الحرب التی شنتها الولایات المتحدة الأمیركیة وخلیفتها إنكلترا على العراق هی حقا غزو استعماری جدید، لا أخلاقی، ولا شرعی، یطال لیس فقط الشعب العراقی بل أیضا جمیع شعوب الشرق الأوسط ویهدد النظام العالمی والإستقرار فی منطقتنا والعالم بأسره.
المسیحیة الصهیونیة
“صهیو مسیحیة أم صهیو أمیركیة؟”
الدكتور القس ریاض جرجور
الحرب التی شنتها الولایات المتحدة الأمیركیة وخلیفتها إنكلترا على العراق هی حقا غزو استعماری جدید، لا أخلاقی، ولا شرعی، یطال لیس فقط الشعب العراقی بل أیضا جمیع شعوب الشرق الأوسط ویهدد النظام العالمی والإستقرار فی منطقتنا والعالم بأسره.
إن هذه الحرب التی أدانتها شعوب العالم بأسره بما فیه شعوب الدول المشاركة فیها والمؤیدة لها تتأسس على أیدیولوجیا صهیونیة استعماریة توسعیة عنصریة، یرزح تحت آلتها العسكریة شعبنا فی فلسطین، ویعانی من احتلالها جزء من أرض الشقیقة سوریا، وتصدت لها مقاومتنا اللبنانیة الباسلة حتى دحرتها. وتتمثل تلك الأیدیولوجیا الصهیونیة فی رموز السیاسة الأمیركیة الحاكمة لا سیما فی البیت الأبیض والبنتاغون، والتی قیل عن سیدها انه ینتمی الى تیار مسیحی أصولی یسمى صواباً أو خطأ تیار”الصهیونیة المسیحیة”. هذا التیار هو موضوع حدیثی أمامكم ومعكم هذا المساء، وقد صیغ عن حكمة بشكل سؤال یبحث فیما إذا كانت الصهیونیة هی صهیونیة مسیحیة أم هی صهیونیة أمیركیة تتخذ من مسیحیة هجینة وغریبة عن التراثات المسیحیة الأصیلة غطاءاً دینیاً لها تضفی به شرعیة على سیاساتها المشبوهة.
المنهجیة العلمیة الموضوعیة تضطرنی الى أن أبدأ بتعریف المصطلحات ومن ثم الى ابراز الجذور التاریخیة واللاهوتیة للصهیونیة المسیحیة منتهیا بالحدیث عن تطبیقاتها السیاسیة وخطرها فی آن معاً على المسیحیة وعلى أمن وسلامة شعوب منطقتنا.
فی التعریف والمصطلحات
تم تعریف الصهیونیة المسیحیة على انها “الدعم المسیحی للصهیونیة”. وقد قیل أیضاً أنها “حركة قومیة تعمل من أجل عودة الشعب الیهودی الى فلسطین وسیادة الیهود على الأرض”. ویعتبر الصهیونیون المسیحیون أنفسهم كمدافعین عن الشعب الیهودی وخاصة “دولة اسرائیل” ویتضمن هذا الدعم معارضة كل من ینتقد أو یعادی “اسرائیل”.
“والتر ریغنز” الأمین العام لما یسمى “السفارة المسیحیة الدولیة” وهی من أحدث وأخطر المؤسسات الصهیونیة ومركزها فی القدس، یعرف اصطلاح الصهیونیة المسیحیة بطریقة سیاسیة وعلى أنه -أی التعریف- أی مسیحی یدعم الهدف الصهیونی لدولة اسرائیل وجیشها وحكومتها وثقافتها الخ.
أما القس “جیری فالویل” مؤسس جماعة العمل االسیاسی الأصولی المسماة “الأغلبیة الأخلاقیة” وهو الذی منذ فترة تكلم واتهم دین الإسلام بأنه دین إرهابی، فإنه یقول: “إن من یؤمن بالكتاب المقدس حقاً یرى المسیحیة ودولة اسرائیل الحدیثة مترابطتین على نحو لا ینفصم، إن إعادة إنشاء دولة اسرائیل فی العام ألف وتسعمایة وثمانیة وأربعین لهی فی نظر كل مسیحی مؤمن بالكتاب المقدس تحقیق لنبوءات العهدین القدیم والجدید”. سنتعرض لهذه المسألة بعد قلیل، إنما وفی ختام التعریفات أقول إن الصهیونیة المسیحیة فی نهایة المطاف تعبر، وكما جاء فی بیان اللجنة التنفیذیة لمجلس كنائس الشرق الأوسط فی نیسان (أبریل) عام ألف وتسعمایة وستة وثمانین (1986)، عن مأساة فی استعمال الكتاب المقدس، واستغلال المشاعر الدینیة فی محاولة تقدیس إنشاء دولة ما، وتسویغ سیاسات حكومة مخصوصة.
إذن لا یوجد مكان للصهیونیة المسیحیة فی الشرق الأوسط، ویجب أن تنبذ من قبل الكنیسة العالمیة، إنها تشویه خطیر وانحراف كبیر عن الإیمان المسیحی الحقیقی المتركز فی السید المسیح كما أنها تدافع عن برنامج سیاسی قومی یعتبر الجنس الیهودی متفوقاً. وكما وصفها احد القادة فی الكنیسة الأنغلیكانیة:”إن إعطاء وكیل عقارات الى الله یحطم القلب…إنهم لا یكترثون بالمسیح أبداً”.وبكلمات رجل دین فلسطینی محلی :”إنهم أدوات تدمیر وخراب، وهم لا یعطون أی اعتبار أو أهمیة للمسیحیین الأصلیین فی هذه البلاد”.
الجذور التاریخیة والدینیة للصهیونیة المسیحیة
نشأت الصهیونیة المسیحیة، وكما نعرفها الیوم، فی انكلترا فی القرن السابع عشر، حیث تم ربطها بالسیاسة، ولا سیما بتصور دولة یهودیة تتمیماً حسب زعمها لنبوءة الكتاب المقدس، وانتقلت فی مرحلة ثانیة الى الولایات المتحدة الأمیركیة، حیث أخذت أبعاداً سیاسیة واضحة وثابتة كما أخذت بعداً دولیاً.
سنتحدث باقتضاب عن هاتین الحقبتین فی تاریخ الصهیونیة المسیحیة، ولكن قبل ذلك لا بد لی أن أشیر الى الجذور الفكریة أو النظریة لهذا التیار وذلك ما قبل القرن السادس عشر.
الألفیة كتمهید للصهیونیة المسیحیة
الصهیونیة المسیحیة هی أیدیولوجیا دینیة “رؤیویة” سیاسیة حدیثة العهد نسبیاً، لكن جذورها تتصل بتیار دینی یعود الى القرن الأول للمسیحیة ویسمى بتیار الألفیة (Millenarianism). والألفیة هی معتقد دینی نشأ فی أوساط المسیحیین الذین هم من أصل یهـودی، وهو یعود الى استمرارهم فی الإعتقاد بالمشیحیة الزمنیة -المشیحیة كلمة من أصل عبری ـ والى تأویلهم اللفظی لما ورد فی سفر رؤیا یوحنا – 20/3-6، وهو أن المسیح سیعود الى هذا العالم محاطاً بالقدیسین لیملك فی الأرض ألف سنة ولذلك سُموا بالألفیة. ولربما أن هرطقة مونتانوس الفریجی، حوالی عام مئة واثنان وسبعون، كانت التعبیر الأكثر وضوحاً عن النتائج العلمیة للحركة الألفیة، فلقد اعتبر هذا الأخیر أن حیاة أعضاء الكنیسة الروحیة والأخلاقیة قد تدهورت كثیرا بسبب تأثیر العالم السیء علیها، فأراد أن یرجعها الى العصر الرسولی الأول، وقد ادعى انه النبی الجدید الذی أوكل الله الیه هذه المهمة، فراح یبشر بقرب نزول أورشلیم السماویة، ومجیء السید الى فریجیة العلیا(آسیا الصغرى) لتأسیس مملكته الأرضیة ذات الألف عام.
وبقیت الحركة الألفیة فی مد وجزر. ففی القرون الوسطى اعتنق الألفیون أكثر فأكثر عقائد مسیحیة ابتعدت عن الإیمان القویم، كما أنهم وقفوا موقفاً معادیا لروما وللباباویة وللكثلكة. وابتداءً من نهایة القرن الحادی عشر، نرى الحركات الألفیة تنضوی بكثرة تحت لواء الحملات الصلیبیة، لكن حتى القرن السابع عشر، لم تحمل الحركة الألفیة (أی عودة السید الثانیة وحكمه ألف سنة) أی طابع یهودی یشیر الى عودة الیهود الى فلسطین.
الصهیونیة المسیحیة البریطانیة
إلا أن بوادر تفسیر الكتب المقدسة تفسیراً حرفیا وربطها بالسیاسة، ولا سیما بتصور دولة یهودیة تتمیما –حسب زعم الألفیین- لنبوءة الكتاب المقدس، فقد بدأت بشكل بارز فی بریطانیا فی القرن السابع عشر.
وقد تسارع هذا التطور إبان العصر الطهری “البیوریتانی”، بعد أن كانت تلك المعتقدات الألفیة قد تراجعت فی العهد “الإلزابیتی”. فمن هذا الإتجاه نذكر:
– إستعمال العبریة لغة للصلاة فی الكنائس
– نقل یوم ذكرى قیام السید المسیح من یوم الأحد الى یوم السبت الیهودی
– مطالبة بعض البیوریتانیین الحكومة بأن تعلن التوراة أی العهد القدیم دستوراً لبریطانیا
– ونجد فی العام ألف وخمسمایة وثمانیة وثمانین (1588) رجلاً بریطانیا من رجال الدین واسمه “بریتمان” (1562-1607)، یدعو الى إعادة الیهود الى الأراضی المقدسة تتمیماً لنبوءة الكتاب المقدس
– وفی العام ألف وستمایة وخمسة عشر (1615) دعا البرلمانی البریطانی “السیر هنری فینش” الحكومة الى دعم عودة الیهود الى فلسطین حیث كتب:”لیس الیهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، ستعود أمة الیهود الى وطنها، وستعمر كل زوایا الأرض..وسیعیش الیهود بسلام فی وطنهم الى الأبد”.
إلا أن الركیزة الدینیة /السیاسیة/ الأیدیولوجیة الأولى للصهیونیة المسیحیة فی بریطانیا قامت على ید “أولیفر كرومویل”، فقد كان هذا الأخیر على مدى عشر سنوات (1649-1659) رئیسا للمحفـــل البیوریتانی، وهو الذی دعا الى عقد مؤتمر عام ألف وستمایة وخمسة وخمسین (1655) للتشریع لعودة الیهود الى بریطانیا، أی إلغاء قانون النفی الذی اتخذه الملك “إدوارد”. ففی هذا المؤتمر تم ربط الصهیونیة المسیحیة بالمصالح الإستراتیجیة لبریطانیا، ومن خلال عملیة الربط تلك تحمس “كرومویل” لمشروع التوطین الیهودی فی فلسطین منذ ذلك الوقت المبكر.
بعد العام ألف وثمانمایة برز”القس لویس وای” الذی صار مدیر الجمعیة اللندنیة لترویج المسیحیة بین الیهود فی العام ألف وثمانمایة وتسعة (1809)، وقد تحولت الجمعیة بجهوده قوة كبرى فی التعبیر عن عقائد الصهیونیة المسیحیة بما فیها عودة الیهود الى فلسطین.
شخصیة أخرى ساهمت فی تطویر هذا الإتجاه فی بریطانیا هو “الشریف هنری دارموند” عضو مجلس العموم البریطانی. فقد تخلى “دارموند” عن عمله السیاسی بعد زیارة الأرض المقدسة ونذر حیاته لتعلیم الأصولیة المسیحیة والكتابة عنها وعن صلتها بعودة الیهود الى فلسطین.
أما “اللورد شافتسبوری” (1818-1885)، وهو من أكابر المصلحین الإجتماعیین الإنجیلیین البریطانیین، وقد عمل لتخلیص بریطانیا من العبودیة، ومن ممارسات تشغیل الأحداث الظالمة، فقد كان من الألفیین المتحمسین والمناضلین من أجل عودة الیهود الى فلسطین، وكانت نظرته تتسم الى حد بعید بالعداء للیهود، إذ كان یفضل رؤیتهم یقیمون بالأراضی المقدسة بدلا من أنكلترا.
وأشد الصهیونیین المسیحیین البریطانیین ضلوعاً فی السیاسة فهو القس “ویلیام هـ هشلر” (1845-1931). فقد عمل فی السفارة البریطانیة بفیینا ونظم عملیة تهجیر الیهود الروس الى فلسطین. وفی العام ألف وثمانمایة وأربعة وتسعین (1894) نشر كتاباً عنوانه “عودة الیهود الى فلسطین” وطرح هذه العودة على قاعدة تطبیق النبوءات الدینیة الواردة فی العهد القدیم، والأهم من كل ذلك انه كان من المؤمنین المتحمسین لأبی الصهیونیة ـ تیودور هرتزل ـ وقد أتاح “هشلر” الدعم السیاسی والإتصالات لهرتزل خلال المرحلة الحاسمة، وبذل مساعیه فی اللوبی من أجل القضیة الصهیونیة لمدة تناهز الثلاثین سنة.
وأخیراً، لا بد من ذكر إسم “اللورد آرثر بلفور” مهندس وعد بلفور الذی صدر فی العام ألف وتسعمایة وسبعة عشر (1917). لقد كان “بلفور” من الألفیین ومن الصهیونیین المسیحیین، وقد أدت لقاءاته بكل من “تیودور هرتزل” و”حاییم وایتزمان” الى ما یقارب الإنسجام، رغم انه كان معروفاً عنه بمواقفه المعادیة للیهود.
نهایة العالم على الطریقة الأمیركیة
إنتقلت فی القرن العشرین الصهیونیة المسیحیة الى الولایات المتحدة الأمیركیة، ولا سیما بعد إنشاء دولة اسرائیل وترجمت بعض الآیات الدینیة بعد ان حرفت تفاسیرها الروحیة ترجمةً سیاسیة مباشرة صبت بقوة فی دعم دولة اسرائیل. واستخدم الصهیونیون المسیحیون الأمیركیون وسائل الإعلام الجماهیریة بشكل منقطع النظیر لنشر أفكارهم وأوهامهم وأحلامهم ومعتقداتهم.
فإذا أخذنا على سبیل المثال، نهایة العالم كما تتصوره الصهیونیة المسیحیة، وجدنا فیه بعض الملامح التی ترافق الغزو الأمیركی الحاصل حالیا على العراق، وقبل ذلك، بعض الملامح هی رد الإدارة الأمیركیة الحالیة على أحداث الحادی عشر من أیلول ألفان وواحد (2001)، وذلك بشن حملة إرهاب فی العالم أجمع تصدیاً على حد زعمها للإرهاب الذی طالها.
هذا وإن نهایة العالم على الطریقة الأمیركیة الصهیونیة تستند شكلاً على بعض أسفار العهد القدیم، كسفر حزقیال وسفر دانیال، ومن العهد الجدید على سفر رؤیا یوحنا، وتستنتج أن العالم كما نعرفه قد أشرف على النهایة، وأن ألفا من السنین سیبدأ بعد هذه النهایة، وهو یتمیز بالسلام ووفرة الخیرات والأخوة بین الناس، وسیحل السلام بین الحیوانات أیضاً. العالم آت الى نهایة – حسب زعمهم- لا بفعل جنون جنرال أو سیاسی یشعل الحرب النوویة، بل لأن هذا هو قصد الله. نهایة العالم لیست مدعاة للقلق بنظر “الألفیین” لأنها تمهد لمجیء المسیح الثانی. لكن قبل هذا المجیء على بعض الأحداث أن تقع، إنها “علامات الأزمنة” أی تبشیر العالم، وعودة الیهود، وإعادة بناء دولة اسرائیل وظهور “المسیح الدجال” وموجة من الصراعات. كل هذا یتوج بمعركة “هرمجدون” وهی قریة مذكورة فی سفر الرؤیا، وتقع الى شمال القدس حیث تزج الأمم الكبیرة فی معركة بین “الحق والباطل” وعند اقتراب إفناء العالم یظهر المسیح. وهناك أكثر من روایة تفصیلیة لهذا الحدث الإنقضائی، لا مجال لذكرها هنا، لكن المهم فی هذا التصور “الرؤیوی” أن السلاح النووی یصبح عندئذ أداة لتحقیق مقاصد الله، وأن المیل الى تفسیر أحداث السیاسة الدولیة بمنظور “نهایة العالم” یصبح مشروعاً، لا بل ضروریاً، علماً بأن دعاة الألفـیة مجمعون على اعتبار الشرق الأوسط مسرحا للحرب-الكارثة المذكورة أعلاه.
نقطة الإرتكاز اللاهوتیة “القدریة”
معظم المسیحیین الأصولیین هؤلاء، إن لم یكن كلهم، یسلمون بمذهب “القدریة” أو كما یسمیها البعض أیضاً “التدبیریة”. والقدریة هی محاولة لتفسیر تاریخ علاقة الله بالبشر بأحوال وأحقاب مخصوصة.
یقول “س.أی.سكوفیلد”، من أكابر الناطقین بهذا المذهب: “كل قدر دور من الزمان یمتحن فیه البشر حسبما أوحاه الله من وحی مخصوص”.
ویجمع منظرو القدریة فی معظمهم على سبعة أقدار أو حقبات زمنیة تدل على تطور علاقة الله بالبشر، حیث یمتحن الله الجنس البشری فی إطاعة إرادته. “القدر السادس” من هذه الأقدار هو الحقبة الحالیة، أی “دور الكنیسة والنعمة”، وینتهی بعودة المسیح لإقامة مملكته الألفیة، وهذا هو “الدور السابع”.
إن هذا المذهب یرتكز على افتراضین:
الإفتراض الأول هو الفصل ما بین اسرائیل (أی الشعب الیهودی،شعب الله على الأرض) والكنیسة (أی شعب الله فی السماء).
أما الإفتراض الثانی فهو وجوب تفسیر الكتاب المقدس دائماً بطریقة حرفیة.
وهكذا یؤدی هذا المذهب الى أقله نتیجتین:
الأولى: أن الأرض هی ملك للشعب الیهودی
والثانیة:أن النبوءات المتعلقة برجوع الیهود فی الشتات الى الأرض قد تحققت ثانیة فی القرنین التاسع عشر والعشرین.
من هنا نتبیین كم أن هذا المذهب هو من جهة تحریف للمسیحیة، ومن جهة ثانیة أیدیولوجیا سیاسیة عنصریة.
السفارة المسیحیة والبعد الدولی للصهیونیة المسیحیة
إن التأیید المسیحی الأصولی لإسرائیل یستند عند الكثیرین كما رأینا الى “رؤیة” للعالم، أو بالأحرى لنهایته، تفترض تبشیر الیهود. ولكن، هل أن تبشیر الیهود یرضی الیهود؟ وأنا دائما أسأل هذا السؤال. یبدو أن هذا الأمر لا یثیر مشكلة كبیرة لدى الساسة الصهاینة، ولو أنه یزرع الشك فی نفوس بعض المتشددین الیهود، ذلك أن أولویة كسب التأیید السیاسی لدولة اسرائیل تغلب الإعتبارات الدینیة الصرفة.
مع ذلك، فإن مواقف أصولیة مسیحیة صهیونیة، ورغبة منها بتطمین الیهود، راحت تقول بعدم تبشیر الیهود، بل بالوقوف الى جانبهم – “تعزیتهم”على حسب ما جاء فی سفر أشعیاء فی التوراة – 1:40-2 ـ”عزوا شعبی یقول إلهكم، طیبوا قلب أورشلیم ونادوها بأن جهازها قد كمل”.
أبرز ممثلی هذا التیار وأخطرهم الیوم هم جماعة “السفارة المسیحیة العالمیة فی القدس”. تأسست هذه السفارة فی العام ألف وتسعمایة وثمانین (1980) رداً على سحب ثلاثة عشرة دولة سفاراتها من القدس استنكاراً لإعلانها عاصمة لإسرائیل، ولهذه السفارة فروع فی خمسین دولة فی العالم، ولها فی الولایات المتحدة الأمیركیة عشرون مكتباً قنصـلیاً. المكاتب تقوم بعمل دعائی من مختلف الأنواع، وتجمع المساعدات المالیة والعینیة وتسوق البضائع الإسرائیلیة. من نشاطات “السفارة” المؤتمر الدولی للقادة المسیحیین الصهاینة الذی عقد فی بازل (سویسرا) خلال شهر آب عام ألف وتسعمایة وخمسة وثمانین (1985) والذی انتهى الى إصدار بیان، یضیف الى تكرار المواقف التقلیدیة المؤیدة لدولة اسرائیل و “التائبة عن اللاسامیة”، تهنئة لدولة اسرائیل ومواطنیها على إنجازات الأربعین سنة الأخیرة، ودعوة للإعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائیل، وبیهودا والسامرة (الضفة الغربیة) كأجزاء من أرض إسرائیل، وتحذیراً للأمم التی تعادی الشعب الیهودی.
لقد أدان مجلس كنائس الشرق الأوسط هذا البیان بشدة. إن السفارة المسیحیة فی القدس هی مثال واضح ومفضوح لانحیاز التیار المسیحی الأمیركی الأصولی لدولة إسرائیل، و لتوظیف الدین توظیفاً مغرضاً فی السیاسة.
وهناك عدة أصناف من السلوك تصف الصهیونیین المسیحیین كأصدقاء لإسرائیل ومنها:
1. تشجیع الحوار ما بین الیهود والمسیحیین
2. مقاومة معاداة السامیة
3. التعریف بالأصول الیهودیة للإیمان المسیحی والتركیز علیها لدرجة تبدو فیها المسیحیة وكأنها إحدى الطوائف الیهودیة
4. العمل الإنسانی بین اللاجئین الیهود
5. مقاومة المواقف الیهودیة “المعتدلة” التی تسعى الى التفاوض بموجب مبدأ الأرض مقابل السلام
الصهیونیة المسیحیة فی میزان الكنائس الأمیركیة
تقول الكاتبة “هیلینه كوبان”: “قرأنا جمیعا التحلیلات الإخباریة التی تشیر الى ان أقوى دعم سیاسی حصل علیه أرییل شارون فی الولایات المتحدة الأمیركیة لم یكن من الطائفة الیهودیة الأمیركیة، ولكن من الجمعیات القویة للیمین المسیحی، هل هذا یعنی أن جمیع المسیحیین تقریبا فی الولایات المتحدة أصبحوا ضد المصالح الفلسطینیة والإسلامیة والعربیة؟ وهل یعنی هذا أن المجتمع الأمیركی على وشك أو تسیطر علیه الرغبة القویة لیحول مواجهة دولته مع المجتمع الإسلامی الى حملات صلیبیة عدائیة؟”
وتجیب الكاتبة على هذا التساؤل الذی هو حقا فی مكانه قائلة:”لحسن الحظ فإن الحالة داخل المجتمع الأمیركی لیست سیئة لهذا الحد. فمع ان جمعیات الیمین المسیحی قویة الا أنها لیست على وشك أن تسیطر على كل المجتمع الأمیركی ومن المفید ان نذكر هنا أن نسبة صغیرة فقط من المسیحیین الأمیركیین تدعم برنامج الشرق الأوسط للجمعیات التابعة للیمین المسیحی، غیر أن المشكلة تكمن فی أن الیمین المسیحی هو فی أفضل درجات التنظیم، وله تأثیر فعال فی العمل السیاسی بینما الطوائف والجمعیات المسیحیة غیر الیمینیة لیست بذات التنظیم الكبیر، لكن هذا الوضع یجب أن یتغیر”.
ما تقوله هیلینه كوبان هو عین الصواب. ففی الواقع تمثل الصهیونیة المسیحیة عددیا نسبة ضئیلة ما بین الكنائس الأمیركیة، لكنها نسبة فاعلة جدا، وتقود جماعات الصهیونیة المسیحیة جمعیات من المعمدانیین الجنوبیین (Southern Baptists)، هذا ویشكل المعمدانیون بمجملهم مع الكنائس الأخرى ذات التوجه الیمینی ولیس فقط المعمدانیون الجنوبیون نسبة تبلغ حوالی الستة عشر بالمئة فقط من السكان، أما الطوائف البروتستانتیة الأربع الكبیرة غیر المعمدانیة أی المثودیست واللوثریون والمشیخیون والأنغلیكان أو الأسقفیون فإنها تشكل نسبة خمسة عشر بالمئة من عدد السكان, ومن الأهمیة بمكان أن هذه الطوائف الأربع بالإضافة الى الكاثولیك والطوائف الأرثودوكسیة هی متعاطفة عموماً مع القضیة الفلسطینیة وجمیعها حتى كنیسة المیثودیست التی ینتمی الیها شكلاً الرئیس جورج دبلیو بوش قد أصدرت بیانات نددت فیها بالحرب على العراق ووصفتها بأنها حرب لا أخلاقیة ولا شرعیة ومدانة مسیحیا.
كیف نواجه الصهیونیة المسیحیة؟
إذا كانت الإدارة الأمیركیة الحالیة یطغى علیها الصهاینة والیهود، من أعلى مستویات السلطة الى العدیدین من المستشارین، وإذا كان الرئیس الأمیركی الحالی هو أكثر الرؤساء افتتاناً بالنظریات الرؤیویة للصهیونیین المسیحیین، وأكثر بكثیر مما كان علیه الرئیس جیمی كارتر والرئیس رونالد ریغان، فهل بات تصویب الأمور أمراً مستعصیاً؟ وهل الصهیونیة والصهیونیة المسیحیة قدر حتم علینا أن نتلقى ضرباته ونستسلم “لحق القوة” الذی ینتصر به على “قوة الحق”؟
كلا! وعلینا أن نقاوم. علینا أن نقاوم لأننا أصحاب حق ولأننا أبناء الحق والعدل والسلام. وكما ان المقاومة اللبنانیة الباسلة قد دحرت الآلة العسكریة الإسرائیلیة الجبارة علینا كل من موقعه أن یلتزم مقاومته! أجل ، كل منا، الدولة والأحزاب وهیئات المجتمع المدنی والكنائس و.. وهنا اسمحوا لی أیها الأعزاء أن أحدثكم باختصار شدید بما قام ویقوم به مجلس كنائس الشرق الأوسط للتصدی لمشكلة الصهیونیة عامة والصهیونیة المسیحیة خاصة.
أولاً: لقد وضع مجلس كنائس الشرق الأوسط فی أولى اهتماماته الإلتزام بالقضیة الفلسطینیة والصراع العربی الإسرائیلی والحوار الإسلامی المسیحی فی سبیل إنماء العیش المشترك لا بل العیش الواحد. وجمیع هذه المواضیع تصب فی خانة مواجهة الصهیونیة أكانت اسرائیلیة أم مسیحیة أم غیرذلك. وهكذا كثف مجلسنا، لا سیما فی السنوات الأخیرة، عمله بشكل استثنائی مع الفریق العربی للحوار الإسلامی المسیحی بإقامة الندوات المحلیة والإقلیمیة والدولیة لمعالجة آثار صهینة السیاسة العالمیة، وأذكر من هذه الندوات أهمها فقط:
• مسلمون ومسیحیون معاً من أجل القدس، حزیران (یونیو) 1996
• التراث الإبراهیمی والحوار الإسلامی المسیحی، تموز (یولیو) 1998
• العیش المشترك والتوترات الدینیة، آذار (مارس) 2000
• رفع الحصار المفروض على العراق، تشرین اول (أكتوبر) 2001
• مسلمون ومسیحیون معاً فی مواجهة التحدیات الراهنة، كانون أول (دیسمبر) 2002
هذا بالإضافة الى لقاءات وتحركات كتلك التی قمنا بها إبان إصدار القانون الأمیركی المتعلق بموضوع الإضطهاد الدینی وغیر ذلك، وحینها ذهبت الى الكونغرس لأشهد على عدم صحة ما تقوله الإدارة الأمیركیة من اضطهاد دینی فی الشرق الأوسط.
ثانیا: أما فی ما یتعلق بمواجهة الإعلام الصهیونی الذی یطغى على الإعلام الغربی، لا سیما فی قضیة الصراع العربی الإسرائیلی، فیحرف الحقائق ویكوّن رأیاً عاماً منحازاً لإسرائیل، فإن مجلس كنائس الشرق الأوسط یعمل عبر قنوات محددة یستطیع من خلالها مخاطبة الرأی العام الغربی ولو جزئیاً لتصحیح ما أمكن من ملامح الصورة المشوهة عن أبناء الشرق الأوسط والمسلمین والإسلام والعرب. هذه القنوات تتمثل بشكل رئیسی بشركاء مجلس كنائس الشرق الأوسط أی مجالس الكنیسة العالمیة والإقلیمیة والمحلیة.
وهكذا فقد تم تشكیل ما یسمى بمجموعات عمل حول الشرق الأوسط قمنا بها لكی تكون موازیة فی عملها للسفارة المسیحیة “الصهیونیة” فی القدس وذلك فی عدد من الولایات فی أمیركا الشمالیة، وتقوم هذه المجموعات باستقبال وفود عربیة، وبشكل خاص فلسطینیة لتسمع منها ما یجری حقیقةً على الساحة الشرق أوسطیة، كما قام أیضاً مجلسنا بدعوة وفود من معظم تلك المجالس الكنسیة لزیارة بلدان الشرق الأوسط للتعرف عن كثب على حقیقة واقعنا، وهكذا أصدرت تلك الوفود الغربیة بعد عودتها بیانات وجهتها لیس فقط الى أبناء كنائسها، بل أیضا الى جمیع مواطنیها، وتضمنت صورة مختلفة أقله جزئیاً عن تلك التی یحملها الرأی العام الغربی عما نحن علیه فعلا وعما نریده من حق وعدل وسلام. وكمثال عن هذه الوفود هناك خمسون أمیركیاً جاؤوا تقریبا منذ سبعة أشهر الى هنا، عدد كبیر منهم كانوا من الجماعة الإنجیلیة لا یعرفون أین هم مع الیمین المسیحی المتطرف أم المعتدل، هؤلاء بعد زیارتهم یوم كامل برعایة حزب الله فی ذلك الوقت وبعدما رأوا وسمعوا قالوا “هل نستطیع أن نبقى فی الجنوب لثلاثة أیام؟” وعادوا بفكر مختلف تماماً عما صور لهم قبل مجیئهم الى لبنان وقبل ذهابهم الى الجنوب.
أرید أن أقول البعض حذرهم لیس فقط من الذهاب الى الجنوب، بل المجیء الى لبنان، وأنهم قد یقومون بقتلهم لأنهم إرهابیون ومجرمون. هذه الصورة تغیرت. نحن نرید أشخاصاً هكذا لیعلموا الغیر ما یحدث فعلاً ویصححوا الصورة المشوهة.
أخیراً لا آخراً وفیما یتعلق بالصهیونیة المسیحیة بالذات، فلقد أدرك مجلس كنائس الشرق الأوسط تمام الإدراك خطورة هذا التیار لیس فقط على القضیة الفلسطینیة بل أیضا على العلاقات الإسلامیة المسیحیة، وعلى المسیحیین الشرقیین، وهكذا كان مجلسنا أول من أدان المؤتمر الصهیونی الذی عقدته السفارة المسیحیة فی نیسان (أبریل) من عام ألف وتسعمایة وخمسة وثمانین (1985)، والذی ذكرناه سابقاً ومما جاء فی بیان اللجنة التنفیذیة لمجلس كنائس الشرق الأوسط: “إننا ندین سوء استعمال الكتاب المقدس والتلاعب بمشاعر المسیحیین فی محاولة لتقدیس إنشاء دولة من الدول وتسویغ سیاسات حكوماتها”. وقد ألّف المجلس فریق عمل خاص بالصهیونیة المسیحیة، وأصدر فی العام ألف وتسعمایة وثمانیة وثمانین (1988) كتیباً باللغة الإنكلیزیة یعرف بهذا التیار ویفند مزاعمه ویفضح أطروحاته ویدین أهدافه المشبوهة. ولقد صدرت ترجمة هذا الكتیب الى العربیة فی العام واحد وتسعین (1991) وقد نفذت هذه الطبعة ونعمل على إصدارها من جدید.
خاتـمـة
ختاماً أود التاكید أمام حضرتكم على المسائل التالیة:
أولاً: إن ما یسمى بالصهیونیة المسیحیة لا یمت بصلة الى المسیحیة بجمیع كنائسها وطوائفها. إنها اقتناص للمسیحیة لوضعها رهینة فی خدمة مصالح الصهیونیة، وهی تشویه مشبوه الغایات لبعض ما جاء فی أسفار الكتب المقدسة.
ثانیا: إنها مؤامرة حیكت ضد المسیحیین عامةً فی العالم والمسیحیین العرب خاصة، فهی تضرب كل مشروع حواری ما بین المسیحیة والإسلام، وتبرر أطروحات صراع الحضارات والأدیان، ولا سیما المسیحیة والإسلام، وهی تستهدف ضرب العیش المشترك الإسلامی المسیحی فی دنیا العرب، ذلك العیش الذی مارسناه معاً وما زلنا بحلوه ومره منذ بدایة الإسلام وحتى أیامنا هذه وبدون انقطاع.
ثالثاً : إن هذا الأمر یطرح علینا جمیعاً تحدیا كبیرا وهو بناء الوعی الذی یمنع تزییف الدین واستخدامه فی تبریر سیاسات الظلم والعدوان أو إضفاء القدسیة على أحلام وأوهام مدمرة.
رابعاً: ولما كان منظمو هذه الندوة قد وضعوا لمحاضرتی هذه ،عنوان:”صهیو مسیحیة أو صهیو أمیركیة؟” فلعلنی بحدیثی هذا قد أجبت على هذا التساؤل، وإذا ما استعدت ما قلته ووضعته فی جملة أو جملتین، فإنی أقول الصهیونیة والمسیحیة نقیضان، كما العنصریة والاصطفاء والاستعمار والاستكبار والظلم على نقیض مع المحبة والتواضع والأخوة والعدل والحق والسلام. أما أن تستخدم الصهیونیة الأمیركیة المسیحیة قناعاً ووسیلة وتبریراً لمشاریعها فإن هذا الأمر حاصل للأسف الیوم فی أمیركا ویمكن لا سمح الله أن یحصل فی أی بلد آخر. الكلمة الفصل فیما یعنینا نحن المسیحیین هی قول السید المسیح”من ثمارهم تعرفونهم”.
خامساً وأخیراً : ولما كنا فی هذه الأیام العصیبة نعیش مأساة أهلنا فی العراق ونخشى أن تطال هذه المأساة شعوب منطقتنا، كما نخشى أن تعطى لهذا الصراع أبعاد لیست هی أبعاده الحقیقیة كالحرب الصلیبیة، أنوّه هنا بالتقدیر لجمیع قیادات بلدنا سیاسیین ودینیین الذی یعملون على تعمیق الوحدة الوطنیة والتضامن والتصدی لانحرافات محتملة قد تفسد وحدتنا وتضامننا، وأخص بتقدیری سماحة السید حسن نصرالله الأمین العام لحزب الله الذی قال منذ أیام امام عشرات آلاف اللبنانیین:”لنفتش عن شعار آخر لهذه الحرب الأمیركیة على العراق غیرالحرب الصلیبیة”.
أجل ، لنفتش معاً عن الشعارات الحقیقیة لهذه الحرب، التی كشفت الوقائع ظلمها، ولنعمل معاً لرد هجمة “حق القوة”، ولنصرة “قوة الحق”، وإن الله الذی هو على كل شیء قدیر لسمیع مجیب.
* الدكتور القس ریاض جرجور، الأمین العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط