اصبحت بعض الشخصیات الروحیة والفكریة فی الغرب قلقة من انحراف الحضارة الغربیة فی الاتجاه الوضعی العلموی المحض، وهو اتجاه لا یعترف الا بالتركیبة المادیة للانسان والوجود. كما انه یغالی فی تقدیس العلم الوضعی الذی یكتشف هذه التركیبة المادیة وینكر وجود أی شیء آخر وراءها أو یتعالى علیها. كما انه ینكر القیم الروحانیة والتنزیهیة لأنه لا یمكن البرهنة علیها تجریبیاً فی المختبر!..
محمد الأمینی
اصبحت بعض الشخصیات الروحیة والفكریة فی الغرب قلقة من انحراف الحضارة الغربیة فی الاتجاه الوضعی العلموی المحض، وهو اتجاه لا یعترف الا بالتركیبة المادیة للانسان والوجود. كما انه یغالی فی تقدیس العلم الوضعی الذی یكتشف هذه التركیبة المادیة وینكر وجود أی شیء آخر وراءها أو یتعالى علیها. كما انه ینكر القیم الروحانیة والتنزیهیة لأنه لا یمكن البرهنة علیها تجریبیاً فی المختبر!.. هذه المغالاة فی تقدیس العلم الوضعی هی التی ندعوها بالاتجاه العلموی، لا العلمی، فالعلم شیء مفید جداً ومهم، وهو الذی صنع كل هذه الحضارة المادیة والتكنولوجیة التی نشهدها بأم أعیننا الیوم. وبالتالی فنحن لا نهاجم العلم اذ نقول هذا الكلام، وانما الاغراق فی النزعة العلمویة، الوضعیة، الجافة.
فی الواقع ان المیزة الكبرى للفلسفة الحدیثة هی أنها ركزت اهتمامها على دراسة الانسان، وكذلك دراسة الكون بما فیه ومن فیه، وهكذا ازدهرت علوم الطبیعة فی الغرب، بالاضافة الى علم الانسان (الانثربولوجیا)، وعلم المنطق، والتاریخ، واللغة، والاجتماع، الخ.. وتراكمت معلومات هائلة عن الانسان والطبیعة طیلة القرون الثلاثة أو الأربعة المنصرمة من عمر الحضارة الغربیة. واصبحنا نفهم الانسان والكون بشكل افضل بكثیر مما سبق، ولكن انهماك الفلسفة الحدیثة باكتشاف كل ذلك انساها شیئاً آخر هو التالی: هناك حقیقة اخرى تتجاوز الانسان أو تعلو علیه، هناك حقیقة اخرى غیر الحقائق المادیة والقوانین العلمیة التی تتحكم بالانسان والطبیعة والكون. ویمكن القول بهذا الصدد انه بقدر ما كانت الفلسفة القدیمة، ای فلسفة القرون الوسطى، تهمل الجانب العلمی والمادی، فإن الفلسفة الحدیثة تهمل الجانب الروحی المتعالی. وهكذا انتقلنا من شطط الى شطط، ومن غلو الى غلو. وقد آن الأوان لتصحیح هذا الوضع بعد ان وضعت الحداثة فی الاتجاه المادی المحض الى مداه الاخیر، وكذلك بعد ان اصبحت الشهوات الحسیة الاستهلاكیة، بل والشذوذیة، هی غایتها ومبتغاها، وهكذا أصبح أفق الایمان والتعالی غائباً كلیاً عن الثقافة الغربیة، ولم یعد فلاسفة الحداثة یذكرونه اطلاقاً، لأنه فی رأیهم شیء قدیم، بال، عفى علیه الزمن، ینبغی العلم ان معظم فلاسفة اوروبا وامریكا المعاصرین یهملون مسألة الایمان باعتبار انها شیء غیر موجود على الاطلاق، یكفی ان نذكر هنا اسماء سارتر، او فوكو، او هابرماس، أو سواهم عدیدین. لا یخطر على بال ای واحد منهم ان یطرح مسألة الدین، او الایمان، او الروحانیات. لماذا؟ لأنهم یعتقدون انه لا یوجد ای شیء اخر غیر هذا الكون المادی الذی نعیش فیه، ولأننا سوف ننحل إلى عناصرنا الأولیة عندما نموت. وهی نفس العناصر التی تشكل النباتات والحیوانات، والجمادات.
وبالتالی فلا یوجد أی شیء اخر غیر المادة، والمادة هی الأفق الوحید لوجودنا. هذا هو التصور الذی یهیمن على الحیاة الغربیة من اقصاها الى اقصاها. وهنا یكمن احد اسباب التناقض الاساسیة بین العالم الاسلامی والغرب. ولا ینبغی اهمال هذا البعد بحجة الدفاع عن القیم الحضاریة ضد الاصولیة، والتزمت، والتعصب، نقول ذلك على الرغم من ضرورة هذا الدفاع ومشروعیته. ولكن حتى الشرائح التی لا تزال مسیحیة أو متدینة فی الغرب ذاته تشارك المسلمین هذا النفور من إلحادیة الغرب المتطرفة، نضرب على ذلك مثلاً مواقف البابا یوحنا بولس الثانی الذی یدعو الى اعادة التوازن إلى الحضارة الغربیة ذات البعد الواحد، أو التی اغرقت وبالغت فی الاتجاه الواحد.
فی الواقع ان الفلسفة الاوروبیة لم تكن دائماً هكذا. ففی عصر القدیس توما الاكوینی، ای فی القرن الثالث عشر اثناء تشكل أولى الجامعات، كانت العلاقة وثیقة بین الفلسفة وعلم اللاهوت، وكانوا یعترفون الى حد ما بالاستقلالیة الذاتیة للفلسفة والعلم. ولكن بعد نهایة العصور الوسطى اصبح فلاسفة اوروبا یطالبون بالاستقلالیة الكاملة: ای بفصل العلم عن الدین كلیاً. ثم واصلوا على هذا الخط حتى وصلنا الى ما وصلنا الیه الیوم. نقول ذلك على الرغم من ان فلاسفة الحداثة الاوائل كانوا لا یزالون یقرون بوجود علاقة بین العلم والایمان. فدیكارت مثلاً كان یبرهن عقلانیاً على وجود الله وخلود الروح. نقول ذلك على الرغم من ان البعض اتهموه بأن أصل انفصال الفلسفة عن الدین، أو العلم عن الایمان، بسبب تركیزه الشدید على قدرات العقل البشری. ولهذا السبب هاجمه «باسكال»، ذلك العبقریة الآخر الذی اعطى ثقته فی نهایة المطاف للایمان على حساب العلم على الرغم من انه كان قد نبغ فیه. وظل الفلاسفة حتى كانط، بل وحتى هیغل، یتحدثون عن شؤون الایمان والدین ولا یعتبرون ذلك شیئاً رجعیاً لا یستحق ای اهتمام! ولكن یبقى صحیحاً القول انهما قدما تصوراً مطلقاً او معصوماً عن العقل الى درجة ان العقل حل تماما محل الدین فی الثقافة الغربیة. ثم واصل العقل مغامراته، واكتشافاته، ولكن ایضا سقطاته وانحرافاته، حتى اكتشف الانسان الغربی مؤخراً حدوده ومحدودیاته.. فالفلسفة الوضعیة التی تسیطر على الغرب حالیاً لا تبعد الانسان فقط عن الرؤیة الدینیة للعالم، وانما تنسیه ایضا كل اهتمام اخلاقی او میتافیزیقی. فالعالم فی المختبر من كثرة لهاثه وراء الاكتشافات العلمیة الجدیدة نسی غائیة العلم التی هی: خدمة الانسان، بل وبلغ الغرور العلموی الوضعی درجة مخیفة مؤخراً اذ فكروا باستنساخ الانسان او حتى خلق الانسان فی انبوب اختبار!.. فأین هی الاخلاق؟ ألم ینفصل العلم كلیاً عن الاخلاق؟ ألم ینحرف ویضل الطریق؟ الا ینبغی ان تكون هناك ذروة روحیة علیا تقول للعلم ما هی الحدود التی ینبغی ان یتوقف عندها؟ فی الواقع انه لو لم ینفصل العلم كلیاً عن الایمان لما وصلت الحضارة الغربیة الى ما وصلت الیه الیوم من نزعات عدمیة ونسبویة خطیرة. فلم تعد هناك ای قیم اخلاقیة مؤكدة او مضمونة، فكل شیء یتساوى مع كل شیء. فالشذوذ الجنسی مثلاً اصبح امراً طبیعیاً مثله فی ذلك مثل الجنس المشروع او الطبیعی بل واصبح الشاذون یطالبون بحقهم فی تبنی الاطفال!!.. هكذا انحرفت هذه الحضارة عن مسارها الطبیعی على الرغم من انها حققت انجازات كبرى على أصعدة مختلفة.
نستنتج من كل ذلك ما یلی: ان بعض كبار المفكرین اصبحوا یشخصون أزمة الغرب على اساس انها متولدة عن ذلك الانفصال التدریجی الذی حصل بین الایمان والعقل الفلسفی على مدار القرون الثلاثة الماضیة. فالعقل اذا ما أفلت من عقاله، اذا ما تحرر من كل الضوابط، اذا ما حُرم من نور الایمان، یصبح مجنوناً ویخبط خبط عشواء فی كل الاتجاهات، وتكون النتیجة كارثة. وهذا ما حصل بالفعل فی القرن العشرین عندما أدت مغامرات العقل الغربی الى حربین عالمیتین، ومجازر استعماریة، وهیروشیما، وناغازاكی، ونازیة وفاشیة.. فهل سیعود الغرب الى الایمان من جدید؟ هل سیتخلى عن عنجهیته وغروره؟ هل سیتوصل اخیراً الى النتیجة التالیة: وهی ان الایمان اذا ما كان مستنیراً وواسعاً لا یضیر العقل فی شیء ولا یحد من حریته، وانما یفتح امامه آفاق الأمل، ویخلع على أعماله البعد الروحی والاخلاقی؟.