فى یونیو من عام 1967 احتلت إسرائیل مدینة القدس. كان على رأس القوات الإسرائیلیة التى اقتحمت المدینة المقدسة الجنرال موشى دایان. وكان یرافقه فى دبابة القیادة القس الإنجیلى الأمریكى بات روبرتسون.
فى ذلك الیوم أعلن روبرتسون وهو یتفرج على عملیة تهدیم حى المغاربة المجاور للمسجد الأقصى، أن المعجزة الثانیة المتعلقة بسیناریو العودة الثانیة للمسیح قد تحققت. وأن علینا الآن العمل على تحقیق المعجزة الثالثة، وهى بناء الهیكل الیهودى على أنقاض المسجد الأقصى وفى موقعه. أما المعجزة الأولى فكانت قد تحققت بقیام إسرائیل فى عام 1948.
وفى عام 1980 ترشح القس روبرتسون للانتخابات الرئاسیة الأمریكیة. وكان یتطلع إلى العمل على تحقیق المعجزة الثالثة. ولكنه تعثر فى الطریق إلى البیت الأبیض. وكان الفوز من نصیب الرئیس رونالد ریجان.
لم یكن ریجان أقل شغفا بسیناریو نهایة الزمن، الذى یبدأ بمعركة أرمجیدون الماحقة، ثم بعودة المسیح المخلص، الذى یحكم العالم مدة ألف عام یسود خلالها السلام والأمن والعدل. ولذلك كان ریجان یقول إنه یتمنى أن یكرمه الله بالضغط على الزر النووى حتى تقع أرمجیدون، ویكون له بالتالى شرف المساهمة بتحقیق أحد أهم شروط هذه العودة المنتظرة.
بعد إعادة المیاه إلى مجاریها بین ریجان وبات روبرتسون، فتح الرئیس الأمریكى الأسبق أمام روبرتسون بوابة مجلس الأمن القومى الأمریكى. فصار تقلیدا معتمدا أن یدعى روبرتسون ـ ثم أى إنجیلى من مدرسته (جیرى فولویل الذى توفى أخیرا) ـ إلى المشاركة فى اجتماعات المجلس عندما یدعى لبحث أى قضیة تتعلق بالشرق الأوسط، وذلك حتى یأتى القرار متوافقا مع النبوءات التوراتیة، خصوصا تلك الواردة فى سفر الرؤیا حول عودة المسیح ونهایة الزمن.
ویعترف فولویل بأن حرب 1967كانت بدایة التحوّل فى عمله الدینى ـ السیاسى. فقد اعتبر الانتصار الإسرائیلى السریع والحاسم على العرب تجسیدا للإرادة الإلهیة. وأنه ما كان لیكون لا بقوة ذاتیة ولا بدعم أمریكى، ولكن بتدخل إلهى. ومنذ ذلك الوقت تفرّغ للعمل فى الولایات المتحدة لمصلحة إسرائیل فى الكونجرس وفى البیت الأبیض خصوصا فى الحزب الجمهورى الأمریكى.
فى الواحد والعشرین من شهر أغسطس عام 1969، أى بعد مرور عامین فقط على احتلال القدس، امتدت ید الإجرام الصهیونیة إلى المسجد الأقصى وأشعلت فیه النار. وقد أتى الحریق على 1500 متر مربع من أصل 4400 متر مربع هى مساحة المسجد الإجمالیة، ودمّر الحریق كذلك منبر صلاح الدین الأیوبى ومسجد عمر ومحراب زكریا، ومقام الأربعین،
وثلاثة أروقة من الأعمدة والأقواس والسقف وأجزاء من القبة الخشبیة الداخلیة و48 شباكا مصنوعا من الجص والزجاج الملون والسجاد وسورة الإسراء المصنوعة من الفسیفساء. كان الهدف من وراء تلك العملیة تدمیر الأقصى.. لم تكن تلك هى المحاولة الأولى ولن تكون الأخیرة.
فقد جرت عدة محاولات قبل ذلك، منها محاولة تزنیر المسجد بالمتفجرات ونسفه. ومنها محاولة قصفه بالقنابل المحرقة والمدمرة من الجو. ولم تفشل هذه المحاولات إلا بعد افتضاحها. والذین یقومون بها لیسوا یهودا فقط. فالذى أحرق المسجد الأقصى لم یكن یهودیا. كان صهیونیا مهاجرا من أسترالیا من أعضاء حركة الصهیونیة المسیحانیة التى تعتبر قیام إسرائیل واحتلال القدس وبناء هیكل یهودى على أنقاض المسجد الأقصى شروطا لازمة للعودة الثانیة للمسیح.
وتمویل تلك المحاولات لم یكن تمویلا إسرائیلیا. بل كان مصدره هذه الحركة المسیحانیة الصهیونیة. حتى شراء العقارات فى القدس وحولها اعتبر منذ 1967 أولویة مقدسة لدى هذه الحركة.
كذلك لم یكن اختیار شهر أغسطس من ذلك العام مصادفة. ففى التاسع من شهر أغسطس من عام 586 قبل المیلاد سقطت مملكة یهوذا بید نبوخذ نصر ملك بابل؛ فأحرق جیشه مدینة القدس وهدم الهیكل الیهودى وسبى الیهود إلى بابل، إلى أن أعادهم إلیها بعد 70 عاما قورش ملك الفرس.
وفى التاسع من شهر أغسطس أیضا من عام 70 بعد المیلاد، انتقم الرومان من الیهود وأعادوا تدمیر الهیكل، وقد دام الحكم الرومانى على فلسطین 700 عام إلى أن حرّرها العرب المسلمون فى عام 637 میلادیة.
لذلك تشكل ذكرى التاسع من أغسطس من كل عام مناسبة دینیة حیث یتجمّع الیهود أمام حائط المبكى، الذى یعتقدون أنه الجزء الوحید المتبقّى من الهیكل بعد تدمیره الثانى. وهناك یجددون العهد بإعادة بناء الهیكل على أنقاض المسجد الأقصى.
ففى شهر أغسطس من عام 1897 عُقد فى مدینة بال بسویسرا المؤتمر الصهیونى الأول بدعوة من تیودور هرتزل. كان مؤتمرا للیهود الصهاینة. وفى عام 1985، أى بعد 88 عاما، عُقد فى نفس المدینة السویسریة بازل، وفى الفندق ذاته، وفى القاعة ذاتها من الفندق، وفى الشهر ذاته أیضا، مؤتمر صهیونى من نوع آخر ضم الكنائس الإنجیلیة المتصهینة التى تعتبر قیام «صهیون» أمرا تمهیدیا لابد منه للعودة الثانیة للمسیح.
وجه الدعوة إلى «المؤتمر الصهیونى المسیحانى» الدكتور دوجلاس یونج مدیر المعهد الأمریكى لدراسات الأرض المقدسة. وترأسه الدكتور فان دیرهوفین رئیس الكنیسة الإنجیلیة الهولندیة. وحضر المؤتمر التأسیسى 589 شخصیة دینیة من الولایات المتحدة وأوروبا، ومن كنائس مماثلة فى دول أفریقیة وآسیویة أخرى بلغ عددها 27 دولة.
ومنذ ذلك الوقت یُعقد مؤتمران فى شهر أغسطس من كل عام، الأول للحركة الصهیونیة ــ الیهودیة استكمالا لمسیرة المؤتمر الأول الذى نظمه هرتزل، والثانى للحركة الصهیونیة المسیحیة الذى أعدّه دوجلاس یونج.
انبثقت عن مؤتمر 1985 منظمة جدیدة تحمل اسم «السفارة المسیحیة الدولیة من أجل القدس». ومهمتها توظیف النفوذ المعنوى والمادى من أجل تمكین المؤسسة الجدیدة من تحقیق النبوءات التوراتیة المتعلقة بظروف العودة الثانیة للمسیح وأهمها تثبیت أقدام الدولة الصهیونیة وتجمیع بقیة الیهود فیها بعد ضمّ كل الأرض التى وعدهم الله بها (!)، وبناء الهیكل الیهودى على أنقاض المسجد الأقصى حتى یظهر المسیح فیهم للمرة الثانیة وفقا لما تقوله النبوءات التوراتیة التى یؤمنون بها.
وقد عملت السفارة المسیحیة الدولیة على تحقیق معظم الأهداف التى أعلنتها فى عام 1985، ومن أبرزها نقل یهود الاتحاد السوفییتى السابق إلى إسرائیل، وإنهاء المقاطعة ضد المصالح الإسرائیلیة، والضغط على دول أوروبا الشرقیة والوسطى لتطبیع علاقاتها مع إسرائیل، ودعوة العالم إلى الاعتراف بالقدس عاصمة أبدیة موحدة لإسرائیل. وقد لعبت هذه المنظمة الدور الأبرز فى استصدار القرار الأول عن مجلس الكونجرس الأمریكى (الشیوخ والنواب) فى أبریل 1990، الذى نص على دعوة الإدارة الأمریكیة إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائیل، ثم باستصدار القرار الثانى فى عام 1995 بنقل مقر السفارة الأمریكیة من تل أبیب إلى القدس.
صحیح أن الكنیسة الكاثولیكیة، والكنیسة الأرثوذكسیة، وكذلك العدید من الكنائس الإنجیلیة الأمریكیة تعارض عملیات التهوید العقدى والسیاسى وتعتبرها تشویها للمسیحیة الحقیقیة وتضلیلا للمسیحیین المؤمنین، إلا أن الصحیح فى الوقت نفسه أن الدور السیاسى الذى تقوم به منظمة السفارة المسیحیة الدولیة باختطاف المسیحیة وسوء استغلال اسمها وشعاراتها، یكاد یصبح الدور الأهم فى التأثیر على صیاغة القرار الأمریكى من قضایا الشرق الأوسط والصراع العربى ـ الإسرائیلى.
والسؤال الآن: ماذا فعل، بالمقابل، العرب والمسلمون بعد سقوط القدس فى یونیو 1967؟
فى عام 1979، أى بعد عشر سنوات من حریق المسجد الأقصى، شكلت منظمة المؤتمر الإسلامى لجنة خاصة لوضع استراتیجیة مشتركة لتحریر القدس. وبعد ثلاثین عاما على تشكیلها، لابد من التساؤل عما حققته هذه اللجنة حتى الآن؟ فالجواب الذى لا یحتاج إلى عناء بحث وتفكیر هو: لا شىء.
ولكن بالمقارنة، تأسست فى واشنطن «مؤسسة معبد القدس» برئاسة رایزنهوف نفسه رئیس منظمة السفارة المسیحیة الدولیة مهمتها جمع التبرعات والمساهمات المالیة لتدمیر الأقصى وبناء الهیكل. وأنشأت هذه المؤسسة فى مدینة القدس القدیمة معهدا خاصا باسم «یاشیف اتیریت كوهانیم» أى معهد تاج الحاخامیین لإعداد الكهنة الذین سیخدمون فى الهیكل الثالث بعد بنائه بما فى ذلك مناسك التضحیة بالحیوان.
كما موّلت عملیة تجرى منذ سنوات لاختیار حجارة البناء وصقلها وتجمیعها فى موقع خاص إلى أن تحین ساعة الصفر. وساعة الصفر، هى تدمیر المسجد الأقصى.
وفى كتابه «The Last Great Planet Earth» یقول القس هول لیندسى مؤلف الكتاب، وهو من كبار منظرى الحركة الصهیونیة المسیحیة: «لم یبق سوى حدث واحد لیكتمل المسرح تماما أمام دور إسرائیل فى المشهد العظیم الأخیر من مأساتها التاریخیة. وهو إعادة بناء الهیكل القدیم فى موقعه القدیم. ولا یوجد سوى مكان واحد یمكن بناء الهیكل علیه استنادا إلى قانون موسى فى جبل موریا حیث شید الهیكلان السابقان».
لقد وضع المهندس الیهودى «ایفى یوناه» تصمیم الهیكل الثالث على أساس إقامته فى موقع المسجد. وأقرّت التصمیم الحاخامیة فى إسرائیل والدیاسبورا. كما أقرّته المنظمات الیهودیة المختلفة. یبقى تهدیم وإزالة المسجد الأقصى.
فالقرار بالتهدیم اتُخذ منذ عقود، أما التنفیذ فإنه یتم تدریجیا وعلى مراحل بمعولین: معول التطرف الدینى الصهیونى الیهودى والإنجیلى الأمریكى معا، ومعول الخنوع العربى والإسلامى. ولاشك فى أن المعول الثانى أشد خطرا على المسجد وأكثر فاعلیة فى مخطط تدمیره.
من هنا فان إنقاذ المسجد الأقصى، وبالتالى إنقاذ القدس، وفلسطین عامة یتطلب وعیا عربیا إسلامیا حقیقیا، وتعاونا إسلامیا ــ مسیحیا عالمیا حقیقیا أیضا حتى تتحرر القدس من دنس الاحتلال وحتى تستعید دورها عاصمة للسلام والإخاء بین المؤمنین جمیعا.
یُعرف عن دیفید بن جوریون أول رئیس حكومة لإسرائیل شعاره «لا إسرائیل بدون القدس، ولا قدس بدون الهیكل». أما الردّ العربى الإسلامى فیجب أن یكون: «لا أقصى بدون القدس، ولا قدس بدون فلسطین».
محمد السماک