زينب الكبرى، عليها السلام، مفسرة معنى الحياة

اسماعیل شفيعي سروستاني
إن نهاية قضية الإمام الحسين، عليه السلام، هي بداية لحضور بارع ورائع للسيدة الوحيدة التي يبدو أن مجمل مشهد عاشوراء كان قد حدث لكي تضطلع بدور، وإن النموذج الأزلي والمثال الأبدي الذي صنع في ظهر عاشوراء، كان سيبقى ناقصا من دون زينب، عليها السلام. وحقا أن قصة كربلاء لما كانت أن تكتمل من دون اضطلاعها بدور.

إن نهاية قضية الإمام الحسين، عليه السلام، هي بداية لحضور بارع ورائع للسيدة الوحيدة التي يبدو أن مجمل مشهد عاشوراء كان قد حدث لكي تضطلع بدور، وإن النموذج الأزلي والمثال الأبدي الذي صنع في ظهر عاشوراء، كان سيبقى ناقصا من دون زينب، عليها السلام. وحقا أن قصة كربلاء لما كانت أن تكتمل من دون اضطلاعها بدور.
إن بداية حضور زينب، عليها السلام، هي نهاية قتال الحسين، عليه السلام، نهاية وقت تصدي رجل للموت الأحمر، لكي تنبثق من بعده، آداب وتقاليد جديدة وتبدأ سُنة جديدة، تلك التي تولت زينب، عليها السلام، كلها.
وعندما انقشع الغبار عن ساحة القتال، وخمدت طبول الحرب، نهضت زينب، عليها السلام، لتؤسس لسُنة كانت لتربط الحسين، عليه السلام، وكل الدور الذي اضطلع به بالأبدية.
إن زينب، عليها السلام، بنت علي، عليه السلام، والتي ترعرت ونشأت في بيت فاطمة، عليها السلام، وتربت في حضن أم، قامت في زمن الإضطراب ومآسي الدهر، واختلاط الحق بالباطل، لتلقي خطبة ذودا عن الحقيقة، خطبة بليغة، مازال يُسمع دويها في زوايا مسجد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا في عصر عاشوراء عندما كانت الشمس في طريقها إلى المغيب وكان الحسين،عليه السلام، مضرجا بدمه، وجدت زينب فجأة أنها يجب أن تكون مسؤولة أمام كل ما سيحدث من الآن فصاعدا.
وحتى قبل هذا، كانت ترى أن الحسين، عليه السلام، بجانبها والأبناء الذين كانوا يواجهون الخصم ببسالة وبسيوف سليلة، لكن لم يكن بعد ذلك ثمة رجل في الميدان للتعويل عليه في اجتياز ساحة “كربلاء”. لذلك، تبدأ الحركة الحزينة والشجاعة في نفس الوقت لزينب، عليها السلام” بمفردها، مع حشد ممن واجهوا مصائب ومآسي، والذين عينهم على سواعد زينب، عليها السلام.
وأصبح لا بد لزينب، عليها السلام، أن تفسر معنى الحياة، ومن ثم المعنى الهائل للموت الذي تصدى لهم الحسين، عليه السلام، كليا.
وكانت بنت فاطمة، عليها السلام، قد سلكت الطريق ذاته الذي سلكه الحسين، عليه السلام، لكي تصل على امتداد الحياة إلى مكة ومن مكة إلى “صحراء كربلاء”، وكان أمامها الآن، بعد الحسين، عليه السلام، دليل واحد، دليل الحرية والأصالة والكرامة، ذلك الإنسان الذي كانت تنظر إليه طيلة حياتها بنظرة سامية وكانت تكن له كل المحبة والتقدير، واشترطت في صداقها للزواج من جعفر أن تكون معه وبجانبه.
وكانت زينب الكبرى، عليها السلام، مضطرة لمواصلة الطريق الذي كان الحسين، عليه السلام، قد بدأه. وكانت تسلك هذا الطريق مع مخزون من الصعاب لكي تحفظ ذكرى الحسين، عليه السلام، وتحمي ذويه الذين يطيقون اليوم ضربات السياط.
وتنبلج زهرة الحياة من شجرة الموت المثمرة، وكانت زينب، عليها السلام، تتولى تفسيرها، لكن ما يتربص على الدوام بهذا التفسير الكبير للحياة والمعنى الهائل للموت الأحمر للحسين، عليه السلام، هو التحريف الذي يمارسه أبناء الشيطان بالتبني، وكان على زينب، عليها السلام، ورغم كل الصعاب والشدائد، صيانة ذلك التفسير، وأن تكون مبلغة ومبينة أمينة، خلال سلوك مسار كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام، لتحول دون أن تبدو حركة الحسين، عليه السلام، وكأنها قد انكسرت.
***
وتنطلق القافلة من دون أمير. وترتدي زينب، عليها السلام، ثياب الهمة والعزيمة، فتنهض. وتجمع بقايا قافلة “كربلاء” فتنطلق مع الثكالى والمحزونين إلى تلك المدينة التي كانت تعرف فيها حتى قبل هذا ببنت أمير المؤمنين، عليه السلام، وخليفة المسلمين. ودخلت مضطرة ميدان، كان المتفرجون فيه يتوقعون رؤية أسرى، لكنها خلقت دورا أبهرت وأدهشت من خلاله  الجميع.
وبعكس ما كان يتوقعه المتفرجون المتسلقون الذين تمسكوا في غفلة تامة، بالحياة العارية عن أي مغزى. ولم يكن لكلام زينب، عليها السلام، أي نسبة مع حياة أهالي الكوفة وأولئك الذين يبتغون حياة الكوفيين ألى أبد الآباد. وربما كانت تفكر مع نفسها:
هل هنا، تلك الكوفة التي كنت أعيش فيها مع أبي؟ وهؤلاء هم نفس الأناس الذين قتلوا حسينا ويقفون الآن للتفرج على أسرته المسبية؟
وأطلت زينب، عليها السلام، برأسها من المحمل متوجهة إلى جاهلي حقيقة الموت والحياة، وقد مزقت بخطبتها هذه كل ستائر وحُجب وهم أهل الكوفة وخاطبتهم بعد الحمد لله والثناء عليه وكأن الصوت ينبعث من حنجرة علي، عليه السلام، قائلة “يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر… “. لتهز بذلك المتفرجين الجهلة. وكان هذا أول خطاب للعقيلة زينب، عليها السلام، التي مزق كلامها الستائر التي كانت تغطي الحياة العفنة والقذرة والمليئة بالغدر والمكر والحيلة لهؤلاء القوم، وقالت فيهم:
“أتبكون ؟! فلا رَقَأت الدمعة، ولا قُطعت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نَقَضَت غزلها من بعد قوة أنكاثًا… “.
إن ما كان أهل الكوفة يطلقون عليه حياة، لم تكن سوى قطعة سجاد حيكت بلحمة المكر وسدى الختل والغدر. وهنا تولى الشيطان زخرفة هذه الحياة العفنة، لكي يحطم المتبجحون البعيدون كل البعد عن المروة والشهامة، الجدران التي تحيط بهم، بحيث قالت فيهم السيدة زينب، عليها السلام:
“ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله صلى الله عليه وآله فريتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم …”.
إنهم لم يكونوا ليعرفوا أن ما تنعموا وآباؤهم به كان من شجرة محمد (ص) وأبنائه الكرام.
وأجهش أهل الكوفة بالبكاء والنحيب، ومع كلام زينب، عليها السلام، وصل صوت الموت الدامي للحسين، عليه السلام إلى الكوفة.
فقد أتت، زينب، عليها السلام، بخطبتها، بأهل الكوفة إلى محكمة بوسعة مدينة، لتدينهم وتوعدهم بمحكمة أكبر، يكون الله تعالى قاضيها.
ولا يمكن التعويض عن الدم الذي يراق، لكن زينب، عليها السلام، تبحث عن حياة خاصة تقام أعمدتها على أساس هذه الدماء. ويفهم قادة جيش عبيد الله، بان الحرب الرئيسية قد بدأت للتو. وكانوا حتى تلك الفترة يظنون أنه مع قتل الحسين، عليه السلام، فان القضية ستنتهي، لكنهم وجدوا الآن بان دماء الحسين، عليه السلام، تغلي وتسير كالموج الهادر لتغرق كل أهل الختل والغدر والمكر.
لقد كان صوت زينب، عليها السلام، صوت دم الحسين، عليه السلام. وكان حسين آخر قد دخل الميدان، بجهوزية تامة وعتاد تام. الحسين الذي يظهر نفسه في جسم زينب، عليها السلام.
وكانت مجمل نهضة عاشوراء مقدمة لكي تتوجه زينب، عليها السلام، إلى الميدان لترسخ العهد والميثاق.
ويقوم جيش “الشام” بتوجيه القافلة المنهكة عبر الطرق غير السالكة، عسى أن يتيه صوت زينب، عليها السلام، في البرابري والصحاري وألا يصل إلى أسماع الناس، لكن زينب، عليها السلام، أغرقت بحماستها، بلاط عبيدالله ويزيد بالدماء التي سالت عن الإمام الحسين، عليه السلام، وكلامها البديع، بحيث لم تبق أي حجة للخصم.
وانتزعت زينب، عليها السلام، كل الوسائل والأدوات من العدو لكي تغلق كل طرق التحريف والتزوير وكان هذا كلامها الأخير الذي نزل على يزيد كالصاعقة:
“… فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد!!… فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة…”.
ومن هنا يمكن فهم، أنه عندما بدأ الامام الحسين، عليه السلام، حركته باتجاه “كربلاء” كانت زينب،عليها السلام، معه لتكون شاهدا على دمه وتكرم ببساله دمه وتهدم بكلامها وحضورها، صرح اليزيديين المهتز أصلا، وتنتزع منهم الراحة والاستقرار.
لقد جاءت لتضفي المعنى الحقيقي على مجمل الحياة ولكل وجود الإنسان في مشهد الحياة، ولتحرر الإنسان من شرك مكر إبليس، لقد جاءت لتكون مُفسرة لمعنى الحياة.
يتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

شاهد أيضاً

من قمة عاشوراء إلى بحر الظهور

اسماعیل شفيعي سروستاني وعندما تنقضي أربعينية شهادة الحسين بن علي، عليهما السلام، وأبنائه وأصحابه الميامين، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.