عندما نقف أمام ذكرى المولد النبويّ في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل من كلّ عام، أو في السابع عشر منه ـ على اختلاف الروايات التي تؤرّخ لهذه الولادة الميمونة ـ فنحن في حقيقة الأمر إنّما نقف أمام الرسالة السمحاء الخالدة التي وُلدت على يدي هذا النبيّ الكريم، وإنّما نتطلّع في هذه المناسبة العطرة إلى الأمّة الإسلاميّة، التي أراد له رسول الله إلى البشريّة أن تعيش القضايا الكبرى، وأن تتطلّع إلى تحقيق الأهداف الإنسانيّة الكبرى، وأن تنطلق نحو إعلاء شأن الإنسانيّة على العموم.
ومن هنا، كان الحثّ ـ إسلاميّاً وشرعيّاً ـ على إحياء هذه الذكرى، وعلى الاحتفال بها، وإن كان العاقل الحرّ والمنصف لا ينتظر من أحدٍ أن يحثّه على إحياء مضامين هذه الذكرى وتخليدها وتذكير العالم بها ونشرها في الآفاق وتعميمها وتعميم نفعها على جميع الناس، وإنّنا لا نحتاج إلى ذكاءٍ فائق لنكتشف أنّ في إحياء هذه المناسبة، وأمثالها من المناسبات المجيدة، إحياءاً للدين الإسلاميّ نفسه، وإحياءاً للقيم والمبادئ الإسلاميّة أنفسها، وأنّ الاحتفال والاحتفاء بذكرى ولادة رسول الله، رسول الرحمة والهدى، رسول العلم والتزكية والفضائل الخلقيّة، إنّما يقع في سياق إقبال الأمّة نحو أن تكون أمّةً رساليّة، هدفيّةً، حيّةً.
نحن عندما نتذكّر هذا الإنسان العظيم، الدمث الأخلاق، حتى قال فيه الله عزّ وجلّ: [وإنّك لعلى خلق عظيم]، عندما نتذكّره في ذكرى ولادته، فنحن لا نتذكّر شخصيّةً فرديّةً لرجلٍ عاديٍّ في حركة ذاته، وإنّما نتذكّر الرسالة بأسرها، بهمومها، وقضاياها، وقيمها، ومبادئها، ونحن إنّما نتذكّر الأمّة، بكلّ وجودها، بكيانها الواحد، بإرادتها الحرّة المستقلّة، بتغليبها القضايا الكبرى على المصالح الفئويّة التمزيقيّة الضيّقة، نتذكّر حركة تلك الرسالة السامية في هذه الأمّة الجامعة، كما نتذكّر مسؤوليّة هذه الأمّة في حمل الرسالة، وفي تحمّل أعبائها ـ وما أثقلها! ـ، وفي النهوض بها، وفي الارتقاء لمستواها، وما أصعب كلّ ذلك!!
نحن عندما نحيي هذه الولادة العابقة بالبركات، فإنّما نستذكر ونضع نصب أعيننا أنّ النبيّ محمّداً (ص) إنّما اعتمد على رسالته الإلهيّة ليصنع الأمّة، ويبنيها، ويقوّيها، ويمتّن أواصرها، ويوثّق عراها، وأنّه إنّما صنع هذه الأمّة من خلال الخطوط العريضة الذي حتّم على الأمّة أن تسير في ركابها في كلّ مرحلةٍ من مراحل حياتها لتكون [خير أمّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر]. فأمّة الإسلام كانت خير أمّةٍ للناس، لا من خلال صفةٍ قوميّةٍ معيّنة، عربيّةٍ أو فارسيّةٍ أو تركيّةٍ أو غير ذلك، ولا من خلال صفةٍ جغرافيّة أو مناطقيّة معيّنة، بل ولا حتى من خلال صفةٍ مذهبيّةٍ أو طائفيّةٍ معيّنة، بالمعنى البغيض للمذهبيّة والطائفيّة الذي يُخرج الدين عن كونه قيمةً إنسانيّةً عامّة ينتفع بها البشر كلّهم، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأفكارهم وتوجّهاتهم وانتماءاتهم..
هي كانت وتكون خير أمّةٍ للناس من خلال الدور الإنسانيّ القيميّ الإصلاحيّ الرياديّ الذي إذا أخلص له أبناء هذه الأمّة استطاعوا أن يرتفعوا إلى أرقى المستويات وأعلاها، في أعلى المواقع الإنسانيّة، وأمّا لو لم تخلّوا عنه، ولم يُخلصوا له، ولم يتحمّلوه على حقيقة ما يتطلّبه التحمّل، فإنّكم ستنزلون وتنحدرون إلى المواقع السفلى، أو ـ على الأقلّ ـ لن تحظوا بهذه القيمة الإنسانيّة المرتفعة التي تجعل أمّتكم قائدة الأمم. خطّ الإصلاح، وتكريس المعروف، والأمر به، ومحاربة المنكر، والنهي عنه.
هذه هي بعض دلالات الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف.
ولكن، وللأسف الشديد، فقد برز في هذه الأمّة من يسعى كلّ جهده إلى إماتة روح الإسلام الحقيقيّ، وإلى تشويه صورته المشرقة، وتلويث سمعته الطيّبة، والقضاء على كلّ ما فيه من عناصر القوّة والعزّة والاتّحاد، ومن ذلك: عادة الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف، التي ـ كما قلنا آنفاً ـ إنّها لا تحتاج إلى دليلٍ شرعيّ خاصّ يدلّ على مشروعيّتها، أو الحثّ عليها، (وإن كانت الأدلّة الشرعيّة متوافرة على ذلك، وبكثرة)، فهي مناسبة طيّبة، يُعبد فيها الله عزّ وجلّ، ويتقرّب العبد المؤمن بها إليه، ويجسّد حبّه للنبيّ الكريم، ومودّته الخالصة له، ويساهم في تخليد اسمه، ورسالته، وتعاليمه، وأخلاقه الطيّبة..
نعم، يحرّم الوهابيّة وأتباعهم الاحتفال بذكرى المولد النبويّ الشريف بدعاوى سخيفة واهية، لا قيمة لها من الناحية الدلاليّة والمنطقيّة، لأغراضٍ مفضوحة ومكشوفة، وذلك انسجاماً مع المسار المشبوه الذي تسير عليه هذه الفرقة الشاذّة عن إجماع المسلمين، والمتمثّل ـ هذا المسار ـ في فعل كلّ ما يلزم لشرذمة هذه الأمّة وتمزيق لحمتها، والحرص الشديد على عدم تحقّق الوحدة بين مختلف مكوّنات المجتمع الإسلاميّ.
وفي هذا إهانة شديد، وإساءة بالغة، توجّه إلى رسول الله (ص).