقيّم الاناس على أساس القوة البدنية والدقة الفنية والقيمة التكنيكية وان كانت هناك بطالة فانه يمكن احتراف كرة القدم كشغل. فإن كانت ماكنة ما تناصب القوى الإنسانية العداء، فإن على الإنسان تسخير قواه في الاتجاه الصحيح وبيعها.
وربما لهذا السبب اضفيت قيمة على الرياضي المحترف باعتباره بقرة حلوب. بحيث ان الرئيس البرازيلي كان يرسل اللاعبين بطائرته الشخصية إلى البلدان الأخرى.
وهذه الاجراءات شكلت مقدمة ل “تنمية الاحترافية” او “الرياضة المحترفة” من قبل الدول الراسمالية والاستعمارية. الأمر الذي اسهم في ابادة كل الفضائل الإنسانية وانهيار المقام الإنساني وتبديله إلى حيوان ضخم ومفترس.
وتلاقت العلوم الطبية والتغذية ورؤوس اموال أصحاب المصانع وأصحاب الكارتلات الصهيونية لصناعة لوحات خلابة المنظر والمظهر من الأبطال وتحويلهم إلى مروجين للسلع التجارية. وكان الاستعمار الجديد قد وسع من نطاق عمله ونبذ الاسلحة والقوة والقوات العسكرية ليعول على الرياضة في سبيل استغلال شعوب البلدان النامية. ان ما كان قد حصل، هو في الحقيقة تشغيل مكتب مجلس السماسرة الذي كان يحدد اسعار الناس وكان كأس العالم بمثابة الميزان الذي كان يتم بواسطته تحديد اسعار الناس.
وكانت الاوروغواي أول من اقام مسابقات كاس العالم. ووجه جهاز الدعاية والاعلام الغربي كل رساميله وطاقاته لطرح وترويج هذه الألعاب ليبدا فصلا تاريخيا حديثا لهؤلاء الناس المساكين بما يتطابق مع مطالب الدول الاستعمارية.
ونشرت صحيفة “بوبلة غازتا” في “مونتيفيديو” مقالا ملفتا، المقال الذي كان كما وصفه مؤلف كتاب “امريكا اللاتينية، ملتقى الرياضة والاستعمار” بمثابة بيان ومانيفستو المستعمرين. وكان قد ورد في تلك المقال:
ليس فخرا أكبر من هذا بالنسبة لشعبنا ان يقيم الدورة الأولى لكاس العالم. وهذه المسابقات التي اقيمت في مونتيفيديو بمناسبة الانتصارات المتتالية للشعب الاوروغوائي، تتزامن مع احتفالات الذكرى السنوية المائة لاستقلال بلادنا، وهي تبرهن في الحقيقة وجود شعبنا في العالم. ماذا كنا نملك؟ هل كان لدينا سلاح بحري عظيم حتى يوصل من خلال سيطرته على المحيطات وصولاته في البحار، اسم الاورغواي إلى اسماع شعوب العالم؟ كلا، لم نكن نملك ايا من هذا. لكننا نملك كرة قدم رفعت من اسمنا وصيتنا في أرجاء العالم. اننا نقترح انه في حال انتصار منتخب الاوروغواي في مسابقات كاس العالم، ان نبدا تاريخ شعبنا من هذا الزمان. اي انه بدلا من ان نكتب بأن اوروغواي استقلت عام 1830، يجب ان نعلّم ابناءنا والاجيال الصاعدة في العالم بأن اوروغواي اشهرت كيانها في العالم عام 1930 … يجب ان نصدق بأن كياننا واستقلالنا وشخصيتنا كلنا، سيتوقف على انتصارنا في مسابقات كاس العالم لعام 1930.
وبعد انتصار الاوروغواي عام 1928، تم شراء كافة محاصيلها الزراعية دفعة واحدة في اطار عقد وبابخس الاثمان.
لم ينتبه أحد إلى العقد الذي ابرم في ذلك العام بين اتحاد الشركات المصدرة للحوم والمؤلف من هولندا وبريطانيا وفرنسا من جهة وبين اوروغواي من جهة أخرى. وبموجب هذا العقد كانت الاوروغواي تبيع 800 الف راس خروف إلى هذه الشركات سنويا، وكانت تعريفة مبيعات هذه الخراف ارخص بنسبة ثلاثين بالمائة من الخراف التي كانت تصدرها الارجنتين وتشيلي.
وخفض الاسعار هذه عرض اقتصاديات الارجنتين وتشيلي إلى خطر داهم، لدرجة ان الارجنتينيين قرروا مهاجمة الاوروغواي عسكريا.
وكان الاستعمار بصدد صرف اذهان الشعوب المضطهدة عن القضايا الدينية والسياسية والاقتصادية الرئيسية إلى قضايا تافهة وطفيفة لكنها صاخبة ومثيرة للجدل، لكي لا تبحث هذه الشعوب عن قدرها وثقافتها المسحوقة تحت اقدام المستعمرين الناهبين، وان تستهلك قوتها الفاعلة في النقاشات التافهة في ميادين كرة القدم. القوة التي كان بوسعها ضمان السلامة الأخلاقية والاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وكان هذا أحد وجهي العملة. والوجه الاخر، اضمحلال وزوال ما تبقى من التقاليد الثقافية التي كانت تسحق تحت الاقدام. كل ما كان يمكن ان يعيق تقدم الغرب نحو تحقيق حلمه المتمثل في “القرية الكونية” ويحبط امال الصهيونية من الوصول إلى الحكم العالمي الموحد تحت راية اليهود. وفي ظل هذا، أصبح جميع شبان امريكا اللاتينية غافلين وجاهلين لثقافة وتقاليد ابائهم واجدادهم. ان هؤلاء باتوا لا يعرفون شعرائهم وكتابهم ومصلحيهم ومناضليهم من أجل الحرية، وبالعكس كانوا يعلقون صور أبطال ميادين الرياضة الحديثة في غرفهم.
وربما ليست ثمة خيانة لا تغتفر أكبر من ان يتم اظهار حلم صغير وقصير العمر وهابط، لامة ما، بأنه حلم كبير، واعاقة هذه الامة من بلوغ امنية كبيرة ودائمة ومستقلة وتحررية. ان كان يفعله الاستعمار في الصين وافغانستان والهند، كان قد انجزه بشكل ما في امريكا اللاتينية، وكان الاختلاف فحسب في السلعة والاداة التي كانت فاعلة في موقع ما. ان الرياضة المحترفة في امريكا اللاتينية، كانت قد وجدت تلك الفاعلية التي كان يتمتع بها الافيون في الصين.
وكانت الرياضة المحترفة، تزرع الامل في نفوس شبان امريكا اللاتينية الطموحين وتجعلهم يعقدون الامل على المستقبل الحافل بالأنوار والسيارات الفارهة والرحلات إلى أوروبا والاستمتاع بالحياة وكان هذا كل الحلم الذي حل محل الثقافة والهوية والثروة الوطنية. نوع جديد من العبودية والرق، لأنه كما كان المواطنون الرومان، يشجعون العبيد الاسرى على ممارسة القتل والسحل في ساحات قتال المجالدين ليشبعوا بذلك غرائزهم الحيوانية، فإن مالكي الرقيق في عصر الاستعمار الحديث، يقومون بتسعير جميع الناس في الساحات الرياضية كل حسب قوته البدنية. واي من مشاهدي هذه الساحات لم يكن يعرف كيف ان الاستعمار القديم يضع يده على مالهم وانفسهم في تلك اللحظات المليئة بالاهتياج بين الضحك والنحيب، ويخرجهم من هويتهم ومكانتهم الحقيقي.
وان تحولت كرة القدم لدى شعوب امريكا اللاتينية في خدمة الاستعمار، فإن سماسرة الاستعمار ومالكي الرقيق الجدد، روجوا الملاكمة بين السود المهاجرين والأبطال الافريقيين ليتابعوا أهدافهم في كل جزء من العالم.
وكتب “رينية دونان” حول تحولات وتقلبات الرياضة الغربية الحديثة:
إن الرياضة وصلت إلى فرنسا بعد دخولها اميركا. ففي فرنسا سلكت مسارا بطيئا ومرهقا. ومن هناك ذهبت إلى بلجيكا ومن ثم إيطاليا وفي النهاية سافرت إلى بلدان امريكا اللاتينية.
وقد اصر الكثير على هذه الفرضية الهشة بأن: الرياضة الحديثة، تفتقد إلى الماهية الثقافية، وتتابع رحلتها في الأرض وبين الامم والشعوب بصورة طبيعية. لكن وحسب ما ذكرنا في الأقسام السابقة، فإن اي مهنة وحرفة لا تفتقد إلى ماهية ثقافية ومنظومة نظرية وعقائدية خاصة.
وعلى الرغم من ان الرياضة الحديثة كانت تحمل ماهية ثقافية نابعة من المذهب الإنساني بعد عصر النهضة، لكن تحول الغرب وظهوره على هيئة نظام امبريالي، كان يكفي لأن يستخدم هذا النظام كل الامكانات والطاقات للمضي قدما بأهدافه، وان انسب الطرق واقلها كلفة كان بلاشك هو توسيع الثقافة الغربية التي كان بامكانها ان تكفل توسيع الاستكبار الصهيوني.
واعلن “رينيه ماهو” المدير العام لليونسكو في كلمة القاها عام 1972:
إن افريقيا تتشكل رويدا رويدا، لكنها تبتعد كثيرا عن مرحلة النضج الكامل التي بلغتها أوروبا. وليس من السهولة بمكان الوصول إلى هذه الأهداف. وفي هذا المضمار، فإن التشكل الوطني للبلدان الافريقية حديثة التاسيس، يكتسي اهمية خاصة. وان الرياضة تعتبر بلا شك عاملا مؤثرا يسرع في هذا التشكل. ومن جهة أخرى فإن الرياضة تتعامل مباشرة مع الشبان … وفيما تعد الرياضة الاداة الوحيدة التي يمكن التعويل عليها لدفع الشاب للظهور في دوره الاجتماعي وتحمل مسؤولياته … لقد سلّمنا جميعا بأن الرياضة هي العامل الصانع للثقافة المميزة. وقد آن الآن أوان ان تبلغنا منظومة كهذه إلى اين يجب ان نذهب… .
إن ما يصرح به رينية ماهو، يتمثل في ثلاثة موضوعات مهمة هي الثقافة المميزة والشباب والرياضة. ان شريحة الشبان هي شريحة جاهزة للتشكل حسب الاهواء الغريزية والقدرات الجسدية وان قلة تجربتها لا تسمح لها بنقد العالم الذي يحيط بها.
إن الثقافة التي يعتبرها رينية ماهو، مميزة، يجب بسطها ونشرها لتقوم بنزع سلاح جميع الشعوب على طريق تحقيق اغراض المستعمرين وتنتزع من هذه الشعوب الصبغة الدينية والوطنية والتقليدية. وكانت الرياضة تيارا جارفا، قادرا على تنمية تلك الثقافة بين الشباب.
إن “التنمية الاقتصادية” على الطريقة الغربية هي بحاجة دائما إلى التنمية الثقافية الخاصة التي تنظر البشرية من خلالها إلى العالم بعيون غربية والقبول بفكرة المذهب الإنساني والليبرالية الاجتماعية والانصياع لاوامر ونواهي مذهب المنفعة. وكل هذا يتعارض مع الثقافات المناطقية والدينية والوطنية. ولهذا السبب فإن الشبان هم أكثر المجموعات جهوزية لدخول العالم الحديث. العالم الذي تتيح فيه الليبرالية لنفسهم الامارة لتصول كيفما تشاء وان المظاهر الخادعة للحضارة الغربية، تجعلهم جاهزين لادارة الظهر لكل التقاليد ومبادئ الثقافة الدينية والوطنية. ان الثقافة المميزة التي تعرفها المنظومة النظرية للقائمين على اليونسكو والذين يعملون جملة تحت تعاليم الماسونية العالمية، هي ثقافة أوروبا ما بعد عصر النهضة. الثقافة التي تدير ظهرها لجميع القيم السماوية والإلهیة للشعوب وتجعل الإنسان منفصلا عن تاريخه الماضي ويائسا من المستقبل الحتمي ما بعد الموت وترميه في احضان الحاضر واغتنام الفرصة الحالية.
ويرى “براندج” أحد الرؤساء السابقين للجنة الأولمبية الدولية ان الرياضة تنحصر في بعدها الترفيهي ويقول:
إن الرياضة هي وسيلة للترفيه والتسلية فحسب. وسيلة لتمضية الوقت بصورة مفيدة.
وربما ان لم يكن هذا التعريف المزيف قد عرض ولم يستخدم كغطاء للاغراض الرئيسية، لما كانت الشعوب تغرق اليوم في وحل الثقافة والحضارة الغربية، وقد تكون عبارة تشرتشيل التالية مؤشرا على الكثير من الاسرار التي بقيت قيد الكتمان:
إن اعمدة صرح الإمبراطورية قائمة على ملاعب كرة القدم.
يتبع إن شاء الله
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون إذن خطّيّ من إدارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.