اسماعیل شفیعی سروستانی
ولقب «الفلاسفة» بالباحثين عن الحقيقة ومحبي المعرفة. لكن هذا الموضوع اخذ دوما بنظر الاعتبار بان الفلاسفة وبمنأى عن مجالهم النظري الديني وبمعزل عن مصادرهم النظرية، كانوا بصدد الكشف عن الحقيقة، وافترضوا في هذه الرحلة الحافلة بالتقلبات، ان العقل الاستدلالي هو المحك والمعيار لنيل هذه الامنية البشرية.
4. الإنطباعات الدينيه (الرؤيه الدينيه)
والمجال النظري الثاني القابل للنقاش ـ والذي يعلن عن علم كون خاص ـ هو المجال الديني وبتعريف خاص عن الانسان والنسبة التي يقيمها مع مصدر الكون.
وقد اعطى البحث والتحري مكانه لسنوات وسنوات للنظرة السطحية والتفكير الساذج وحل التنوير الفكري بوصفه مفهوما سطحيا محل الفكر والتعمق حول جميع الامور. لذلك فان العوام يغفلون عادة عن المبادئ النظرية للدين وبالتالي فان اي عاصفة تربك شؤونهم الاخلاقية والمدنية.
ان المجال النظري الديني، يعلن بان خالق قادر هو مصدر الكون وهو مدير جميع الامور وخلق الانسان ككائن مفكر لحماية الامانة السماوية والالهية ويضطلع بدور على الارض وان يستقر في الموقع الحقيقي والرئيسي من اجل سلوك مسار الكمال وينال المراتب العليا للحياة المادية والانطباعات المعنوية.
وفي هذه المنظومة النظرية (رؤية اهل الدين) فان الخالق المطلق للكون هو معيار جميع الطيبات والحسنات وقطب عالم الكون، وان الانسان هو تابع يطوف حول ذلك المحور الحقيقي ليعلن جل عبودية لبارئه. ان ايا من الكائنات الموجودة في العالم هي مظهر لذلك الكمال المطلق واسم من تلك الاسماء الحسنى، اذ ان الفياض الكريم افاض عليهم من جوده ورحمته ليكونوا آية على قدرة الله، ومن هذا المنطلق فان اي كائن ليس قائما بذاته.
إن «المصادر النظرية الدينية» تميط اللثام عن جميع اوجه الانطباع الكلي للدين حول العالم والانسان وترشد الطالب الى درك الحقائق. وذلك عن طريق رسول مخلص ومبعوث مكلف يتولى هداية البشرية ليرشدهم الى مسار النمو والكمال والوصول الى الغاية القصوى وهي القيامة الكبرى ومقام رضا الله تعالى.
وفي المنظومة النظرية للدين، ثمة وجه هو الاختيار بجانب المصادر الدينية والرسل المبعوثين، يجعل الانسان مسؤولا امام جميع اعماله. لذلك فان هذا الكائن المخلوق المسؤول يواصل رحلته في ظل التمهيدات اللازمة، لدرك الحقائق ونيل اليقين.
إن معلوماتنا حول المصادر الدينية منذ قديم الزمان والى الان هي اكثر بكثير من الانطباعات الاسطورية. لان وجود نحو 6000 سنة من التاريخ المكتوب لشريعة موسى عليه السلام ومصادر اتباع الديانة المسيحية وبالتالي المصادر الاسلامية، تساعدنا على بلوغ الصرح الاساسي والهيكلية النظرية الشاملة. فضلا عن ان هذه المصادر تكشف العديد من اوجه الاديان الماضية ـ والتي لا نعرف شيئا عنها عن طريق المصادر المكتوبةـ .
إن الاديان السماوية لاسيما الاسلام تعرض ارفع واسمى واشمل الانطباعات الدينية عن العالم وتطرح مجموعة من التعليمات تحت عنوان «الشريعة» لتنظيم وترتيب الشؤون الثقافية والمدنية لانصارها. وهذه الاديان الكبيرة تتحدث كلها عن انطباع واحد وكلي عن الخليقة وغاية الانسان من الحياة، الا ان بعض الاعتبارات بما فيها متطلبات الزمان، ادت الى حدوث تباينات في تعليماتها الاخلاقية والعملية.
والحديث هنا لا يدور عن نسبة ومدى صحة ومصداقية بعض مصادر الاديان (بما فيها اليهودية والمسيحية)، بل ان الافتراض المقبول هو ان مصدر الاستلهام الديني واحدا. فجميع المصادر الدينية، تنظر الى العالم بنظرة موحدة وتقدم تعريفا موحدا عن الانسان بوصفه مخلوقا مفكرا ومسؤولا.
وبلا شك فان احد اسباب تاكيد عظماء الدين على البحث والتحري في المبادئ العقائدية وعدم سماحهم بالتقليد والتبعية، هو ان امتلاك رؤية معمقة عن الكون والعالم والانسان، من منظور الدين والمصادر الدينية هو امر لابد منه وبخلاف ذلك فان ركائز واعمدة الاعمال ستكون هشة ومهتزة وتفقد الاعمال معناها.
إن الانفصال المروع بين النظرية والتطبيق الديني ناجم عن هذا الشئ والذي يفضي في المسار الاكمالي الى الانتقائية والاختلاط. لان اساس وركيزة جميع الاعمال وباطنها يتشكل من نوعية انطباع الانسان وفكره حول الكون. والان ان القينا نظرة على المصادر والنصوص المتوافرة بين الناس لاسيما الدارسين والمثقفين منهم، سنجد بان جميع المصادر في كافة الفروع حتى الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس و… تقترح تعليمات خاصة لانتظام الشؤون الفردية والعلاقات الجماعية، وان جميع هذه القوانين والتعاليم قد وضعت بلاشك للانسان الذي يريد تنظيم شؤونه المعيشية والثقافية على الارض. ان هذه المصادر التي تقدم تعريفا ومعرفة محددة عن الانسان، تحدد قوانين الحياة وما يجب ولا يجب اتباعه فيها. وبناء على ذلك فان جميع ما يجب وما لا يجب اتباعه في الدين والاحكام الدينية، قد وضع من اجل الانسان وتنظيم شؤونه، وان اساس تلك الاحكام هو المبادئ النظرية الخاصة بحيث ان دركها واستنباطها يمكن ان يوضح الحكمة والدافع من وضع تلك القوانين والتعليمات.
5. الإنطباعات الفلسفيه (الفكر الفلسفي)
والمصدر الثالث للانطباع العام للانسان عن الكون، هو الانطباع «الفلسفي». ان مرور الزمان وتطورات الدورات التاريخية ادت الى ان تمتزج بعض هذه الانطباعات معا، وان تنهار الحدود التي تفصلها، بحيث ان المجالين النظريين الديني والفلسفي قد اختلطا وامتزجا معا في الوقت الحاضر في الكثير من الموضوعات واصبح من الصعب الفصل بينهما.
وعلى الرغم من ان انتقائية المجالات النظرية تخفض من درجة نقاء كل من المجالات، الا ان فصل وتحديد الموضوعات المتعلقة بكل مجال، هو ممكن وحتى ضروري لكي تتوفر بهذه الطريقة امكانية تشخيص مسار تطورات الافكار والانطباعات وتتهيأ الساحة لدراسة الموضوعات الثقافية (المبنية على المجال النظري الخاص).
إن تاريخ الفلسفة والمصادر التي كتبت في هذا المجال، تظهر ان عمر هذا النوع من الرؤية يعود الى الفين وخمسمائة عام ـ منذ سقراط الحكيم وحتى العصر الحاضر ـ .
وطيلة هذه القرون، خضعت افكار عظماء الفلسفة للنقد والبحث على الدوام، وانبثقت منها براعم افكار جديدة لدرجة ان جذور الافكار الفلسفية امتدت الى الكثير من المجالات الفكرية والثقافية للعصر الحاضر.
ولقب «الفلاسفة» بالباحثين عن الحقيقة ومحبي المعرفة. لكن هذا الموضوع اخذ دوما بنظر الاعتبار بان الفلاسفة وبمنأى عن مجالهم النظري الديني وبمعزل عن مصادرهم النظرية، كانوا بصدد الكشف عن الحقيقة، وافترضوا في هذه الرحلة الحافلة بالتقلبات، ان العقل الاستدلالي هو المحك والمعيار لنيل هذه الامنية البشرية.
إن الاسئلة العامة حول العالم والانسان، تشغل ذهن الفيلسوف الذي هو بصدد الاستعانة بالعقل الفلسفي لازاحة الستار عن الحقائق الخفية وارشاد الانسان الى ارض العقل والمعرفة.
إن تاريخ الفلسفة على مدى الفين وخمسمائة عام، يحكي عن جهود الاشخاص الذين سعوا بالتوازي مع الانطباعات الدينية للكشف عن الحقيقة، من دون ان يريدوا جعل مصدر الاستلهام الديني اي الوحي والكتب الالهية، معيارا لتشخيص الحقائق. ان المصادر النظرية لهذا النوع من التفكير، هي مصادر عرضها كبار الفلاسفة خلال هذا العصر التاريخي وخصص كل من هؤلاء العظماء فصلا خاصا لهم من هذا النوع من الانطباع.
وعلى الرغم من ان المجالات الفلسفية المختلفة، استحدثت خلال هذه الفترة الطويلة، الا ان الكثير من الصفوة كانوا من شارحي الافكار وتولوا تفسير الانطباعات العقلانية للفلاسفة الكبار الذي سبقوهم. ومع ذلك فان من بين الافكار والمصادر، هناك «المبادئ النظرية المشتركة» نصنفها تحت عنوان «المبادئ النظرية الفلسفية» ونعتبرها قابلة للدراسة والتمحيص بجانب «المبادئ النظرية الدينية. مع اختلاف ان المبادئ النظرية الدينية تسعى من خلال الاستناد التام والكامل الى الوحي والكتب السماوية وسنة وسيرة الانبياء، للكشف عن الحقائق، وترسي صرح العمل على ذلك الاساس. الا ان المصادر النظرية الفلسفية تبحث عن جميع الاجوبة اللازمة على السؤالات الكلية بين انطباعات المفكرين والفلاسفة وتدعو الناس لارساء افعالهم واقوالهم على هذا الاساس.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها