جواب عن اعتراض من قال إنّ الغيبة ما بالها وقعت فيه عليه السلام دون من تقدمه؟
الشيخ الصدوق/ صاحب كتاب كمال الدين وتمام النعمة
قد يعترض معترض جاهل بآثار الحكمة، غافل عن مستقيم التدبير لأهل الملّة بأنْ يقول: ما بال الغيبة وقعت بصاحب زمانكم هذا دون من تقدّم من آبائه الأئمة بزعمكم، وقد نجد شيعة آل محمد عليهم السلام في زماننا هذا أحسن حالا وأرغد عيشا منهم في زمن بني أمية، إذ كانوا في ذلك الزمان مطالبين بالبراءة من أمير المؤمنين عليه السلام إلى غير ذلك من أحوال القتل والتشريد. وهم في هذا الحال وادعون سالمون، قد كثرت شيعتهم وتوافرت أنصارهم وظهرت كلمتهم بموالاة كبراء أهل الدولة لهم وذوي السلطان و النجدة منهم.
فأقول -وبالله التوفيق-: إن الجهل غير معدوم من ذوي الغفلة وأهل التكذيب والحيرة، لان ظهور حجج الله عليهم السلام واستتارهم جرى في وزن الحكمة حسب الامكان والتدبير لأهل الايمان، وإذا كان ذلك كذلك فليقل ذو والنظر والتمييز: إنّ الامر الآن -وإنْ كان الحال كما وصفت- أصعب والمحنة أشد مما تقدم من أزمنة الأئمة السالفة عليهم السلام وذلك أنّ الأئمة الماضية أسرّوا في جميع مقاماتهم إلى شيعتهم والقائلين بولايتهم والمائلين من الناس إليهم حتى تظاهر ذلك بين أعدائهم أنّ صاحب السيف هو الثاني عشر من الأئمة عليهم السلام وأنه عليه السلام لا يقوم حتى تجيء صيحة من السماء باسمه واسم أبيه والأنفس منيتة على نشر ما سمعت وإذاعة ما أحست فكان ذلك منتشرا بين شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند مخالفيهم من الطواغيت وغيرهم وعرفوا منزلة أئمّتهم من الصدق ومحلهم من العلم والفضل، وكانوا يتوقفون عن التسرّع إلى إتلافهم، ويتحامون القصد لإنزال المكروه بهم مع ما يلزم من حال التدبير في إيجاب ظهورهم، كذلك ليصل كل امرئ منهم إلى ما يستحقّه من هداية أو ضلالة كما قال الله تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) وقال الله عز وجل: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وهذا الزمان قد استوفى أهله كل إشارة من نص وآثار فتناهت بهم الأخبار واتّصلت بهم الآثار إلى أنّ صاحب هذا الزمان عليه السلام هو صاحب السيف، فلو كان صاحب هذا الزمان عليه السلام ظاهرا موجودا لنشر شيعته ذلك ولتعدّاهم إلى مخالفيهم بحسن ظن بعضهم بمن يدخل فيهم ويظهر الميل إليهم وفي أوقات الجدال بالدلالة على شخصه والإشارة إلى مكانه كفعل هشام بن الحكم مع الشامي وقد ناظره بحضرة الصادق عليه السلام فقال الشامي لهشام: من هذا الذي تشير إليه وتصفه بهذه الصفات؟ قال هشام: هو هذا وأشار بيده إلى الصادق عليه السلام فكان يكون ذلك منتشرا في مجالسهم كانتشاره بينهم مع إشارتهم إليه بوجود شخصه ونسبه ومكانه، ثم لم يكونوا حينئذ يمهلون ولا ينظرون، كفعل فرعون في قتل أولاد بني إسرائيل للذي قد كان ذاع منهم وانتشر بينهم من كون موسى عليه السلام بينهم وهلاك فرعون ومملكته على يديه، وكذلك كان فعل نمرود قبله في قتل أولاد رعيته وأهل مملكته في طلب إبراهيم عليه السلام زمان انتشار الخبر بوقت ولادته وكون هلاك نمرود وأهل مملكته ودينه على يديه، كذلك طاغية زمان وفاة الحسن بن علي عليهما السلام والد صاحب الزمان عليه السلام وطلب ولده والتوكيل بداره وحبس جواريه وانتظاره بهنّ وضع الحمل الذي كان بهنّ، فلو لا أنّ إرادتهم كانت ما ذكرنا من حال إبراهيم وموسى عليهما السلام لما كان ذلك منهم، وقد خلف عليه السلام أهله وولده وقد علموا من مذهبه ودينه أنْ لا يرث مع الولد والأبوين أحد إلاّ زوج أو زوجة، كلاما يتوهم غير هذا عاقل ولا فهم غير هذا مع ما وجب من التدبير والحكمة المستقيمة ببلوغ غاية المدّة في الظهور والاستتار، فإذا كان ذلك كذلك وقعت الغيبة فاستتر عنهم شخصه وضلّوا عن معرفة مكانه، ثم نشر ناشر من شيعته شيئا من أمره بما وصفناه وصاحبكم في حال الاستتار فوردت عادية من طاغوت الزمان أو صاحب فتنة من العوام تفحّص عما ورد من الاستتار وذكر من الاخبار فلم يجد حقيقة يشار إليها ولا شبهة يتعلق بها، انكسرت العادية و سكنت الفتنة وتراجعت الحميّة، فلا يكون حينئذ على شيعته ولا على شيء من أشيائهم لمخالفيهم متسلق ولا إلى اصطلامهم سبيل متعلق، وعند ذلك تخمد النائرة وترتدع العادية، فتظاهر أحوالهم عند الناظر في شأنهم، ويتضح للمتأمّل أمرهم، و يتحقق المؤمن المفكر في مذهبهم، فيلحق بأولياء الحجّة من كان في حيرة الجهل، وينكشف عنهم ران الظلمة عند مهلة التأمل بيناته وشواهد علاماته كحال اتّضاحه وانكشافه عند من يتأمل كتابنا هذا مريدا للنجاة، هاربا من سبل الضلالة، ملتحقا بمن سبقت لهم من الله الحسنى، فآثر على الضلالة الهدى.