المغزى من الطوف حول هذا البیت هو أن نستعدّ جمیعاً للطواف حول البیت العتیق ثم البیت المعمور ثمّ العرش ، كما فعل ذلك أصحاب سید الشهداء علیه السلام وأخصّ بالذكر قمر العشیرة أبا الفضل العباس ع، فأخرجهم الإمام من مكّة یوم الترویة لیلحقهم إلى الملكوت الأعلى ، وسیخطوا هذه الخطوة ابنه مهدی الأمّة عجّل الله فرجه حیث یقوم بإزاء البیت الحرام وربّما یكون الناس فی حال الطواف لیأخذهم من عالم الحسّ والظاهر إلى عالم المعنى والباطن الذی هو حقیقة البیت الذی لا جهة له (.. فَأَیْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِیمٌ). فنحن بكلّ أحاسیسنا نقول : (أین وجه الله الذی یتوجه إلیه الأولیاء)
الحمد لله ربّ العالمین والصلاة على محمّد وآله الطیبین الطاهرین الهداة المهدیین واللعن الدائم على أعدائهم أجمعین .
من خطبة لأمیر المؤمنین (علیه السلام) ییتحدّث فیها عن الله عزّ وجلّ و صفاته فیبدأ بقوله : (الحَمْدُ للهِ الَّذَی لاَ یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القَائِلُونَ، وَلاِ یُحْصِی نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ، ولاَ یُؤَدِّی حَقَّهُ الُمجْتَهِدُونَ) ثمّ یتطرّق إلى كیفیة خلق العالم ومن ثمّ یخصص الكلام لآدم علیه السلام حیث یشرح كیفیة خلق جسمه و نفخ الروح فیه وموضوع سجود الملائكة لآدم إلا إبلیس الذی كان من الجنّ فیقول :(.. فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِیَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: (إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِینَ إِلَى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). فیاترى متى هو ذلك الیوم؟
الوقت المعلوم:
(قد ورد حدیث عن أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام.. قَالَ: (یَوْمُ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ یَوْمٌ یَذْبَحُهُ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِی فِی بَیْتِ الْمَقْدِسِ ) وأیضاً قال السَّیِّدُ بْنُ طَاوُسٍ فِی سَعْدِ السُّعُودِ رَأَیْتُ فِی صُحُفِ إِدْرِیسَ عَلَى نَبِیِّنَا وَ آلِهِ وَ عَلَیْهِ السَّلَامُ فِی ذِكْرِ سُؤَالِ إِبْلِیسَ وَ جَوَابِ اللَّهِ لَهُ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِی إِلى یَوْمِ یُبْعَثُونَ قَالَ لَا وَ لَكِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلَى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ یَوْمٌ قَضَیْتُ وَ حَتَمْتُ أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ ذَلِكَ الْیَوْمَ مِنَ الْكُفْرِ وَ الشِّرْكِ وَ الْمَعَاصِی ..) والحدیث طویل راجع بحارالأنوار ج : 11 ص : 152 .
ومن هنا نعرف بأنّه لا وجود لإبلیس فی الدولة الكریمة التی یحكمها مهدی الأمّة عجّل الله فرجه الشریف ، فإلى أی مستوى من الكمال والسعادة سیصل إلیها المؤمنون فی أجواء لا وسوسة فیها ولا تزیین ولا إغواء ولا تسویل !
جنّة آدم علیه السلام:
ثمّ إنّ علیاً سلام الله علیه یبیّن حال آدم وحواء وهما فی تلك الجنّة التی كانت على الأرض فیقول 🙁 ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أرْغَدَ فِیهَاعَیْشَهُ، وَآمَنَ فِیهَا مَحَلَّتَهُ، وَحَذَّرَهُ إِبْلِیسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَیْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الاَْبْرَارِ، فَبَاعَ الْیَقِینَ بِشَكِّهِ، وَالعَزِیمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً، وَبِالاْغْتِرَارِ نَدَماً. )
والسرّ یكمن فی هذه الكلمة حیث قال علیه السلام ( ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فی تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الَبَلِیَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّیَّةِ.)
فماذا یعنی قوله (وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ) ؟ تأمّل فی كلمة “جنّته” فلابدّ من یوم نرجع إلى تلك الجنّة التی كنّا نعیش فیها حیث كنّا فی ظلّ الله ، وسنرجع إلیها قبل قیام الساعة، وتلك الجنّة هی الدولة المباركة للإمام المهدی أرواحنا فداه ، فبتحققها سوف یتحقق ما نطلبه فی دعاء العهد (و سرّ نبیك محمّد برؤیته و من تبعه على دعوته) بل سوف یدخل الله على أهل القبور السرور ، وقد ورد فی زیارة فاطمة المعصومة علیها السلام (أسأل الله أن یرینا فیكم السرور والفرج).
فالهبوط یعنی الخروج عن تلك الحالة النورانیة التی كنا نتحلّى بها و نحن فی صلب أبینا آدم علیه السلام ، وهی حالة سیّئة طرأت علینا تخالف فطرتنا الأولى ولابدّ أن نتخلّص منها یوماً ما ، ولا یتمّ التخلّص إلا من خلال العمل بالتكالیف الإلهیة ، ومن أجل ذلك بعث الله الأنبیاء وأرسل الرسل والأولیاء ، فقال علیه السلام :
(فَبَعَثَ فِیهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَیْهِمْ أَنْبِیاءَهُ، لِیَسْتَأْدُوهُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَیُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِیَّ نِعْمَتِهِ، وَیَحْتَجُّوا عَلَیْهِمْ بَالتَّبْلِیغِ، وَیُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)
فلسفة تشریع الحج:
ومن هذا المنطلق ینبغی لنا تفسیر وتبیین فلسفة تشریع الأحكام جمیعاً، ومنها :
حجّ بیت الله الحرام وقد أبدع مولى الموحدّین فی هذا المجال فبیّن أسرار حجّ البیت ضمن تقاط نذكرها بالتربیت مع تعلیقات مختصرة فقال:
(وَفَرَضَ عَلَیْكُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلاَْنَامِ) فالبیت لیس هو قبلة للناس فقط بل هو قبلة لكلّ من یعبد الله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِی الرَّحْمَانِ عَبْدًا)(مریم/93). ولكن كلٌّ حسب مرتبته، فمنهم من یتوجّه إلى العرش العظیم وهم ملائكة الله المقربون ومنهم یرتقی إلى البیت المعمور فی السماء السابعة ومنهم من یصلّى إلى البیت العتیق فی السماء الرابعة ، وقد خصص الله تعالى هذا البیت المبنی من الحجر لنا نحن التائهین فی هذه الدنیا لعلّنا نتدّرج من خلاله إلى الملكوت الأعلى، فقال علیه السلام :(جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتِهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِیَائِهِ) هنا یشیر علیه السلام إلى قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ)(الحج/27). حیث ورد فی (عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِیمُ وَ إِسْمَاعِیلُ علیهما السلام بِبِنَاءِ الْبَیْتِ وَ تَمَّ بِنَاؤُهُ قَعَدَ إِبْرَاهِیمُ عَلَى رُكْنٍ ثُمَّ نَادَى هَلُمَّ الْحَجَّ هَلُمَّ الْحَجَّ فَلَوْ نَادَى هَلُمُّوا إِلَى الْحَجِّ لَمْ یَحُجَّ إِلَّا مَنْ كَانَ یَوْمَئِذٍ إِنْسِیّاً مَخْلُوقاً وَ لَكِنَّهُ نَادَى هَلُمَّ الْحَجَّ فَلَبَّى النَّاسُ فِی أَصْلَابِ الرِّجَالِ لَبَّیْكَ دَاعِیَ اللَّهِ لَبَّیْكَ دَاعِیَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَمَنْ لَبَّى عَشْراً یَحُجُّ عَشْراً وَ مَنْ لَبَّى خَمْساً یَحُجُّ خَمْساً وَ مَنْ لَبَّى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَبِعَدَدِ ذَلِكَ وَ مَنْ لَبَّى وَاحِداً حَجَّ وَاحِداً وَ مَنْ لَمْ یُلَبِّ لَمْ یَحُجَّ ) الكافی ج : 4 ص : 207
وقال عَلِیُّ بْنُ إِبْرَاهِیمَ فِی تَفْسِیرِهِ..(فَأَجَابُوهُ مِنْ تَحْتِ الْبُحُورِ السَّبْعِ وَ [مِنْ] بَیْنِ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ إِلَى مُنْقَطَعِ التُّرَابِ مِنْ أَطْرَافِهَا أَیِ الْأَرْضِ كُلِّهَا وَ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ بِالتَّلْبِیَةِ لَبَّیْكَ اللَّهُمَّ لَبَّیْكَ أَ وَ لَا تَرَوْنَهُمْ یَأْتُونَ یُلَبُّونَ) مستدركالوسائل ج : 9 ص : 196
التشبه بالملائكة :
ثمّ قال علیه السلام (وَتَشَبَّهُوا بمَلاَئِكَتِهِ المُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ) وهم الكروبیّون ، وطواف الخلق بهذا البیت یشبه طواف الملائكة بالعرش، والغایة أن یترقّى الإنسان فیصل إلى مقام الطائفین بالعرش أو على الأقل بالبیت المعمور الذی هو دون العرش لأنّ هذا البیت الذی هو ببكّة إنّما هومثال ظاهر فی عالم الشهادة للبیت العتیق الواقع فی السماء الرابعة والبیت المعمور فی السماء السابعة ثم العرش الإلهی، والذی تمّكن من رفع مستوى هذا البیت إلى العرش هو إبراهیم الخلیل علیه السلام فصار البیت بإزاء العرش ومقامه علیه السلام بإزاء الملكوت الأعلى فمن دخله كان آمناً من الفزع الأكبر .
أهل البیت علیهم السلام:
وتتمیماً للفائدة نذكر حدیثین جدیرین بالتأمّل :
1-فی خبر طویل أن الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام كان ذات یوم هو و زوجته فاطمة علیها السلام یأكلان تمراً فی الصحراء إذ تداعیا بینهما بالكلام فقال علی علیه السلام فیما قال أنا الرق المنشور قالت فاطمة و أنا البیت المعمور ).
2- وفی دَلَائِلُ الْإِمَامَةِ، لِلطَّبَرِیِّ باسناده عَنْ یُونُسَ بْنِ ظَبْیَانَ قَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى أَبِی عَبْدِ اللَّهِ ع فَخَرَجَ إِلَیَّ مُعَتِّبٌ فَأَذِنَ لِی فَدَخَلْتُ …فقَالَ یَا یُونُسُ سَلْ نَحْنُ مَحَلُّ النُّورِ فِی الظُّلُمَاتِ وَ نَحْنُ الْبَیْتُ الْمَعْمُورُ الَّذِی مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً )
3-عَنْ زِیَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِیٍّ علیه السلام وَ هُوَ یَقُولُ نَحْنُ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا رَسُولُ اللَّهِ ..إلى أن قال (وحَرَمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ وَ بَیْتُ اللَّهِ الْعَتِیقُ ) بحارالأنوار ج : 26 ص : 251
أقول:
المغزى من الطوف حول هذا البیت هو أن نستعدّ جمیعاً للطواف حول البیت العتیق ثم البیت المعمور ثمّ العرش ، كما فعل ذلك أصحاب سید الشهداء علیه السلام وأخصّ بالذكر قمر العشیرة أبا الفضل العباس علیه السلام ، فأخرجهم الإمام من مكّة یوم الترویة لیلحقهم إلى الملكوت الأعلى ، وسیخطوا هذه الخطوة ابنه مهدی الأمّة عجّل الله فرجه حیث یقوم بإزاء البیت الحرام وربّما یكون الناس فی حال الطواف لیأخذهم من عالم الحسّ والظاهر إلى عالم المعنى والباطن الذی هو حقیقة البیت الذی لا جهة له (.. فَأَیْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِیمٌ)(البقرة/115). فنحن بكلّ أحاسیسنا و مشاعرنا نندب ونقول :
(أین وجه الله الذی یتوجه إلیه الأولیاء)