الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة: معنى الثقافة و مكانتها

إسماعيل شفيعي سروستاني
إن «الثقافة» هي روح جميع العلاقات. وما يتشكل على اساسها جميع شؤون الحياة الفردية والجماعية للانسان. ان «الادب» و «الاخلاق» و «الثقافة» او اي اسم اخر قادر على استيعاب هذا المفهوم، هو بمثابة كل شامل يضفي معنى على «وجود» الانسان و «عيشه» و «موته». وبالتحديد ما يتعلق بفكر خاص ومعرفة خاصة وتعريف معين عن العالم والانسان والذي قدمه نبي او حكيم او مفكر الى بني ادم.

القسم الرابع :
4.‌ معنى الثقافة و مكانتها
إن «الثقافة» هي روح جميع العلاقات. وما يتشكل على اساسها جميع شؤون الحياة الفردية والجماعية للانسان. ان «الادب» و «الاخلاق» و «الثقافة» او اي اسم اخر قادر على استيعاب هذا المفهوم، هو بمثابة كل شامل يضفي معنى على «وجود» الانسان و «عيشه» و «موته». وبالتحديد ما يتعلق بفكر خاص ومعرفة خاصة وتعريف معين عن العالم والانسان والذي قدمه نبي او حكيم او مفكر الى بني ادم. بعبارة اخرى فان «الثقافة» هي جميع الادب والاخلاق التي تحدد علاقة الانسان بنفسه والطبيعة ومنشأ الكون، على امتداد رقعة تحتضن جميع المناسبات والعلاقات الفردية والجماعية. ان ما يوضح في هذا المسار، الهوية والشخصية والمواصفات الثقافية، هو نوعية الرؤية والفكر الخاص الذي يُرسى عليه منطلق الانسان ووجهته.
ولدى طرح هذا الموضوع والمعاني والتعاريف المختلفة التي قدمها علم الاجتماع الغربي (من منظور الفلسفة الانسانية)، تم تجاهل الفكر والمبادئ النظرية.
وقد قدم ادباء وعظماء هذه البلاد تعريفا للادب والثقافة استنادا الى «الانطباع المعنوي» عن الكون، وذلك منذ الازمان البعيدة وحتى الزمن الذي لم يفقدوا فيه لفظ ومعنى تعايشهم السلمي، واعتبروا غير ذلك جزءا من العلم السفلي وذي المرتبة الدنيا الذي يهتم بالحواس الظاهرة والوجه الحيواني لحياة الانسان، لذلك فان «الثقافة» في هكذا اعمال كانت تنطوي على شحنة «معنوية» ذات مفهوم ايجابي، ولم يكن هؤلاء العظماء يقحمون الاعمال والحركات الناتجة عن النفس الامارة للانسان في مضمار «الادب» و «الثقافة»  بحيث ان «ابن سينا» قسم في كتابه «دانشنامة علائي» (موسوعة علائي) العلم النظري الى ثلاث مراتب، ويقول:
اما العلم النظري فهو ثلاثة: واحد يعرف بالعلم العُلوي والعلم السلف وما هو الطبيعة والاخر العلم الوسطي وعلم الثقافة والرياضة الروحية … واخر يدعى العلم الطبيعي والعلم السُفلي.
ويقول صاحب «تاريخ بيهق» في هذا الخصوص:
ولكل ولاية علم خاص. فللروم علم الطب … وللهند التنجيم والحساب وللفرس علم اداب النفس والثقافة، وهذا هو علم الاخلاق.
و يبين «خواجة نصير الدين الطوسي» في كتابه «اخلاق ناصري» هذا الموضوع. ويكتب في باب تنشئة الابناء «… ومن تدبره النفساني، الكمالات النفسانية مثل الاداب والثقافة والفن».
وقد اولى عظماء الكلام المنظوم بدء من فردوسي وانتهاء ب مولوي وسعدي اهتماما دائما بهذا الوجه من معنى الثقافة. وللفردوسي ابيات عديدة في الشاهنامه بهذا المضمون:
إن الثقافة هي زخرف وزينة الروحوالجوهر يسهل الكلام والحديث
وفي موقع اخر يقول:
اختر عدم الايذاء والفائدةفهذا هو الثقافة والدين
ويقول جلال الدين محمد مولوي:
يا صاحب المعرفة الاصيلة، اوجد ثقافة جديدة واوجد حلا جديدا فانت صاحب بصيرة حقا
و يستشف من جميع هذه الابيات والعبارات بان عظماء واكابر اهل المعرفة والحكمة الفارسية، اعتبروا «الثقافة» بمنزلة الاخلاق والسلوك الذي يصلح النفس ويبعدها عن السوء، لتتأدب بادب الدين وتدفع بصاحبها نحو الكمالات المعنوية. وفي هذا الخصوص اعتبر الجميع ان مكان الثقافة هو «قلب» اصحاب الفراسة ممن بقوا بمنأى عن السوء والدناءة ونالوا بسببه اصل الحكمة والمعرفة. ويقول «قطران تبريزي»:
من القلب، تزيل صدأ مرآة الثقافة أرشد من منطلق العلم والمعرفة، كل انسان الى طريق الثقافة
لكن اليوم وتباعا لغلبة الانبهار بالغرب والعلوم الغربية، يطلق عنوان «الثقافة» و «الثقافي» على مجمل التعامل والاعمال التي تتعاطى مع هواجس الانسان، وتقدم بمدد الادوات والتقنيات الظريفة. وفي هذا الخضم لا يتم الاهتمام بالمعنوية والمعرفة الدينية والاخلاقية بنفس الاهتمام الذي كان يوليه المتقدمون لها.
إن «الثقافة» بوصفها الاخلاق والادب تنبع من كلام اهل المعرفة وتلقى في مسارها المتدرج بظلالها على جميع الشؤون الانسانية. لذلك فان ما يضفي معنى على الادب والاعمال الادبية لقوم ما ويميزهم عن غيرهم، هو الفكر والرؤية التي تظهر نفسها كسند ل«الثقافة» وبذلك فان الثقافة تضفي لونها وصبغتها على جميع اوجه وقوالب حياة امة ما. كالضياء الذي يسطع من وراء زجاج ملون ويعكس صورا مختلفة وملونة، انعكاس لضياء واحد بمظاهر ملونة. وفي الحقيقة فان اهل الفكر، ينظرون من اعالى عالم الملك الى العالم الدنيا وهذا الانفصال عن رقعة الارض، يتيح لهم امكانية ايجاد نسبة مع مصدر الكون. لانه ليس بمقدور الجميع، الانفصال عن الذات و لذلك ليس للكل نصيب في امكانية درك و فهم مكانة الانسان في الدنيا.
و من دون اكتساب المعرفة حول مكانة الانسان وساحته كما هي و من دون معرفة درجة نزوله من تلك الساحة الى الساحة التي سكن فيها، فانه من غير الممكن رسم مشروع جلي عن وضع هذا الانسان على امتداد الارض في العصور المختلفة، وان هذه المهمة كانت دائما ملقاة على عاتق «اولي الالباب» الذين كانوا على الدوام يوضحون وينيرون هذه الخطوط والتيارات. بحيث ان بقاء وديمومة اي امة يتوقف تماما على وجود هؤلاء.

5.‌ معنى الحضاره و مكانتها
على الرغم من ان تعاريف كثيرة قدمت عن «الحضارة» او «المدنية» واثيرت تعليقات حولها بمقتضى نوع الرؤية الى المسائل الثقافية، لكن يجب التاكيد على ان «الحضارة» تمثل الوجه الصوري والمادي لحياة الانسان على الارض. وهي مصداق خارجي وموضوعي للثقافة وكل قناعات ومعتقدات شعب ما في اطار علاقاته المادية.
وبرغم ان بناء المدن والسكن واللباس والتعامل والتبادل التجاري وباقي العلاقات الانسانية، لها وجه اخلاقي وثقافي، لكن وجهها الخارجي يستحدث «حضارة» شعب ما. الحضارة التي تحتضن بداخلها كل خصائص وميزات النظام الاخلاقي والثقافي لذلك الشعب.
ومن الناحية القيمية، وفي ظل مكانة الصورة المادية للحياة فان «الحضارة» يمكن دراستها في ذيل «الثقافة» وتقع بعد الفكر والثقافة. بحيث ان جسم الانسان متأثر بمتنياته ورغباته النفسانية، وان ايا من اعماله وسلوكياته، تظهر جانبا من تلك التمنيات.
إن الطوب والقرميد والطين هي مواد فحسب يصنع منها هيكل معين على يد بناء بارع. لكن المعمار هو الذي رسم في صفحة ذهنه شكل وتصميم البناء بناء على انطباعه عن الكون والثقافة التي يعيشها. ولا يفرق ان كان المعمار ومصمم المدن او مصصم الازياء، فهم يعرضون ما يكنونه بباطنهم اثناء ابراز قدراتهم وابداعهم. لذلك فانه عندما تصبح ثقافة ما شاملة وعارمة وتسود اخلاق خاصة قوما ما، فان جميع مكونات الحضارة تنطق سوية. فالمعمار يكرر ما تنطق به المدن وكلاهما يسايران نوع اللباس والخ.
لنلقي نظرة على الحضارة المعاصرة، الا نسمع صوتا موحدا ونغمة متجانسة تنبعث من المدن الحديثة والشقق الفخمة والملابس الفاخرة والسيارات الفارهة وباقي الادوات والاشياء التي يستخدمها الانسان؟! والا تشبه المباني القديمة المتبقية من العصور السالفة او التقليدية المنتمية الى الحضارة الغابرة، آلة موسيقية تعزف نغمة مختلفة وتحدث تعارضا في الوضع القائم؟! ويدرك الجميع هذا التعارض. وهذا التعارض وقبل ان يكون متعلقا بشكل البناء، يعود الى الوجه الثقافي، وهذا التعارض الثقافي الجوهري هو الذي يسبب ازمة على صعيد التاريخ.
وفي مطلق الاحوال يجب القول بان الحضارة هي الوجه المادي لحياة الانسان. والثقافة هي الروح التي تنفخ في جسد الحضارة لتبعث فيه الحركة.

6. النسبة بين الثقافة والحضارة
إن التعامل والمناسبات الانسانية وبين كل الصفقات الفردية والاجتماعية، تستمد قوتها من قلب نابض يضخ الدم في جميع شرايين المجتمع وانسجته. ولهذا السبب فان اي مكون من مكونات حضارة شعب ما، وفي ذروة ازدهارها، تنادي بثقافة تقوم عليها. سواء كان الحديث عن العمارة وبناء المدن او اللباس والزي الذي يرتديه الناس، وسواء كنا متفرجين على المؤسسات الاقتصادية والمالية السائدة والرائجة او نراقب النظام التعليمي. ان كلا من هذه الاجزاء تبدي في وعائها محتويات محددة تعود من حيث الماهية والجوهر الى منشأ محدد وان الاوجه هي وحدها التي تاخذ مظاهر ملونة. وكأن روحا واحدة نفخت في جسد كل هذه. بمنطلق وغاية محددة ومعرفة تدعو سكان ديار ما بصورة فردية وجماعية الى تلك الغاية. وفي هكذا فصل حيث تصل فيه الثقافة والحضارة الى تعايش كامل، فان كل شئ يوضع في محله بحيث تتحرك جميع القوى والمصادر والطاقات باتجاه واحد، وكل عامل لا ينقض ولا يحبط عاملا اخر. والسبب واضح للغاية: «الادب الذي يستحدث بعد استقراره في صدر المعمارين والخائطين والعازفين واصحاب الفنون، صورته المادية في قالب حضارة شاملة»؛ الحضارة بتعريفها المحدد واحداثياتها التي يمكن دراستها، تظهر كل انطباعات واراء صناعها حول المنطلق والغاية وادب العيش.
و الحصيلة ان سر بقاء وخلود اي حضارة وازدهارها وحيويتها يكمن في صلابة وقوة اخلاقها وادبها وثقافتها ما يضفي معنى على اجزائها ومكوناتها. وفضلا عن ذلك فان الثقافة والادب والاخلاق توضح كيفية الارتباط بمصدر الكون وسلوك الطريقة وامكانية نيل الغاية والوجهة. وبناء على ذلك يجب القول بان الهوية الموحدة والقابلة للتعريف لحضارة اي امة، تكفل حياة وديمومة تلك الحضارة. لكن حياة اي حضارة رهن بحفظ الاتصال بتلك الهوية. وبخلاف ذلك فانها ستؤول الى الزوال عاجلا أم آجلا وتتلاشى مكوناتها ومن يبقى في خضم الاحداث ويتشبث بكل حشيس من اجل النجاة، هو الانسان، وبما ان هذا الانسان لا يملك مستمسكا يتمسك به، فانه سيرسي عمله على اساس العبثية والتبعثر. وكما اشرنا فان هذا يشكل بداية لعصر «سوء الفهم». العصر الذي يغيب فيه اي تواصل قلبي وودي ولغوي وتتجه جميع التعاملات والمناسبات نحو التفرق والتبعثر. بحيث يبدو اليوم بان اي وجه من اوجه الحضارة قد بني على يد افراد غرباء عن احدهم الاخر. المعمارون الذين لا يتواصلون مع احدهم الاخر بتودد وتناغم.
إن الوصول الى «سر الكون» يتطلب جهدا وجدية كان اولو الالباب يفهمونه من خلال تجاوز الساحات الحيوانية الدنيئة، وسلوك طريق محفوف بالعناية الخاصة والا لما كان بوسعهم ابدا الوصول الى عنوان لعالم الاستئناس والمعرفة والاضطلاع بدور الوسيط بين العوام ومصدر الفيض والاحسان. ومع ذلك يجب الاذعان بان «اهل الادب الحقيقيين» وبفضل انتسابهم الى مصدر الكون، يعتبرون بين الناس، بمثابة «الراس» الذي يوجه ويقود «الجسم». لانهم سيصبحون راسم جميع الخطوط والعلاقات وشارح كل ما يجب وما لا يجب فعله وقوله. ولابد ان نعرف بانه قبل ان تتجه التعاملات والمناسبات وبصفة عامة الصور المادية للحياة في المجتمعات نحو الزوال والتلاشي، فان اهل الادب واعمالهم سيؤولون الى الزوال.
إن الاعمال المنفصلة عن الاصل، تقطع العلاقة بين حضارة امة ما وثقافتها واخلاقها وتجعل الشعر والكلام في خدمة تفسير الميول والرغبات الحيوانية والنفسانية، وبعدها فان الحُجب الواسعة ستنشر على يد اهل الرؤية المزيفين، الظلام والعتمة بين العوام ومصدر الكون والمعرفة لدرجة انه لا يمكن تشخيص الحقيقة عن المجاز، وعندها فان اي خطة وتدبر يعتمد لاصلاح شؤون الملك لن تكون نتيجته سوى الاضطراب والارتباك، لان البعد عن اولي الالباب يجعل من الصعب امكانية درك العلاقة الدقيقة القائمة بين الظواهر والمناسبات والهيكلية الثقافية. بحيث ان اي دواء يوصف سيكون مهدئا لالم ما لكنه سيضيف الما اخر. الهاجس الآخذ بالتزايد. وجميع القلوب المضطربة والاعمال والتدابير غير الجوهرية التي تاخذ كل وجه من اوجهها من مصدر، ستشكل اساسا لارساء مدنية مرتبكة، المدنية التي لا يتناغم اي من اجزائها ومكوناتها مع باقي الاجزاء.
إن التغير الحاصل في الادب واشباه الادباء الذين يتولون مهمة تأديب القوم، يمزقون النسب وان الانسان الفاقد للمعلم، سيطلق العنان لمطيته التي تاخذه الى الاجنبي تارة وتعود به الى الذات تارة اخرى.

یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

شاهد أيضاً

الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة:الإنطباعات الدينيه (الرؤيه الدينيه)

اسماعیل شفیعی سروستانیولقب «الفلاسفة» بالباحثين عن الحقيقة ومحبي المعرفة. لكن هذا الموضوع اخذ دوما بنظر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *