الصهیونیة المسیحیة الأصولیة الأمریكیة المعاصرة

تعد الأصولیة المسیحیة عنصرا أساسیا فی التاریخ الدینی و الاجتماعی و السیاسی الغربی,انتعش فی البیئات البروتستانتیة, وبلغ ذروته فی القرن التاسع عشر مع
بدایة التوسع الاستعماری و الإمبریالی، وقد كان مركزها فی البدایة أوربا, لكنها انتقلت إلى الولایات المتحدة الأمریكیة لاحقا, و أصبحت نصیرة الحركة الصهیونیة العالمیة, وعاملة على تحقیق أهدافها.

 

تقدیم:-
تعد الأصولیة المسیحیة عنصرا أساسیا فی التاریخ الدینی و الاجتماعی و السیاسی الغربی,انتعش فی البیئات البروتستانتیة, وبلغ ذروته فی القرن التاسع عشر مع
بدایة التوسع الاستعماری و الإمبریالی، وقد كان مركزها فی البدایة أوربا, لكنها انتقلت إلى الولایات المتحدة الأمریكیة لاحقا, و أصبحت نصیرة الحركة الصهیونیة العالمیة, وعاملة على تحقیق أهدافها.
هذا و تكتسی دراسة الصهیونیة المسیحیة الأصولیة الأمریكیة المعاصرة أهمیة خاصة، لما لها من إبعاد تتعلق بتحدید مستقبل المجتمع العربی والتحدیات التی تواجهه فی ضوء الصراع الدائر بین الشعوب العربیة وبین الحركة الصهیونیة العالمیة ومن یقف وراءها،كون هذا الدراسة توضح لنا الدور المنحاز الذی قامت وتقوم به الولایات المتحدة الأمریكیة لصالح إسرائیل بالكامل، والأسباب الكامنة وراء انتهاج الولایات المتحدة لذلك الخط، والبعد العقائدی الذی أصبح یصبغ السیاسة الخارجیة الأمریكیة بشأن هذا الصراع.
فلقد تغلغلت الصهیونیة فی الثقافة الأمیركیة لتجعل من السیاسة الأمیركیة تتكیف مع المتطلبات الصهیونیة، فالدعم الحازم للكیان الصهیونی فی الولایات المتحدة لا یأتی فقط من جانب اللوبی الصهیونی, بل من جانب الأصولیة المسیحیة التی ترسخت أولا فی الحیاة الدینیة من خلال الكنائس المسیحیة وفی مختلف الطوائف و الفرق و الاتجاهات المذهبیة المسیحیة, وان كانت تجلیاتها ظهرت وتظهر بقوة لدی الطائفة البروتستانتیة التی تفرع عنها أیضا مذاهب متعددة, لعل أشدها تطرفا هو مذهب البیوریتانیة”التطهریة والذی لا یزال سائدا حتى یومنا هذا، لذا فالولایات المتحدة تعد أوضح مثل للصهیونیة المسیحیة المسیطرة فی المجتمع الأمریكی دینیا وسیاسیا واقتصادیا وإعلامیا وثقافیا،وتشیر معظم الدارسات التی وقع علیها الباحث حول الصهیونیة المسیحیة فی أمریكا بأنه من المستبعد جدا أن یكون هناك حل عادل تقدمة الولایات المتحدة للقضیة الفلسطینیة أو للقضیة العربیة، ما لم یتصد الغرب، والعرب ببسالة للطبیعة الحقیقیة للصهیونیة المسیحیة، ویتحرر المجتمع الأمریكی ومراكز صنع القرار فیه من الأفكار الصهیونیة الراسخة الجـذور فی الفكر الأمریكی.
وتهدف الورقة إلى وصف ظاهرة الـصهیونیة المسیحیة الأمریكیة،وإبراز الجذور التاریخیة واللاهوتیة للصهیونیة المسیحیة وتنهی بالحدیث عن تأثیرها فی المجتمع الامریكی والحیاة السیاسیة وخطرها فی آن معا.

أولا :تعریف الصهیونیة المسیحیة

تعرف الصهیونیة المسیحیة بأنها “الدعم المسیحی للصهیونیة” كما یقول ثیودور هرتزل أول من استعمل تعبیر الصهیونیة المسیحیة ، ثم تطور هذا المعنى فیما بعد لیأخذ بعدا دینیا،وهو أن المسیحی الصهیونی هو:إنسان مهتم بمساعدة الله لتحقیق نبوءاته من خلال الوجود العضوی لإسرائیل، بدلا من الوجود الجسدی للمسیح ” .
وقد قیل أیضاً أنها “حركة قومیة تعمل من أجل عودة الشعب الیهودی إلى فلسطین وسیادة الیهود على الأرض”. ویعتبر الصهیونیون المسیحیون أنفسهم كمدافعین عن الشعب الیهودی وخاصة “دولة إسرائیل” ویتضمن هذا الدعم معارضة كل من ینتقد أو یعادی “إسرائیل” ،كما وتعرف بأنها “مجموعة من المعتقدات التی تهدف إلـى تأیید قیام دولة قومیة یهودیة فی فلسطین بوصفها حقا للیهود،باعتبار أن عودة الیهود إلی ارض المیعاد، برهان علی صدق التوراة، وعلی اكتمال الزمن، وعودة المسیح ثانیة” .
أما ملخص اعتقادات المسیحیین الصهیونیین فهی: – المسیح قادم لیحكم الیهود فی فلسطین مدة ألف عام.
– تجمیع كل یهودی العالم فی فلسطین.
– بناء الهیكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى المبارك.
– القدس هی العاصمة الأبدیة لإسرائیل.
– على الحكومات أن تعترف بإسرائیل دبلوماسیا لتدعمها دولیا، وتعارض أی مقاطعة اقتصادیة لها.
– السماح لهجرة الیهود من جمیع أنحاء العالم وخاصة من الاتحاد السوفییتی.
– على جمیع الدول نقل سفاراتها إلى القدس.
– على جمیع الشعوب الصدیقة أن تكف عن تسلیح أعداء إسرائیل.
– على جمیع الحكومات أن تتوقف عن استضافة الإرهابیین.
– تشجیع توطین اللاجئین واستیعابهم فی البلاد العربیة؛ لأن نداءات القادة العرب عام 1948م هی التی أجبرتهم لإخلاء میادین القتال.
– الاستیطان فی الأجزاء من الأرض غیر الآهلة بالسكان.

ثانیا : تاریخ الأصولیة المسیحیة الأمریكیة

مع بدایة حركة الإصلاح الدینی فی أوروبا فی القرن السادس عشر، انطلاقت المسیحیة الصهیونیة حیث كان الیهود قبل ذلك الوقت یعیشون تحت لعنات الناس، لأنهم صلبوا السید المسیح، وطردوا من فلسطین عقاباً على فعلتهم، ولكن هذه النظرة بدأت بالتغیر بعد ظهور حركة الإصلاح الدینی علی ید مارتن لوثر كینج، الذی بشر فی كتابه “المسیح ولد یهودیاً”، أن الروح القدس شاءت أن تتنـزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طریق الیهود وحدهم، وأن الیهود هم أبناء الرب ونحن الضیوف والغرباء” ، واستمر وضع الیهود بالتحسن فی أوروبا، بعد الثورة الفرنسیة ، وفی نهایة القرن ‏التاسع عشر دعا تیودور هرتزل إلى قیام دولة یهودیة، على أساس أن الیهود لیس لهم مستقبل فی أی دولة فی العالم إلاّ فی دولتهم الخاصة بهم. وقد تبنى الاستعمار الغربی (أوروبا ثم أمیركا) هذه الدعوة، وعمل على تحقیق أهدافها، فقام ‏الكیان الصهیونی على أرض فلسطین.
مع اكتشاف الولایات المتحدة الأمریكیة تدفقت وفود الهجرات الأوروبیة فی شكل موجات بشریة متلاحقة، وذلك فی النصف الثانی من القرن الـ(19)، حیث شكل المهاجرون الجدد -البیوریتانیون- هذا المجتمع بما یتوافق مع عقیدتهم التی تقوم علی فكرة تنصیر الیهود،حملوا معهم التقالید والقناعات التوراتیة وتفسیرات العهد القدیم التی انتشرت فی إنجلترا وأوروبا قبل ذلك، وذهب كثیر من الباحثین إلى أن المهاجرین الجدد من المسیحیین المتصهینین بما یحملونه من أفكار ومفاهیم قد ساهموا بشكل مباشر فی تكوین الشخصیة الأمریكیة فی ضوء هذه المفاهیم والأفكار التی تمثل لقاء حیا للمسیحیة والصهیونیة الأصولیة، كما تؤكد رجینا الشریف ویوسف الحسن ورجیة غارودی.
وهذا ما نتلمّسه فی مجریات الحیاة الدینیة والسیاسیة فی الولایات المتحدة الأمریكیة، ومنذ لحظة الاستقلال، لدرجة انه بلغ بالرئیس توماس جیفرسون- واضع وثیقة الاستقلال- أن یقترح بأن یمثل رمز الولایات المتحدة الأمیركیة، على شكل أبناء إسرائیل تقودهم فی النهار غیمة وفی اللیل عمود من النار، وهذا الأمر یتفق مع النص التوراتی الوارد فی سفر الخروج، والذی یقول: “كان الرب یسیر أمامهم نهاراً فی عمود سحاب یهدیهم فی الطریق، ولیلاً فی عمود نور لیضیء لهم”. فی نهایة النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأ التعاطف الأمریكی مع الیهود یتحول إلى عمل ملموس لتحقیق النبوءات التوراتیة، سواء عن طریق أفراد أو جمعیات أو كنائس وهذا ما سیرد توضیحه فی ثنایا ورقتنا البحثیة.
ولم یتوقف الأمر عند هذا الحد، وبالتحدید فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر، حیث ظهرت فی أمریكا عدة مذاهب بروتستانتیة نادت بعودة الیهود إلى فلسطین، انطلاقاً من إیمانها بالمعتقدات المسیائیة، وقامت هذه الفئات بأعمال تخدم فكرة العودة الیهودیة، كتأسیس المستوطنات فی فلسطین ومنها ما قام به فی عام 1850 واردكریون القنصل الأمریكی فی القدس، من تأسیس لمستوطنة زراعیة فی منطقة القدس، والتخطیط لإنشاء مستوطنات أخرى، كما شهد هذا القرن ظهور الطوائف والجمعیات المسیحیة التی دعت إلى ضرورة إعادة الیهود إلى أرض فلسطین، حیث أخذت تنشر دعوتها بین العامة، بالإضافة إلى سعیها للتأثیر على الشخصیات المهمة فی أمریكا، منها جماعة (أخوة المسیح)، والتی تقوم دعوتها التبشیریة بشكل رئیسی على تطبیق النبوءات التوراتیة وسفر الرؤیا على الأحداث الحاضرة والمستقبلیة، وجمعیة بنات بریث (أبناء العهد) فی مدینة نیویورك، بهدف تسهیل إعادة الیهود إلى فلسطین.
وقد علق على ذلك هنری فورد فی كتابه “الیهودی العالمی”، بقوله: “لقد سیطر الیهود على الكنیسة فی عقائدها وفی حركة التحرر الفكری المسماة باللیبرالیة، وإذا كان ثمة مكان تدرس فیه القضیة الیهودیة دراسة صریحة وصادقة، فهو موجود فی الكنیسة العصریة، لأنها المؤسسة التی أخذت تمنح الولاء دون وعی أو إدراك إلى مجموعة الدعایة الصهیونیة.
یمكن القول إن التأسیس للمسیحیة الصهیونیة قد بدأ فی الوقت الذی وصل فیه المهاجرون البورتیان الأوروبیون إلى الأرض الجدیدة وأطلقوا علیها تسمیة “كنعان الجدیدة الإنكلیزیة”، واعتبر بعضهم أنهم جاؤوا إلى هذه الأرض لمعاقبة الوثنیین من سكان أمریكا الأصلیین الذین أطلق علیهم وصف الهنود الحمر وتعرضوا لإبادة بشعة” ،وفی كنعان الجدیدة الإنكلیزیة حمل أبناء المهاجرین الأوائل أسماء عبریة، وكذلك مستوطناتهم الأولى. ومن اللافت أن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد فی العام 1642م، وكانت بعنوان “العبریة هی اللغة الأم”، وأول كتاب صدر فی أمریكا كان «سفر المزامیر» وأول مجلة كانت مجلة “الیهودی”، ویرصد كثیر من المؤرخین كیف أعطى المهاجرون الأوائل “أبناءهم أسماء عبرانیة (إبراهام، سارة، ألیعازر…)، كما أطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانیة (حبرون، وكنعان…)، وفرضوا تعلیم اللغة العبریة فی مدارسهم وجامعاتهم، حتى إن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد فی عام 1642 كانت بعنوان “العبریة هی اللغة الأم”، وأول كتاب صدر فی أمریكا كان “سفر المزامیر”، وأول مجلة كانت (الیهودی)”، یضاف إلى ما سبق أنه سمح للیهود “ببناء محافلهم الدینیة فی وقت مبكر إثر هجرتهم إلى العالم الجدید الأمریكی، وتم لهم ذلك قبل أن یسمح البروتستانت البیوریتانیون المسیطرون على معظم المستوطنات الجدیدة، أو للطائفة الكاثولیك ببناء كنائسها”، وقد أسموا أنفسهم “أطفال إسرائیل” فی طریقهم إلى الأرض الموعودة”،واحتفلوا بیوم السبت كیوم راحة لهم.
وفی الفترة الممتدة من عام 1800 إلى عام 1850 تم التركیز على عقیدة القداسة والعقیدة الألفیة، بحیث ترسخت العقیدة القدریة ، اثر الحرب الأهلیة (1860-1865)، ومع نهایة عقد الثمانینیات من القرن الماضی أصبحت القدریة إحدى صور الصهیونیة المسیحیة المقبولة لدى الإنجیلیین الأمریكیین ولدی نفر غیر قلیل من القادة داخل التیار السائد فی البروتستانتیة (المشخیین، والأسقفیین، والمیثودیست، إلخ). وتجدر الإشارة إلى أن الرئیس الأمریكی جون ادامز كان قد دعا عام 1818 إلى إعادة الیهود إلى فلسطین وإقامة حكومة یهودیة مستقلة،وفی عام 1887، أسس القس «ولیم بلاكستون» فی شیكاغو منظمة «البعثة العبریة نیابة عن إسرائیل» بهدف حث الیهود على الهجرة على فلسطین، وهذه البعثة مستمرة حتى الیوم باسم «الرسالة الأمیركیة المسیحیة.ومع اندلاع الحرب العالمیة الأولى كانت القدریة قد أضحت هی المقاربة الوحیدة لكل مباحث الأخرویات فی صفوف الإنجیلیین الأمریكیین الأصولیین، فقد استمدوا اسمهم وبرامجهم المذهبیة من سلسلة من الكتیبات التی نشرت بین العامین 1910 و1915 والتی عنونت “بالأصول” ووزعت مجانا فی أنحاء الولایات المتحدة كلها. وقد أید جل الإنجیلیین والأصولیین العقیدة القائلة إن إنشاء دولة یهودیة بفلسطین یعد تتمیما لبعض النبوءات الكتابیة، إلا أن المؤمن العادی لم یكن لیفكر فیما تنطوی علیه هذه العقیدة من فرضیات كتابیة وسیاسیة ولا ما ینجر عنها من تشعبات، وبذلك بدأت المقاربة “القدریة السابقیة” تتنامى فی العدید من طوائف التیار الأصولی فی البروتستانتیة، ولاسیما فی صفوف جمهور المؤمنین وفی دوائر القساوسة المحافظین” .

ثالثا: الكنائس وبدایات الصهیونیة المسیحیة الأمریكیة
تؤكد معظم الدراسات التی استخدمها الباحث بان الكنائس كانت المغذی والمحرك الأول لانطلاقة المسیحیة الصهیونیة فی أمریكا والتی أمنت”بالألفیة‏، وهی تقوم
على نوع من “المهدیة المسیحیة‏” التی تقول: لا بد من أن یتغیر العالم على ید المسیح العائد حیث تأثرت الصهیونیة المسیحیة بحركات ثلاث تنطلق جمیعها من تفسیرات للنبوءات الدینیة الواردة فی التوراة. تهتم الحركة الأولى بقضیة مؤشرات نهایة الزمن، وتهتم الحركة الثانیة بقضیة التقرب من الیهود من أجل المسیح، أما الحركة الثالثة فإن اهتمامها یتركز على الدفاع عن إسرائیل وعلى مباركتها، ورغم تباین هذه الاهتمامات، بل وحتى تناقضها أحیانا، فإنها تلتقی أولا حول التأویل الحرفی للتوراة، وتلتقی ثانیا حول الإیمان بأن المستقبل الكارثی للإنسانیة أمر مبرمج ومقرر إلهیا، وتلتقی ثالثا حول وجوب مساعدة الیهود على التجمع فی فلسطین.
وتعد الكنائس المسیحیة فی أمریكا من اقوی المشجعین لقیام “إسرائیل” و بقائها، ومن ثم على إعادة بناء الهیكل الیهودی فی فلسطین فوق قبة الصخرة فی المسجد الأقصى، لأن هذا هو موضع الهیكل‏ كما یزعمون، وذلك لاعتقادهم أن المسیح لن یعود إلاّ إذا عاد الیهود جمیعهم إلى أرض المیعاد، ویستشهدون على ذلك بالنصوص التوراتیة وامتدت هذه الفكرة بین المثقفین والأكادیمیین الذین لا یؤمنون بحرفیة التوراة، “لاهوت ملكوت اللّه” ساعدت فی نشرة الجامعات وسائل الإعلام التابعة للكنائس. وتشیر كتابات القساوسة المؤمنین بهذه الحركة إلى مدى تشددهم فی ربط الفكر الدینی بالموقف السیاسی من إسرائیل ومن القضیة الفلسطینیة.
فمنذ عام 1814، انطلقت الدعوات الأمیركیة الإنجیلیة لتوطین الیهود فی فلسطین، وهاجر بعض الإنجیلیین وأنشئوا مستوطنة زراعیة یهودیة ضمت یهوداً وإنجیلیین أمریكیین عام 1850، ثم أنشئت مستوطنات أخرى، لكن الإنجیلیین كانوا أكثر حماساً من الیهود للإقامة فیها، أو للهجرة من أمریكا أصلاً، وقد قامت عام 1867، أول بعثة مسیحیة أمریكیة للاستیطان فی فلسطین مع 150 قسیساً إنجیلیاً أمریكیاً وفی العام التالی أقیمت مستوطنة بمشاركة 70 شخصیة دینیة إنجلینیة.
وللتدلیل علی الدور الذی قام به القساوسة فی نشر أفكار الحركة الصهیونیة المسیحیة نورد هنا بعض السماء الهامة التی ساهمت فی الترویج لأفكار وأهداف الحركة الصهیونیة المسیحیة، نبدئها ب”جون نلسون داربی” الذی یعد الأب الشرعی للحركة الصهیونیة المسیحیة فی الولایات المتحدة ،تبعه فی حمل لواء دعوته مجموعة من القساوسة منهم القس «سایروس سكوفیلد» ( 1843- 1921) وضع الأساس النظری لتوجهات الصهیونیة المسیحیة، وعلى الرغم من أن سكوفیلد كان أمیا»، إلا أنه نشر فی عام 1888 أول مؤلف له، وكان عنوانه «واجب تجزئة كلمة الحق» وفی هذا المؤلف طرح سكوفیلد المبادئ اللاهوتیة للأصولیة الإنجیلیة التدبیریة، الذی طبع لأول مرة فی عام 1909، فقد التبس على الكثیرین التمییز بین نص الإنجیل المقدس وتفسیرات سكوفیلد الواردة فی إنجیله، وهو بمضمونه وسعة انتشاره أصبح العمود الفقری للفكر الأصولی للإنجیلیة الصهیونیة ، ومنه یستمد قساوسة هذه الحركة المعاصرون أمثال بیل غراهام وابنه فرانكلین، وجیری فولویل وبات روبرتسون وسواهم، أفكارهم التی یبنون علیها التزامهم الدینی بإسرائیل، وبما یعتقدون أنه حقها التوراتی . و منهم أیضا دوایت مودی، ولیم بلاكستون،الذی وضع فی عام 1887م كتابا بعنوان ” المسیح قادم “، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى 36 لغة، وفیه أكد على نظریة حق الیهود التوراتی فی فلسطین وبأنهم سوف یزدهرون هناك.وفی إطار نشاطه تمكن بلاكستون من جمع توقیعات 413 شخصیة مسیحیة ویهودیة أمریكیة على مذكرة رُفعت إلى الرئیس الأمریكی فی ذلك الوقت بنجامین هاریسون، تطالب بعقد مؤتمر دولی من أجل إعادة الیهود إلى فلسطین،وجاء فی المذكرة: ” لماذا لا تُعاد فلسطین إلى الیهود ثانیة؟ فعلى أساس توزیع الله للأمم، فإن فلسطین هی وطنهم، إنها ملك لهم طُردوا منه بالقوة … فلماذا لا تُبادر القوى الدولیة، بموجب معاهدة برلین 1878م، التی أعطت بلغاریا للبلغار، وصربیا للصرب أن تعید فلسطین إلى الیهود ” .وهناك القس أرنو غیبیلین، الذی أرسى قواعد النظریة التی تقول إن التعاطف مع الیهود شیء، والإیمان بحتمیة تدمیرهم فی معركة هرمجیدون شیء آخر، وهناك الكثیرین من القساوسة المنتشرین فی كنائس الولایات المتحدة یروجون للمعتقدات الصهیونیة المسیحیة،إذ یعمل فی میدان التبشیر فیها 80 ألف قسیس،كما وتتمتع هذا الكنائس بحضور إعلامی قوی، فهی تملك وتشرف مباشرة على مائة محطة تلفزة، وعلى ألف محطة إذاعة، بالإضافة إلی أنها ساعدت فی حقبة الثمانینات وحدها علی إنشاء 250 مؤسسة وجمعیة دینیة أمریكیة مؤیدة لإسرائیل فی إطار برامج الصهیونیة المسیحیة الأصولیة.
ویظهر لنا مما سبق أهمیة الكنائس فی تعمیم الأفكار والمعتقدات إلى تعتنقها المسیحیة الصهیونیة كما وتطهر لنا بأن دعم الیهود وتأییدهم ومساعدتهم لا یتم من أجل الیهود كیهود، إنما من أجل توفیر الشروط اللازمة للعودة الثانیة للمسیح.

رابعاً : تأثیر الحركة الصهیونیة المسیحیة فی الولایات المتحدة الأمریكیة
مع حلول القرن العشرین كان المزج بین المقدس والسیاسی قد ارتفع إلى مرتبة عالیة، ما سبب ولأوقات طویلة ارتباكا فی تعیین توصیف دقیق لتعیین ما یحصل، والخلوص إلى نتائج بشأن طبیعة العلاقة القائمة بین الصهیونیة الیهودیة ( المصرة على توصیف نفسها كمشروع سیاسی لإقامة الوطن القومی الیهودی) وبین القوى الداعمة لها السیاسیة والدینیة. وترافق ذلك مع أنشطة بذلها الصهیونیین المسیحیون فی أمریكا، بالضغط على الحكومة وتوظیف ضغوط دبلوماسیة وعسكریة وسیاسیة على دول أخرى، حیث امتدت معتقدات المسیحیة الصهیونیة إلى السیاسیین بمن فیهم بعض رؤساء الولایات المتحدة، وان كان من المعروف أن بریطانیا تبنت المشروع الصهیونی الیهودی بشكل كامل، لكن هذا التبنی لم یكن مقتصراً فی الواقع على بریطانیا، بل كان أمیركیاً أیضا، وإذا كانت العوامل السیاسیة، هی الأكثر ظهوراً فی التبنی البریطانی، خصوصاً منذ تأسیس صندوق استكشاف فلسطین، وتالیا بعد اتفاقیات سایكس بیكو ( 1916) ووعد بلفور (1917) فإن الدمج بین السیاسی والمقدس كان هو الغالب لدى الولایات المتحدة ولهذا جذوره التی اشرنا إلیها أنفا أیضا.
ففی عام 1918 أعلنت الولایات المتحدة وبواسطة رئیسها “ودرودیلون” عبر رسالة إلى الحاخام ستیفن وایز الصهیونی عن تأیید وعد بلفور، الذی التزم ویلسون رسمیا بتنفیذه فی العام نفسه، وفی العام 1922، صدر قرار عن مجلس النواب الأمریكی بضرورة منح الیهود الفرصة التی حرموا منها لإعادة إقامة حیاة یهودیة وثقافة خاصة فی الأراضی الیهودیة القدیمة وفی العام نفسه صادق مجلسا النواب والشیوخ رسمیا على وعد بلفور، ومع هذه التطورات وقع التلاقی الكامل بین السیاسی بنزعته الاستعماریة العدوانیة، والدینی ( الجماعات الیهودیة- الإنجیلیون المؤمنون ببعث إسرائیل ومعركة هرمجدون)،وقد أدى حاصل هذا التلاقی إلى دفع كبیر لمشروع الدولة الیهودیة فی فلسطین.
وفی عام 1936 أصدر المؤتمر المسیحی- الأمیركی إعلانا بدعوة المجتمعات المتحضرة إلى مساندة الفارین من ألمانیا وأوروبا الشرقیة، للعودة إلى فلسطین ملاذهم الطبیعی، وقد رفعت هذه المنظمات شعار”الأرض الموعودة”، وشعار “شعب الله المختار” وربطت بین الشعارین، وعلمت الناس أن أفضل عمل یقوم به المسیحی تقرباً إلى الله، هو المساهمة المادیة والمعنویة فی تحقیق إرادة الله بإعادة الیهود إلى فلسطین تمهیدا لعودة المسیح. ” وفی عام 1944 اتخذ الكونغرس الأمریكی قراراً تتعهد الولایات المتحدة بموجبه بذل قصارى جهدها من أجل فتح أبواب فلسطین أمام الیهود للدخول إلیها بحریة ولإتاحة الفرصة أمامهم لاستعمارها، حتى یتمكن الشعب الیهودی من إعادة تكوین فلسطین یهودیة دیموقراطیة حرة وعندما تولى هاری ترومان رئاسة الولایات المتحدة فإنه كان مجسدا للصهیونیة المسیحیة بكل تفاصیلها، وهو دعا عام 1947 إلى تحقیق أكثریة یهودیة فی فلسطین .
كما وبذلت الإدارة الأمیركیة جهوداً ضخمة لتمریر قرار تقسیم فلسطین فی الأمم المتحدة عام 1947. واعترفت واشنطن بالدولة الیهودیة فور قیامها فی مساء 14/5/ 1948، علی اثر قیام الدولة اتخذ نشاط الصهیونیة المسیحیة شكلاً جدیداً، باعتبار أن تأسیس الدولة یعنی بدء تحقیق النبوءة ومن الضروری العمل على تشكیلها، حیث ازداد نفوذ الكنائس المسیحیة الصهیونیة فی التأثیر علی السیاسیة الأمریكیة ولعل ابرز مثال علی ذلك الدور ما لعبة القساوسة التالی عرض دورهم :-
1- جیری فولویل الذی یعتبر من أهم القساوسة الذین تأثروا بالاحتلال الإسرائیلی للقدس فی عام 1967، وقاموا بإعطاء هذا الاحتلال معنى دینیا توراتیا.
2- بات روبرتسون الذی یتمتع بنفوذ واسع فی الدوائر السیاسیة والدینیة،ویكفی أن نعرف بأنه قد أنشأ فی عام 1990 محطة تلیفزیون سماها” المحطة العائلیة” والتی بلغ عدد المشتركین فیها 63 ملیونا شخص حیث یؤكد” إنه ینتظر اللحظة التی ستتولى محطته نقل وقائع نزول المسیح فوق جبل الزیتون فی القدس”.
3- هول لیندسی الذی یحدد فی كتابه نهایة الكرة الأرضیة العظیمة الواسع الانتشار سیناریو نهایة الزمن، بقیام صهیون، ووقوع هرمجیدون، والعودة الثانیة للمسیح، ومن ثم الألفیة التی تسود العالم عدلا وسلاما، ویستند فی ذلك إلى نبوءات توراتیة یربط تفسیرها بوقائع سیاسیة معاصرة ورغم أن هذه الوقائع تتغیر باستمرار، فإن السیناریو ثابت، لدرجة أن الرئیس رونالد ریجان المعروف عنه بأنه من أكثر الرؤساء الأمریكیین إیمانا والتزاما بعقیدة الصهیونیة المسیحیة، وكان یؤمن بنظریة هرمجیدون، وكان یقول: ” إننا الجیل الذی سیرى هرمجیدون” .
على أن هذا المشهد المنتظر لن یتم فی مفهوم الحركة الصهیونیة المسیحیة ما لم تتهود فلسطین كاملة، ولذلك فإن القس روبرتسون وجّه مذكرة إلى الكونجرس الأمریكی فی أبریل 2002، دعا فیها إلى دعم إسرائیل بكل الوسائل ضد” الإرهاب”الفلسطینی، لعل الخطر السیاسی العمیق یمكن فیما تؤمن به هذا الحركات الممعنة فی الأصولیة الغیبة حیث تؤمن الأصولیة المسیحیة الصهیونیة بعقیدة “هرمجدون” وقد أظهر إستطلاع للرأی أجرته جامعة أكرون العام 1996 حول الدین والسیاسة أن 31 فی المئة من المسیحیین یعتقدون أن نهایة العالم ستكون فی معركة “هرمجدون”, ونسبة ال31 فی المئة تعنی أن 62 ملیون أمریكی یوافقون على هذه الملحمة الغیبیة، ولم یقتصر الامر عند هذا الحد بل امتد إلى أنصار الحركة الصهیونیة فی الولایات المتحدة الذین أصبحوا یوظفون الأصولیة المسیحیة لمصلحة الكیان الصهیونی, ویتغاضون عن طروحاتها المعادیة للیهود,بما فی ذلك نبوءات اندثارهم, وحتمیة اعتناقهم المسیحیة,من أجل الضغط لمصلحة الكیان الصهیونی ، بالطبع لا تستطیع الإدارة الأمریكیة تجاهل هذا الجسم الإنتخابی الكبیر والمهم, الذی یطالب صراحة بالمذبحة الكبرى فی الأرض المقدسة.
ویتضح لنا مما سبق بان النخب الأصولیة المسیحیة الصهیونیة قد أجادت العزف علی وتر الأفكار الدینیة، المقبولة والمفهومة لدى قطاعات واسعة من الشعوب الاورییة والأمریكیة, وتمكنت من إستقطاب دعاة متحمسین لها عملوا على نقل المنظور الأصولی إلى شرائح واسعة من المجتمع الأمریكی، ولعل ما نراه الیوم من تنامی تأید المسیحیون الأصولیون للیهود الأصولیین فی طرحهم برنامجا سیاسیا یركز على بسط السیادة الیهودیة على “أرض إسرائیل الكاملة” یعد خیر شاهد علی التلاحم والترابط بین الأصولیات والتی أمست أصولیة مسیحیة صهیونیة بامتیاز تؤمن أن هذه الخطوة الحاسمة تؤدی الى التعجیل فی إتمام عملیة الخلاص الكونیة التی قضت الإرادة الإلهیة بها؛ ونظراُ لأدراك النخب الأصولیة المسیحیة الأمریكیة أن الحیاة الثقافیة الأمریكیة تخضع لسیطرة وسائل الإعلام و للكنائس لما كان هذان البوقان (الإعلام و الكنیسة) من التأثیر و القوة و الفاعلیة, فقد استطاعت الأصولیة المسیحیة الصهیونیة أن تستغلهما إلى أقصى الحدود لغرس إیدیولوجیتها فی أذهان المجتمع الأمریكی، بحیث بسطت نفوذها لدی معظم القوی السیاسة الأمریكیة “الرسمیة والشعبیة”, التی تعتنق خطابا رائجا حول الدیمقراطیة وحقوق الإنسان, وأطروحات الأصولیة المسیحیة الغیبیة و لذلك أصبح موضوع الكیان الصهیونی حاسما فی أوساط الأصولیة المسیحیة، وفی المقابل تبدو صورة العربی والإسلامی فی الثقافة الأمریكیة “كإرهابیین ومتعطشین إلی الدماء”! كما تروج لذلك شبكة المدارس و الجامعات والكنائس وسائل الإعلام التی یشرف علیها الأصولیون المسیحیون الصهاینة من أمثال جیری فالویل و بات روبرستون وغیرهم.
“وقد تناولت دراسات عدیدة الطریقة التی تغلغـلت بها المـواقف المعادیة للعرب والمؤیدة لإسرائیل فی كتب المدارس الثانویة الأمیركیة وتوصل أحد التحلیلات إلى أنه لیس فی الكتب العشرین التـی تـناولها مـا یمتدح الشعب العربی بینما كان الكثیر منها مؤیدا لإسرائیل، هذه المواقف التی یتشبث بها الرأی العام الأمیركی هی التی تـشكل المؤشرات السیاسیة التی تحدد السیاسة الخارجیة الأمیركیة تجاه الشرق الأوسط لأن النظام السیاسی فی النهایة یشكل سیاسته الخارجیة تبعا لمصالحه القومیة وسعیا وراء مضاعفتها، وهذا ما دعا بعـض الأمیركیین إلى حث العالم العربی على سلوك الطریق غـیـر المباشـر لـتغییر السیاسة عن طریق تعزیز صورته داخل الولایات المتحدة” . وسوف نورد بشئ من الإیجاز مدی تأثیر المسیحیة الصهیونیة علی الإدارة الأمریكیة ومؤسساتها.
أ- تأثیر الحركة الصهیونیة المسیحیة علی الإدارة الأمریكیة :
یوصف الكونغرس بأنه نسخة اكبر من الكنیست الصهیونی، وذالك باعتبار أن معظم أعضائه یؤیدون الكیان الصهیونی تأییدا عمیقا و ثابتا, ولقد كان الكونغرس دوما صاحب العدید من المبادرات المنحازة بصورة سافرة للكیان الصهیونی ففی عام 1922، اتخذ الكونغرس الأمریكی قراراً، وقّع علیه الرئیس هاردنج جاء فیه “بأنه نتیجة للحرب، أعطى بنی إسرائیل الفرصة التی حرموا منها منذ أمد بعید لإقامة حیاة وثقافة یهودیتین مثمرتین فی الأراضی الیهودیة القدیمة، وإن كونغرس الولایات المتحدة یوافق على إقامة وطن قومی فی فلسطین للشعب الیهودی”.بعد أن أصدرت بریطانیا الكتاب الأبیض فی عام 1939، والذی حدَّ من الهجرة الیهودیة إلى فلسطین،وفی التسعینات أصدر “قانون نقل السفارة الأمریكیة للقدس” كما أن الكونغرس كثیرا ما كان یهدد بقطع أو تخفیض المعونات للدول التی تنتقد الكیان الصهیونی. وفی الأزمة الحالیة فی الشرق الأوسط یوجد حالة من التماهی الكامل بین موقف الكونغرس و موقف الحكومة الصهیونیة ولذلك لم یكن غریبا أن یتنافس زعماء الحزبین فی الكونغرس خلال الفترة الماضیة لدعم قرار یقول إن المجلس یؤید الخطوات الضروریة التی تتخذها “إسرائیل” لحمایة شعبها.
ویكفی أن نشیر إلی أن الرئیس ترومان قد أید الحل الصهیونی المتمثل بتقسیم فلسطین، وأصدر فی 4 تشرین الأول من عام 1945 بیاناً طالب فیه بإدخال مائة ألف یهودی فوراً إلى فلسطین، كما أوصى بتطبیق خطة التقسیم حسب الخطوط التی اقترحتها الوكالة الیهودیة، وعندما أعلن عن قیام دولة إسرائیل، اعترف الرئیس ترومان بها بعد دقیقة من إعلان قیامها، كما أنه قام بتصرف یخالف كل المبادئ الدبلوماسیة المعروفة، عندما اعترف بدولة إسرائیل قبل أن تطلب الاعتراف رسمیاً وقبل انتهاء الانتداب البریطانی بعشر ساعات. وقدمت حكومة الولایات المتحدة لها قرضاً قیمته ملیون دولار، وفی عام 1943 مبلغ 150 ملیون دولار.
واستمر الرؤساء الامریكین من أیزنهاور… وحتى كلینتون فی دعم الكیان الصهیونی وان بشكل متفاوت، إلی أن فاز جورج دبلیو بوش والذی تجمعت لدیه ووفیه العوامل التالیة:العامل الأول: إیمانه والتزامه بعقیدة حركة الصهیونیة المسیحیة، الأمر الذی تجسّد فی تقرّب قادة هذه الحركة منه.العامل الثانی: نجاح المنظمات والمؤسسات والجمعیات التابعة لحركة الصهیونیة المسیحیة فی تعزیز حضورها السیاسی والإعلامی والدینی، وتحولها إلى قوة انتخابیة، وإلى قوة ضغط شدیدة الفعالیة والتأثیر.العامل الثالث: وقوع احداث11 سبتمبر 2001 فی نیویورك وواشنطن، التی ألهبت مشاعر العداء ضد المسلمین والعرب. والتی قسمت العالم إلى معسكرین: إما أن تكون مع الولایات المتحدة و إما مع الإرهابیین، فتحولت قضیة الصراع العربی الصهیونی، التی أصبحت محكومة بما تقبله أو ترفضه الحكومة الإسرائیلیة ,إلى سلسلة من المناورات و الأكاذیب السیاسیة التی تخترعها فی الأصل، آلة الأكاذیب الصهیونیة ثم لا تلبث أن تعتمدها أمریكیا بعد ذلك.
ویمكن القول أن غالبیة الرؤساء الأمریكیین كانت سیاستهم واحدة و ثابتة وهی دعم الكیان الصهیونی، إلى درجة أنها أثارت علامات استفهام كبیرة فی الوطن العربی، من الذی یقف وراء هذا الثابت و یعمل على تعزیزه و تأكیده و رفعه إلى مستوى المقدسات؟ لعل الإجابة تتخلص فیما سقناه سابقا حول تغلل المسیحیة الصهیونیة الأصولیة فی المجتمع الأمریكی.
ویكفی أن نعرف بأن اتجاهات الإدارة الأمریكیة وأعضاء الكونغرس الصهیونیة هی مجرد انعكاس لاتجاهات الرأی العام الأمیركی ،خـاصـة وأن وجـهـة النظر المعاكسة لیست فاعلة، والقول بأن الكونغرس ووسائل الإعلام والجامعات جمیعا خاضعة للیهود أو متأثرة بسیطرتهم لیس تفسیـرا خـاطـئـا للتأیید غـیـر الـیـهـودی للصهیونیة فحسب، ولكنه یخفی فی الواقع القوة الحقیقیة للصهیونیة وهی اندماجها فی الثقافة الغربیة والأمیركیة . ولكی لا یتم إغفال دور اللوبی الصهیونی والجالیة الیهودیة فی الحیاة السیاسیة والدینیة بأمریكا فی نشر أفكار الصهیونیة المسیحیة سنورد بإیجاز ثقلها ودورها.
ب- دور الجالیة الیهودیة والمنظمات الصهیونیة المسیحیة فی تأصیل المسیحیة الصهیونیة:
انتقلت مراكز الصهیونیة العالمیة وأجهزتها القیادیة من أوربا إلى الولایات المتحدة بعد الحرب العالمیة الثانیة، وحصلت عملیات تقارب واسعة بینها وبین الأجهزة السیاسیة والدعائیة والاقتصادیة للولایات المتحدة بعد اختیارها كمركز للصهیونیة العالمیة، بسبب أن المنظمات الیهودیة الصهیونیة الموجودة فیها هی الأكثر تعداداً والأضخم نفوذاً من النواحی السیاسیة والمالیة، ومكّنها ذلك من التزاوج مع المجتمع الأمیركی الصناعی الحربی، لأن الأمیركیین من أصل یهودی یبلغ تعددهم ستة ملایین شخص تمثل 2% من المجتمع الأمریكی یملكون ویدیرون الشركات الضخمة والبنوك والمصارف العالمیة وشركات الاتصالات والتأمین، فهم إذاً یسیطرون فعلیاً على أهم الشركات المتلفزة وأهم الصحف الأمیركیة (الواشنطن بوست)، إضافة لأضخم جهاز إداری، وأشهر المنظمات الیهودیة (یونیتید جویش إبل) و(بنای بریث) و(إیباك) وتحویل مركز الصهیونیة العالمیة إلى الولایات المتحدة الأمیركیة كونها استفادت من تحویل الشركات والاستثمارات والبنوك من أوربا إلیها قبل وخلال الحرب العالمیة الثانیة، وبالتالی اختیار الرؤیا السیاسیة التی تبنتها الدوائر الأمیركیة والكنیسة المورمانیة الأمیركیة، فتغیرت مع ذلك قوة تأثیر الیهودیة والصهاینة على المسرح السیاسی العالمی منذ الحرب العالمیة الثانیة حتى هذه اللحظات .
هذا بخصوص الجالیة الیهودیة أما الحركة المسیحیة الصهیونیة فقد نشطت فی تكوین المنظمات والهیئات الشعبیة والدینیة لتوفیر الدعم المعنوی والمادی من أجل تحقیق النبوءات التوراتیة، ففی عام 1930 تم تأسیس منظمة الاتحاد الأمیركی من اجل فلسطین للدفاع عن تأسیس الوطن القومی الیهودی، وبعد عامین أسس السناتور روبرت واجنر اللجنة الأمیركیة – الفلسطینیة “بهدف إعداد الرأی العام الأمیركی من غیر الیهود، للعمل من أجل إعادة الیهود إلى فلسطین، وقد ضمت اللجنة 68 عضواً من مجلس الشیوخ، و200 عضو من مجلس النواب وعدداً من رجال الدین الإنجیلیین ورجال الأعمال وأساتذة جامعات وصحافیین وأدباء مشهورین ،فالانتقال بالإیمان من الروحی إلى الممارسة السیاسیة، یحتاج إلى جهود تقوم بها منظمات ومؤسسات متخصصة ومتفرغة، وهذا ما قامت وتقوم به الحركة الصهیونیة المسیحیة منفردة، وبالتعاون مع الحركة الصهیونیة الیهودیة فی الولایات المتحدة. إن عدد المنظمات والجمعیات والمؤسسات التی تعمل فی هذا الإطار كبیر جدا وفعال جدا، ولعل أهم وأنشط مؤسستین تعملان فی هذا المجال، هما: ” اللجنة المسیحیة الإسرائیلیة للعلاقات العامة”، ویرمز لها اختصارا بالاسم إیباك، والثانیة هی ” مؤسسة الائتلاف الوحدوی الوطنی من أجل إسرائیل “، وتضم هذه المؤسسة 200 جمعیة ومنظمة یهودیة ومسیحیة أمریكیة، یبلغ مجموع أعضائها حوالی 40 ملیون شخص. ولعل ابرز ممثلی تیار المسیحیة الأصولیة وأخطرهم الیوم هم جماعة “السفارة المسیحیة العالمیة فی القدس”. تأسست هذه السفارة فی عام1980 رداً على سحب ثلاثة عشرة دولة سفاراتها من القدس استنكاراً لإعلانها عاصمة لإسرائیل، ولهذه السفارة فروع فی خمسین دولة فی العالم، ولها فی الولایات المتحدة الأمیركیة عشرون مكتباً قنصـلیاً، المكاتب تقوم بعمل دعائی من مختلف الأنواع، وتجمع المساعدات المالیة والعینیة وتسوق البضائع الإسرائیلیة،إن السفارة المسیحیة فی القدس هی مثال واضح ومفضوح لانحیاز التیار المسیحی الأمیركی الأصولی لدولة إسرائیل، و لتوظیف الدین توظیفاً مغرضاً فی السیاسة.
یتضح لنا مما سبق أن المجتمع الأمیركی إجمالاً:مجتمع دینی،تتعاطف معظم قطاعاته مع”إسرائیل” حیث یقول هارون ولدا فسكی :إن إسرائیل من الغرب ومن صنعه وله سواء أحب الناس ذلك أم لم یحبوه، وإسرائیل بقرارها التطور تحس وتشم وتبدو كبلد غربی و هی لیست كفیتنام..إنها لیست جزءا من المحیط الخارجی للغرب ولكنها لبه، إن إسرائیل هی نحن سواء أكان ذلك للأفضل أم للأسوأ. ما یؤكد بدورة أن أصالة الالتزام الأمیركی بإسرائیل لیست مستمدة من العامل الیهودی أو اللوبی الصهیونی فقط بل من طبیعة المجتمع الأمیركی وإیمانه الراسخ بالأفكار الدینیة التی تتبنها المسیحیة الصهیونیة الأصولیة، فكثیر من المواقف والنشاطات الصهیونیة غیر الیهودیة ذاتیة ولیست مجرد استجابات للضغوط الصهیونیة أو الإسرائیلیة، زد علی ما سبق أن الیمین النیولیبرالی الأمریكی أو ما بات یعرف بالمحافظین الجدد یتواجدون الآن وبقوة فی مواقع صنع القرار فی الإدارة الأمریكیة والبنتاغون، و هؤلاء المحافظون الجدد یمثلون جمیعا خطا مؤیدا للكیان الصهیونی بإطلاقیه,لأن الكیان الصهیونی من وجهة نظرهم یجلب لهم الخلاص المسیحی.

الخاتمة:
نستطیع القول بإیجاز أن الصهیونیة المسیحیة انتقلت من ارویا إلى الولایات المتحدة الأمیركیة، وازداد دورها فی الحیاة السیاسیة الأمریكیة بعد إنشاء دولة
إسرائیل،حیث ساهمت المعتقدات التی تبنتها المسیحیة الصهیونیة، دعم دولة إسرائیل وبقوه، وصلت الیوم إلی حد أن السیاسة الخارجیة للولایات المتحدة تشهد انقلاباً جذریاً، محوره النبؤات والخرافات التوراتیة، على مستوى النظرة الشاملة الى العالم، وتحدیداً ما یسمّى بالشرق الأوسط،فالإدارة الأمیركیة الحالیة یطغى علیها الصهاینة والیهود،من أعلى مستویات السلطة إلى العدیدین من المستشارین، وإذا كان الرئیس الأمیركی الحالی هو أكثر الرؤساء افتتاناً بنظریات الصهیونیین المسیحیین فهو مصر على “تفصیل العالم على مقاس هذه الإیدیولوجیا المغرقة فی غیبیتها ولو أدى ذلك الى استعداء العالم كله على الولایات المتحدة، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الادعاءات الأمیركیة بالقضاء على الإرهاب وإحلال السلام والدیمقراطیة فی العالم، تصبح الوجه الآخر للعملة المزیّفة التی تطبعها واشنطن،كما أن التوجه أحدی الجانب للتاریخ، أو الأحرى نهایة التاریخ كما توحی به الإدارة الأمیركیة، أمر من شأنه أن یدخل المنطقة فی دوامة من الحروب المستدیمة التی لن تخدم إلاّ المصلحة الإسرائیلیة وحدها .
وفی ختام الورقة نود الإشارة إلى إن ما یسمى بالصهیونیة المسیحیة لا یمت بصلة الى المسیحیة الحقیقیة بل إنها اقتناص للمسیحیة لوضعها رهینة فی خدمة مصالح الصهیونیة، وهی تشویه مشبوه الغایات لبعض ما جاء فی أسفار الكتب المقدسة، فهی تضرب كل مشروع حواری ما بین المسیحیة والإسلام، وتبرر أطروحات صراع الحضارات والأدیان، ولعل هذا الأمر یطرح علینا جمیعاً تحدیا كبیرا وهو بناء الوعی الذی یمنع تزییف الدین واستخدامه فی تبریر سیاسات الظلم والعدوان أو إضفاء القدسیة على أحلام وأوهام مدمرة، فالصهیونیة الأمیركیة المسیحیة تستخدم الیوم كقناع ووسیلة لتبریر مشاریع العدوان علی الشعوب ومقدراتها هذا هو الأمر الحاصل للأسف الیوم فی أمیركا.
صلاح عبد العاطی

المراجع:-

1. أیمن خالد أمریكا وإسرائیل..بین السیاسة والدین، htm http://www.qudsway.com/Links/almujahed/
2. بیان نویهض الحوت، فلسطین القضیة،الشعب، الحضارة-التاریخ السیاسی من عهد الكنعانیین حتى القرن العشرین 1917م ، دار الاستقلال، بیروت، لبنان،1991م.
3. جورجی كنعان، الأصولیة المسیحیة فی نصف الكرة الغربی ، الجزء الأول الدعوة و الدعاة، بیسان للنشر و التوزیع، بیروت ط1، تموز 1995.
4. رجینا الشریف، ترجمة عبد اللة،عبد العزیز،الصهیونیة غیر الیهودیة، سلسلة كتب عالم المعرفة، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والادب، الكویت، 1999.
5. رجیه غارودی، ترجمه عمرو زهیری، أمریكا طلیعة الانحطاط،دار الشروق، 1999.
6. ریاض جرجور، المسیحیة الصهیونیة ندوة فكریة،بیروتأیـار2003،http://www.bintjbeil.com/articles/2003/ar/0505_jarjour.htm
7. سمیر مرقص، السیاسة الصهیونیة المسیحیة فی الولایات المتحدة، موقع أسلام اون لاین:
http://www.islamonline.net/Arabic/mafaheem/political2006/09/02b.shtml
8. منیر العكش، أمریكا وسیاسة الإبادات الجماعیة، ریاض الریس للكتب والنشر، بیروت 1996.
9. محمد السماك، الدین فی القرار الأمریكی، دار النفائس، بیروت، ط1، 2003 .
10. عبد الوهاب المسیری، العلمانیة الجزئیة والعلمانیة الشاملة ، دار الشروق، ط1، 2002.
11. نافذ أبو حسنة، المتدینون والعلمانیون فی إسرائیل، مركز الدراسات الإستراتیجیة والبحوث والتوثیق،بیروت،ط1، 1999.
12. هالة أبو بكر سعودی: السیاسة الأمریكیة تجاه الصراع العربی الإسرائیلی، مركز دراسات الوحدة العربیة، بیروت 1968م. یوسف الحسن، البعد الدینی فی السیاسیة الأمریكیة تجاه الصراع العربی- الصهیونی دراسة فی الحركة المسیحیة الأصولیة الأمریكیة، مركز دراسات الوحدة العربیة، بیروت،ط1، فبرایر 1990.
13. یوسف الحسن، البعد الدینی فی السیاسیة الأمریكیة تجاه الصراع العربی- الصهیونی دراسة فی الحركة المسیحیة الأصولیة الأمریكیة، مركز دراسات الوحدة العربیة، بیروت،ط1، فبرایر 1990.
14. محمد علی سرحان، مجلة النبأ، العدد53، ص53، الحلف المقدس تحت النجمة الصهیونیة، http://www.annabaa.org

شاهد أيضاً

نفاق

ما هو النفاق من منظور الإمام علي(ع)؟

مقالات العربیة – ایكنا: یقول القرآن الکریم “لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ” وهکذا یبیّن لنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *