هناك آیات كثیرة تؤكّد على ضرورة الإنتظار وأعنى به (انتظار الأمر) أمر الفرج والمخرج والهدایة والكمال ، حیث أنّه من أعظم المقدّسات الإلهیة وهو ذروة العشق ففی كتاب إكمال الدین باسناده عن( یَحْیَى بْنِ أَبِی الْقَاسِمِ قَالَ سَأَلْتُ الصَّادِقَ علیه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدىً لِلْمُتَّقِینَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) فَقَالَ الْمُتَّقُونَ شِیعَةُ عَلِیٍّ علیه السلام ، وَ أَمَّا الْغَیْبُ فَهُوَ الْحُجَّةُ الْغَائِبُ وَ شَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَیَقُولُونَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ آیَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَیْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّی مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِینَ) .
الإنتظار ، الإرتقاب ، التربص والتحسس
بسم الله الرحمن الرحیم
الإنتظار ، الإرتقاب ، التربص ، التحسّس
قال تعالى : (بَقِیَّةُ اللَّهِ خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِینَ وَمَا أَنَا عَلَیْكُمْ بِحَفِیظٍ)
سأعرض فی مقالتی هذه إضاءات فی عقیدة الإنتظار وكیفیة التحلّى به و تطبیقه فی الحیاة الفردیة والإجتماعیة ، وستكون للكلمة خمسة محاور رئیسة تدور حولها الإضاءات كما أنّ لكلّ محور عددا من المقامات التفصیلیة :
المحور الأوّل : مدخل قرآنی فی علّة الإنتظار :
المقام الأوّل : الخلافة الإلهیّة فی القرآن :
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً) . الظاهر من الآیة المباركة حیث أطلقت فیها كلمة “الجعل” دون “الخلق” أنّه لیس المراد أنّ آدم نفسَه هو خلیفة الله فی الأرض بل كان خلق آدم لأجل تلك الخلافة التّی سوف یمنحها ویجعلها سبحانه لبعضٍ من وُلده وهم الخُلَّص من عباده وهم الذین یجدر أن یطلق علیهم الإنسانُ الكامل بمعنى الكلمة وهم الذین ورد فی شأنهم ( خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحدقین حتَّى منَّ علینا بكم فجعلكم فی بیوت أذن الله أن ترفع ویُذكر فیها اسمه ) وبالطبع هم نور واحد وحقیقة فاردة وإن تكثّروا فی عالم الطبیعة ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه لم یذكر الخلیفة بصورة الجمع فلم یقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة وهذه الخلافة هی الأمانة الإلهیَّة بعینها و تعنی النیابة عنه تعالى فی جمیع شئونه وصفاته الجمالیة والجلالیة وهو أمر عظیم قد ذكره سبحانه فی قوله:(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)
والسر فی تحمله تلك الأمانه یكمن فی أنّه مظهر لأسماء الله الجلالیة والجلال معاً بخلاف سائر الموجودات حیث أنّها إمّا هی تجلیات الجمال كالملائكة أو تجلیات الجلال كالجنّ و بعض الحیوانات ولذلك قال سبحانه مخاطباً لإبلیس: ( یَاإِبْلِیسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِیَدَیَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِینَ)
قال الإمام الخمینی قدِّس سرُّه:
” فهو تعالى بحسب مقام الإلهیة مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، و البطون والظهور، و الأوّلیَّة والآخریّة، و السخط والرضا، وخلیفته لقربه إلیه ودنّوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بیدی اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه. ولهذا اعترض على إبلیس بقوله تعالى: ( ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِیَدَیّ) . مع أنّك مخلوق بید واحدة. فكل صفة متعلقةٌ باللطف فهی صفة الجمال، وكل ما یتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال. فظهور العالم ونورانیّته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبریائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال. جمالك فی كل الحقایق سایر ولیس له إلاّ جلالك ساتر ”
وعندما اعترضت أو بالأحرى سألت الملائكة ربّها (…أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أجابهم سبحانه و( قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
فلم یُنكر سبحانه تلك الأمور أعنی الإفساد فی الأرض وسفك الدماء كظاهرة سوف تصدر من هذا البشر بل الظاهر أنَّه قد قرَّرها، ولكنه سبحانه بیَّن للملائكة أنَّهم جاهلون بحقیقة الأمر.
ومن هنا ظهرت مقولة مقدّسة قد تحلّت بها الملائكة ألا وهی “الإنتظار” وأعنی به انتظار أمر البشر، فهل سیرتقی إلى قمّة الكمال والعروج والهدایة أو كما ظنّت الملائكة سیفسد فی الأرض ویسفك الدماء؟
المقام الثانی : الإنتظار لغةً واصطلاحاً .
قال صاحب المفردات فی مادة نظر: النظر تقلیب البصر والبصیرة لإدراك الشیء ورؤیته، وقد یراد به التأمل والفحص، وقد یراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص…والنظر الانتظار یقال نظرته وانتظرته و أنظرته.
وأیضاً قال: فی مادة “صبر” ویعبّر عن الانتظار بالصبر لما كان حق الانتظار أن لا ینفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر، قال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أی انتظر حكمه لك على الكافرین.
أقول: ” إنَّ هذا الاستعمال هو استعمال مجازی من باب استعمال اللازم وإرادة الملزوم وهو شائع فی كلام العرب. هذا و للانتظار معنىً فی الاصطلاح ویعنى به خصوص انتظار “فرج الله” الذی هو فرج حجة الله الإمام الثـانی عشـر المهدی المنتظر روحی و أرواح العالمین له الفداء الذی به یكشف الله الغم و ینفِّس الهم، ومن هذا المنطلق تُبِعت الكلمة بكلمة الفَرَج الذی هو الانكشاف، وهذا المعنى للكلمة هو المقصود منه فی أحادیثنا الشریفة.
المقام الثالث : شواهد قرآنیة دالة على الإنتظار:
هناك آیات كثیرة تؤكّد على ضرورة الإنتظار وأعنى به (انتظار الأمر) أمر الفرج والمخرج والهدایة والكمال ، حیث أنّه من أعظم المقدّسات الإلهیة وهو ذروة العشق ففی كتاب إكمال الدین باسناده عن( یَحْیَى بْنِ أَبِی الْقَاسِمِ قَالَ سَأَلْتُ الصَّادِقَ علیه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدىً لِلْمُتَّقِینَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ) فَقَالَ الْمُتَّقُونَ شِیعَةُ عَلِیٍّ علیه السلام ، وَ أَمَّا الْغَیْبُ فَهُوَ الْحُجَّةُ الْغَائِبُ وَ شَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَیَقُولُونَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ آیَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَیْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّی مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِینَ) .
وعند التأمّل فی سیرة الأنبیاء والأولیاء نشاهد أنّ من أهم أمنیاتهم و أشدّ آمالهم هو مجیء المهدی علیه السلام الذی به یملأ الله الأرض قسطاً وعدلا ، وكانوا دائماً بصدد هدایة الناس إلى أمره الذی هو أمر الله بعینه كما قال تعالى فی توصیفهم (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنَا … ) ومن هذا المنطلق نشاهد أنّ الأنبیاء كانوا دائماً یذكرون ذلك الأمر ویشتاقون إلیه كما صرّح بذلك القرآن الكریم فی مواطن عدیدة عن لسان كثیر منهم كما ورد عن لسان لوط (ع) (قَالَ لَوْ أَنَّ لِی بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِی إِلَى رُكْنٍ شَدِیدٍ ) ( فی كتاب كمال الدین وتمام النعمة باسناده إلى أبی بصیر قال: قال أبوعبدالله (علیه السلام): ما كان قول لوط: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِی بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِی إِلَى رُكْنٍ شَدِیدٍ ) الا تمنیا لقوة القائم (علیه السلام)، ولا ذكر (ركن) الا شدة أصحابه، لان الرجل منهم یعطی قوة أربعین رجلا وان قلبه لاشد من زبر الحدید، ولو مروا بجبال الحدید لقطعوها لا یكفون سیوفهم حتى یرضى الله عزوجل.)
وأیضاً ما ورد عن لسان شعیب (بَقِیَّةُ اللَّهِ خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِینَ وَمَا أَنَا عَلَیْكُمْ بِحَفِیظٍ) ففی اصول الكافی..باسناده عن ابی عبدالله (علیه السلام) قال: سأله رجل عن القائم یسلّم علیه بامرة المؤمنین؟ قال: لا ذاك اسم سمى الله به أمیر المؤمنین (علیه السلام)، لم یسمّ به أحد قبله ولا یتسمّى به بعده إلا كافر، قلت: جعلت فداك كیف یسلِّم؟ قال: یقولون السلام علیك یابقیة الله، ثم قرأ: بقیة الله خیرٌ لكم إن كنتم مؤمنین)
المحور الثانی : إنتظار الفرج :
المقام الأوّل : أهمّیة إنتظار الفرج :
عندما نتمعَّن فی الأحادیث المختلفة الصادرة عن المعصومین علیهم السلام نستنتج أنَّ الأعمال كلَّها مع ما فیها من الأهمیَّة والاعتبار فهی قلیلة الشأن فی قبال الانتظار فهو: ( أفضل الأعمال ) فجمیع الأعمال العبادیة مع ما لها من القدسیَّة والروحانیَّة دون مستوى الانتظار فهو: (أفضل عبادة الأمَّة ) والجدیر بالذكر أنَّ هذه العبادة أعنی الانتظار قد دخلت فی ساحة أهمّ العبادات وهو الجهاد فی سبیل الله وصار “أفضل جهاد الأمة” كما فی الحدیث التالی الصادر عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلَّم حیث قال ( أفضل جهاد أمتی انتظار الفرج ) ومن زاویة عرفانیَّة فللانتظار أیضاً مستوى رفیع من العرفان والروحانیَّة حیث صار “أحبَ الأعمال إلى الله” حتَّى وصل المنتظر إلى مستوى الشهید فی سبیل الله.
( قال أمیر المؤمنین علیه السلام: انتظروا الفرج ولا تیأسوا من روح الله، فإن أحبَّ الأعمال إلى الله عزَّ وجل انتظار الفرج… و المنتظرُ لأمرنا كالمتشحِّطِ بدمه فی سبیل الله )
فما هو الأمر المتوقع من المجاهد فی سبیل الله حین الجهاد ؟ وما قیمة المجاهد لولا النیّةُ الصادقة المنطلقة من رضا الله ؟ هذا الأمر بنفسه فی أعلى مستواه متوفِّرٌ فی المنتظر الحقیقی الذی یتمنَّى فی كلِّ صباحٍ ومساءٍ أن یعیش فی ظلِّ ذلك المعشوق روحی لتراب مقدمه الفداء و لسان حاله: ( فأخرجنی من قبری مؤتزراً كفنی شاهراً سیفی مجرداً قناتی ملبیاً دعوةَ الداعی فی الحاضرِ و البادی ) وهو بقربه إلى الله وشهوده مقامَ ربِّه صار كالشهید متشحِّطاً بدمه فی سبیل الله، ولیس للشهید خصوصیةٌ فی الخارج بل الخصوصیة والقیمة لمفهوم الشهادة التی تعنی الوصول إلى الله وشهود وجه المحبوب، والمنتظِر یؤدِّی نفس الدور حیث یشاهد وجهَ ربه وهو فی نفس الوقت یعیش مع الناس. والحدیث التالی قد بیَّن السر الذی رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة:
) عن أبی حمزة الثمالی عن أبی خالد الكابلی عن علی بن الحسین علیه السلام قال: تمتدُّ الغیبة بولی الله الثانی عشر من أوصیاء رسول الله صلى الله علیه وآله وسلَّم و الأئمة بعده، یا أبا خالد إنَّ أهل زمان غیبته والقائلین بإمامته المنتظرین لظهوره أفضل أهل كل زمان لأن الله تعالى ذكرُه أعطاهم من العقول و الأفهام و المعرفة ما صارت به الغیبةُ عندهم بمنزلةِ المشاهدة وجَعلهم فی ذلك الزمان بمنزله المجاهدین بین یدی رسول الله صلى الله علیه وآله و سلَّم بالسیف، أولئك المخلصون حقاً و شیعتُنا صدقاً و الدعاةُ إلى دین الله سراً و جهراً )
وهناك أحادیث تؤكِّد على أنَّ “انتظار الفرج من الفرج” بل “انتظار الفرج من أعظم الفرج”. (… عن محمد بن الفضیل عن الرضا علیه السلام قال سألته عن شئٍ من الفرج فقال ألیس انتظار الفرج من الفرج ؟ إنَّ الله عزَّ و جلَّ یقول فانتظروا إنِّی معكم من المنتظرین ) وهذا المعنى من الانتظار قد اكتسب قسطاً من القدسیة والاعتبار بحیث صار من علائم الإخلاص الحقیقی والتشیُّع الصادق ومن ممیزات الدعاة إلى دین الله سراً وجهراً و قد ورد فی الحدیث:(..أولئك المخلصون حقا و شیعتنا صدقا و الدعاة إلى دین الله سرا و جهرا.. )
المقام الثانی: السرّ فی أهمیّة الإنتظار:
إن التقییم فی المنطق الإلهی یختلف تماماً عن التقییم فی المنطق المادِّی ومن الخطأ جداً محاولة تقییم القضایا المعنویة الراقیة والمفاهیم الروحانیة السامیة بالمعاییر المادیَّة، حیث أن هناك بونًا بعیداً بینهما بل هما فی طرفی النقیض، وقد وصل التضادّ بینهما إلى مستوى بحیث لا یمكن أن ینقطع الإنسان إلى المعنویات إلا بالابتعاد الكامل عن المادِّیات، ولا أعنى من الإبتعاد عن المادة هو تركها من رأس بل أعنی الزهد فیها وعدم انشغال الذهن بها.
فبما أنّ الله سبحانه هو القدّوس فمن المستحیل أن یتحلّى أمر ما بالقدسیّة إلاّ بارتباطه بالله تقدّس وتعالى، وقدسیةُ الشیء تزید و تنقص حسب ظهور اسم الله فیه، فلنترك إذاً المجال المادی ولنبحث عن الأفضلیة فی الساحة الإلهیة المعنویة.
وحینما نتحدّث عن انتظار فرجِ الله فلابدّ أن نبحث عن الإسم الذی یندرج فیه الفرج ؟ إنّ الرفج فی الحقیقة یندرج تحت اسم “الكاشف” ففی الدعاء: ( یا صریخ المكروبین و یا مجیب المضطرین و یا كاشف الكرب العظیم ) ( یا كاشف الغم) (یا كاشف الكرب العظام ) فماذا بعد الفرج إلا كشف الكربة عن وجه المؤمن برؤیة الواقع والأمر، حینما تتحقق تلك الدولة العظیمة التی یعزّ بها الله الإسلام واهله ویذل النفاق و أهله.
فالانتظار إذاً له نتیجتان:
1- إنَّه بالفعل یُحقِّق “كشف الكربة” بنحو مجمل.
2- إنَّه عاملٌ جذری أساسی للفرج بظهوره سلام الله علیه حیث یسود الحكمُ الإلهی الأرضَ كلّها.
المحور الثالث: الهدف من الإنتظار:
المقام الأوّل : التقرّب إلى الله :
لا یخفى على كلِّ من آمن بالله سبحانه أنه لیس فی القاموس الإلهی إلاّ میزان واحد یقاس به الأفضلیة وهو المیزان الحقیقی ألا و هو الحق ، وغیرُ الحق لا تعدُّ موازین بل یُترائى أنها موازین فلا حقیقة لها ولا ثِقل فیها، قال تعالی: (وَالْوَزْنُ یَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِینُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآیَاتِنَا یَظْلِمُونَ) . (فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ)
والوصول إلى الحق یعنی “التقرب إلى الله سبحانه وتعالى”، فینبغی أن یكون هدف المنتظر هو الوصول إلى القرب الإلهی ورضاه جلّ وعلا ، وبذلك یمكننا تقییم أعمالنا ، فوِزانُ الانتظار وزانُ النیة التی هی خیر من العمل حیث جاء فی الحدیث: ( نیة المؤمن خیر من عمله ) لأن هذه النیة من ناحیةٍ هی التِّی ترفع مستوى الإنسان ومن ناحیة أخرى تلازم العمل بل توجده قال تعالى: (قُلْ كُلٌّ یَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِیلاً)
فالرؤیة المهدویة هی التی تصحح سائر الأعمال من العبادات وغیرها ، وقد ورد فی دعاء الندبة (وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَاءَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَ اجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَ هُمُومَنَا بِهِ مَكْفِیَّةً وَ حَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِیَّةً )
المقام الثانی : تنمیة روحیة الرجاء بالله تعالى :
إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج تنمیةَ روحیةِ الرجاء بالله فی الإنسان المؤمن، حیث یُشاهد أمامَه مجالاً وسیعاً من الفضل والكرم والخیر الإلهی الذی سوف تظهر مصداقیَّتُها فی تلك الدولة العظیمة المباركة، وهی دولة المهدی المنتظر صلوات الله وسلامه علیه، تلك الدولة الكریمة التِّی یعزُّ الله بها الإسلام وأهلَه ویذلُّ بها النفاق وأهلَه، ومن الطبیعی أن من یحوز على تلك الرؤیة النورانیَّة أن یترفَّع عن الدنیا و زخرفها و مغریاتها وتسویلاتها الشیطانیة، وهذا الأمر (أعنی تحقیر المظاهر الدنیویَّة ) هو أوَّل خطوة یخطوها السالك إلى الله وهی (التخلیة ) التِّی تستتبعها (التحلیة )، ومثل هذا الإنسان المؤمن قد وصل بالفعل إلى مُستوى من العرفان والعبودیة بحیث یكون لسان مقالِه و حالِه وعملِه هو: ( صلِّ على محمدٍ و آل محمد و أثبتْ رجائك فی قلبی واقطعْ رجائی عمَّن سواك حتى لا أرجو إلا إیّاك ) ثمَّ یترقَّى فی العبودیَّة فیقول: ( بسم الله الذی لا أرجو إلاّ فَضله ) ( یا من ارجوه لكل خیر )
هذه الروحیة إن تركَّزت فی الإنسان المؤمن فسوف تُعمِّق جذورَها فتزیل جمیعَ الأشواك والموانع الصادَّة، لتنشرَ فروعَها الطیِّبة وثمارَها الجنیَّة فی السماء حتَّى تؤتى أكلَها كلَّ حینٍ بإذنِ ربِّها.
ونظراً إلى الحدیث المتواتر (إنَّ أمرَنا صعبٌ مستصعبٌ لا یَحتمله إلا مَلَكٌ مقرَّب أو نبیٌّ مُرسلٌ أو عبدٌ امتَحَن اللهُ قلبَه للإیمان ) نعرف أن الواقع الذی سوف یحققه ولی الأمر عجل الله تعالى فرجه الشریف هو واقع یختلف تماماً عمّا نعیشه نحن فی عصرنا الحالی من العیشة المادیة الصرفة التی لا تتحلى بالمعنویة و النورانیة أصلاً، وقد مَلئَت هذه الدنیا أفكارَنا وأذهاننا بحیث لم تسمح لنا أن نتصور تلك الدولة تصوراً صحیحاً ناهیك عن التصدیق بها كما هی، وبالفعل صار هذا الأمر أمراً صعباً مستصعباً علینا.
وعلیه: یتأكد علینا أن نجدد النظر فی فهم و معرفة تلك الدولة المباركة كی نرغب فیها فنطلبها فننتظرها وفی زیارة الجامعة الكبیرة: ” عارفٌ بحقكم مقر بفضلكم محتمل لعلمكم محتجبٌ بذمتكم، معترفٌ بكم مؤمنٌ بإیابكم، مصدِّقٌ برجعتكم، منتظرٌ لأمركم، مرتقبٌ لدولتكم)
المحور الرابع : قوام الإنتظار من الناحیة الباطنیة والظاهریة
المقام الأوّل : جانب الیأس وجانب الرغبة فی المنتظر:
إنَّ كلمة الانتظار تدُّل على حالتین كامنتین فی روح المنتظر، لكل منهما دور مهمّ فی معنى الكلمة وهذان الجانبان هما:
1- الجانب المطلوب والمحبوب للمنتظِر والمتوقَّع الوصول إلیه، وهو الخیر والبركة وتمكین الدین على الأرض كلِّه، فلو لم یتوقع حدوث حالة جدیدة وإیجابیة فی المستقبل فلا مصداقیة للانتظار ولا معنى له.
2- الجانب غیر المطلوب وغیر المحبوب الذی یتمثَّل فی الحالة الفعلیة التی یعیشها المنتظر، تلك الحالة المؤلمة التی یرجو المنتظر الخلاص منها، فلو كان الوضع الفعلی هو الوضع المطلوب فلا معنى للانتظار إذن ولا مبرر له أصلا.
وبعبارة أوضح: هناك تناسب عكسی بین أمرین هما:
1- الیأس من الحالة الفعلیَّة المعاشَة.
2- الرغبة فی الحالة المستقبلیَّة المتوقعة.
هذا ما یستفاد من نفس كلمة الانتظار من دون النظر إلى أی أمرٍ آخر خارج عنها وتشهد لهذه الحقیقة الآیة الكریمة التِّی وردت فی هذا المجال حیث السیاق وحیث الأحادیث الدالَّة على ذلك. قال تعالى: (أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكْشِفُ السُّوءَ وَیَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِیلاً مَا تَذَكَّرُونَ)(النمل/62).
الآیة الكریمة تشیر إلى الجانبین المتواجدین فی نفس المضطر:
1- سوءٌ غیر مكشوف وهو السوء المطلق الذی من خلاله نشأت سائر ألوان السوء، وهذا السوء یتمثَّل فی أمرٍ واحد وهو أنَّ الخلافة الظاهریة للأرض لیست بید المُضطَر.
2- هناك توقُّع ورجاء ورغبة كامنة فی نفس المضطر وهی أن تكون الخلافة العامَّة على جمیع الأرض له ولمن یقتدی به ویخطو خطاه.
وأمّا الحدیث عن شخصیَّة المضطر وأنَّه من هو ؟ فهو خارج عن بحثنا ههنا ولكن قوله تعالى “ویجعلَكم خلفاء الأرض” یُنبأنا عن حقائق أخرى تعرف بالتأمّل.
فلا یمكن للمؤمن ممارسةُ عملیةِ الانتظار إلاّ بعد معرفة أمرین متلازمین:
الأول: وهو الأصل والأهم، ویتمثَّل فی “معرفة تلك الخلافة الإلهیَّة” وهذا هو التولِّی الذی یُعدُّ من فروع الدین.
الثانی: وهو تابعٌ وملازم للأصل، وهو “معرفة السوء” الذی یتمثَّل فی الواقع الفعلی ومن ثمَّ التبرِّی منه الذی هو أیضاً من فروع الدین.
وهنا قد حان الحدیث عن مقولة “الرفض” الذی هو من أركان الإنتظار فنقول :
المقام الثالث: الإنتظار والرفض الإجتماعی :
إنَّه من الضروری لمن یعیش حالة الانتظار أن یعرف مدى إنحراف الواقع الفعلی عن الحقیقة والصواب، وینبغی أن یصل إلى مستوى من الإنزجار والتنفُّر بحیث یحسّ بأنَّه بالفعل سجین فی هذه الدنیا مقیّدٌ بأنواع القیود التِّی لا مفكَّ و لا خلاص منها إلاّ بظهور المنجی الحقیقی وهو “الحجة بن الحسن المهدی” عجل الله تعالى فرجه.
وینبغی له أن یشعر بأنَّ المشكلة التِّی یعیشها لیست هی مُشكلةٌ جزئیَّة یمكن التخلُّص منها بسهولة بل هی مُشكلةٌ كبیرة ومعضلةٌ عظمى قد رسَّخت جذورَها فی جمیع الأرجاء ونشرت سمومَها فی كافة الأنحاء، فعندما نلاحظ المجتمع نری بشاعة الظلم و انتشار الجور و ضیاع الحقوق و الحرِّیات و اختلاط الحق بالباطل.
فمثلاً نشاهد أنَّ أجهزة الإعلام العالمیَّة تجسِّد الباطل كأنَّه الحقّ وتصوِّر الكذب كأنه الصدق، وكلُّ شئٍ حول الإنسان مزیَّف ولكنَّه لا یشعر بهذه المشكلة التی تحیط به، بل یتوهَّم الحریَّة الزائفة، فلا یفكر إذن فی تبدیل ما هو علیه من الانحراف والإغفال.
فإذاً للتعجیل فی فرجه علیه السلام ولإیجاد الداعی فی المجتمع یجب أن یعُمُّ، وعلى الأقلّ الشعور بالمظلومیَّة كی یعلم الإنسان ویحس بكلِّ وجوده بأن الظلم قد شمله هو أیضاً و أنَّه یعیش تحت ظلّ تلك الشجرة الخبیثة التّی غرسها من أسَّس أساس الظلم و الجور على أهل البیت علیهم السلام حیث ظهر الفساد فی البرِّ والبحر، وبعد انتشار هذا المنطق لا محالة سوف یفكر المنتظِر فی إنقاذ نفسه و أهله و مجتمعه من هذه المشكلة.
و للخلاص من هذه المعظلة من رأس ینبغی لنا أن نعرفَ أنَّه لا محیص ولا مناص إلاّ بتوجُّهه علیه السلام، ومن ثمَّ ظهوره ومباشرته للحلّ بأسلوبٍ ملكوتی إلهی.
وعلینا أن نُدرك هذه الحقیقة بجمیع وجودنا، و أن ندافع عنها بأرواحنا ودمائنا و أجسادنا وجوارحنا، بحیث لا تمرُّ علینا ساعة بل لحظة واحدة إلا و نشعر بفقدان النور وهیمنة الظلام، وهذه الحالة لا تحصـل إلا بالمعرفـة، أعنى معرفة الله ومعرفتهم علیهم السلام ودولتهم المباركة، فلا بد أن نكون على بصیرة من أمرنا حیث أن الأعمى لا یمكنه أن یدرك النور مهما شُرِح له.
وهذه المعرفة تلازمها معرفة أخرى وهی معرفة أسالیب الأعداء الشیطانیَّة ومستوى عداوتهم للحق وانحرافهم عن الواقع وبُعدهم عن الله تعالى.
فعند وصول المؤمن إلى هذه المرحلة من الوعی والإدراك ینبغی له أن یلتزم بواجب هو من أهمِّ الواجبات ألا وهو التبرى من أعداء الله.
ثمَّ إنَّ هذه الحالة النفسیة أعنی الرفض سوف تكون لها آثار إیجابیَّة فی أخلاقه وأعماله تجعله یشتاق إلى ما سیحقَّق من النصر وتمكین الحق، وهكذا سوف یزداد الاشتیاق إلى أن ینقلبَ إلى قرارٍ حاسمٍ ومن ثمَّ إرادة جدِّیة وطلب مؤكَّد، وحینئذ سوف یراه المهدی علیه السلام: ” متى ترانا ”
ومثل هذا الإنسان سوف یتفاجأ برؤیة الإمام علیه السلام فلا یرى نفسَه إلاّ ویعیش دولته العظیمة وظلِّه الملكوتی المبارك: “ونراك وقد نشرت رایة الحق ”
*الرفض من العبادات الاجتماعیَّة
من النتائج الخبیثة والآثار السیِّئة التی نشأت جرّاء عزل الدین عن المجتمع وفصلة عن الحُكم خلال قرونٍ متوالیةٍ، هو تحریف المفاهیم الدینیة وتفسیرها تفسیراً مؤطَّراً بإطار الفرد لا یتخطاه قید أنملة وكأنَّ الدین لا یمتُّ إلى المجتمع بصلة، وهذه الآفة قد تسرَّبت بشدّة فی تقییم المفاهیم الأخلاقیة الواردة فی القرآن الكریم والأحادیث الشریفة، فقد فُسِّرت جمیعها أو أكثرها تفسیراً فردیاً وكأنَّها لا علاقة لها بالمجتمع ولا مساس لها بالأمَّة، وكأن الغایة من بعث الرسل وإنزال الكتب هی إیصال الأفراد فحسب إلى الكمال المطلوب.
ومن المؤسف أنَّ هذا النوع من التفسیر مع غایة بعده عن روح الإسلام صار كالبدیهی عند أكثر المسلمین حتى عند علمائهم، فترسَّخت جذورها فی المجتمع الإسلامی إلى حدٍّ أصبح كلُّ من یخالفها من جملة الشاذِّین عن الدین وفی زمرة المنحرفین عن الصراط المستقیم وبالنتیجة من المطرودین والخارجین عن ربقة الإسلام والمسلمین !!
هذا والقرآن بصریح العبارة یبیِّن السرّ فی بعث الرسل بقوله:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِیدَ فِیهِ بَأْسٌ شَدِیدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ)
ومن الواضح أنَّ “للحدید” الذی هو كنایة عن القدرة دورٌ مهم وأساسی فی بناء المجتمع فهو الساعد الآخر الذی یضمن تنفیذَ قوانین الدین بعد “الإیمان بالله”. ولم یكتف القرآن بذلك بل حرَّضَ كافة المؤمنین على القیام بالقسط فقال: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)
وعلى ضوئه ینبغی أن لا ننظر إلى المفاهیم الإسلامیة من منظار فردی فحسب، بل لا بد أن یكون المنظار الاجتماعی هو الحاكم وهو المخیم علیها.
فالتقوى مثلاً لیس مفهوماً أخلاقیاً فردیاً فحسب بل هو مفهوم إجتماعی أیضا، فهناك تقوى فی الإنسان كفرد وهناك تقوى أهمّ و هو التقوى بمفهومه الاجتماعی الذی یرجع إلى الأمَّة المؤمنة، ولكلٍ أثره الخاص به و جزائه المترتب علیه و ثوابه المنسجم معه. وكذلك مفهوم الإیثار و الإخلاص و الكرم و الجود و الغیرة والشجاعة وغیرها من القیم الإنسانیة الإسلامیة.
نفس الكلام یتأتّى فی المفاهیم المضادَّة و القِیم المنحرفة الشاذَّة كالبخل و الریاء و النفاق و الخیانة و الشره و الجبن وغیرها.
نعم هناك بعض المفاهیم، وهی قلیلة، یتغلَّبُ علیها الجانب الفردی كما أن هناك مفاهیمَ یتغلب علیها الجانب الاجتماعی، مع ذلك لا یعنی هذا أن نتمسك بها كمفاهیم خاصّة فردیَّة.
والمتأمل فی القرآن الكریم والأحادیث الشریفة سوف یذعن بما قلناه ولا بأس بذكر مثال واحد و هو ما ورد فی سورة الشعراء فی آیاتٍ ثمانیة عن لسان عددٍ من الأنبیاء:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِیعُونِ)
وكذلك فی سورة الزخرف فهذا الخطاب هو خطابٌ للمجتمع البعید عن واقع الدین، ولیس الخطاب متوجِّهٌ إلى الأفراد خاصَّةً.
ومن هذا المنطلق نقول لو أن القیم الأخلاقیة أو المفاهیم الاعتقادیة رسخت فی عدد من الأفراد حق الرسوخ ولكن لم تتجسد تلك المفاهیم فی الأمة الإسلامیة كأمَّة فهل یجدی ذلك نفعا للأمة ؟ وهل یرتفع الضرر عن الأمة ؟ من الواضح أن ذلك لا یجلب منفعة للأمَّة كما أنه سوف لا یدفع شراً عنها بل الآفة حینئذٍ سوف تتسرَّب إلى الأفراد أیضًا مهما حاولوا التخلُّص منها ! قال تعالى:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَیْنَا الَّذِینَ یَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِینَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِیسٍ بِمَا كَانُوا یَفْسُقُونَ)
و قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ)
وذلك حیث لا استثناء فی القانون الإلهی، بل لو دققنا النظر وتعمقنا فی الأمر لوصلنا إلى حقیقة أخرى قد استترت عن الكثیر وهی: أنه من الصعب أن نحكم بصلاح فرد وهو یعیش فی أمة فاسدة، ذلك الفرد الذی لم یوصل نفسَه إلى مستوى القیادة والإشراف على أمَّته أو لم یهجرهم هجراً جمیلاً كی یسلم من آفاتهم !!
وربما نستلهم هذا الأمر من الآیتین السابقتین:
فبالنسبة إلى الآیة الأولی نلاحظ أنَّ الذین نجَوا هم الذین “ینهون عن السوء”، وأمّا الذین ظلموا وهُمْ الفسّاق، سواء المظهِر لفسقِه أو الساكت عن الجریمة، فإنَّ الله سوف یأخذهم بعذابٍ بئیس.
وبالنسبة إلى الآیة الثانیة نشاهد أنَّ غیر الظالمین أیضاً قد شملتهم الفتنة و ذلك لأنَّ الاستسلام للظلم هو ظلمٌ أیضاً.
*الرفض الاجتماعی
وههنا وبصریح العبارة نقول:
أنَّ التكلیف الرئیس الذی یُمثِّل أهم التكالیف فی عصر الغیبة هو ما أشرنا إلیه سابقاً وهو “الرفض” ولكن هذا التكلیف لیس هو تكلیفاً فردیاً فحسب بل هو تكلیفٌ اجتماعی، فیلزم على المؤمن أن یكون رفضُه رفضاً ینطلق من منطلق شرعی إلهی حتى یتقرب به إلى الله فیكون عبادةً من نمط العبادات الاجتماعیة التی تخیِّم على جمیع العبادات الفردیة.
ولأجل أن یتَّسم الرافض للمجتمع الفاسد بوسامٍ إلهی ینبغی له أن یمارس الأمور التالیة:
الأول: البناء الفردی
و هو السعی للتقرب إلى الله سبحانه و تعالى بالتلبس بلباس التقوى الذی هو خیر لباسٍ حتَّى یرتفع مستوى رفضه هذا من السلب المطلق الذِّی هو (لا) إلى سلبٍ یتضمَّن إیجاباً، وعندئذ سوف یكون رفضُه رفضاً مقدَّساً له معنى ومفهوم رسالی عمیق، فلیس كلُّ “لاءٍ” هی بالفعل لاء المذمومة، بل هذه “اللاء” التی یعتقد بها المنتظر الحقیقی هی أفضل من ألف “نعم”، إن صحَّ القیاس بینهما !!
فهذا الرفض لیس من السكوت المذموم الذی هو حالةٌ سلبیةٌ جوفاءُ تُعرقل الإنسان والمجتمع، كلاّ ! بل هو حالةُ صراخٍ لیس مثلها صراخ (ویكفیك نموذجاً سكوت علیٍّ علیه السلام طوال خمسة وعشرین سنة) وهذه الحالة هی الحالة التكاملیة التِّی تبنی الإنسان وترفع من مستواه إلى الأعلى وتجعله یتكامل شیئاً فشیئاً من دون الوقوف عند حدٍّ، وكذلك تُنمِّی المجتمع وترفع مستواه وتجعله یعیش عیشة عزیزة لا یعتریها ذلٌّ وهوان ولا تحتوشه آفةٌ وخذلان.
المحور الخامس : كیفیات الإنتظار ، وصفات المنتظرین :
المقام الأوّل : الإرتقاب :
الإرتقاب:
قال تعالى عن لسان شعیب: (وَیَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّی عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّی مَعَكُمْ رَقِیبٌ) وفی اللغة (الرقیب الحافظ وذلك إما لمراعاته رقبةَ المحفوظ وإما لرفعه رقبته قال تعالى: (وَارْتَقِبُوا إِنِّی مَعَكُمْ رَقِیبٌ) وقد وردت أحادیث استعملت فیها هذه الكلمة بمعنى الانتظار منها: ما ورد فی نهج البلاغة عن علیٍّ علیه السلام قال: ( و من ارتقب الموت سارع فی الخیرات ) منها: فی كتابه علیه السلام لمحمَّد بن أبی بكر ( إرتَقبْ وقت الصلاة فصلِّها لوقتها و لا تعجلْ بها قبلَه لفراغٍ و لا تُؤخِّرها عنه لشغل..) وقد وردت أحادیث فی جری الآیة المباركة على مقولة الإنتظار (ففی تفسیر العیاشی عن محمد بن الفضیل عن الرضا علیه السلام قال: سألته عن انتظار الفرج من الفرج؟ قال: ان الله تبارك و تعالى یقول: وَ ارْتَقِبُوا إِنِّی مَعَكُمْ رَقِیبٌ.) كما أنّ فی كتاب كمال الدین و تمام النعمة باسناده الى احمد بن محمد بن أبى نصر قال: قال الرضا علیه السلام: ما أحسن الصبر و انتظار الفرج أما سمعت قول الله عز و جل یقول: «وَ ارْتَقِبُوا إِنِّی مَعَكُمْ رَقِیبٌ» و قوله عز و جل: «فَانْتَظِرُوا إِنِّی مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِینَ» فعلیكم بالصبر فانه انما یجیء الفرج على الیأس، فقد كان الذی من قبلكم أصبر منكم.) وفی زیارة الجامعة الكبیرة نخاطب أئمتنا علیهم السلام (مُؤْمِنٌ بِإِیَابِكُمْ مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِكُمْ مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكُمْ مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ )
أقول : من خلال المعنى اللغوی للإرتقاب و الأحادیث الواردة فی هذا المجال نستنتج : أن الإنتظار كما یفهم من نفس الكلمة حیث أنها مشتقّة من النظر ، إنّما هو رؤیة مقدّسة ینبغی أن یمتلكها المؤمن ، دون الارتقاب فهو عمل خارجی وحركة میدانیة لابدّ وأن تتحقّق فی المجتمع ، فوزان الارتقاب بالنسبة إلى الإنتظار وزان العمل (كالصلاة) بالنسبة إلى النیّة ، فلا صلاة بلا نیّة ولا معنى للنیة من غیر الصلاة ، كذلك لا ارتقاب من دون انتظار ولا معنى للإنتظار من دون الارتقاب ، فلو كان الارتقاب بمعنى رفعة الرقبة كما ورد فی المعنى اللغوی للكلمة ، فیعنی ذلك المرتقب یكون دائماً رافع الرقبة وهو كنایة عن الإستعداد الكامل والتهیئة المستمرّة حیث أن الإنسان الرافع رقبته مستعدّ للعمل غیر متخاذل بخلاف الإنسان المطرق رأسه إلى الأسفل، و یدلّ على الفرق الذین ذكرناه ما ورد فی الزیارة الجامعة (منتظر لأمركم) فالإنتظار له ارتباط بأمر الأئمة علیهم السلام (مرتقب لدولتكم) والإرتقاب له علاقة بدولتهم الكریمة.
ولو سألت عن المدّة التی ینبغی أن یرتقب المؤمن فیها دولة الحق لقلت : أن قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَیْنِ أَوْ أَمْضِیَ حُقُبًا) یبیّن مدى ذلك فالحقب یعنی الدهر و الزمان و تنكیره یدل على وصف محذوف و التقدیر حقباً طویلا. قال فی مجمع البیان: أی لا أزال ، و الحقب الدهر و الزمان و جمعه أحقاب قال الزجاج: و الحقب ثمانون سنة .وفی المفردات : الصحیح أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة .
هذا ، وهل لنا الإكتفاء بالارتقاب ؟ أقول : كلا بل هناك أمر آخر لابدّ وأن یلازم الارتقاب و هو:
المقام الثانی : التربّص :
التربّص كما ورد فی قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِیِّ وَمَنْ اهْتَدَى) وفی الحدیث (…عن أبی الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال سألت أبی عن قول الله عز و جل فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِیِّ وَ مَنِ اهْتَدى قال: الصراط السوی هو القائم ، و المهدی من اهتدى إلى طاعته و مثلها فی كتاب الله عز و جل وَ إِنِّی لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى قال إلى ولایتنا) وفی تفسیر قوله تعالى (… فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ورد الحدیث عن الامام الباقر علیه السلام
(..التَّرَبُّصُ انْتِظَارُ وُقُوعِ الْبَلاءِ بِأَعْدَائِهِمْ )
المقام الرابع : التحسس :
(یَا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلاَ تَیْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یَیْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)
وهی مرحلة میدانیة حسّاسة تستدعی الدقّة الفائقة فی فهم مجریات الأحداث والأمور للوصول إلى زمن المعشوق الإلهی أعنی ولیّ الله الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء .
ففی قضیّة التمهید لظهور الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه الشریف) لابدَّ وأن نعرف أنّ هناك مراحل مختلفة حسب الأزمنة والحالات ، وعلى أساس ذلك نشاهد تنوُّع الأحادیث حیث تأمر بعضها بالجلوس والسكوت فی مرحلة ، و الحركة فی مرحلة أخرى، کما فی حدیث (سدیر الصیرفی) حیث خاطبه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قائلاً: یَا سَدِیرُ الْزَمْ بَیْتَكَ وَ كُنْ حِلْساً مِنْ أَحْلَاسِهِ وَ اسْكُنْ مَا سَكَنَ اللَّیْلُ وَ النَّهَارُ فَإِذَا بَلَغَكَ أَنَّ السُّفْیَانِیَّ قَدْ خَرَجَ فَارْحَلْ إِلَیْنَا وَ لَوْ عَلَى رِجْلِكَ ) وكذلك حدیث رسول الله صلى الله علیه وآله (تَجِیءُ الرَّایَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرُ الْحَدِیدِ فَمَنْ سَمِعَ بِهِمْ فَلْیَأْتِهِمْ فَبَایَعَهُمْ وَ لَوْ حَبْواً عَلَى الثَّلْجِ)
وأبلغ حجّة فی بیان المرحلتین أعنی (مرحلة)السكوت و (مرحلة) التحسس ما نجده فی موقف النبی یعقوب (ع) مع بنیه :
ففی بدایة الأمر حیث جاء بنوه وقالوا : (قَالُوا یَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا یُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِینَ) ففی هذه المرحلة قال : (… بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) فهذا النمط من الصبر رغم كونه جمیلاً ولكن كان متلازماً مع السكوت والسكون حیث لم یجدِ التحرّك والقیام، بخلاف المرحلة الأخرى من الصبر حین قال لهم أكبر أخوتهم (ارْجِعُوا إِلَى أَبِیكُمْ فَقُولُوا یَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَیْبِ حافِظِینَ) (وَاسْأَلْ الْقَرْیَةَ الَّتِی كُنَّا فِیهَا وَالْعِیرَ الَّتِی أَقْبَلْنَا فِیهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) هنا نشاهد أن التعبیر الذی استخدمه النبی یعقوب (ع) هو نفس التعبیر السابق حیث قال (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِیلٌ ) ولکن الموقف قد اختلف تماماً حیث قال (…عَسَى اللَّهُ أَنْ یَأْتِیَنِی بِهِمْ جَمِیعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِیمُ الْحَكِیمُ) وهنا قد التجأ یعقوب إلى البكاء (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ یَا أَسَفَى عَلَى یُوسُفَ وَابْیَضَّتْ عَیْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِیمٌ) بحیث قد أوشك إلى الهلاك ، ولذلك توجّه إلیه بنوه و (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ یُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِینَ) فیا ترى ما هذا النمط من البكاء ؟ إنّه بكاء العشق والإنجذاب واللقاء الذی ینطلق من العلم بالمستقبل المشرق و یندفع من الاعتقاد بالله سبحانه لذلك (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) فكانت نتیجة هذا الصبر و البكاء والإلتجاء إلى الله تعالى أمراً مهمّا وهو التحسس حین خاطب الأب بنیه و قال لهم (یَا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلاَ تَیْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یَیْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)
فأفضل الأعمال فی هذه المرحلة هو التحسس وأعنى به البحث عن الإمام حتى الوصول إلى مرحلة الإحساس به ، كما حدث لأخوة یوسف (ع) ، والتحسس لا ینافی الإنتظار بل هو عین الانتظار بمستواه الراقی والإرتقاب فی مرحلته المتكاملة ، والتحسس هو الذی یتطلب الثورة والإنطلاق والتحرّك حتى مرحلة العثور .
أمّا السؤال الذی یطرح نفسه هو : لماذا و فی هذه المرحلة بالخصوص هذا النمط من التكلیف أعنی التحرّك والتحسس؟
والجواب هو: أنّ فی هذه المرحلة تكون الشواهد و العلامات قد بدأت بالظهور، تلك العلامات التی تؤكّد على وجود یوسف فی مكان معیّن وهو (مصر) بل فی منصب خاص وهو (الحكم) ، هذه العلامات هی التی فرضت على الأب أن یدفع الأبناء دفعاً فوریّاً إلى التحسّس والبحث بجدّ وعدم الیأس والتهاون فی الأمر وهذه الشواهد هی :
1-إصرار یوسف على مجیء أخیه من أبیه (..قَالَ ائْتُونِی بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِیكُمْ ) والتجاؤه فی ذلك إلى التشویق (..أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّی أُوفِی الْكَیْلَ وَأَنَا خَیْرُ الْمُنزِلِینَ ) ثمّ التهدید (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِی بِهِ فَلاَ كَیْلَ لَكُمْ عِندِی وَلاَ تَقْرَبُونِی).
2- إنّه وضع بضاعتهم فی رحالهم بحیث أنّهم و بمجرّد أن (… فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَیْهِمْ) وأصرّوا على أخذ بنیامین معهم وأصرّوا على ذلك (.. قَالُوا یَا أَبَانَا مَا نَبْغِی هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَیْنَا وَنَمِیرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَیْلَ بَعِیرٍ ذَلِكَ كَیْلٌ یَسِیرٌ).
3- أنّ یوسف قد أولى الإهتمام الخاص بأخیه من أبیه بنیامین وذلك حینما (دَخَلُوا عَلَى یُوسُفَ آوَى إِلَیْهِ أَخَاهُ)
4- وأیضاً موضوع السقایة حیث (جَعَلَ السِّقَایَةَ فِی رَحْلِ أَخِیهِ).
فبوجود هذه العلامات ماذا ینبغی ان یفعل الأب ؟ صار تكلیفه أن یقول لهم (..َ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِیلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ یَأْتِیَنِی بِهِمْ جَمِیعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِیمُ الْحَكِیمُ) ثمّ یحرّضهم ویدفعهم إلى التحسس الفوری من ولی الله كما هو المستفاد من أداة العطف (فاء) الدالة على الفوریة فیقول:
(یَا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلاَ تَیْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یَیْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)
*العلامات المهدویة فی الوضع الراهن:
إن الثورة الإسلامیة المباركة قد اجتازت ثلاثین عاماً وهی فی حال التقدّم والرقی من الإنتصارات العظیمة التی حققتها فی شتّى المجالات السیاسیة والعلمیة والتقنیة والعسكریة من حیث العدّة والعُدّة ، والإنتشار السریع فی أوساط المسلمین بل المستضفین فی العالم بحیث صار الناس أفواجا افواجاً یعتنقون المذهب الحق من دون أن یخافوا فی الله لومة لائم فلا یبقى شك فی قرب ظهوره عجلّ الله فرجه،بل هذه العلامات تدلّ على أن الوقت قد حان للتحسّس من ولی الله حتّى العثور علیه وقد حان أن تطبّق الآیة المباركة (یَا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلاَ تَیْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یَیْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) فمن أراد الإمام الحجّة ینبغی له أن ینطلق إلیه ویستبق الخیرات کما قال یعقوب )اذْهَبُوا)، وقال الإمام الحسین (علیه السلام) : (فلیرحل معنا) ولا یحتاج التحسس إلى الیقین بل الإحتمال یكفی ، كما احتمل یعقوب (ع) وجود ابنه فی مصر فقال (یا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَ أَخِیهِ) فالتحسس یعنی البحث الذی یؤول و ینتهی به إلى اللمس والإحساس الحقیقی .
وبذلك قد وُضِّح لنا كیف أننا نعیش زمن التكلیف بالتحسس من ولی الله حتّى لقاؤه الشریف ، وهذا التكلیف العظیم یتطلّب أموراً :
1- تزكیة النفس ورفع الحجب المانعة للوصال:
فأخوة یوسف عندما تركوا التكبّر والغرور والأنانیة ولم یأتوا فی هذه المرّة إلى مصر للحصول على الطعام بل كانت رحلتهم هذه من أجل الوصول إلى یوسف نفسه ، حینئذ حَضَوا بعزیز مصر فعرّف نفسه لهم . فالفناء فی الإمام هو الشرط الرئیس للعثور علیه كما قال الإمام الحسین علیه السلام : (من كان فینا باذلا مهجته) وقال تعالى (وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ) فینبغی رفع کافة الحجب حتّى نتمکن من رؤیته. وأغلظ حجاب هنا هو حجاب الأنانیة الناشئة من حبّ الذات، فأخوة یوسف بمجرد أن قرّروا أن یبعدوا عن أنفسهم هذا الحجاب نشاهد أن یوسف قد عرّف نفسه لهم .
2-ضرورة معرفة الحق ویمییزه من الباطل:
فالتحسس یتطلّب المعرفة والتعبئة لذا ینبغی من جمیع الشیعة بل المسلمین من دون استثناء أن یذهبوا و یتحسّسوا من الإمام المهدی (عجّل الله فرجه) ، وحینذٍ سوف یحسُّوا به قطعاً ، ومن أراد أن یكون من هذه المجموعة ینبغی له الابتعاد عن الدنیا الدنیة وزخرفها و زبرجها ویولی أشدّ الإهتمام بإمامه، بحیث یكون الإمام هو المحور والأصل فی تفكّراته وفی أعماله، ویكون تابعاً محضاً له وحینئذٍ له أن یقول : (…یَا أَیُّهَا الْعَزِیزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَیْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَیْنَا إِنَّ اللَّهَ یَجْزِی الْمُتَصَدِّقِینَ)
بقى سؤال آخر وهو: من هو أخو الإمام فی هذا العصر ؟ ذلك الأخ الذی یدّلنا علیه؟
أقول فی الجواب: هذا الأخ لابد وأن تنسجم نوایاه و تصرّفاته مع رؤیة إمامه ویكون بصدد تهیئة الأرضیة لخروج الإمام (عجّل الله فرجه الشریف) ، فهل نعلم جهة أقرب إلى الإمام المهدی (روحی فداه) من الدولة الإسلامیة المباركة المتمثّلة فی ولیّها الفقیه الإمام الخامنئی ( حفظه الله) ؟ فممّا لا شك فیه أنّ الطریق للوصول إلى حجّة الله فی أرضه هو الطریق عینه الذی رسمه روح الله الموسوی الخمینی (قدّس سرّه) ، و تبعه تلمیذه وابنه البار السید الإمام الخامنئی (حفظه الله) … وقد أكّدت عدد من الآیات المباركة وكثیر من الأحادیث إلى ذلك نشیر إلى بعضها :
قال تعالى : (.. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَیْرَكُمْ ثُمَّ لاَ یَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)
1- فی مجمع البیان روى ابوهریره ان اناسا من اصحاب رسول الله صلى الله علیه واله قالوا: یا رسول لله من هؤلاء الذین ذكرالله فی كتابه؟ وكان سلمان الى جنب رسول الله صلى الله علیه واله فضرب علیه السلام یده على فخذ سلمان فقال: هذا وقومه، والذى نفسى بیده لوكان الایمان منوطا بالثریا لتناوله رجال من فارس) .
2- عن یعقوب بن قیس، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «یا بن قیس وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَكُمْ ثُمَّ لا یَكُونُوا أَمْثالَكُمْ عنى أبناء الموالی المعتقین».
3 روى أبو بصیر، عن أبی جعفر (علیه السلام) ، قال: «إِنْ تَتَوَلَّوْا، یا معشر العرب یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَكُمْ یعنی الموالی».
وقال : (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِینَ یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَلاَ یَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ )
1- (عن سلیمان بن هارون قال: قال الله: لو ان أهل السماء و الأرض اجتمعوا على ان یحولوا هذا الأمر من موضعه الذی وضعه الله فیه ما استطاعوا، و لو ان الناس كفروا جمیعا حتى لا یبقى أحد لجاء الله لهذا الأمر بأهل یكونون هم من أهله، ثم قال اما تسمع الله یقول: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْكُمْ )
2-(فی تفسیر على بن إبراهیم قوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِینَ یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ قال: هو مخاطبة لأصحاب رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم الذین غصبوا آل محمد حقهم و ارتدوا عن دین الله فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ نزلت فی القائم و أصحابه الذین یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
3- (فی مجمع البیان و روى عن على علیه السلام انه قال یوم البصرة، و الله ما قوتل أهل هذه الایة حتى الیوم و تلا هذه الایة،)
4-(روى ان النبی صلى الله علیه و آله سئل عن هذه الایة فضرب بیده على عاتق سلمان فقال هذا و ذووه، ثم قال: لو كان الدین معلقا بالثریا لناله رجال من أبناء فارس، و قیل: هم أمیر المؤمنین علیه السلام و أصحابه حین قاتل من قاتله من الناكثین و القاسطین و المارقین ).
وقال تعالى 🙁 ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ یَهْدِی بِهِ مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا یَعْمَلُونَ)(الأنعام/88). (أُوْلَئِكَ الَّذِینَ آتَیْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ یَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَیْسُوا بِهَا بِكَافِرِینَ)
1- عن سلیمان بن هارون العجلی، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول: (إن صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه، لو ذهب الناس جمیعا أتى الله له بأصحابه. و هم الذین قال الله عز و جل: فَإِنْ یَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَیْسُوا بِها بِكافِرِینَ، و هم الذین قال الله فیهم: فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِینَ)
وأمّا الأحادیث فكثیرة نكتفی بحدیث واحد : أحادیث قم ، والرجل الموعود منه : فعن الإمام الكاظم علیه السلام قال: (رجل من قم ، یدعو الناس إلى الحق، یجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحدید، لا تزلهم الریاح العواصف، لا یملون من الحرب ولایجبنون، وعلى الله یتوكلون والعاقبة للمتقین) ولعلّ الحدیث یشیر إلى قوله عزّ من قائل : (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ)
سائر صفات المنتظرین :
مضافاً إلى الصفات التی تحدثنا عنها لابدّ للمنتظر أن یتّصف بصفات أخرى أبرزها:
1-الصبر:
وهذه الصفة هی أهم تلك الصفات، لأنَّها فی الواقع هی الضمان لاستمرار الرفض.
والصبر ههنا یختلف عن الصبر فی المواطن الأخرى، فهذا النوع من الصبر فی الواقع هو الصبر الحقیقى الذی هو كالأم لسائر موارد الصبر حیث اشتماله على جمیع أنواع الصبر التی نطقت بها أحادیثنا الشریفة، وهی ثلاثة كما فی الحدیث الذی نقله المحدِّث الكلینی قدِّس سرُّه:
( بإسناده عن علی علیه السلام قال: قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلَّم: الصبر ثلاثة صبرٌ عند المصیبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصیة )
ثمَّ ذكر رسول الله صلى الله علیه وآله درجاتٍ أخرویة لكلٍّ من هذه الأصناف الثلاثة.
ولكنَّ الصبر الملازم للانتظار قد شمل هذه المراحل الثلاثة وذلك لأنَّه:
هناك أعظم مصیبة ابتلى بها المؤمن المنتظر وهی مصیبة فقدان قائده الروحی و إمامه الثانی عشر الحجَّة بن الحسن المهدی عجَّل الله تعالى فرجه الشریف، فهو یعیش حالةَ الیتم، وهذه المعضلة العظمى بطبیعتها تتطلَّب الصبر. وهناك طاعة تتجسد فی التبری من كل ما ومن هو یزاحم هذه الروحیَّة ( أعنی روحیَّة الانتظار )
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِی إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِینَ)
وهناك معاصٍ محیطة بهذا الإنسان المؤمن إحاطة كاملةً، و هی القضایا التی تقصم الظهر من التسویلات الشیطانیة و المُغریات المادِّیة المنتشرة على مستوى وسیع بحیث لا یلتفت الإنسان یمیناً أو یساراً إلاّ وهی تبرز أمامَه خصوصاً فی عصرنا الحالی حیث الأقمار الصناعیة وحیث شبكة الإنترنت و أیضاً أجهزة الإعلام التّی مهمَّتُها الرئیس نقل الفساد إلى العالم الثالث.
فالمنتظر للدولة المباركة سوف یعیش كلَّ تلك المغریات طوال حیاته، فیشاهد بأمّ عینیه أنَّه یسیر إلى جهة و العالم أجمع یسیرون إلى جهة أخرى مضادَّةٍ له تماماً، ومن ناحیة أخرى یشاهد أنَّ جنود الشیطان وأهل الدنیا یمثِّلون السواد الأعظم فهم الملأ الذین یملئون أعیُن الناس فهو إذن الشاذ بینهم.
ومن المؤسف جدّاً أنَّ أرباب الدنیا ربَّما ینطلقون من منطلق النصیحة والإصلاح والحبّ فی مسیرتهم الباطلة حیث یُتراءى أنهّا حركة إصلاحیة بل إسلامیة یتقرب بها إلى الله، ومن الصعب أن یقتنعوا بخطئهم أو یحتملوا ذلك.
فمن الواضح أنَّ هذا الأمر سوف یجعل المؤمن المنتظر الصابر یعیش حالةً أخرى صعبة و هی حالة “الغربة”، ولا تتلخَّص هذه الحالة فی الغربة الاجتماعیة، بل هناك غربة أصعب من ذلك ألا وهی الغربة الفكریة والأیدیولوجیة التی تؤكد علیها الأحادیث الشریفة وتجعلها من صفات وعلائم المنتظر الحقیقی كالحدیث التالی:
( على بن موسى الرضا علیه السلام قال: بدأ الإسلام غریبا وسیعود غریبا فطوبى للغرباء قیل یا رسول الله ثم یكون ماذا ؟ قال ثم یرجع الحق إلى أهله )
2: التصابر:
فماذا یفعل إذاً هذا الصابر كی یستقیم فی صبره ولا یهون ؟ لابدّ وأن ینتقل من مرحلة “الصبر” إلى مرحلة أرقى وهی “التصابر” و ذلك كی یخلق الصبر فی الآخرین حتَّى ینسجموا معه فلا یرى نفسه وحیداً فیستمرَّ فی مسیرته ویصمد فی مواقفه حتى تحقُّق تلك الدولة العالمیَّة المباركة، وهذه الحقیقة ظاهرة فی سورة العصر فهی التِّی ترسم الطریق للمؤمنین المنتظرین قال تعالى: (وَالْعَصْرِ) أی قسماً بالعصر، ربَّما یكون المقصود من العصر فی هذه السورة هو عصر الحجَّة عجلّ الله تعالى فرجه الشریف. أو ما ذكره الإمام قدِّس سرُّه حیث قال: ” یقال: أن العصر هو الإنسان الكامل، وهو إمام الزمان سلام الله علیه أی عصارة جمیع الموجودات، أی قسماً بعصارة جمیع الموجودات، قسما بالإنسان الكامل ”
أقول: ولا منافاة بین التفسیرین.
(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِی خُسْرٍ)
هذا الإنسان الذی قد حُكم علیه بالخسران المطلق هو الإنسان الذی یعیش خارج العصر أی یعیش حالة الغیبة.
والإنسان المذكور هنا یشمل جمیعَهم (إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
والاستثناء بطبیعته یدلُّ على النُدورة والغربة، فالنادر من الناس والقلیل منهم یتَّسمون بهذه السمات الأربعة المتوالیة، التِّی ترجع بالأخیر إلى صفة فاردة وهی “انتظار الفرج” على ضوء ما قدمنا.
والسؤال المطروح هنا هو إلى متى الصبر والتواصی به ؟ و هل لمجتمعٍ أن یعیش الراحة والطمأنینة و الهدوء فی آخر المطاف ؟و إن كان الجواب سلباً فأین حكمة الله البالغة وأین لطفه الشامل وأین كرمه الجمیل ؟
أقول: “لابدَّ من وصول الإنسان المؤمن المتَّسم بتلك الصفات إلى مرحلة نهائیة وهی مرحلة الكمال، على ما تدلُّ علیه السورة المباركة “.
صفات أخرى: الأحادیث الشریفة قد ذكرت صفاتاً للمنتظر وهی:
“الحزن – التسلیم – الیأس – طول السجود وقیام اللیل واجتناب المحارم – الدعوة إلى دین الله سراً وجهراً – حسن العزاء وكرم الصحبة – حسن الجوار وبذل المعروف وكف الأذى وبسط الوجه والنصیحة والرحمة للمؤمنین وأداء الأمانة إلى البر والفاجر ”
و على ضوء ما شرحنا ینبغی أن نعرف بأن صفات المنتظر لیست هی صفات فردیَّة فحسب، بل الفردُ ینبغی علیه أن ینطلق منها فی بادئ الأمر لتستوعب كافَّة زوایا المجتمع الذی یعیشه، وتتفاعل بها الأمَّة حتى تعمُّ فائدتها. فالانتظار وما یترتب علیه من الصبر والحزن وحسن العزاء والیأس ووو.. كلها لا بد أن تتجسد فی المجتمع ولا تنحصر فی الفرد، ومع تجسُّدها فی المجتمع سوف یقترب الفرج و ینكشف الضرّ إنشاء الله.
ولیُعلمْ أنَّ تعجیل الفرج یتناسب مع الانتظار شدَّةً وضعفاً، ولهذا صرحت الآیة المباركة: (وَزُلْزِلُوا حَتَّى یَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِیبٌ) فقربُ نصر الله متناسبٌ مع طلب النصر “متى نصر الله” وهذا الطلب الأكید لا یحصل إلاّ بعد الیأس ممّا فی أیدی الناس ، قال تعالى:(حَتَّى إِذَا اسْتَیْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّیَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ یُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِینَ)
اللهم كن لولیك الحجة بن الحسن صلواتك علیه وعلى آبائه فی هذه الساعة وفی كل ساعة ولیاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودلیلاً وعینا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فیها طویلا برحمتك یا ارحم الراحمین
الشیخ إبراهیم الأنصاری البحرانی
البحرین – المنامة
15شعبان 1431