الكل عُراة، وكل شئ مُتعرٍّ!

اسماعیل شفيعي سروستاني
قبل فترة وفي خضم ما حدث من اعتداءات بالأسيد ضد نساء اصفهانيات وما أدى إلى جرح مشاعر الجماهير، وتحول موضوع اللباس وتبرج السيدات والإضطرابات الأخلاقية والجنسية، مرة أخرى إلى مادة يتناقلها ويتحدث عنها الكثير من الفئات الاجتماعية، كان باحث يريد بالنيابة عن أحد مراكز البحوث والدراسات الدينية والإعلامية إجراء مقابلة معي حول الظواهر المستهجنة والإسفاف الجنسي السائد، عسى أن تتحصل وصفة من خلال هذا الحوار، تسهم في معالجة هذه الإضطرابات.

إن اللباس المستنكر الذي ترتديه بعض السيدات والعلاقات غير المباحة لجماعة أخرى في الأزقة والطرقات، قد آلمت قلوب العديد من المتدينين، ودفعت الكثير للعمل على تطهير سيماء المجتمع من الإرتباكات والإضطرابات واصلاح دين الناس ودنياهم.
ومنذ البداية قلت للمشار إليه إنك لن تصل من خلال هذا الحوار إلى وصفة علاجية. وكما يقول المثل الشائع فاني أقل من أن أضع حلا بين يديك، وان حديثي سيبقى في إطار الدراسة العامة والكلية للموضوع وتحديد أسس الخوض في الموضوع. ومع ذلك، تقبل الأمر وقدم إلى مكتب المجلة وجلس أمامي ومعه آلة التسجيل ووضع ورقة أمامي مكتوب عليها اسئلته التي يريد طرحها. وقبل أن يطرح أسئلته على طريقة الصحفيين والإعلاميين: توجهت إليه بالقول: بدلا من أن أرد على اسئلتك، لابد من تبيان ما اعتبره ضروريا، وباستطاعتك إقتباس ما أقوله في اطار ما يفيد مشروعك. فتقبل الفكرة بحميمية وبدأت أنا الحديث:
لَاحَوْلَ وَ لَاقُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!
إن ما يعتبر اليوم إضطراب السلوك الجنسي في صوره وأنماطه المختلفة، بدء من أبسطه أي العلاقات بين الفتيات والفتيان وصولا إلى موضوعات مثل حياة العزوبية والعيش بين الفتيات والفتيان من دون زواج (الزواج الأبيض) والنمو السلبي للزواج وتزايد حالات الطلاق والمثلية الجنسية والإغتصاب والدعارة، أمور أبتلي بها العصر الحاضر والإنسان المعاصر قبل أن تكون آفة تصيب المجتمعات الشرقية المسلمة بما فيها “ايران الاسلامية الشيعية”. إن كلا من المجتمعات، وحسب موقعها التاريخي، نالت نصيبا من كل ذلك، وستنال المزيد في المستقبل إن سارت الأمور على ما هي عليه الآن.
وبسبب هذا التلوث والإبتلاء، فان المجتمعات والشعوب المختلفة وبعد تجربة التداعيات والنتائج السوء والكارثية للسلوكيات الجنسية، أخذت تثير هذه القضايا لدى باحثيها (علماء الاجتماع وعلماء النفس و…) وتسعى لإيجاد مخرج ومعالجة السلوكيات غير السوية.
وبسبب شيوع وشمولية الأزمة الجنسية، نرى أن المجتمعات الغربية (الأوروبية والامريكية) كانت السباقة والرائدة في تجربة الأنماط المختلفة للإضطرابات الجنسية، كما أنها كانت السباقة والرائدة في تقليص نسبة هذه الإضطرابات وخفض تداعياتها المدمرة.
وفي هذا الإطار اكتشفت واعتمدت الشعوب والأمم المختلفة، قوانين وقواعد حسب نسبة وقوعها في براثن هذه الأرتباكات والسيئات.
إن دراسة مدى نجاح كل من هذه المجتمعات في نيل غايتها المنشودة وإزالة الإضطرابات، تحتاج إلى فرصة مفصلة لا يسع هذا المقال للتطرق اليها.
وتعويلا على جميع الشواهد والمستندات، فان المجتمع الايراني المسلم، لم يكن هو الآخر بمنأى عن المصاديق المختلفة ودرجات من هذه الإضطرابات، وان الحوارات والشكاوى المختلفة الصادرة عن القائمين على الشؤون الدينية والحريصين على الشؤون الثقافية والصحية والاجتماعية لمعرفة القضية وإيجاد حلول للإضطرابات، مؤشر على حقيقة المسألة وشيوعها  وانتشارها.
ويأمل كل هؤلاء أن يتم من خلال الإنذار والبشرى والإستعانة بالمؤسسات التعليمية والتربوية وحتى قوات الامن والشرطة، التحكم بالظروف، وخفض نسبة الخسائر وإحياء السلامة الأخلاقية والجنسية على المستويات المختلفة وإعادتها إلى المجتمع.
وبلاريب، فان جميع الهواجس والقلق السائد في هذا الخصوص، هو في محله، لاسيما في مجتمع شرقي ملتزم بالأخلاق ويسعى في ظل توجه ديني لدراسة التعاملات والعلاقات بين الجماهير ويعمل على خطى أسلافه، على حفظ وبسط السلامة الأخلاقية، لكن كلامي في هذا الخصوص هو كلام آخر. وأشرح إنطباعاتي هنا في ظل توجهين كلي وجزئي.
التوجه الكلي إزاء ظاهرة إضطرابات السلوك الجنسي في المجتمع:
إن تركيز كافة الدول وحتى المؤسسات الدولية على هذه الظاهرة، مؤشر على أنها قد انتشرت على الصعيد العالمي وأصبحت شاملة ولا تقتصر على مجتمع بعينه.
إن اعلان “اليوم العالمي للصحة الجنسية” (يوم الرابع من سبتمبر 2010) من قبل “جمعية الصحة الجنسية” (WSH) وتقديم تعريف عن الصحة الجنسية، مؤشر بحد ذاته على شيوع اضطرابات السلوكيات الجنسية على الصعيد العالمي وتشوش العلاقات الجنسية بين الجماهير، بحيث لا يتم التقيد باي حدود وقواعد وحتى أنه لا يوجد هناك تعريف موحد ومقبول عن الصحة الجنسية كمعيار للحديث في هذا الشأن وداخل المجتمعات المختلفة.
إن شعار أول مراسم اقيمت لتكريم هذا اليوم عام 2010 كان عبارة عن “تعالوا نتحدث بشأنه، يجب محاربة موضوع الجنس كامر مُحرّم ومحظور في المجتمعات المختلفة وإثارة ضرورة الحديث حول القضايا الجنسية”.
واستمرار لهذا الوضع ومع مشاهدة تعرض السلامة الاخلاقية والجنسية للشبان للخطر، اعتمدت هذه المنظمة عام  2011 شعارا تحت عنوان “الصحة الجنسية للشبان؛ في ظل الحقوق والمسؤوليات المتبادلة” ، فيما اعتمدت عام 2012 شعار “الصحة الجنسية للجميع، وفي العالم التعددي” وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار الأقليات والتعددية الثقافية.
وأوردت هذه المقدمة لأقول أنه قبل أن نبدأ نحن في العقدين الثالث والرابع من الثورة الاسلامية وبعد تجربة الكثير من إضطرابات السلوك الجنسي على مختلف المستويات في المجتمع، الحديث حول هذه القضية، فان المجتمع البشري قد مر بهذه الأزمة. لذلك لا يمكن وضع وصفهة علاجية موحدة وعامة بهذا الخصوص.
وربما ان إحدى إشكاليات أدائنا وعملنا أثناء مواجهة هذه القضية وسائر القضايا التي تصيب المجتمع، هي أننا ننظر إلى المشكلة والإضطراب بمعزل عن سائر التعاملات والعلاقات وبصورة منفردة ومعزولة عن سائر مكونات ظاهرة ثقافية وحضارية ما، ونغفل تاثر المكونات ببعضها البعض وتأثرها بكلية واحدة. ولذلك فاننا نرى أن حل القضية يقع في نطاق ضيق ومحدود ونحكم بناء على ذلك عليها ونقدم حلا بشأنها، بحيث أن العديد من المتدينين والمتشرعين، يرون أن ظاهرة الإضطرابات الأخلاقية والسلوكيات الجنسية والتي برزت مرتبة منها في ملبس النساء والفتيات، هي مشكلة ناتجة عن سوء أخلاق الأشخاص أو الأسر على أكثر تقدير، ويرون أن الحل يكمن في وضع وتمرير بعض القوانين والمقررات الاجتماعية وتطبيقها على يد المؤسسات الشرطية.
ومن جهة أخرى، بما أن المثقفين في المجتمعات الشرقية والتقليدية، ينظرون دائما إلى أفواه وأقلام الباحثين الغربيين ويهتمون بوجهات نظر ورؤى المنظمات الدولية، ويتجاهلون في إطار دراسة الكثير من المشاكل والإضطرابات التي تحط الرحال في الميادين الثقافية والحضارية للانسان الشرقي والتقليدي وتقديم الحلول ومعالجة القضية، حقيقة أن المنطلق والغاية المفترضة والمنشودة للمجتمعات الحديثة في النظر الى المسألة وإيجاد مخرج للمشاكل، يختلف عما تبحث عنه وتنشده المجتمعات الشرقية.
أريد أن أقول، أنه على الرغم من اشتراك المجتمعات الشرقية والغربية في ظاهر المسألة وشكلها الخارجي (مثل إضطرابات السلوكيات الجنسية)، لكنهما لا يشتركان بالضرورة في مصدر ونشأة هذه الإضطرابات. لذلك لا يمكن أثناء تقديم وصفه علاجية، اعتماد وصفة مشتركة.
إن كلا من المجتمعات ونظرا إلى مبادئها وأسسها التي تقوم عليها، تنظر إلى الموضوع ولا بد أن تدرسه إنطلاقا من تلك المبادئ والتعليمات وتوجد مخرجا له.

العالم الحديث والإنسان الحداثي
إسمحوا لي بداية أن ألقي نظرة خاطفة على الموقع والظروف التاريخية الخاصة التي يمر بها الانسان المعاصر في العصر الحاضر.
إن مفردة العصرية والحداثة، تعطي تعريفا شاملا وتوصيفا شافيا عن الموقع التاريخي للعصر الحاضر والإنسان المعاصر. إن كلا من الأمم والشعوب تستقر في صف طويل وعلى مستوى واسع في هذا العالم العصري وتريد تجربته فضلا عن تأثرها به.
إن الدول المتقدمة، أي الدول الامريكية والأوروبية واليابان التي جربت الحداثة بشكل كامل، تعتبر في الساحات الثقافية والحضارية، كمعلم ومدرب للشعوب النامية والأخذ بيدها لتجربة العصرية والحداثة في أوجهها الحضارية على الأقل. وترى نفسها في مرآة العالم الحديث وتعرّف مستقبلها في نطاقه وذلك بسبب هيمنة المجال الثقافي والحضاري للعصر الحديث وكون المجالات الثقافية التقليدية لعامة الأمم غير المتقدمة والمتخلفة عن ركب الحضارة الحديثة، آيلة إلى الزوال والإندثار.
إن عامة هؤلاء الشعوب المتقدمة منها وغير المتقدمة، تمتدح العصرية وتجربة الحداثة. إنهم ومن خلال إضفاء الراحة والتمتع بالمواهب التي تنتتجها الحداثة، يعتبرونها بمثابة سلم يرتقونه للوصول إلى الراحة والنعمات. إنهم يعتبرون الراحة والإستقرار والتمتع بالمواهب الدنيوية بمثابة الوجهة المرجوة وغاية سير وسلوك الانسان على امتداد التاريخ، أو أن يجعلونها على أرض الواقع على الأقل إمامهم ومرشدهم، حتى وإن أنكروها في الظاهر. إن كلهم يحسبون أن الحداثة تكسب الانسان حقيقة الراحة الجسدية والسكينة النفسية.
وبناء على ذلك فان العالم الحديث أصبح في أعين سكان جميع المجتمعات الشرقية، هو المطلوب والمنشود ويعتبرون تجربة الحداثة ضرورية ولازمة للوجود والعيش في الأرض، ويرون أنه لا بد منها، وفي المقابل، إن كان هناك من ينكرها يعتبرونه جاهلا وممسوسا. إن هؤلاء يعتبرون أن وجودهم يقتصر على هذا ولا غيره.
وانطلاقا من هذا الظن، استقلت كافة المجتمعات الشرقية على مدى الاعوام المائتين الأخيرة قطار العصرية الواحدة تلو الاخرى.
وثمة أدوات كثيرة تقع في حوالي كل واحد منا في الحياة الفردية والاجتماعية، ونستخدم كل هذه الوسائل الصغيرة والكبيرة، لكن كم منها ضروري ولازم لوجودنا وشرط لادامة حياتنا؟ وأي منها يعد شرطا لازما وينطوي على حياتنا الانسانية على الكرة الأرضية، وإن شطبت ستؤدي إلى زوالنا وموتنا؟ وبلا ريب فان شأن وموقع جميع الأشياء والأدوات، ليس موحدا ومتكافئا، بالضبط مثل أعضاء الجسد الواحد.
إن القلب ضروري للعيش ومواصلة الحياة، بل هو لازم لبقاء الكائن الحي، حيا، ومن دونه لن يبقى كائن حيواني وانساني، على قيد الحياة، لكن في الوقت ذاته، فان أظفر الإصبع وشعر الرأس لا يحظيان بالموقع نفسه الذي يحظى به القلب، وبرغم حاجتنا إليهما، فاننا لن نخسر حياتنا ان فقدناهما، كما أن شأننا الانساني لن يزول مع زوالهما.

تاريخ الحداثة
إن تاريخ العصرية وتجربة العالم الحديث لا يتجاوز الأربعمائة عام. وقد تخطى الانسان الغربي في جزء كبير من هذا الزمن (أي القرنان السادس عشر والسابع عشر) المراحل التمهيدية للعصرية والحداثة في المجالات النظرية والثقافية، وخرجت الحداثة من أطر الإنطباعات النظرية والفلسفية بعد تجاوز الثورة الصناعية في “بريطانيا” وتجسدت على هيئة مكاسب حضارية ومنجزات تكنيكية.
وأكثر من كل الأمم، عملت الشعوب الغربية (الفلاسفة الغربيون) على إرساء الحداثة كنوع من الإنطباع الجديد والرؤية الجديدة في العالم.
والمؤسف أن الحداثة والتجديد لدى سكان الشرق واسيا وما يسمى الدول النامية، تجلت في هيئة الماكينة ومنتجات التكنولوجيا فحسب.
إن العالم الحديث هو نتاج وصنيعة يد الانسان، بحيث أن الحداثة لم تكن قائمة بمعناها السائد في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكما أسلفت، فان هذا الحادث ظهر بداية في منزل روح الانسان الغربي ومن ثم برز في شكله الحضاري.
ولذلك نرى أن المروجين المحليين ومتخرجي العلوم الاجتماعية والسياسية يعتبرون أن التنمية الانسانية تشكل الشرط المسبق لتحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي. وبما أن سكان الشرق يعتبرون أن الحداثة تكمن في المنتجات التكنولوجية وهي منعزلة عن الأسس والخلفيات النظرية والفلسفية، يرون كل ذلك ممتدحا ولازما وضروريا للوجود والحياة ويسعون لوضع ذلك في خدمتهم.
إن الحداثة هي إجمالا، وجه خاص لرؤية الكون والوجود. إن هذا النمط من الرؤية إلى الكون وعالم الوجود، لم يكن يعرف ويجرب في أي مكان حتى قبل القرن السادس عشر، ولم يكن أحد قبل الغربيين يدركه.
إن علم كونيات العصر الحديث تسبب في القرنين السادس عشر والسابع عشر في التربية والنشأة الانسانية وكان يمكن في المجال الحضاري أن يؤدي إلى إيجاد العالم التكنولوجي. إن الماكنة بمعناها الخاص تعني في الحقيقة التكنيك والتكنولوجيا وهي صنيعة يد هكذا انسان.
إن غلبة النظرة الرياضية والكمية على وجود الانسان في العصر الحديث كان مقدمة لتجربة التجديد والعصرية وولادة الانسان الحداثي. وفي هذه الدورة، ظهر بداية انسان سيطرت الحداثة بوصفها علم كونيات خاصة، على روحه، وكان ينظر إلى الوجود من منظار الحداثة وكان يسعى للسير في الأرض بهذه الطريقة وتغيير الأرض بما تميله عليه رغباته النفسية، ومن ثم يبني الجنة الموعودة على أساسها. ومن هنا كانت الماكنة المنتج الذي صنعه بيده في الحضارة الجديدة.
إن تمتع العالم المادي بالأصالة لدى الانسان الغربي واقباله على الدنيا، كان بمثابة وجهته النهائية وأرضه الدائمة بمثابة الشرط اللازم لخوضه المجال والساحة الثقافية الحديثة. ومن هنا فان العالم الظاهر (الدنيا) اكتسب مظهرا خاصا عنده وأبدى إقبالا تجاهه.
وتزامن الإقبال على العالم الظاهر وظاهر العالم لدى انسان العصر الحديث، مع إدباره عن العالم الباطن وباطن العالم.
ومنذ أن أعرض الانسان الغربي بالكامل عن السماء والعوالم الباطنية والغيبية، تلك التي تنادي بها الاديان السماوية والتوحيدية، واعتبر الدنيا، بيته الآمن والمستديم، وركز من خلال إضفائه الأصالة على الدنيا، جل اهتمامه للإستيلاء عليها وتغييرها ولدت الحداثة والعصرية.
وفي ظل هذه التوصيفات، لنعود وندرس الانطباعات الفلسفية التي رفدت الحداثة في القرن السادس عشر للميلاد لكي نعرف من هم معلمو الحداثة ومن أين نشأ وولد علم الكونيات هذا.
إن من ينظر بايمان واستنادا إلى الإنطباعات الدينية والتوحيدية إلى الكون، يعرف بان الوجود له ظاهر وباطن. إنه يعرف أن العالم المادي نابع عن العوالم الباطنية والمعنوية، ويأخذ مجمل اعتباره ووجوده من باطن الكون وغيب العالم وعالم الغيب ومن أنه لا شئ من دونه. لذلك فان العوالم الباطنية تتمتع بالأصالة لدى الانسان المؤمن بالاديان الإلهية فيما يصبح العالم الظاهر وظاهر العالم قشرة ليس إلا.
وعقب هذا الحدث والتوجه في الغرب، برز في الميدان الثقافي وبين جميع العلاقات والتعاملات الحضارية للشعوب، أدب وأدبيات واسلوب ونمط للحياة والعيش استمد كل قدراته واعتباره من علم الكونيات الحديث. وفي المقابل، تعرف سكان الشرق تدريجيا على العالم الحديث واستأنسوا به. وجدير ذكره أن الشرقيين، سلكوا مسار الحداثة بصورة عكسية ومقلوبة.
وعلى النقيض من الغرب الذي بدأ الحداثة من التجربة والدرك علم الكوني والنظري ووصل إلى الحياة التكنولوجية، فان سكان الشرق تعرفوا بداية على المنتجات التكنولوجية والحضارة العصرية واستأنسوا بها. لذلك قلت بان هؤلاء سلكوا هذا المسار بصورة عكسية. وأنه كان ناقصا لسبب أنهم ركزوا على القشرة وظاهر العالم الحديث أي المنتجات التكنولوجية فحسب وافترضوا أن كل ذلك منعزل عن علم كونيات الحديث والثقافة الكامنة خلف الحداثة والتجديد.
إن سكان الشرق، يعتبرون المهندسين والتكنوقراط بانهم معلمو الحداثة ولذلك فانهم يمنحون هذه المجموعة كل مجال العمل في الإدارة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية العامة ، في حين أن الفلاسفة كانوا في الأصل ومنذ البداية معلمي الحداثة. إن هؤلاء لقنوا الانسان الغربي بالإنطباع العام وعلم الكونيات الخاص والحديث. إنهم كانوا معماري العالم الحديث بينما كان المهندسون عمالا لديهم.
وبين المجتمعات الاسيوية، تعرف الايرانيون في القرن الثالث للهجرة وفي العصر القاجاري على العالم الحديث وأصبحوا منذ البداية مولعين بالأدوات والوسائل الآلية واقتنوها. ولم يكن الوضع في مصر وتركيا وبعدهما العراق وسائر البلدان الاسلامية، أفضل من ذلك.
والملفت هنا هو أنهم افترضوا منذ البداية أنهم وبعد أقتنائهم وشرائهم هذه المنتجات وتقليد أساليب الحياة وأنماط العالم الحديث، سيضفون عليها لونا وطابعا اسلاميا.
إن سكان الشرق لم يكونوا مستوردي الماكنة فحسب. وكان جليا أنه إلى جانب الماكنة كان لابد لهم أن يستوردوا أساليب الحياة وآداب التعايش مع الماكنية أيضا. وبذلك انصرف سكان الشرق طيلة عمرهم لأسلمة الغول الذي خرج من قمقم الغرب.
وكان الشرقيون يظنون أنهم يكتسبون ويستحضرون مجمل الراحة والسكينة التي توفرها المنتجات التكنولوجية فضلا عن تمتعهم بجميع مواهب العوالم المعنوية.
وكما أشرت سلفا، فانه من أجل نيل هذا الوهم، أقدم المسلمون الداعين لنيل الحضارة الحديثة، على علمنة الدين والشريعة من جهة، لكي يتم من خلال تقليص المسافات، التمتع بالدين وبالعالم الحديث في الوقت ذاته.
إن التوجه الموروثي والتقليدي الديني لسكان الشرق الاسلامي، دفع بهم إلى إنكار وابداء السخط تجاه بعض سلوكيات وآداب الغربيين، وتحديد القبائح والسيئات بمنأى عن الإعتبار الثقافي والحضاري للعالم الحديث، ويمنون النفس بان يكون باستطاعتهم من خلال الإبتعاد عن تلك القبائح تطبيق ما تبقى من الآداب والتقاليد وأنماط الحياة ومنجزات التكنولوجيا بصورة طاهرة بينهم، ليوفروا بذلك حصيلة جمع السماء والأرض (الشرق الديني والغرب الدنيوي). متجاهلين أن جميع أساليب العمل (التعاملات والعلاقات) والإنجازات تحظى على الدوام بخلفية فكرية وثقافية وتستمد قوتها من جوهر خاص خارج عن إرادة الانسان.
إن سكان الشرق ومن خلال توجههم المبهج نحو الحضارة الغربية، وضعوا ضمن عقد غير مكتوب تاريخهم في ذيل التاريخ الغربي ورأوا أنفسهم في مرآته. بعبارة أخرى، شاهدوا كل مستقبلهم وكل آمالهم في الغرب وعملوا في الجغرافيا الترابية على تجديد كل ما شاهدوه. بعبارة أخرى، سعوا جاهدين للوصول إلى ركب الحضارة.
إن عبارة التخلف عن ركب الحضارة مشهورة ومعروفة في الشرق. إن هذا التخلف هو بمعنى التخلف عن ركب الحداثة والتجديد اللذين وفر الغرب مقدماتهما خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وجسدهما في القرون اللاحقة على هيئة عالم صناعي. إلى أن نال في القرن العشرين أعلى درجات الحداثة.

الإسقاط، جوهر الثقافة والحضارة الغربية
إن الحداثة وكما قلت، الإبن البار للإدبار عن السماء والإقبال على الأرض، وهذا الشئ هو جوهر الثقافة والحضارة الغربية. ولذلك فان الإسقاط والتظاهر وإظهار ما هو خفي ومستور، ضروري للحداثة وهو يشكل ثقافتها الخاصة، بحيث أن الغفلة عن الروح والاهتمام بالجسم والتركيز على الجسم، هو جوهرها. وحسب ذلك، فان الإظهار والإهتمام بظاهر العالم يبدو جليا في هذا الميدان الثقافي. وهذا على طرف نقيض من المجال الثقافي التقليدي للانسان الشرقي الذي يعتمد الإستتار وضبط النفس وستر الباطن وكتم الأسرار كتملازمة لحياته الثقافية والحضارية.
ومن بامكانه فصل السلطة والإرادة القائمة على السلطة عن الحداثة ومجالها الثقافي والحضاري؟ وهذا ما يشبه أن يريد أحد فصل الشيطنة عن الشيطان أو البلل عن الماء. إن هذه الإرادة الشيطانية والهواجس النفسانية، هي حصيلة الإدبار عن عالم المعنى والغيب والإقبال على عالم الظاهر والدنيا. ولذلك أقول: إن روح الحداثة، غوغائية.
إن من يلج هذا النظام الثقافي والحضاري المتشابك، فانه سيقبل تدريجيا على الأرض ويدبر عن السماء.
إن الشرقيين المولعين بالعالم الحديث (تركيا ومصر وماليزيا وايران واندونيسيا و…)، استقلوا تدريجيا وبولع وتشوق قطارا يسير على سكة الحداثة ويتقدم محطة بمحطة. في حين أن هؤلاء لم يبذلوا جهدا للتساؤل عن بداية ومنطلق حركة هذا القطار، ولم يسألوا عن وجهته النهائية. إنهم كانوا يفكرون بان يصلوا بأنفسهم إلى المحطات القادمة باسرع ما يمكن ويقلصوا مسافتهم مع الغرب كلما أمكن. ولذلك اهتموا باستجلاب العلوم الحديثة من جهة وتحديث وتجديد نمط الحياة الفردية والجماعية من جهة أخرى. إنهم كانوا يعرفون أن ليس بوسعهم القفز فجأة ومرة واحدة إلى المحطة العشرين والواحدة والعشرين للحداثة، ولابد لهم التقدم محطة محطة، لانهم كانوا من الناحية التاريخية والظروف الثقافية يقفون على مسافة شاسعة من الغرب ومجاله الثقافي والحضاري.
وكان الشرقيون أوصلوا بانفسهم إلى القطار الثقافي والحضاري الغربي، بعد ما كانوا يقفون على مسافة نحو 400 عام عنه وكانوا يأملون بتقليص هذه المسافة أكثر فاكثر عن طريق شراء المنتجات التكنولوجية الغربية وتهديم ما تبقى من التقاليد والأوجه الثقافية والدينية والشرقية وجلب واجتذاب النماذج الفرنجية وبسطها في جميع شؤونهم بما في ذلك بناء المدن والعمارة والملبس والاقتصاد والسياسة و… .
وفي الوقت ذاته كانوا يتنكرون لبعض الآداب والاخلاق والأعمال الرائجة بين الغربيين، وكانوا يعتبرون كل ذلك قبيحا وشنيعا في ظل رجوعهم إلى الخلفية الثقافية والدينية والشرقية، لكنهم كانوا يحسبون أنهم مع استقلالهم لقطار التقدم والتنمية (الترجمة الشرقية والايرانية للحداثة) سينزهون ويطهرون أنفسهم من تلك القبائح والشنائع، لكنهم كانوا يستقلون قطارا يسير على سكة الحداثة ويمضي قدما بركابه محطة بمحطة ويقلص مسافتهم عن الغرب أقل فاقل.
وبهذه المقدمة المطولة التي جعلتها أساسا وركيزة لكلامي وتحليلي، نلقى نظرة على مجمل العلاقات والتعاملات الثقافية والحضارية (وحتى الفردية والجماعية) لسكان الشرق الاسلامي، لنتعرف على سر الكثير من هذه المآزق والأزمات التي تعترض أوجه وسيرة حياة هذه المجتمعات.
إن هؤلاء ومع مشاهدة قطار الحضارة الغربية المزوق والمزخرف، استقلوا هذا القطار من دون أن يسألوا عن منطلقه ووجهته ومن دون التروي حول منطلقهم ووجهتهم المنشودتين (حسب الثقافة والتعاليم الدينية والشرقية والاسلامية) وخلال الطريق وأثناء تجربة الإضطرابات التي يعود معظمها إلى السير والسفر على سكة وقطار الحداثة، أصبحوا منهمكين في  البحث عن حل للمشاكل، ولكن واصلوا في الوقت ذاته السير والسفر على هذا القطار واعتبروه لازما لوجودهم وحياتهم الفردية و الجماعية، وحتى أنهم كانوا يريدون استباق الغرب والتقدم عليه في هذا الطريق.

العالم الحديث والسيئات الجنسية
واسمحوا لي الآن أن أطرح هذا السؤال وهو هل أن بعض الإختلافات والسيئات الجنسية التي عرضت الصحة الأخلاقية والجنسية لسكان المجتمعات الاسلامية بما فيها ايران للخطر وتبدو جليا تارة على هيئة أزمة جنسية، هي آفة أصابت الحياة الثقافية والحضارية لهذه المجتمعات أم هي النتيجة والحصيلة الحتمية والجوهرية للسير والسلوك في الجادة الثقافية والحضارية الخاصة التي تسلكها؟
ولاريب أن سوء السلوك الجنسي والمصاديق المختلفة للجريمة في هذا المجال،  كانت سائدة في كافة العصور والقرون وبين عامة الثقافات والحضارات، بحيث أن التبرج والإسقاط المفرط كان يشاهد لدى بعض الشعوب السالفة، لكن هكذا ممارسات خادشة للعفة والحياء اعترت بعض الأشخاص بسبب النفس الأمارة للانسان والاغواءات الشيطانية. إن الميادين الثقافية والحضارية الدينية القديمة كانت منزهة عن الإسقاط والإدبار عن السماء واضفاء الأصالة على الشهوات ورغبات النفس الأمارة، لكن الميدان الثقافي والحضاري للانسان المعاصر، بني على أسس العدمية والنهلية وهو في باطنه متهتك ومعتد على الحدود الالهية والسماوية ومدبر عن عالم المعنى ومتقبل للعوالم الشهوية والدنيوية. لذلك أقول بان الإضطرابات التي نتحدث عنها، لم تصب المجال الثقافي والحضاري العصري وحده بل انها تعايشه وتتواصل معه.
ولهذا السبب أقول أنه بحثا عن حلول للكثير من الأزمات والتحديات، فاننا بحاجة إلى تقديم تعريف عن المسألة وكشف الموقع التاريخي للمجتمع المصاب بها.
وواضح أن كلا من هذه المصطلحات والموضوعات، ورغم اشتراكها اللفظي بين الثقافات المختلفة، تنطوي من حيث المجالات الثقافية الخاصة بها، على شحنة معنوية ومفهوم خاص، ولا يمكن لاي باحث تصور أن المعاني الكائنة خلف كل من هذه الألفاظ تشترك بالضرورة معا في كافة الثقافات.
إن هذه هي أسس نظرية وعلم كونيات خاصة تحدد المعاني أو أنها مبنية على ذاتها، لتعطي تعريفا عن الموضوعات أو الكائنات.
إن القسم الكبير والرئيسي للإضطرابات متعددة الأوجه للسلوكيات الجنسية السائدة في المجتمعات، نابعة من السير في العالم الغربي واستقلال قطار الحداثة.
ولذلك أقول: إن أحد الأسباب الرئيسية لإصابة المجتمعات المختلفة بالسلوكيات الجنسية السيئة والإرتباكات المتعلقة بها، يعود إلى استقلال قطار الحداثة في ظل نظرة عالمية وعلم كونية خاصة به.
وعندما تبدي النتائج الثقافية والمادية المختلفة لهذا السير والسفر نفسها، فان المجتمعات الشرقية تصرخ باعلى صوتها بان المساوئ الأخلاقية قد ظهرت ويجب التفكير بشأنها واتخاذ الإجراءات الإحترازية اللازمة.
إن هذه المجتمعات تنادي بالثقافة والحضارة الحديثة العارية عن الإلحاد والتبرج والتظاهر والرياء والإضطرابات الجنسية وحافلة بضبط النفس والحياء والإحتشام والعفاف والأواصر الأسرية المتينة والمقبلة على السماء وعالم المعنى، أو أنها تتمناها على أقل تقدير.
وهذا يشبه الشخص الذي يطلب برتقالة بلون الكيوي وطعم الرمان وشكل وهيكل القرع.
إن مثل هؤلاء هو مثل المرء الذي يبحث عن أسد عجوز يفتقد للقوة والمنعة، ولابد للقول له:
إن هكذا أسد لم يخلقه الله!
إن عامة التعاملات والعلاقات، أكنا راضين عنها أو نكرهها، هي من هذا النوع والنمط وحصيلة هذا الوضع والظروف.

كل شئ مُتعرٍّ والكل عراة!
إن بعض الرجال والنساء المتدينين والمتحلين بالآداب الاسلامية، في حين يشكون الملابس غير الملائمة وسلوكيات بعض الرجال والنساء في المجتمع ويطالبون بسن قوانين خاصة من أجل ارغام هؤلاء على مراعاة الحشمة في الملبس والزي، تراهم يمرون مرور الكرام على الكثير من العلاقات والتعاملات السائدة والعامة وحتى القانونية المليئة بالتعري وغياب التقوى. إسمحوا لي أن أشير إلى مصاديق من هذا التعري المقنع والخفي.
وهل دققتم النظر في العمارة المتبعة في جميع المجتمعات وجميع الشعوب والأمم؟ فأي من هذه المباني المزخرفة بمواد البناء المصقولة والجميلة، تتحلى بصفة الستر والتستر؟
وأي من الشقق السكنية الموجودة في “قم” و”شيراز” أو “مشهد” تحمي وتصون محارم وأعراض الناس من أعين الغرباء؟
إن الستائر تستر مضطرة ساحات البيوت العارية عن أعين الأغيار غير المحارم، في حين أن العمارة الداخلية والخارجية لأي من المباني المشيدة في العصر الحاضر، لا تتحلى بصفة الستر والحياء والإحتشام، بل على العكس، كلها زاخرة بالتبرج والتظاهر والتفاخر وعدم الحشمة والحياء.
وقد تكون هذه المباني مشيدة على يد بعض هؤلاء الناس الذين يشكون غياب العفاف في المدينة وطرقاتها وشوارعها.
إن الحجاب يعني الستر والتستر، والستر هو صفة تسهم في حماية المرء من الأغيار والغرباء. إن من يظهر أمام الاخرين من دون حجاب وستر، يضع نفسه أمام مرأى الاخرين. إن الحجاب والستر هما مفهوم يجد مصاديقه الخارجية في كافة العلاقات والتعاملات الفردية والجماعية.
إن من يصون نفسه بصفة الستر وضبط النفس والحياء والإحتشام، يبقى بمأمن وأمان عن تعرض واعتداء غرباء مثل الشيطان وجنوده.
إن من يستر جسده بلباس مقبول، يجعل نفسه مصونا عن تعرض واعتداءات الأجانب.
إن العمارة العارية عن صفة الستر تعرض سكانها للسهام السامة لنظرات الغرباء الأغيار والمتجاسرين. إن الانسان المتدين يُحملّ هذه الصفة على مجمل منجزاته ومكاسبه.
وأليس مدينتنا وتخطيطنا لبناء المدن تحولا إلى سوق للربح والتجارة؟ ففي هذه المدينة، يتحول كل انسان متحجب  إلى شخص بلا حجاب ومدنس، في حين أن ستر وحجاب المدينة وبناء المدن الاسلامية، منزهة عن الربح والتجارة والإختلاط وزحمة  المحرم وغير المحرم.
بعبارة أخرى فاننا ننادي بظاهر الدين ونصر عليه، مثلما ان الكاتب يصر على ذلك، لكني أريد القول أن جميع علاقاتنا وتعاملاتنا مصابة بالدين الظاهر وهي بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين.
إن الدين الظاهر، هو الإقبال على ظاهر الدنيا والإدبار عن حقيقة الكون والوجود.
إن المجال الثقافي والحضاري الحديث، يقتفي بالضرورة أثر الدين الظاهر وبالتالي فان مجمل علاقاته الثقافية والحضارية تتسم بالإسقاط وتفتقد إلى صفة الستر والإحتشام، وتتجه على طريق السير من الباطن إلى الظاهر، نحو جحيم الغطرسة والأنانية والإستيلاء والهيمنة. ومن هذا المنطلق أقول إن كلا من الشعوب والأمم وبعد استقلالها قطار الحداثة، أظهرت بما يتناسب مع كل محطة وموقع، وجها من الصفة الجوهرية لهذا المجال.
وفي الوقت الحاضر، فان الحرص على الدين الظاهر (مع تجربة الحداثة والتجديد في جميع الشؤون الثقافية والحضارية) يسري في عروق سكان الشرق الاسلامي لدرجة أنهم يدفعون أي ثمن لكسب أي من مراتبه، بما في ذلك تراجعهم عن الحدود الشرعية والأخلاقية وأن عامة الناس غير مقصرين في هذا الخصوص.
ويجب التساؤل، أي من العلاقات والتعاملات الثقافية والحضارية لشعوب العصر الحاضر والانسان الحالي، تتحلى بصفة الستر؟
وربما تعتبرون الحصيلة النهائية للأنظمة التعليمية للمجتمعات التقليدية والشرقية والتعليم الذي يقدم للتلامذة، بانه تجربة الستر في المجال الثقافي والعملي، لكن الحال ليس كذلك.
إن هذه الأنظمة، يتم تصميمها منذ البداية لتربية وتعليم الانسان الذي يؤازر المجتمع الحديث. ويحمي الحداثة ويرفدها.
إن المجتمعات التقليدية الشرقية بمن فيهم المسلمون، لم يجدوا المجال الجاد للتفكير بشأن مبادئ وأسس العلوم الجديدة ونقدها بصورة أساسية، في حين أن معظم هذه المجتمعات تقوم بحقن هذه العلوم الناتجة عن انطباعات العصر الحديث والمستندة إلى آراء علماء يبشرون وينادون بالعصر الغربي الحديث، لأحداثها وتلامذتها وطلابها، وتظهر من خلال تزيين صفحات المطبوعات المترجمة بالعبارات  الشرقية والاسلامية بان كل ذلك شرقي وإسلامي. وفي الحقيقة إن الأنظمة التعليمية تقوم باسلمة تعاليم العالم الحديث.
وقيل منذ القدم، أن الشجرة تعرف من ثمرها، وأليس أن كافة متخرجينا، هم محصلة ونتيجة هذه الشجرة، أي النظام التعليمي؟
وأليس صفوة ونخبة هؤلاء المتخرجين، يحملون أعلى درجة من التطابق والتناغم مع احتياجات ومطالب المجتمعات الغربية، ويوظبون أمتعتهم ليشدوا الرحال في طرفة عين؟
إن المدينة المتعرية والبيت المتعري والنظام التعليمي المتعري والنظام المالي المتعري، يربي وينشئ بالتالي أنسانا متعريا. ولهذا السبب، فان سفور وعدم احتشام المدن الحديثة، أكثر بكثير من سفور السيدات في ساحات وشوارع هذه المدن.
وكل شخص وكل شئ لا يملك الحصانة في مقابل الآخرين الغرباء، فانه متعر. وإن نظرنا إلى العالم المحيط بنا برؤية مبنية على الفهم الثقافي، لأدركنا بان اصلاح الإضطرابات الأخلاقية والجنسية التي تفضي إلى الإعتداءات الجنسية السافرة، بحاجة إلى مبادرة جوهرية وشاملة.
ومن وجهة نظر كاتب هذه السطور،  فانه لا فرق وتباين بين التعري والإعتداء الجنسي السافر لدى بعض النساء والرجال وبين المصرفية التي ترسي النظام الاقتصادي المبني على رأسمالية العصر الحديث. وبقدر ما يبني المعمارون والبناؤون ومخططو المدن، مدنا على اساس التعري الفكري والثقافي، فان هذه المدن تفتقد إلى أي ستر وصفة الستر والإحتشام.
إن سكان الشرق وبسبب هيامهم الكبير بالعالم الحديث، يقيّمون كل ما يعتبرونه قبحا ودناءة وقذارة وتفسخا وذنبا في النظام الفكري الديني  ويشاهدون مصاديقه وأمثلته الحية في الغرب وفي علاقات ومناسبات سكان الغرب، يقيمونه على انه “زائد” على المجال الثقافي والحضاري الحديث ولا يقرون بوجود  نسبة بين ما هو مكروه وبين ذات وجوهر ذلك المجال أو أنهم غير راغبين في عقد هكذا نسبة.
وفي الوقت الحاضر، فقد ظهر ترابط بين مفهوم ومصداق “الإباحية والفن والأدب الإباحي” ومفهوم “السلطة الإباحية”. إن “السلطة الإباحية” هي مسار تتحكم فيه  “الأهواء النفسية” و “الشهوات الانسانية” بالانسان والمجتمعات. وأليس أن “هيمنة هوى النفس” هو ترجمة ل”المذهب الانساني” وان المذهب الانساني يشكل أساس وجوهر الفكر والثقافة الغربية الحديثة.
إن “السلطة الإباحية” هي واحدة من مراتب ومراحل سير وسلوك الانسان الغربي على سكة المذهب الانساني ومحورية الذات التي اكتسبت في هذه الحقبة إمكانية ومجالا للظهور.
ويبدو مثيرا للسخرية كثيرا، أن يتذمر شخص كرئيس امريكا في هكذا موقع وظروف من الإنهيار الأسري وتفشي النغولة. إن رجالا حمقاء مثل اوباما مؤلف كتاب “جرأة الامل” قادرون على إبداء التذمر والإستياء من تفشي ظاهرة التفسخ الخلقي والنغولة ويعلنون بان أكثر من 50 بالمائة من الأشخاص بهوية امريكية، لا يعرفون من هو أباهم الحقيقي، ومن ثم يقيم بالصعوبة إدارة المجتمع الامريكي، في حين أن مجمل النظام المادي والثقافي الغربي السائد، ناتج عن التعري الفكري.
وكيف غفل المخلصون كل هذا وركزوا على الأعراض وظنوا أن المجتمع سيصبح صالحا وسليما من خلال تغطية الأعراض. وهذا يشبه أن يقوم خبير مكياج بالتغطية على دملة ظهرت على الوجه بواسطة مستحضرات التجميل.
وهذه الدملة ستتفتح آجلا أم عاجلا وتنشر تلوثها وقذارتها أكثر من السابق بعشرات المرات .
إن السطحيون يشاهدون التعري فقط في الشوارع والطرقات وفي وجه وسيماء النساء، ويعجزون عن مشاهدة التعري الشامل الذي يطال جميع المجالات.
ويجب التساؤل: أي من العلاقات الاقتصادية للمجتمعات الشرقية أو الغربية تتحلى بصفة الستر؟ وإن كانت تلك العلاقات تتصف بتلك الصفة، فانها ستكون في مأمن عن التلوث بالربا. فان تم حذف الربا من النظام المالي والنقدي للمجتمعات الشرقية والغربية، فان هذه المجتمعات ستنهار. لان هذه الأنظمة المالية مبنية على الربا، كالعمارة وتخطيط المدن الحديثة المبنية على التعري وعدم الحياء.
إنهم يرسلون أبناءهم إلى المدارس لتربيتهم وتنشئتهم على البقاء وديمومة حياة الثقافة والحضارة الحديثة عديمة الحياء والإحتشام وتبشر الأبواق من الصباح وحتى المساء بان العدالة والامن والاستقرار والصحة العامة ستستتب من خلال التجربة الشاملة للتنمية والحداثة. وإن كانت هذه المفاهيم تتحقق عن طريق تجربة الحداثة من العيار الثقيل، لكان الغرب أصبح اليوم الجنة التي وعد بها الله المؤمنين في القيامة الكبرى، أو أن كان جميع الأنبياء يقصدون تجربة العالم الحديث ونحن لا نعرف شيئا عنه. إن مثل الشعوب التي تقطن اسيا وافريقيا وسير وسفرها في المجال الثقافي والحضاري الحديث مثل جماعة استقلت في محطات مختلفة قطارا يتجه نحو بلاد الشمال. واستقر كل شعب من تلك الشعوب في عربة من القطار وزينوها حسب تقاليدهم العرقية والوطنية والدينية. ويصغون في عربتهم إلى الموسيقى الخاصة بهم، ويرتدون ملابس تقليدية، ويتناولون طعاما تقليديا خاصا، وينادون أحدهم الاخر باسماء محلية ووطنية ويقراون اشعارا لشعراء محللين ويعلقون صورا لمناظر بلادهم وأرضهم، في حين أنهم يستقلون قطارا واحدا يتحرك ويسير نحول الشمال.
إن هؤلاء يتخلون في كل محطة وبما يتناسب مع الظروف الطارئة والمستجدة، عن جانب من العناصر التقليدية والمحلية والعرقية المتبقية ليواكبوا ويسايروا منطق القطار وسائقيه وموجهيه، لكي لا يتخلفوا عن الذهاب ومواصلة الطريق.
وفي الوقت الحاضر، فان كل العرب والأتراك والفرس والهنود، يستقلون قطارا واحدا. وأصبحت الحداثة والتجديد إمام كل الشعوب والأمم في العصر الحاضر. وكل منهم مضطر لتجربة تبعات وتداعيات الظروف والمراحل التي تظهر في هذا السير والسفر، وبلا ريب فان كل ما يجربه قوم وجماعة في المحطة العاشرة، في كل من المناسبات والتعاملات، فان سكان المحطة الخامسة سيجربونه ولو بعد حين. أأعجبهم ذلك أم لم يعجبهم.
بعبارة أخرى، فان حفظ الأوجه التاريخية الماضية، لا ينطوي بالضرورة على  حفظ باطن التاريخ السالف وحقيقته.
وفي التاريخ الغربي الجديد (الحداثة) وفي السير والسفر على سكة التجديد والحداثة، فان جميع العلاقات الفردية والجماعية تتجه نحو الإنكشاف والإسقاط والتظاهر وبكلمة واحدة نحو الإقبال على الدنيا والإدبار عن العقبى، لكن في ميدان الفكر، فان الثقافة والحضارة الدينية التي لم يتبق عنها الان سوى أوجه باهتة، يتجه كل شئ نحو الستر والتستر والتكتم وبكلمة واحدة نحو الإقبال على العقبى والإدبار عن العالم الداني. وفي هذا الميدان فان التوجه نحو العالم الفاني يحدث في ظل الإقبال على الدين والظروف التي يحددها الدين.
وفي هذا الميدان الثقافي تكتسب عبارة “أَلَا بِذِكْرِ‌ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” معناها. إن ذكر الله، ليس باللفظ الذي يجري على الألسن فقط. بل أن نفس المتذكر، هي ذاكرة للحق. إن صاحب النفس المتيقظة ينظر إلى الكون من منطلق الإنطباع الديني ويقوم بالسير والسلوك على أساس الأدب والثقافة الدينية، وإن حصيلة ونتاج عمله ويده، سيكون مهدئا ومُسكّنا في الميدان الحضاري. وفي المقابل إن من ينفخ الشيطان في أذن وقلبه، ويصول عبر النفس الأمارة، وتستولي الهواجس على روحه، فان التكنولوجيا والماكينة ستكون نتاج وحصيلة عمله ويده. من يستطيع مطالبة الهدوء والسكينة من العالم التكنيكي؟
“التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان”.
إن جميع الوصفات التي توصف لعلاج الإضطرابات الناتجة عن فيروس التهتك والإسقاط المنبثق من الحداثة، هي مهدئ يهدئ ويُسكّن الألم لفترة وجيزة، لكنها لا تعالجه نهائيا.
وهذا الكلام لا يعني أنه لا يجب البحث عن علاج ومخارج أو عن سبل الردع والتفادي، بل يعني أن نجعل هذا الردع يواكب ويساير بوعي وملاحظة، الظروف التاريخية التي نعيشها. إن هذا الوعي وبعبارة أخرى، الوعي الذاتي، مقدمة للتذكر حول هذه الظروف والتساؤل الجاد والمتفكر بشأنها. وربما يحين يوم لسكان الشرق، يدركون فيه انه لا خيار أمامهم سوى النزول من هذا القطار المتجه نحو الشمال (الحداثة في الحضارة والليبرالية في الأخلاق والمذهب الانساني في الفكر).
وربما يأتي يوم آخر، يتجه فيه الغرب نحو الشرق بعد أن مر بكل هذه الأزمات والمآزق والتحديات، وبتبعه، يصبح الشرقيون كما هو الآن مرة أخرى مقلدي الغربيين، ويلاقون الحقيقة القدسية وحقيقة الشرق.
إن تاريخ الغد، ينطلق من هذا الوعي والتذكر بشأنه. إن تاريخ الغد هو التاريخ الموعود. التاريخ الشرقي الذي يفتتح مع ظهور إمام من الشرق ويحتضن الجميع.
اليوم الذي يدرك فيه الانسان الشرقي المسلم، انه لابد له أن ينظر إلى نفسه في مرآة تاريخ الغد وإمام تاريخ الغد، أي الإمام الموعود عليه السلام، لينال الوعي الذاتي.
إن هذا الحدث، يجب أن يحصل بداية باذن الله، في روح معلمي سكان الشرق. ويجب أن يعاهدوا الإمام الباقي، حضرة بقية   الله (عج) بصدق ويتعجلون السير نحوه. وسيدرك الجميع في ذلك اليوم بان الكل كانوا عُراة، وكل شئ كان متعريا، من دون أن يعرفوا ذلك. إن شاء الله.

شاهد أيضاً

إمام العصر علیه السلام بانتظار شاب مكافح للظلم ومجدد ومناد بالعدالة

إن المهدوية منسجمة ومتناغمة مع روح الشاب، ومنسجمة ومتناغمة مع قلب الشاب، فقلب الشاب لا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *