التطورات الثقافية في القرون الاخيرة

اسماعيل شفيعي سروستاني
إن الابتذال والانحطاط اللذين استوليا على الحياة الثقافية والمادية لأوروبا القرن الثالث عشر، ألقيا بظلالهما على جميع شؤون الجماهير. فالابتعاد عن السنن الأصيلة الثقافية والعقائدية للمسيحية وظهور الطبقات البرجوازية والرأسمالية الخاصة لدى الأوروبيين ونهضة الإصلاح الديني (البروتستانتية) ونشأة الفرق الدينية الجديدة بما فيها “البروتستانتية” وأخيرا نشأة “المذهب الإنساني” (والذي أتينا على ذكره سالفا) دفع بأوروبا في أحضان عصر النهضة ومكافحة الدين وإحياء التقاليد المنسية للعصور الغابرة (اليونان الكلاسيكية) وتقاليد واساليب حياة الرومان.

اسماعيل شفيعي سروستاني
إن الابتذال والانحطاط اللذين استوليا على الحياة الثقافية والمادية لأوروبا القرن الثالث عشر، ألقيا بظلالهما على جميع شؤون الجماهير. فالابتعاد عن السنن الأصيلة الثقافية والعقائدية للمسيحية وظهور الطبقات البرجوازية والرأسمالية الخاصة لدى الأوروبيين ونهضة الإصلاح الديني (البروتستانتية) ونشأة الفرق الدينية الجديدة بما فيها “البروتستانتية” وأخيرا نشأة “المذهب الإنساني” (والذي أتينا على ذكره سالفا) دفع بأوروبا في أحضان عصر النهضة ومكافحة الدين وإحياء التقاليد المنسية للعصور الغابرة (اليونان الكلاسيكية) وتقاليد واساليب حياة الرومان.
إن هذه العودة والتغير، طالا جميع شؤون الحياة الثقافية والمادية للأوروبيين، لاسيما، وإن تبيان الموضوعات النظرية على يد الفلاسفة والمفكرين والمثقفين (في ظل تجديد أعمال العصر الكلاسيكي) فسح الطريق أمام أهل الأدب والأخلاق ليمهدوا في أعمالهم الأدبية والفنية، السبيل لبسط ونشر تلك الآراء والأفكار بين جميع الناس.
وكان الإيطاليون يطلقون على هذا العصر اسم “لاريناشيتا”  أي عصر التجديد والإحياء؛ لأن هذا العصر بنظرهم هو عصر الانبعاث المظفر لروح الثقافة الكلاسيكية الرومانية بعد ألف عام من الهيمنة البربرية.
ولابد من الانتباه إلى أن ويل ديورانت وبسبب ميله للمذهب الإنساني والماسونية، تجاهل جميع الأوجه الثقافية والدينية للمسيحية وقدم مجمل ذلك العصر تحت عنوان “الهيمنة البربرية”.
وتلك الأسباب التي أدت إلى انبلاج عصر النهضة في شمال إيطاليا، اسهمت ذاتها لكي تكون أولى تجلياتها في فلورنسا.
وكما أن نهضة الإصلاح الديني تأثرت باللاهوت التوراتي ومؤسسيه (مارتين لوثر، وكالوفين و…) واضطلع الماسونيون المتهودون بدور بالغ في التمهيد للتطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية، فإن الراسماليين اليهود اضطلعوا هم الاخرون بدور كبير في احياء الثقافة والأدب والأعمال اليونانية والرومانية المتسمة بالشرك.
واخر وليس أول دافع ظهر عندما:
قام “كوزيمو دو مديسي”  بتخصيص عائدات أملاكه والثروات والقصور الأخرى لإسكان واستقبال المندوبين الذين كانوا يأتون إلى “مجلس فلورنسا”. إن القساوسة والمفكرين اليونانيين الذين كانوا ياتون إلى هذا المجلس لمناقشة تجديد وحدة مسيحيي الشرق والغرب، كانوا ملمين بالأدب اليوناني أكثر بكثير من أي فلورنسي. وكان بعض هؤلاء يلقي محاضرات في المدينة وكان نخبة المدينة يجتمعان للإصغاء إلى هذه المحاضرة. وعندما وقعت القسطنطنية بيد الأتراك، غادرها الكثير من اليونانيين ليقيموا في فلورنسا التي كانت قد استقبلتهم بحفاوة وحسن ضيافة قبل  أربعة عشر عاما. وقد أحضر بعض هؤلاء مخطوطات النصوص القديمة معهم إلى فلورنسا، وأقام البعض جلسات درس حول اللغة اليونانية أو الشعر والفلسفة اليونانية. وبهذا تشكل عصر النهضة في فلورنسا من خلال تجمع الكثير من التيارات المؤثرة فيها وحول تلك المدينة إلى ما يشبه اثينا إيطاليا. 
ويقول ويل ديورانت حول حاكم فلورنسا:
تحت حكم المديسيين أو في عهدهم، اجتذب أنصار المذهب الإنساني، شعب إيطاليا نحوهم، وحولوا فكرهم من الدين إلى الفلسفة ومن السماء إلى الأرض ونقلوا الثراء الفكري والفني لعصر الشرك إلى الجيل الحائر. إن هؤلاء الذين كان لديهم هوس العلم، عرفوا منذ حقبة اريوستو بأنصار المذهب الإنساني؛ لأن هؤلاء كانوا يعتبرون دراسة الثقافة الكلاسيكية بأنها متعلقة بعالم الإنسان أو ليترا هومانيورس (الأدب الأكثر إنسانية) وطبعا لا بمعنى الأدب المحب للإنسان بل الأدب المتعلق بعالم الإنسان بشكل أكبر … .
واضطلع كوزيمو دو مديسي بدور ثنائي في إحياء الثقافة و الحضارة القديمة. لأنه باعتباره من أنصار المذهب الإنساني أسهم في إحياء الأعمال الكلاسيكية اليونانية ونشر ثقافتها من جهة، وبذل بوصفه زعيما سياسيا واجتماعيا، جهدا لتوسيع العلاقات العملية للجمهور تأسيسا على تلك الثقافة من جهة أخرى.
إن الثروة الطائلة التي جمعها مديسي عن طريق المهن المالية والصيرفة، وفرت إمكانية ترجمة الأعمال اليونانية وملء المكتبات بها، وتسبب أسلوبه الديمقراطي بالتقليل من حدة  تعصب الشعب الإيطالي والتزامه بالتقاليد الدينية المسيحية.
ويحجم ويل ديورانت بطريقة ماكرة في كتابه عن الكشف عن انتماء وحب مديسي لليهود وخططهم في إزالة التقاليد الدينية المسيحية، وحتى إنه كتب:
إن جذور اسم هذه العائلة بقيت غير واضحة، وليست ثمة قرائن تؤكد أن هؤلاء كانوا أطباء [وتعني مفردة مديسي، الطبيب]، كما أنه ليست لدينا معطيات عن معنى شارتهم العائلية والتي هي عبارة عن ست دوائر ملونة على درع ذهبي. ولاحقا تقلص عدد هذه الدوائر إلى ثلاث، وتحولت إلى شارة المراهنين.
لكن إن كان ويل ديورانت يتحمل عناء طرح مخطط اليهود ابان عصر النهضة والإصلاح، لكان يميط اللثام عن حضور “ماسونيت” الذي تشكل في إيطاليا، ولكانت تتكشف عندها جذور الكثير من التطورات الثقافية والمدنية الاوروبية. وبحسب “البرت اوي” مؤلف كتاب مسار الفلسفة في أوروبا:
فقد أسس [مديسي] أكاديميته الأفلاطونية في فلورنسا.
وقد أسدى خدمات بالغة لليهود من خلال استيراد كتب كثيرة من مختلف البلدان خاصة اليونان وتوظيف مترجمين بارعين يهود لترجمة هذه الأعمال وتأسيس فصول لتعليم اللغة العبرية. فضلا عن أن مديسي كان يتقن اللغة العبرية. والملفت هنا هو أننا نقرأ من بين الصفحات المتناثرة لتاريخ ويل ديورانت ما يلي:
لقد تم صب تمثال داود البرونزي الذي كان قد أوصى عليه كوزيمو، عام 1430، وأقيم في باحة قصر “مديسي” وهو الآن أمام قصر فلورنسا. وكان هذا، أول تمثال عريان من كل الجوانب ظهر من دون تحفظ في المشهد الفني لعصر النهضة. جسم موزون وممشوق القوام بعضلات مفتولة شابة، ووجه ربما يوناني أكثر من اللزوم في الصورة الجانبية وخوذة أكثر من اللزوم يونانية.
وقد وضع دوناتلو في هذا العمل، الواقعية جانبا واستعان بخياله الفياض، وبنا تمثالا يضاهي تقريبا التمثال الأكثر شهرة لمايكل أنج عن هذا الملك اليهودي المستقبلي.
وفي وقت آخر، أوصى كوزيمو دو مديسي على بناء تمثال لإمرأة من أبطال اليهود تدعى “يهوديت”. وهذا المرأة الفائقة الجمال، فتنت قائد نبوخذ نصر بسحر جمالها وقتلته وهو ثمل.
ففي تمثال “يهوديت” البرونزي الذي صنعه “دونالتو” بتوصية من كوزيمو في “لود جاي لانتسي”، تنزل يهوديت السيف على فرق هولوفرنس (نبوخذ نصر)، فيما يغط القائد الثمل، في نوم عميق في لحظة تسبق حزّ رأسه.
ويتحدث مؤلف كتاب تاريخ بني اسرائيل بإسهاب عن مساهمات اليهود في التطورات الثقافية بإيطاليا، ويكمل الأقسام التي أسقطها ويل ديورانت حول مترجمي ومعلمي ورأسماليي القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد.
إن العديد من اليهود من أصحاب الموهبة والذكاء الشخصي سنحت لهم الفرصة من بين كل هذه الهيجانات والاضطرابات، ليظهروا أنفسهم كأشخاص محايدين بين الناس واستغلوا الوضع المضطرب، لخطب ود وصداقة جيرانهم المسيحيين. فعلى سبيل المثال كان اليهود يعرفون كمعلمين عبرانيين ومربي الأخلاق “كابالا”، إذ كان محبو البشرية والقادة الأخلاقيون لإيطاليا قد انغروا بهم وانجذبوا اليهم. وكان شخص من هؤلاء المعلمين اليهود ويدعى Elijan Levita (1468 – 1549) علم الكردينال Ejidio  اللغة العبرية، وتعلم في المقابل اليونانية لديه. وأمثال هؤلاء المعلمين كانوا كثر في فلورنسا وفينيسيا (البندقية) و… .
ففي عصر النهضة في إيطاليا، كان المعلمون الذين يُدرّسون في المنازل، يذهبون إلى المنازل في جميع المدن التي يقطنها اليهود ويرغمون الأطفال على التعلم والتحصيل العلمي ليتعلموا بذلك التلفظ الصحيح وقراءة نصوص الكتاب المقدس مع تعلم درس الفلسفة.  وكان عدد كبير من رواد الإصلاح الأساسي والثورة الفكرية والدينية في تلك الحقبة بمن فيهم لوثر وكالفين وآراسموس من تلامذة هذه المدارس العبرية. وفي عام 1488 وفي جامعة بولونيا، خصص كرسي لتدريس اللغة العبرية، ولم يمض وقت طويل حتى نحت سائر الجامعات الإيطالية نفس المنحى وتدفق عدد كبير من التلامذة اليهود والمسيحيين لتعلم اللغة المقدسة لدى الأساتذة والمعلمين اليهود…
والعقبة التي كانت تفصل المسيحية عن الإسلام، ليس الاختلاف في المعتقدات الدينية فحسب بل الاختلاف في اللغة أيضا. وكان الأشخاص الذين تعلموا اللغة اللاتينية غرباء تماما على اللغة العربية كما أن العلماء العرب، كانوا يجهلون اللغة اللاتينية. وبهذه المناسبة، فإن الطرف الذي كان يمكن له أن يجسر هذه الهوة بين الجانبين، هم اليهود. الأناس الذين كانوا يتقنون جيدا اللغتين وكان بوسعهم الاضطلاع بدور بارز  في هذا الخصوص…
وأحد الأسباب الرئيسية الأخرى التي أسهمت في نشر العلم والمعرفة  وحدوث الثورة الثقافية في أوروبا، هو اختراع ماكنة الطباعة، الأمر الذي توسع على الفور على يد اليهود. وأول ما كان يجب طباعته بواسطة مكائن الطباعة ونشره على نطاق واسع هو كتاب المزامير للنبي داود، وكان جزءا واحدا من الكتاب المقدس الذي طبع وصدر عام 1477 للميلاد.
وتم للمرة الأولى طباعة كل الكتاب المقدس باللغة العبرية عام 1488 على يد اسرة Sonsiono  التي كانت تملك في تلك الفترة أفضل مطبعة في إيطاليا.
وبمجرد أن انتشرت الثورة الفكرية ومحبة الإنسان بين أهالي أوروبا ، أسست جامعات البلدان الأوربية على غرار الجامعات الإيطالية كرسي تدريس اللغة العبرية … كما حدث انشقاق واختلاف بين الناس داخل الكنيسة وأصبحت الجماهير تطالب بإدخال إصلاحات عامة على جميع شؤون الحياة، وكانت مدعومة من المثقفين المحبين للإنسانية وبلغ طغيان الشعب ضد الكنيسة الكاثوليكية أوجه عام 1517 على إثر التحريض الذي كان يمارسه لوثر في مدينة Wittenbery  . وفيما كان لوثر منهمكا في مكافحة الكنيسة الكاثوليكية، نهض لدعم اليهود الصابرين والحلماء.
وقد انتشرت حركة المذهب الإنساني في أرجاء إيطاليا وعرضت من قبل المثقفين في قوالب فنية وأدبية مختلفة، وحسبما يقول ويل ديورانت فإن جميع هؤلاء الرجال (ماعدا سالوتاتي) كانوا أعضاء في محفل يجتمعون في قصر المدينة أو الفيلا الشخصية ل “كوزيمو”، وتولوا في عصر قوة كوزيمو قيادة الحركة الثقافية.
وفي هذا العصر، فقدت المسيحية نفوذها من جهتي الإلهيات والأخلاقيات، على معظم أنصار المذهب الإنساني في  إيطاليا.
وكان نفوذ أنصار المذهب الإنساني، استمر لمدة قرن واحد على الحياة الفكرية لأوروبا الغربية.
وهذا الشئ ألقى بظلاله على الأوجه المختلفة للحياة الثقافية لأوروبا، وعلى الرغم من أن الكنيسة والتقاليد الدينية كانت تعد الوجه الغالب للحياة المادية والمعنوية للجماهير، لكنها كانت تفرغ من محتواها من الداخل وانتشرت بالتالي نهضة المذهب العقلي في كل مكان.
وفرغت الأعمال الفنية لهذا العصر سواء التماثيل واللوحات، من الستار والحجاب المحبذ في الثقافة الدينية، وأصبحت التماثيل ولوحات القديسين والحواريين وأنصارهم، مليئة بالأجساد العارية. وفي المراتب اللاحقة:
لقد قام أنصار المذهب الإنساني رويدا رويدا، بتعليم الشعب الإيطالي المعنى الأكثر شهوانية للجمال، وراج أول عمل واضح لجسم إنسان سليم – سواء أكان رجلا أو امرأة والأرجح عاريا – بين الفئات الدارسة. إن تاكيد أدب عصر النهضة على الحياة، بدلا من تفكير القرون الوسطى الآخروي، استحدث نوعا من الانجذاب الدنيوي الخفي في الفن.
وكان مارتين لوثر  (1483 – 1546) الذي أثار طغيان البروتستانتية، استاذ الإلهيات في جامعة “فيينا برغ” في هذا القرن. وبعد خلجانه الروحي الكبير وتجاوزه الأزمة النظرية، بيّن معتقداته وقناعاته وانتقاداته حول الدين والمعتقدات الدينية في 95 نقطة وعلقها على جدران كنيسة مدينة ويتنبرغ بمقاطعة ساكسوني الألمانية.
وعلى الرغم من أن البروتستانتية كانت تعكس الاعتراض والطغيان على الديانة المسيحية لاسيما ما كانت تروج له الكنيسة الكاثوليكية، لكنها مهدت لزوال وحدة الجهاز الديني وزوال الوحدة الأوروبية وقيام ضرب من القومية وتبؤ أصحاب الرساميل موقعا. لأن كل مجموعة كانت تدعم هذه النهضة المعادية للدين وفق ما تمليه عليها ظروفها ومطالبها. فالملوك دعموها من أجل التخلص من التبعية لرجال الكنيسة وأصحاب الرساميل للتحرر من القيود التي كانت تحد استئثارهم واحتكارهم للتجارة وأنصار المذهب الإنساني للتخلص من القوانين الدينية والوصول إلى نمط من الليبرالية الاجتماعية.
إن تضاؤل الالتزام الديني للجماهير وإطلاق يد الأمراء والساسة والدولة، جعل القوانين الاجتماعية الوضعية التي وضعها الوسط التنويري، تحل محل الأحكام الدينية، وما تبعها من تهميش الدين بالكامل في حياة الناس.
جدير ذكره أن المذهب البروتستانتي، قد تأثر باليهودية فأجاز الربا في التعاملات المالية ورفع الحرمة عنه.
إن اليهودية التي كانت قد ركنت إلى العزلة طيلة سنوات تفوق الكنيسة الكاثوليكية، لعبت دورا رئيسيا في التطورات الاجتماعية بأوروبا.
إن تغيرات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقعت تحت أثر التنويريين والمثقفين التابعين للماسونية التي كان اليهود يتولون توجيهها وإدارتها، لوضع مآرب وأغراض المذهب الإنساني للقادة الفكريين لهذا العصر موضع التنفيذ. إن الماسونية، كانت في الحقيقة الجهاز السياسي والفكري للمثقفين والرأسماليين الذين كانوا يمسكون بزمام التيارات الاقتصادية والسياسية والثقافية لأوروبا.
وكان جيمز اندرسن البريطاني قد وضع عام 1717 للميلاد القرارات التي كانت سائدة في جميع ماسونيات العالم موضع التنفيذ بصورة مدونة في محفل لندن الكبير (غراند لوج).
وكانت الماسونية وفي سياق السياسة البريطانية – اليهودية وحقدا على ديانة المسيح، عليه السلام، ورجال الدين، بصدد الاستيلاء على السلطة في بريطانيا، لتثأر للعزلة التي طالتها على مدى 13 او 14 قرنا من الزمن. وفي ظل هذا الحلم، فإن الثورة التي وقعت في بريطانيا عام 1688 ونقلت القيادة إلى البرجوازية، تعد أول حكومة رسمية للماسونية. 
واستطاعت هذه الحكومة في فترة وجيزة، إيجاد محافل ماسونية تابعة لها في جميع البلدان. وفي عام 1732 للميلاد، تشكل أول محفل فرنسي على يد الماسونيين المنتمين لمحفل بريطانيا الكبير. وكانت المحافل الماسونية في أرجاء العالم، وبهيكليتها السياسية – الإمبريالية الجديدة، تمتدح بريطانيا وتصفها بأكثر البلدان حرية، وكانت تمهد من جهة أخرى، للهيمنة البريطانية.
إن الثورة الجديدة التي يمكن في الحقيقة تسميتها بالثورة الماسونية، تشكلت في البلد الأم عام 1688 من دون إراقة الدماء، البلد الذي كان ينادي وفقا لمعتقدات ماسونييه، بالإصلاح ونيل السلطة من دون حرب وصراع، وأصبح ملك بريطانيا رئيس الماسونيين في العالم.
وكان الوضع مختلفا في فرنسا. وكما كتب بعض المؤلفين، فإن الثورة الفرنسية التي ترافقت مع إراقة الدماء والاستبداد الشديد للثوريين – الذين كانوا جميعا من الماسونيين – وقعت متأثرة بتحريضات الماسونية البريطانية.
وكان قادة المحافل الماسونية، يتقدمون في ضوء التعويل على الفكر والثقافة اليهودية – اليونانية والإصرار على مبادئ المذهب الإنساني التي سخرت أسرة “مديسي” الإيطالية جل ثروتها وقدراتها للترويج لها، وأرست أساس الثورة الفرنسية الكبرى من خلال اتباع التعاليم التلمودية التي كانت تحذرهم من الحضور وإبراز معتقداتهم في العلن وبين الناس، واستخدم أشخاص مثل مونتسكيو وروسو وفولتير من خلال الانخراط في هذه المحافل، المبادي النظرية اليهودية – اليونانية لترسيخ المبادئ الثقافية والمدنية الحديثة لأوروبا. بحيث أن مجمل علاقات أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت مستلهمة من هذا التيار الفكري.
ويقول مؤلف “تاريخ الأفكار الاجتماعية” حول دور مونتسكيو:
إن مونتسكيو كان ينظر بنظرة تقدير وإعجاب إلى الدستور البريطاني، وهاجم في كتاب “الرسائل الإيرانية” النظام الاجتماعي السائد في فرنسا وفي كتاب “روح القوانين” الدولة والكنيسة. إن روح القوانين يعد أحد أكبر الكتب السياسية في القرن الثامن عشر، والذي كان له دور في التحضير لاندلاع الثورة الفرنسية.
ويكتب ويل ديورانت حول هذه الفئة من أصحاب الرساميل ومثقفي عصر الثورة الفرنسية:
كان ثمة أشخاص من هذه الطبقة، وحتى أكثر من طبقة النبلاء انضموا إلى المحافل الماسونية في سبيل حرية الفكر والعيش بحرية [التحرر من قيود الدين]. وهؤلاء الذين كانوا يقراون أعمال فولتير وكانوا يستمتعون بنكاته الطريفة. وكانوا يشاطرون غيبون الاعتقاد بأن جميع الأديان، باطلة بصورة متساوية من وجه نظر الفلاسفة، لكنها مفيدة للسياسيين بصورة متساوية. وكانوا يمتدحون في الخفاء، المذهب المادي لهولباخ وهلوسيوس… .
وفي عام 1791 للميلاد، قال رجل بريطاني:
وكأن جميع القيود كانت قد زالت مرة واحدة. وكان كل واحد يؤسس محفلا وفريقا من أجل نشر أفكاره.
وكانت نواد موجودة في كل زقاق باعداد كبيرة، وهذه النوادي كانت عبارة عن جمعيات أدبية واجتماعات رياضية ومحافل ماسونية واجتماعات عمالية.
الانحطاط الأخلاقي من جديد
إن انتصار الثورة الفرنسية الكبرى، كان انتصارا ل”البرجوازية” الراسمالية التي ابتاعت كل ممتلكات الكنيسة في فترة سادها الاضطراب، لتنشر بظلالها على كل مقدرات أوروبا.
والنتيجة الطبيعية للقضاء على المبادئ الأخلاقية للدين، لم تكن سوى اللامبالاة والهرج والمرج. بحيث تم سريعا تعميم جميع الحقوق المدنية بشان اليهود الفرنسيين، وفقا للقرار 28 سبتمبر 1791 وأصبح هؤلاء متساوين قانونيا مع جميع المواطنين. 
وإلى هنا، كان المنتمون للفكر “اليهودي- اليوناني” قد حققوا قسطا من تطلعهم. لكن ذلك انعكس في الجريمة والميسر والفضائح الأخلاقية التي طالت أوروبا المنسلخة عن الدين بحيث أنه:
“تم إقامة ثلاثة آلاف نادٍ للقمار في باريس حتى عام 1794” 
واضافة إلى ذلك:
لقد كان الكثير من الأبناء يستغربون عدم قدرة آبائهم وأمهاتهم على استيعاب السخونة الثورية والأساليب الجديدة. وقد نبذ بعض هؤلاء القيود الأخلاقية القديمة وتحولوا إلى أفراد مولعين بالترف واللامبالاة، وتصاعدت الفوضى الجنسية. وتفشت الأمراض التناسلية، وتزايد عدد اللقطاء واستمرت الدعارة على قدم وساق.
… وخلال الثورة، ساد حديث عن المثلية الجنسية بين الطلبة وربما كان الأمر سائدا في السجون. وازدادت المومسات وبيوت الدعارة خاصة بالقرب من باله – رويال وبساتين تويلري و… وصدرت كتيبات تتضمن عناوين وأجور النساء… والنساء اللواتي اكتسبن خبرة طويلة في الجنس، تحولن إلى قادة الموضة والمجتمع … وفي عام 1796 كان هناك في فرنسا 44 ألف لقيط. وبين الأعوام 1789 إلى 1839 كانت 24 بالمائة من عرائس مدينة مولن (التي كانت نموذجا للمدن الأخرى) حوامل أثناء الزواج … وراجت الموضوعات الخادشة للحياء والعفة … وكان يبدو بأن الأسرة أصبحت من ضحايا الثورة الفرنسية. وخضعت التقاليد شأنها شأن أي شئ آخر، لتأثير التطورات الثورية … فتغيرت الملابس والأزياء ببطء أكبر … وخضعت الأزياء النسائية لتاثير هذه العقيدة الثورية من أن الثورة تابعة لجمهورية روما واليونان في عصر بريكلس … وكانت الألعاب السائدة، لعبة الكرة والتنس وركوب الخيل والفروسية، ومسابقات المصارعة … وكانت هناك المتنزهات الترفيهية مثل بساتين تيولري، وكانوا يلجأون إلى التفؤل فيها في الأيام المشمسة علي غرار 12 ألف متنزه آخر، ويشاهدون الألعاب النارية واللعب بالحبال وإطلاق البالونات. وكانوا يحضرون الحفلات الموسيقية ويضعون الأطفال في الدواليب من أجل التسلية والترفيه… .
وبعد فترة التجاذبات والأزمة  للثورة، ساد نظام حديث (تاسيسا على الثقافة اليهودية – اليونانية الجديدة) في المجتمع بفضل قادة مثل نابليون وآخرون. وأرسي نظام جديد للتعليم والتربية ووضعت أنظمة لتعديل العلاقات الإنسانية.
وفي هذه الدورة تمكن اليهود من نيل الكثير من مطالبهم وحتى أنهم استطاعوا بعد عام 1700 للميلاد، إقامة أكبر مجلس استشاري لهم. وفي هذا الملتقى الكبير الذي عطل منذ عام 66 للميلاد، التأم كبار شخصيات اليهود. وجاء في دعوة كانت قد أعدت لهذا الغرض:
إن واقعة عظيمة على وشك الحدوث، لم يكن آباؤنا وحتى نحن في عصرنا، نتوقع مشاهدتها. وقد أخذ تاريخ العشرين من أكتوبر بنظر الاعتبار لافتتاح “سنهيدرين الكبير” في عاصمة أحد أقوى الشعوب الاوروبية المقتدرة وبرعاية حاكم خالد يحكمها. إن باريس ستعرض مشهدا خارقا للعالم وإن هذه الواقعة التي لا تنسى، ستفتح أبواب النجاة والرقي بوجه المتبقين المبعثرين من أعقاب ابراهيم. 
وليس عجبا، أن يتم حظر الحديث حول اليهودية والماسونية وإصدار أي كتيب أو رسالة بهذا الخصوص، في مهد الحرية؟! (فرنسا) منذ ذلك الحين وحتى الآن. ولم يتوقف التغيير الثقافي والمدني عند فرنسا بل انتقل سريعا إلى البلدان الأوروبية الأخرى بما فيها بريطانيا وغير البنية المادية والمعنوية للجماهير على غرار ما حدث في فرنسا. والنتيجة الطبيعية لهذا التغيير، كان تفشي الفساد الأخلاقي.
وقد شكى كبير أساقفة “كانتربري” من أن:
سيل الأقوال المتسمة بالكفر يتسع نطاقه يوما بعد يوم.
وأعقب ذلك انتشار رياضات لم تكن أقل من الأخلاق العامة للناس.
فقد كانت الملاكمة بدون قفازات، سائدة بين الطبقات الدنيا من المجتمع. فكانت الملاكمة الرياضة المحبذة لدى أغلبية الشرائح.
وكانوا يعتبرون القيام بهذه الرياضات أحيانا، بمثابة تصفية الغرائز الحيوانية وميل الناس للعنف. وكان الفقراء يشبعون غريزتهم الهمجية هذه من خلال لإيذاء حيوانات مثل الثور والدب.
“لقد كان ركوب الخيل وسيلة لإرضاء المقامرين وإفراغ جيوب المشاهدين”.  وقبل عصر النهضة، كانت الرياضة مثلها مثل باقي مناسبات وقضايا القرون الوسطى، في قبضة الكنيسة ورجال الدين. لكن تطورات ما بعد عصر النهضة والثورة الفرنسية الكبرى، فتحت نافذة مختلفة أمام الرياضة وعرضتها بهيكلية حديثة.
وفي آواخر القرن الثامن عشر وللمرة الأولى اضيفت الرياضة والألعاب إلى برنامج المعاهد في ألمانيا. وأول من قام بذلك هو أحد القساوسة البروتستانت وكان يدعى “بازدو”، الذي انخرط في سلك القساوسة بعد إكماله العلوم الدينية. لكن بما أنه قدم ككافر من قبل القساوسة الأرثوذكس، اضطر للجلاء عن الوطن والهجرة.
لقد دعي بازدو عام 1753 في الدنمارك من قبل اكاديمية كان قد أسسها الملك آنذاك لتنشئة الأمراء، كأستاذ للآداب. وقام بتأسيس معهد كان يولي برنامجه، أهمية خاصة للعمليات البدنية. وكان بازدو يؤمن بأن الشبان يجب أن يتخلوا عن القومية والدين ويسعون لاستكمال حسن النوايا وحب الإنسان. وكان بازدو يقول بأن العالم هو وطن الجميع. وكان يدرك بأنه يجب تعويد الجسم على تحمل الصعاب وإنفاق المزيد من الوقت لهذا الغرض. لذلك فإنه حذف المواد الزائدة والمرهقة من برامج المعهد وأعطى مكانها للرياضات البدنية. 
وهذا الكلام، كان يعني حدوث ثورة في الرياضة.
يتبع إن شاء الله    
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون إذن خطّيّ من إدارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها

شاهد أيضاً

النزعة اليونانية أو الهيلينية

اسماعيل شفيعي سروستاني لقد استولى الجيش المقدوني غير الأنيق بقيادة فيليب والإسكندر على اليونان، ومن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.