اسماعيل شفيعي سروستاني
يقول “رينه دونان” المعلق والباحث الفرنسي حول إرساء الرياضة الحديثة في الغرب:
يرى الجميع ويؤمن ويثق تقريبا اليوم بأن “يان” مدرب الجمباز الكبير في المانيا، هو من أسس للرياضات البدنية في أوروبا ما بعد عصر النهضة. وبعد “يان” جاء “نات كن” أحد مواطني الدنمارك وكان تلميذا لدى “ماوتس” الألماني، وبدأ تأسيس الرياضات الحديثة في مدينة كوبنهاغن الدنماركية. وبعده جاء “بير هنريك لينغ” السويدي الذي كان تلميذا أيضا لدى “نات”، وأعاد النظر في مسالة الجمباز… وأضاف المصارعة ورفع الأثقال إلى قائمة الرياضات. وأسس لينغ المؤسسة المركزية للجمباز في استكهولم عام 1813 ليتحقق بذلك حلم “يان”.
اسماعيل شفيعي سروستاني
يقول “رينه دونان” المعلق والباحث الفرنسي حول إرساء الرياضة الحديثة في الغرب:
يرى الجميع ويؤمن ويثق تقريبا اليوم بأن “يان” مدرب الجمباز الكبير في المانيا، هو من أسس للرياضات البدنية في أوروبا ما بعد عصر النهضة. وبعد “يان” جاء “نات كن” أحد مواطني الدنمارك وكان تلميذا لدى “ماوتس” الألماني، وبدأ تأسيس الرياضات الحديثة في مدينة كوبنهاغن الدنماركية. وبعده جاء “بير هنريك لينغ” السويدي الذي كان تلميذا أيضا لدى “نات”، وأعاد النظر في مسالة الجمباز… وأضاف المصارعة ورفع الأثقال إلى قائمة الرياضات. وأسس لينغ المؤسسة المركزية للجمباز في استكهولم عام 1813 ليتحقق بذلك حلم “يان”.
وهذا الكاتب يعرض صورة عن الوضع العام للشباب في مطلع القرن التاسع عشر. الوضع الذي مهد للإقبال على الرياضات الحديثة.
في عام 1800، طال فساد غريب، المدارس المتوسطة البريطانية. فساد بكل معنى الكلمة، فقد شهدت هذه المدارس رواج شرب الخمر ولعب القمار والأنواع الأخرى من المفاسد بشدة. وعلى الرغم من أن “لينكسي” أحد رجال الدين البريطانيين دخل الساحة بفلسفة “المسيحية العضلانية” أي التعليم الديني عن طريق التربية الصحيحة، لكن التطور الأساسي في شؤون التربية البدنية والتعليمات الأساسية، كان مدينا ل “توماس ارنولد”.
وكان أرنولد أول من استحدث الساحات الرياضية في المدارس و شجع التلامذة الذين كانوا غارقين ومنغمسين في براثن الفساد الأخلاقي على ممارسة الرياضة، وترك لهم الحرية في تنظيم المسابقات الرياضية.
ويقول رينه دونان:
إن التربية البدنية التي كان يُدرّسها أرنولد لتلامذته لم تكن من نوع التدريس الذي كان يمارسه “يان” ولا من نوع نظريات “لينغ”. إنه لم يكن مهتما لا بالتربية الألمانية القاسية ولا بالحركات الشديدة والمتكررة السويدية، بل:
إنه ركز جل اهتمامه في الرياضة على أن تكون الرياضة مجرد لعب. يجب اللعب. ويجب ممارسة الترفيه والتسلية ولم يكن يعرف عن الرياضة سوى ذلك.
وإن أردنا اعطاء تعريف عن طبيعة الرياضات الحديثة، لا يمكن القول أكثر مما نقله رينه دونان عن أرنولد. لأنه جوهرها هو اللعب. ذلك الشئ الذي كان يبحث عنه أصلا شعب الرومان القديم وسكان أوروبا ما بعد عصر النهضة.
وتولى أرنولد عام 1828، مسؤولية إدارة مدرسة الرغبي ببريطانيا وألف كتابا حول تاريخ التعليم والتربية عام 1842.
ووضع ارنولد طرقا جديدة أمام البريطانيين. ورغم أن فكره وتطبيقه لقيا احتجاجا وانتقدهما كل فريق حسب رايه، لكن ما كان ارنولد قد أسس له، سرعان ما أصبح السائد في زمانه.
ويكتب رينه دونان في هذا الخصوص:
دخل القساوسة باسم الذود عن تجرد الروح والأطباء باسم مواجهة الخطر الذي يتهدد الجسم ومدربو التعليم والتربية باسم حقوق الإنسان ومن أن الرياضة هي آفة الذكاء والمعرفة والصحفيون باسم انقاذ الأطفال من الخطر الذي يتهددهم، في خلاف ومعارضة مع أرنولد. ومع ذلك، كانت الرياضة (اللعب) تنمو في بريطانيا سريعا. على سبيل المثال، يجب الإتيان على ذكر الرغبي التي اجتازت المحيطات ووصلت إلى المستعمرات البريطانية وسافرت في النهاية إلى أمريكا.
وكان هربرت اسبنسر الليبرالي والمثقف الأوروبي وأحد مفسري مبدأ البقاء للأصلح لداروين [ذلك المبدأ الذي ينص على أن معاناة المعاقين والجهلاء والكسالى والضعفاء، ليست يستحقها هؤلاء فحسب بل هي جزء من الثمن الذي يجب أن تدفعه البشرية من أجل التقدم] في أواسط هذا القرن أحد المدافعين المتصلبين عن التعليم والتربية تأسيسا على التربية البدنية.
ويقول “غوستن ماير” المعلق والباحث الرياضي حول الأسس النظرية للرياضة الحديثة:
إن هربرت اسبنسر البريطاني كان في الحقيقة قد أثرى عام 1859 المبادئ النظرية للتربية البدنية بما فيه الكفاية من خلال فلسفته.
لكن الأمريكيين وكما يقول رينه دونان، تحركوا أبطأ من سائر الشعوب في هذا المجال:
على الرغم من أن “هوراس من” بذل عام 1825 جهودا جمة لبناء منظومة جديدة للتعليم والتربية في أمريكا، ورغم أنه فتح طريقا جديدا في نظام التعليم والتربية في أمريكا، لكن الأمريكيين لم يعروا اهتماما يذكر لقضية الرياضة إلى أن انتبهوا عام 1860 شيئا فشيئا إلى دور الرياضة في التعليم والتربية.
“كوبرتان” مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة
يرتبط اسم البارون بيير دي كوبرتان باسم الرياضة الحديثة للعالم. وقد ابصر كوبرتان النور في باريس عام 1863 للميلاد. ويعتبر مؤسس الجولة الجديدة من الألعاب الأولمبية في هيئة البرجوازية الصغيرة. وانخرط سريعا في الصف الأمامي لنضال سعى فيه لادخال حركات التربية البدنية في المناهج الدراسية للشبان.
وتعلم كوبرتان النظريات القديمة في بريطانيا. ويقول غوستن ماير بشانه:
وكان كوبرتان مهتما بقوة بالموضوعات الأساسية الثلاثة التالية:
1- التربية البدنية على أساس الاسلوب الانجليزي، تشكل في الحقيقة الحجر الأساس لعظمة الامم، وفي ظل هذه التربية، افلح البريطانيون في الحفاظ على تفوقهم وسيادتهم؛
2- المقررات الجافة للتعليمات العسكرية والتعليمات الرياضية العسكرية لجعل الشباب، محب للرياضة؛
3- يجب ان تصبح الرياضات مطلبا دوليا قبل ان تتحول إلى العالمية، اي انه يجب بداية تنظيمها على أساس مبادئ دولية ومن ثم ترويجها.
وحينما اراد كوبرتان ادخال إصلاحات على الرياضة، كانت تمر عدة قرون على الأمر الذي اصدره كبير اساقفة ميلان “تيودورسيس” والذي اعتبر فيه ان الرياضات الأولمبية اليونانية، مشوبة بالشرك واوعز بتعطيلها، وبعده، لم يتم ايلاء اهمية تذكر لهذا النوع من الرياضات التي كان يشكل “تفوق الجسم” جوهرها، حتى عصر النهضة. وفي اواخر هذا القرن، وجد كوبرتان ان الظروف مؤاتية لتطبيق الفقرة الثالثة من فكرته اي تنظيم الألعاب في سياق مجموعة حديثة ومنتظمة، وقرر ما يلي:
اني ارى بأن الألعاب الأولمبية يجب ان تتزاوج مع الحياة العادية لشعوب العالم، ولا يجب ان تكون حبيسة سلسلة من القوانين المحدودة والمتعلقة بالامس.
وبناء على ذلك وفي إحدى ليالي نوفمبر 1892، طرح فكرة احياء هذا التقليد المنسي في المدرج اليوناني لجامعة السوربون، وحتى انه تولى نفقاته الأولية وسعى من خلال طرح شعار “اعلى من الجميع، اسرع من الجميع واقوى من الجميع” لتطبيق نظرية الصراع من أجل البقاء لهربرت اسبنسر والتي كانت قد وضعت قبله ودخلت الموضوعات الاجتماعية ومنظومة داروين النظرية في علم الاحياء، وإقامة الألعاب الحديثة لاحياء القيمة التربوية العريقة التي كانت في الحقيقة “انبعات العهد القديم. لذلك فانه اعلن في الجمعية الأولى للرياضات الاطلنطية بفرنسا:
… يجب القيام بعمل يعتبر الأبطال وكما كان سائدا في اليونان القديمة، بأنهم نصف الله.
وفي يونيو 1894، تشكل مؤتمر احياء الألعاب الأولمبية بدعوة من كوبرتان وتم خلاله والاسابيع التي تلته، تحديد وتشخيص الشكل الأساسي ومبادئ الأولمبياد الحديث.
ويجب معرفة انه قبل هذا، كان يطلق على جميع الرياضات الحديثة اسم “اتليتيسم”. ويقول كوبرتان في هذا الخصوص:
يكفي ان نستخدم مفردة “اسبور” بدلا من مفردة “اتليتيسم”.
وكان كوبرتان على علم بأنه على الرغم من ان “الرياضة” و “التربية البدنية” اليونانية مبنية على الثقافة الاغريقية، لكنها كانت تحمل في طياتها مفهوم “الاساطير اليونانية” مع صبغة اقل من الرؤية الاساطيرية، ورغم كونها مشوبة بالشرك، فانها كانت تنطوي على صوره من القناعات المتلعقة بالقوى فوق البشرية. تلك التي كانت قد تجلت في عصر غلبة الثقافة المسيحية على هيئة سلك الفرسان والقائمين على الشهامة والبطولة. لكن التاريخ الحديث للغرب وتمشيا مع عصر النهضة، لم يكن يطيق ايا من الحالات السابقة. سواء حالة الفرسان المسيحيين او حالة النصف الالهي الاغريقي.
وكانت مفردة “Athlet” اي الرياضي البطل و “Athletic” بمعنى “البطولي” لم تحظ بالقبول ازاء ما كان كوبرتان يرسي أساسه. لذلك فانه كان بحاجة إلى مفردة شاملة تعكس مجمل معنى ومفهوم العمليات الرياضية الحديثة وكانت مفردة “Sport” يمكن ان تكون مناسبة لذلك. وكما سنتحدث لاحقا عن الأساس النظري لهذه الرياضة، فإن “Sport” كانت تعني في الوقت ذاته المزاح واللهو واللعب والتسلية والألعوبة والاستعراض وكانت مفردة Sporting تطلق على الشخص المحب للتسلية والمحب للعب. كما ان لفظة “اللعب” التي تستخدم اليوم كبادئة للفنون الرياضية الحديثة، كانت تنطوي على اصح مفهوم ومعنى وبعبارة أخرى ثقافة هذه المجموعة من العمليات الرياضية. لأن الإنسان الحديث، كان في العصر الذي ارسى فيه كوبرتان أساس الرياضة، يبحث عن الغرائز الإنسانية واللعب والتسلية والترفيه. وكل ما كان يحب، كان يحرره من قيود التفكير وقلق الروح وهواجس الحياة. انه كان يعلم جيدا بأن Sport هي تجسيد لضرب من الثقافة التي كان يمكن ان يساهم نشرها في توطيد وترسيخ الأسس الأخلاقية والثقافية للعصر الحديث. بحيث انه يكتب في هذا الخصوص:
إن الألعاب الأولمبية ليست مجرد مسابقة عالمية بسيطة إطلاقا، بل هي عبارة عن احتفال عالمي لجميع الشبان الذين هم براعم البشرية، وتقام كل أربع سنوات مرة. ان هذا الاحتفال هو مظهر كل الجهود الحماسية والفعاليات المختلفة لشباب كل جيل تطأ قدماه عتبة الحياة.
ولم يكن من قبيل الصدفة ان تجمع كل هؤلاء الكتاب والفنانين الكبار في الألعاب الأولمبية القديمة لليونان، وبلا شك فإن هذا التجمع كان منقطع النظير ساهم في الابقاء على اعتبار هذه الألعاب طيلة القرون المتمادية. وبما اننا لسنا بصدد ايجاد ظاهر هذه الألعاب مجددا فحسب بل بصدد احياء قواعدها ثانية، وبما اني ارى ضرورات التربية في هذه القواعد، وهي تبدو الآن ضرورية لبلدي ولجميع البشرية، لذل يتعين علي ان اقيم مجددا تلك الدعائم الهائلة التي كانت تشكل في الماضي سندا ودعما لهذه الألعاب. الدعائم الفكرية والدعائم الأخلاقية وإلى حد ما الدعائم الدينية. ويجب اضافة قوى جديدة وضعت بتصرفنا في عالم اليوم ، إلى هذه القوى الداعمة للعالم القديم. وهذه القوى هي عبارة عن التنمية واستكمال التكنيك والعالمية الديمقراطية.
إن احياء وتجديد القواعد الثقافية لليونان القديمة، كان في الحقيقة نشر الفكر والأخلاق الليبرالية، وهي التي لبت مطلب مؤسس الأولمبيك الحديث الذي كان من أنصار المذهب الإنساني.
وبعد إقامة مؤتمر السوربون الدولي والذي انعقدت فيه نطفة إقامة الألعاب الحديثة، اقدم كوبرتان على تاسيس اللجنة الأولمبية الدولية (I.O.C) واختار هو اعضاءها. وهذه اللجنة الدولية تعد اهم مرجع لصنع القرار فيما يخص الألعاب الأولمبية.
وكان الشعار الذي ينشده كوبرتان هو بالتحديد ترجمة العبارة التالية التي أصبحت تردد بعده في الساحات الأولمبية:
ستيوس، آلتيوس، فارتيوس
أسرع، اعلى، اقوى
ونجح كوبرتان من خلال جمع راس مال كاف وكسب دعم المفكرين وبعض السياسيين الذين يشاطرونه الراي، في تنظيم أول دورة للألعاب الأولمبية، وكانت اثينا أول مركز يمكن ان يجسد الماضي العملي والموضوعي للأولمبياد اليوناني وايقاد شعلة الألعاب.
وبعد ان اقام اليونانيون الدورة الأولى للألعاب الأولمبية عام 1896 للميلاد، بذلوا جهدا بليغا للاحتفاظ لأنفسهم بحق إقامة الدورات اللاحقة للألعاب الأولمبية بصورة دائمة. لكنهم لم يحققوا نجاحا في هذا المجال، كما اخفقت محاولاتهم لابداع مسابقة مماثلة للألعاب الأولمبية. وكأنهم كانوا قد اغفلوا هذه الحقيقة بأن اثينا العقد التاسع عشر، لم تعد مهد الثقافة الحديثة للغرب، بل ان بريطانيا وفرنسا بوصفهما مسقط راس عصر النهضة، عازمتان على رفع الراية الحديثة للثقافة الغربية.
وبعد إقامة دورتين، اي بعد ثماني سنوات، التحقت المراة بالألعاب الأولمبية و:
أول سيدة رياضية شاركت في الألعاب الأولمبية الحديثة عام 1900 في باريس، شاركت في لعبتي التنس والغولف.
وحتى قبل إقامة الألعاب الأولمبية عام 1936، لم تكن السياسة قد اقتحمت الساحة رسميا. لكن حضور الحكومة النازية الالمانية في الساحة، فتح بابا جديدا في هذا المضمار. وفي تلك السنة، بين كوبرتان خلال محاضرة، بعض ارائه ومبادئه النظرية. وفي عام 1936، اورد مقدمة ذكرّ فيها الشبان بالقيم القديمة وتطرق إلى الأزمة الثقافية وقال:
… يمر الآن خمسون عاما على الموعد الذي حددته عام 1886 ايمانا مني بأن اي استقرار سياسي او اجتماعي لا يحصل الا من خلال إصلاح ثقافي. قررت ان اضع جانبا كل مشاكلي الشخصية لاصب جل اهتمامي على التحضير لانبعاث ثقافي. واشعر بأني قد انجزت واجبي، لكن ليس بشكل كامل طبعا. وتنبعث الآن زغاريد الفرح والقوة الجسدية من الملاعب العديدة في أرجاء العالم … واي مسؤول او شريحة او فئة ليست بمنأى عنها … اننا نهنئ انفسنا على هذه النتائج لكننا نعلم ان كل شئ لم يتحقق بعد. ويجب ان تتحرر الروح من القيود التي كبلها اياها، المتخصصون المتطرفون. كما يجب تحريرها من ضيق رؤية المهن التخصصية… ان المستقبل هو للشعوب التي تجرؤ قبل كل شئ على إصلاح تعليمات جيلها الشاب. لأنها هي التي تمسك بدفة المصير وتشرف عليه. وبذلك سيحل سلام مستديم ومدروس جدير بالعصر الفعال والحافل بالفخر والحماسة… ان طريقكم يبدا من مكان يعرفه الجميع ويستظل بلواء الحضارة المشرقة … عسى ان يتلاحم العمل العضلاني والجهد الدماغي على طريق اعلاء الإنسانية مرة واحدة وإلى الابد.
وكانت وجهات نظر كوبرتان قائمة على النقاط التالية:
1- استحداث بعث ثقافي عن طريق احياء الألعاب الأولمبية القديمة؛
2- تثبيت البنية الثقافية ذات النزعة الإنسانية لأوروبا الحديثة عن طريق تعميم الأخلاق وترويج التربية البدينة الحديثة بين الشبان؛
3- ازالة اخر جذور تبعية المنظومات التربوية لهياكل الثقافة الدينية؛
4- توسيع المدنية الغربية بين جميع الامم؛
5- توسيع مقدمات التوحيد الثقافي للشعوب من أجل ازالة التعارض الثقافي السائد بين الثقافة الغربية وغير الغربية.
لقد ادرك كوبرتان وكل الذين كانوا يعتبرون انفسهم كبار معماري الثقافة والحضارة الغربية، جيدا انه يمكن بناء صرح المستقبل من خلال التعويل على تعليم وتربية الشبان. ورغم أن المسنين يقاومون التغيير والتطور الثقافي والاجتماعي بسبب تعلقهم بالماضي، لكن الشبان وبسبب غلبة التمنيات وغياب الدراسة، غير قادرين على ممارسة النقد والتحليل. ومن جهة أخرى، فإن جزءا رئيسيا من الانطباعات الكلية للمنظومة القيمية، يتطور عن طريق اعتياد الشباب على انجاز الأعمال الخاصة والانخراط في سلك محدد.
وبلا شك فإن الامم غير الغربية، لاسيما الشرقيين، كانوا يقاومون بسط وتوسيع الثقافة والحضارة الغربية وان تعارض مبادئهم العقائدية الدينية مع ثقافة النزعة الإنسانية الرومانية – الاغريقية، كان يمكن ان يبقي دائما على نار الصراع مستعرة بين هذين التيارين. ولذلك، فإن السبيل الوحيد لتلافي هذا الشئ هو بسط التيار الذي كان يمكن ان يمهد للتوحيد الثقافي الذي كان في الحقيقة تلويث جميع المجتمعات بالنزعة الإنسانية.
وقد رفعت الماسونية شعار “المساواة والاخوة والحرية”، الشعار الذي رغم كل جماليته، كان يشبه السم الذي دس في العسل. وهذا الشعار لم يكن يعني المساواة والاخوة والحرية، بل ان الاشتراك في اللفظ تسبب في اخفاء العبارات والمفاهيم الرئيسية. وقد انتجت “الحرية الليبرالية” الاباحية وتحرر الإنسان من القيود الأخلاقية والتقليدية والدينية، وكان يراد من الاخوة عقد التبعية المباشرة وغير المباشرة للمحافل الماسونية التي كانت تطالب بابتلاع جميع الثقافات الدينية وشطب جميع الموروث الأخلاقي والتقليدي للشعوب، فيما مثلت المساواة شعارا زائفا، تحول في ظل النظام السياسي الديمقراطي الغربي (حكومة الإنسان على الإنسان) والمذهب الإنساني إلى عنوان للاستعمار والامبريالية المخيفة، بحيث ان جميع الامم انقصم ظهرها تحت نيرها في العقود اللاحقة.
وبلا شك، فإن زوال “التعارض الثقافي” شكل أكبر خدمة كان الغرب بحاجة اليها من أجل مواصلة هيمنته الثقافية والمدنية، وكان هذا بمثابة ذوبان موروث الثقافات التقليدية والدينية للامم الأخرى في الثقافة الغربية. لأن النظام الغربي ذي النزعة السلطوية، لم يكن يرضى بشئ سوى ضمور واستحالة الثقافات الأخرى. ان وجود التعارضات وازدواجية السلوك والمعايير لدى الشعوب، كان يمكن ان يشكل دائما عقبة أمام الغرب ويبطئ حركته لنيل المآرب الاستكبارية.
فإن قام الجهاز الثقافي الغربي، بنثر بذور الثقافة الالحادية والفكر ذي النزعة الإنسانية بين باقي الامم عن طريق المثقفين المدجنين والقاء ظلال من الشك على جميع التقاليد والاداب الوطنية والدينية عن طريق نشر الأعمال الأدبية (الرواية والمسرح و…)، وشمر عن ساعده لهدمها وتغييرها، فإن القائمين على الشؤون السياسية وانتهاجا للسياسة الغربية والنظام الاجتماعي الذي ينشده قاموا عن طريق توطيد التقاليد الغربية بما فيها الرياضة، بتطبيق مشروع التوحيد الثقافي الذي يعني في الحقيقة بسط الثقافة الغربية بشكل شامل.
وقال رينه ماهو الامين العام لليونسكو عام 1972 فيما يخص دور ومكانة الرياضة في افريقيا:
إن افريقيا تتشكل شيئا فشيئا. لكن ثمة مسافة تفصلها عن مرحلة النضوج المتكامل التي بلغتها أوروبا … ان الوصول إلى هذه الغاية، ليس سهلا. وفي هذا المجال فإن تبلور البعد الوطني للبلدان الافريقية حديثة التاسيس، يكتسى اهمية بالغة. ان الرياضة تعتبر بلاشك عاملا مهما في الاسراع في هذا التشكل. ومن جهة أخرى، فإن الرياضة هي في تعامل مباشر مع الشبان وتتيح لهم امكانية اقتحام الحياة الاجتماعية … في حين ان الرياضة تعد الوسيلة الوحيدة التي يمكن التعويل عليها في حث الشباب على ابراز دورهم الاجتماعي وتحمل مسؤولياتهم … في حين اننا سلّمنا بأن الرياضة هي العامل الذي يبني الثقافة الامثل … ان الألعاب الأولمبية كانت دائما حبيسة البيئة المنغلقة للفكر اليوناني والانغلوسكسوني.
ويشير رينه ماهو بوصفه الامين العام لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة إلى عدة نقاط مهمة وجادة في الوقت ذاته:
1- ضرورة تغيير الهيكلية الثقافية للبلدان الافريقية عن طريق الرياضة؛
2- اعداد الشبان والافادة منهم للمشاركة في ميادين المسؤوليات الجديدة التي يفوضها الاوروبيون؛
3- الدور المهم والأساسي للرياضة الحديثة بوصفها العامل المروج للثقافة الغربية؛
4- النسبة التامة بين التفكير اليوناني والانغلوسكسوني وبين الألعاب الأولمبية. \
إن ما عرضه كوبرتان في سياق “الرياضات الرسمية الأولمبية” هو الصورة العصرية للرياضة الحديثة التي كانت أوروبا تتابعها بعد عصر النهضة في سبيل احياء المذهب الإنساني.
***
وفي اعقاب تثبيت الألعاب الأولمبية، برزت ضرورة ايجاد شعار خاص لها، لكن ما الدور الذي كان يمكن لها ان تلعبه ويحظى بقبول الجميع، ولا يخرج في الوقت ذاته عن اطار العلامات المقبولة من المجتمع المنتسب للمذهب الإنساني والماسوني؟!
ولا شك بأن رواد عصر النهضة والبروتستانتية والليبرالية والماسونية اليهودية، مدينون لاسرة كانت قد فتحت باب التساهل والتسامح الديني والمذهب الإنساني في أوروبا.
وكان حاكم فلورنسا “كوزيمو مديسي” الذي تحدثنا عنه سابقا، وثروته الطائلة التي انفقها على طريق ترجمة الأعمال اليونانية ورواج المذهب الإنساني، يشغل موقع “اب الوطن” في إيطاليا، وكان وارث شعار اسرته ايضا:
ست دوائر ملونة على درع ذهبي اللون.
وهذه العلامة ومع ادخال تغيير بسيط عليها، تحولت إلى شعار الألعاب الأولمبية، وبقي كوبرتان بوصفه رئيس اللجنة الأولمبية الدولية في هذا المنصب حتى عام 1925، واختار مدينة لوزان التي كان يقيم فيها، “مقرا دائما للجنة الأولمبية الدولية”. إلى ان توفى.
وبناء على وصيته، دفنوا قلبه في مدخل المعبد الأولمبي تحت عمود من الرخام، اقيم تخليدا للألعاب الأولمبية.
ذلك المعبد الذي اصدر اسقف ميلان المؤمن امرا بتهديمه في القرن الرابع للميلاد.
إن “الرياضة الحديثة” التي تثبت فيها مبدأ النزعة الإنسانية (المذهب الإنساني)، اجتازت الحدود بفضل اجراءات كوبرتان وعملت بجانب سائر القضايا الثقافية والمدنية للغرب، على اذابة الثقافة التقليدية والوطنية للشعوب المختلفة بداخلها.
ويعلم “دبورا. آ. وست” و “تشارلز آ. بوتشر” مؤلفا كتاب مبادئ التربية البدنية والرياضة بأن البرامج التربوية والتربية البدنية الحديثة قد تأثرا بالفلسفة الإنسانية، وكتبا:
إن برامج التربية البدنية والرياضة شانهما شان البرامج التربوية الحديثة قد تأثرا بالفلسفة الإنسانية. وحتى انهما يبديان الراي ذاته حول البرامج غير المدرسية.
إن مؤلفا هذا الكتاب، ليسا بصدد نقد التربية البدنية، لكنهما فهما هذه النطقة من ان:
مهما كان تطلعكم ومهنتكم، فإن من الضروري وجود القناعة الفلسفية لتوجيه الأعمال والجهود.
ومن هنا فانهما يعرفإن بأن “التربية البدنية الحديثة” قائمة على مجموعة من القناعات الفلسفية والنظرية في هيئة الفنون والأعمال.
وقد طرح “المذهب الإنساني” بوصفه أساس الثقافة الغربية، “الاستمتاع بالحاضر” و تنشئة الجسم، في مقابل التوجه المعنوي الديني والفلاح الاخروي وجعل الجسد في خدمة الروح والمعنوية، وابدع من خلال إضفاء الإصالة على الإنسان باعتباره قطب عالم الامكان ومحور ومعيار جميع القيم، النظام القيمي الحديث، الذي عرض تفسيرا جديدا عن منظومة القيم بما فيها قيم التربية البدنية.
وارسى هذا التفسير أساس “التعليم والتربية البدنية والتعليم والتربية عن طريق الجسم” وتحول تنشئة الجسم إلى غاية كان على الإنسان ان ينالها، وبلا شك فإن توفير كل أسباب البهجة والفرح وقوة الجسم والطاقات الأخرى، تندرج كلها في سياق المبدأ آنف الذكر.
إن تربية وتعليم الجسم، تعتبر تنشئة الجسم كغاية، ولهذا فانها تعير اهمية إلى تنئشة الجسم والمهارات البدنية أكثر من النتائج المتأتية من النشاطات البدنية. ان التربية عن طريق الجسم، تؤكد على اكتساب المهارات البدنية والتكامل الجسماني وسائر النتائج التربوية بما فيها أهداف الاحساس الاجتماعي والعقلاني عن طريق النشاطات البدنية. ان التاكيد على هذين التوجهين هو امر واضح وجلي في تاريخ التربية البدنية والرياضية.
وقد مزج المدربون والقائمون على الرياضة والتربية البدنية في البلدان الشرقية تياري التربية البدنية الحديثة والتقليدية معا وذلك بسبب الخلفية الثقافية والتقليدية، واضفوا احيانا صبغة الثقافة التقليدية عليها. وعلى الرغم من ان “المهارات البدنية” و “التكامل الجسماني” يعدان اصلين محوريين في التربية البدنية الحديثة، لكنهما امتزجا للاسف في سيرهما التدريجي بعنصري “السياسة والتجارة”.
وأمام سيل الرياضة الحديثة التي كانت تتوسع بفضل مساعي القائمين على الشؤون السياسية ودعاية اجهزة الاتصال، كانت “الرياضة التقليدية” تتراجع خطوة فخطوة. والسبب كان واضحا. لأن “الرياضة الحديثة” كانت على علاقة وثيقة بالدنيا وبالتالي “النفس الامارة” ولم تكن تحتمل اي قيد. لأن الشباب الغر، اتيحت له امكانية أكبر لاستعراض العضلات والاستمتاع النفساني واشباع الغرائز والشهوات. فيما الاسلوب التقليدي للرياضة، كان يباشر التربية والتعليم من خلال الدوس على تلك التمنيات واحباط الشهوات. ان صفة “الاستعراض” في الرياضة الحديثة، كانت تجعلها جميلة في اعين طالبي الدنيا واللاهثين وراء الظواهر.
بينما كانت الرياضة الحديثة، تعتبر لذة النفس، أساسا لها. وما كان ياتي من شعارات مثل “حفظ الصحة” و “سلامة الجسم” و “قوة الجسم” إلى جانب شعارات الرياضة الحديثة، لم يكن سوى الاعداد والتمهيد للوصول إلى “ينبوع الحياة الدنيوية” و “الحظ النفساني”. لذلك فإن الرياضة من أجل الفوز بميدالية، والرياضة من أجل ابراز الذات والرياضة من أجل التفوق على الاخرين والرياضة من أجل كسب الاعتمادات و… كانت تنهل من منهل واحد وهو: “الاستعراض”.
إن عرض الجسم الجميل بعضلاته المفتولة والتظاهر كان المحطة الأولى لهذا المسار. الشئ الذي يمكن مشاهدته ايضا في العمارة وبناء المدن والزي الحديث، لأنه لم يبق للإنسان الغربي “سر” حتى يكتشفه و “غاية بعيدة المنال” حتى يبلغها و “باطن” حتى يناله و “فضائل أخلاقية” حتى يتحلى بها. وكل هذه الفضائل كانت قد نحيت جانبا واعطت مكانها لأهداف هامشية حقيرة. عرض الجسد لالوف الرجال والنساء الذين ياتون بقصد التسلية والترفيه وتمضية اوقات الفراغ.
ويقول “براندج” أحد رؤساء اللجنة الأولمبية الدولية حول الرياضة الحديثة:
إن الرياضية هي اداة للترفيه والتسلية ليس الا. قضاء الوقت بطريقة مفيدة.
وهل يمكن بغير هذه العبارة، رسم صورة عن مجمل الرياضة الحديثة ومجمل الثقافة والحضارة الغربية وبالتالي غفلة البشرية طيلة التاريخ؟
وان وضعنا كلام “براندج” هذا بجانب قول “رينة ماهو” الامين العام لليونسكو من:
“ان الرياضة، هي عامل بناء الثقافة الامثل”.
فما التعريف الذي يمكن تقديمه عن صناع الثقافة الامثل؟ واليس صناع الثقافة الامثل، هم الممهدون للسلطويين الدوليين والهاء الناس!؟
ويقول “امه دي كامارا” المعلق الرياضي بمجلة “افريقيا واسيا”:
… رغم الجهود والمحالات لاظهار ان كوبرتان هو إنسان حر التفكير وتقدمي ومتزن، يجب القول بأنه مفكر من نوع مفكري عصره. المفكرون الذين لم يفكروا الا بالامبريالية والتوسعية والاستعمار. ان اسلوبه يندرج في اطار تفكير المبشرين المسيحيين الذين كانوا يكرمون الناس بيد ويطعنونهم بيد أخرى. لقد اضطلع كوبرتان بدور مؤثر في عملية التهدئة التي انطلقت مع إطلاق المدفعية … وكان قد اعلن في أعماله مرارا بأن عدم المساواة هو أحد قوانين الطبيعة وحقيقة لا يمكن التنصل منها.
الریاضة والسياسة
منذ ان القت السياسة بمعنى الحكم والسلطة المنقطعة عن المعتقدات، بظلالها على جميع شؤون ومقدرات الشعوب، حتى انها جعلت الثقافة تابعا وذيلا لها، فقدت التربية البدنية مثلها مثل الكثير من الامور الأخرى، موقعها ومكانتها.
وأصبح “الحكم الشمولي” مذهب إنسان العصر الحديث، وجعل كل شئ تابعا لميول وتمنيات الحكام، بحيث ان اي قيود لا يمكن ان تسود في الفكر السياسي لرجال مثل “ماكيافيلي” او ان ترغم الساسة على التبعية والانصياع. وبالعكس، فإن الحاكم الشمولي والمطلق الصلاحيات، كان يجعل كل شئ تابعا له لكي يزيد ويوسع من رقعة سلطانه الذي لاينازعه شئ.
وتحول مذهب ماكيافيلي إلى مذهب جميع ساسة الدورة الحديثة من تاريخ البشرية، وتلا ذلك ان أصبحت جميع المعتقدات والحكمة والثقافة والأدب، تابع لارادة وتمنيات أصحاب السياسة بالمعنى الحديث للكلمة. بحيث ان “النزعة السلطوية” اخترقت ذات وجوهر الفكر والثقافة الغربية، وأصبحت العنجهية والغطرسة جزء لا يتجزأ من السياسة والحكم. مثلما ان الامبريالية انبثقت من صلب الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية. وواضح انه عندما ارسى المذهب الإنساني، أساس التاريخ والفكر الغربي، وضخ “مذهب الربحية” كروح خفية في جسد العلاقات الاوروبية، أصبحت “السلطة” غاية الامال واخر محطة يقصدها هذا الإنسان.
وأدت استراتيجية السلطة إلى ان تدور جميع البرامج العامة والتكتيكات واساليب الحكم وحتى صناعة القرار المتعلق بالشؤون العامة والجارية للناس، حول هذا المحور. ومثلما ان السياسيين اعتمدوا “استراتيجية السلطة” لتعبئة جميع العوامل المادية للوصول إلى الحكم المطلق، وحتى انهم قوضوا مكانة الإنسان واعتبروها كعامل مادي واطلقوا عليها اسم “المصدر الإنساني”. وهذه المصادر المادية والموارد الإنسانية، اتاحت كلها تحت مظلة “استراتيجية السلطة” للسياسيين امكانية فرض سلطتهم وتمكين طبيعتهم الوحشية لممارسة الاستكبار والغطرسة في الأرض. وفي هكذا وضع، وهكذا انطباع، فإن كل شئ وكل شخص بما في ذلك “الثقافة” و “الأدب” سيكون تابعا للسلطة.
بعبارة ابسط ، فإن “الثقافة” تجد تعريفا جديدا:
مجموعة من العادات والتقاليد التي تنتزع جميع الطبائع والصفات الإلهیة والإنسانية من الإنسان، لتضعه بصورة مقولبة وكليشية بتصرف السياسيين التابعين لاستراتيجية السلطة.
ومن دون هذا التعريف، كانت ثمة مدونة سلوك، يجب تطبيقها على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
وكان التعليم والتربية والتربية البدنية وباقي الامور واستتباعا لمدونة السلوك هذه، تتولى دورا حديثا:
اعداد الإنسان لكي يكون في خدمة طلاب السلطة، بصورة اسهل.
او بعبارة أخرى
اعداد الإنسان، لكي يُبتلع بصورة اسهل.
وبناء على ذلك فانه في “استراتيجية التنمية” التي هي في الحقيقة الصورة الجميلة ل “استراتيجية السلطة” الامبريالية، تشكل “التنمية الثقافية”، “الخطوة المسبقة للتنمية الاقتصادية”.
إن “التنمية الثقافية” بوصفها عاملا محبطا، تبدد جميع الفرص الوطنية والقومية والدينية، لكي يتحول الإنسان الحديث في عصر السلطة والسياسة إلى كائن يتأدب بأدب جديد. الأدب الذي يظهره على هيئة إنسان متطور وعار وخال عن اي طموح ليصبح اداة طيعة في خدمة الاقتصاد ومذهب المنفعة.
وفي ظل هذه النظرة، فإن ايا من المصطلحات والقوانين وتعاليم أرباب السلطة تتخذ معنى جديدا في هذه الدورة. بما في ذلك التربية البدنية او كما يطلق عليها اليوم “Sport”.
إن جميع وسائل الاعلام والابواق الدعائية تسعى اليوم لاظهار ان الرياضة تنأى بنفسها عن السياسة وهي بعيدة عن أفكار السياسيين. لكن الميادين الرياضية لم تكن خلال الاعوام الخمسين او الستين الاخيرة في اي وقت من الاوقات بمعزل عن التوجهات السياسية، وهذا الكلام سار بغض النظر عن طبيعة وماهية الرياضة الحديثة.
إن التلوث الرياضي هو في الحقيقة المرض الثاني للرياضة الحديثة. فالمرض القاتل والأول هو المذهب الإنساني وتوجهات مؤسسي الرياضة الحديثة، والذي البسوه بجسد الرياضة التقليدية تاسيسا على التقليد اليوناني والفيروس الثاني ادخله اهل السياسة والمنادون ب “استراتيجية السلطة”.
وبلا شك فانه كان يجب توفير جميع الضمانات اللازمة لارتقاء الربح وحفظ راس المال، باي طريقة واي وسيلة كانت بما في ذلك: تنصيب سياسيين تابعين والقيام بانقلاب عسكري وتجنيد الجواسيس السياسيين والاقتصاديين والدعاية للبضائع وبالتالي اعداد “المجالدين الجدد” في الميادين الرياضية و … .
واي من العوامل آنفة الذكر، كانت تضطلع بدور رئيسي في الهاء الناس وصرف انتباههم عن ما يدور خلف الكواليس او تحريض الجماهير على المزيد من الاستهلاك. ان أبطال هذه الدورة من تاريخ الرياضة في العالم هم في الحقيقة صنيعو السياسية قبل ان يكونوا صنيعي الرياضة.
إن الكثير من كتاب الرياضة الذين يتبعون هذه السنة الرياضية، يسعون للايحاء بأن “هتلر” كان مبدع ومروج “الرياضة السياسية” او “تسييس الرياضة”، بالرغم من ان الرياضة الحديثة، وكما اسلفنا كانت تحمل كل الجهوزية اللازمة للامتثال لاهواء وغرائز اهل السياسة والسلطة وكانت هذه الجهوزية والمواهب تتفق عاجلا أم آجلا. وكانت الرياضة الحديثة حربة لتحقيق الاغراض الثانوية، الاغراض التي لم تكن على علاقة بالتربية البدنية بل على العكس استغلت ايما استغلال.
ومن بين الاستخدامات العديدة للرياضة، فإن الدعاية للشعارات الوطنية او حتى تهييج المشاعر القومية، تقع ضمن انزه أنواع استخدامات الرياضة ك “حربة لاغراض ثانوية”. وعلى الرغم من ان ثورة اكتوبر 1918 الروسية، شكلت البداية لتشابك الرياضة بالسياسة بشكل جاد، الا ان “يان” اب الجمباز الالماني، استغل الرياضة كحربة للدعاية للشعارات القومية الالمانية ومن بعده، استغلها هتلر لاثبات نظرية “تفوق العنصر النازي”.
وكان الشعار الرياضي للحفل التاسيسي ومؤتمر افتتاح هيئة الرياضة بالمانيا الشرقية في ابريل 1957 في برلين الشرقية هو:
إن الهيئة الرياضية في الجمباز بالمانيا تناضل من أجل بناء الاشتراكية ولتعزيز قوة العمال والفلاحين والتربية البدنية الاشتراكية.
واعلن في نص المادة الأولى للبيان الختامي لهذا المؤتمر رسميا بأن رياضتنا هي رياضة سياسية بامتياز فيما صرح جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر ابان الألعاب الأولمبية لعام 1936:
… لا يجب ان يُخطئ الناس ويتصوروا بأن هدفنا من إقامة الألعاب الأولمبية هو رياضي بحت، بل اننا نريد الافادة من هذه الفرصة لنبرهن مرة أخرى للعالم تفوق عنصر الجرمان.
وتبعه الجنرال درست وزير الثقافة في عهد هتلر بالقول:
ليس مهما لنا جهوزية وقابلية الرياضيين، بل ان سباقهم السياسي هو مهم قبل كل شئ.
إن الدول الاستعمارية فهمت من خلال المنظرين كيف انه يمكن الاستفادة القصوى من القضايا التي هي محط اهتمام الناس باقل التكاليف وادنى الخسائر الإنسانية وفرض ارائها وتوجهاتها الخاصة السياسية وبالتالي الاقتصادية عليهم.
وهذا الموضوع لا يقتصر على الرياضات المحترفة، بل ان “الهواية” شكلت حربة وحيلة استغلهما القائمون على الألعاب الأولمبية لخداع الشعوب. لأن هذا الأمر كان يوفر امكانية التعرف على الشبان ليدخلوا سوق الرياضات السياسية والتجارية عن طريق الأولمبيك. ان التوجه السياسي الحاد لالمانيا النازية وظهوره في أولمبيك عام 1936، تسبب بردود افعال متفاوتة. وردود الفعل هذه (مقاطعة الأولمبيك) جاءت فيما لم يكن المقاطعون الالمان للأولمبيك، بمنأى عن التوجهات السياسية والاقتصادية وكان هاجسهم الوحيد هو ان تستفيد المانيا النازية من هذه الفرصة السانحة اي الأولمبيك بالتمام. وبالتوازي مع ذلك اقدمت بعض الدول على إقامة الألعاب الأولمبية الاقليمية. وفي هذا الخضم، اضطلع اليهود بدور رئيسي بواسطة رؤوس اموالهم.
ويكتب أحد الرياضيين من أصحاب الخبرة ضمن مجموعة مقالات بعنوان “دور السياسة والرياضة” حول إقامة هذه الألعاب:
إن اشد واهم سبب اثار سخط الدول المختلفة على الألعاب الأولمبية في برلين والحكم النازي، هو إقامة مسابقات مختلفة في بعض الدول قبل الألعاب الأولمبية، بحيث ان نتائجها القت بظلالها على الألعاب المذكورة إلى أحد ما. ان أول وأكبر هذه المسابقات هي ألعاب اليهود التي اقيمت عام 1935 في تل ابيب، واطلق عليها اسم “أولمبياد اليهود”. وقبل عام من الأولمبيك اي عام 1937 اقيمت مسابقات كبرى للعمال في “انت ورب” ببلجيكا… .
وبعد أولمبيك عام 1936، تابعت الألعاب الأولمبية مسارها وانشأت في ظل جوهر الرياضة الحديثة، نطفة الاستغلال الاستعماري والتمييز العنصري والاستبداد الامبريالي الغربي.
ويتطرق “غاستون ماير” الذي يعتبر شيخ كتاب الرياضة في العالم ومن اعضاء اتحاد الصحفيين الرياضيين بفرنسا، حول “الرياضة والسياسة” إلى ثلاث نظريات فيقول:
1- الفلسفة الخيالية او المثالية لأنصار الطهارة والنجابة في البيئة الرياضية؛
2- فئة الحكوميين، ممن يؤمنون بشفافة وصراحة انه لا يمكن بناء الرياضة من دون تدخل السياسة؛
3- واولئك الذين لا يعتبرون ان هذين الأمرين منفصلان عن أحدهما الاخر ويعتبرون الحاضر معيارا، لا يعرفون لا تحكم السياسة بالرياضة ولا السلامة التامة للرياضة البعيدة عن السياسة.
إن ماير غير قادر على درك الترابط بين العلاقات العملية والمبادئ الثقافية، ولذلك فإن معياره يتمثل في “الرياضة الحديثة” الاوروبية. الرياضة التي تحمل في طياتها شحنة ثقافية خاصة. ويمكن استخراج هذا الترابط جيدا من العبارة التالية. العبارة التي فهمها السياسيون المستعمرون والراسماليون اليهود جيدا:
… الرياضيون يشبهون تماما المبشرين المسيحيين الذين كانوا يُرسلون في مطلع القرن الثامن عشر واواخر القرن السابع عشر إلى البلدان غير المعروفة، ليزاولوا هناك مهمة التبشير للمسيحية. ان الأبطال ينتهجون اسلوبا خاصا وطريقة مدروسة، ويمسكون بهذا الشئ وحتى انهم غير جاهزين لخسارة هؤلاء المبشرين القيمين بسهولة، فينالون مبتغاهم رويدا رويدا. ويثيرون استغراب الشعوب البدائية ويبداون دورهم المذهل مع اثارة هذا التعجب والاستغراب.
وكان وينستون تشرتشل، رئيس الوزراء البريطاني الاسبق يعير اهمية خاصة للرياضة الحديثة لاسيما كرة القدم. ويقول في هذا الخصوص:
إن من المصلحة ان تدخل الشعوب في مواجهة مع بعضها البعض في الميادين الرياضية لا في ساحات القتال.
وبرزت الرياضة كحاجة لترفيه وتسلية الطبقة البرجوازية محدثة النعمة وتحولت إلى قوة خلاقة شيئا فشيئا مع تنامي الصناعة ونشأة العالم الصناعي. القوة التي ولدت من رحم النمو السريع لاقتصاديات المجتمعات الاوروبية لاسيما بعد الثورة الفرنسية البرجوازية الطابع. وهذه التسالي كان يجب ان تملأ الساعات المحدودة للعمال والطبقة المحرومة من تسليات الطبقة النبيلة والمخملية مثل الصيد والمسرح والسهرات الليلية الصاخبة.
وكانت الألعاب الجماعية تستقطب المشاهدين وكان هذا محببا لدن البرجوازية، لتستغل هذه الفرصة والقوة الكامنة في هذه الألعاب، لتوفر لنفسها اداة الاستغلال السياسي والاقتصادي الواسع. ومن ثم فإن المجتمع الرياضي في العالم لم يتخلص إطلاقا من نفوذ التيارات السياسية وكواليسها الاقتصادية، لأن الكارتلات الكبرى بذلت جل جهدها لتنشئة واعداد الأبطال واستغلالهم.
وكتب أحد الكتاب الرياضيين في مجلة “كيهان الرياضية” العدد 407 لعام 1963:
إن هؤلاء [الكارتلات] يؤمنون بالنفوذ التدريجي لمجتمع في مجتمع اخر، وهذا النفوذ التدريجي يعد مسالة مهمة للغاية يتم اليوم دراسته وتحليله على يد علم الاجتماع.
وينقل “لوئي شارنية” في كتاب “السلاسل والارتباط” عن “باترسن” الملاكم الأمريكي المحترف قوله:
لقد خصص البيض، الرياضات الظريفة لأنفسهم … ولم يعد الأبطال فخرا وسندا بالنسبة للحكومة الأمريكية، بل وسيلة لاستعراض العضلات. مثلما ان امريكا تريد مقارعة منافسيها في مسابقات الصواريخ والاقمار الصناعية … وبذلك فإن الرياضة تخرج عن مسارها الذي يجب التفكير به … فالدولارات تدخل من جهة في الماكنة ويخرج الأبطال من جهة أخرى. وفي هذه الماكنة يُقتل الإنسان … ان الأبطال الأمريكيين لم يشاهدوا البتة الوجه الحققي لاسيادهم.
وقد لخص “غاستون ماير” الكاتب الفرنسي الشهير، هذا المعنى في العبارة القصيرة التالية:
إن كذبة الرياضة الكبرى، منفصلة عن السياسة.
يتبع إن شاء الله
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون إذن خطّيّ من إدارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.