اسماعيل شفيعي سروستاني
لقد استولى الجيش المقدوني غير الأنيق بقيادة فيليب والإسكندر على اليونان، ومن ثم تحرك الروم وحولوا اليونان إلى إحدى مقاطعات روما.
وعلى إثر امتزاج الثقافة اليونانية والثقافات الأخرى، نشأت ثقافة ثالثة كانت قائمة أساسا على ثقافة اليونان، ولذلك كانت تدعى “النزعة اليونانية” أو الهيلينية و +67عغ لراجت على إثرها اللغة وسائر الشؤون اليونانية …
اسماعيل شفيعي سروستاني
لقد استولى الجيش المقدوني غير الأنيق بقيادة فيليب والإسكندر على اليونان، ومن ثم تحرك الروم وحولوا اليونان إلى إحدى مقاطعات روما.
وعلى إثر امتزاج الثقافة اليونانية والثقافات الأخرى، نشأت ثقافة ثالثة كانت قائمة أساسا على ثقافة اليونان، ولذلك كانت تدعى “النزعة اليونانية” أو الهيلينية و +67عغ لراجت على إثرها اللغة وسائر الشؤون اليونانية، واكتسبت هذه المدن أهمية ثقافية بعد ما كانت تكتسي في البداية أهمية تجارية أو عسكرية. وسادت النزعة اليونانية كلا من مقدونيا وسورية ومصر والعديد من البلدان الصغيرة، واستحدثت مراكز ثقافية مهمة.
إن بسط وانتشار “النزعة اليونانية” طال كالمرض المعدي، العديد من المناطق بما فيها فلسطين والأراضي التي كان يقطنها اليهود.
وكان لخلفاء الإسكندر دور بارز في توسيع هذه النزعة اليونانية التي كانت في العصر القديم ضربا من “الانبهار بالغرب”، وهذا التأثر لم يكن في حدود الفكر الاجتماعي أو الفلسفي فقط إنما كان له أثر أيضا على الأوجه الثقافية والمدنية المختلفة للجماهير التي خضعت لهذه الثقافة. وحاول اليهود بسبب تعصبهم الديني وشريعة التوراة، حماية أنفسهم من نفوذ اليونانيين، لكن الثقافة اليونانية نفذت أكثر فأكثر بين اليهود إبان الحكم السلوكي المتشدد، واكتسب الحزب الذي كان يوالي اليونانيين، نفوذا بالغا، وأصبح أحد قادته وهو “ياسون” كبير كهنة اليهود، وشيد حسب الطقوس اليونانية، ملعبا رياضيا و أرغم الشبان وبما يتناقض مع المعتقدات اليهودية، على ممارسة الرياضية وهم شبه عراة.
إن أحداثا كهذه، لم تكن محبذة لدى اليهود التقليديين. وفي عام 175 قبل الميلاد، تولى “انتيوخوس ابيفانس” السلطنة في سورية واستخدم القوة لنشر الثقافة اليونانية. ونهب معبد اليهود وحول مذبح اليهود إلى مذبح “زيوس” ومنع إقامة الطقوس الدينية اليهودية. وهذه القيود تبعتها ردات فعل.
لقد ثار المؤمنون اليهود بقيادة “مكابين” وحصلوا عام 165 قبل الميلاد على الحرية الدينية وبعد سنوات على الحرية السياسية. وبعد ذلك انقسم اليهود إلى قسمين. الموالون لليونان الذين تحولوا إلى الصدوقيين والموالون لليهود أو “أتقياء عصر مكابي” ممن بقوا أوفياء للتقاليد اليهودية وعرفوا بأصحاب الفريسة. لكن نهضة اليهود لم يكتب لها الدوام والبقاء … وما لبثت سلالة مكابي أن سقطت وعين هرود الكبير سلطانا من قبل الرومان. و “هرود” كان أصلا من أهالي “ادومية” والتحق لاحقا باليهود، وكرم الثقافة اليونانية باطنيا وسعى جاهدا في نشرها وتوسيعها ودعم إقامة الألعاب الأولمبية في فلسطين. وفي الوقت ذاته ومن أجل خداع اليهود التقليديين، اهتم ببناء وزخرفة معبد أورشليم، لكن اليهود كانوا واعين وثاروا ضد الروم حتى بدء التشرذم الكبير عام 70 قبل الميلاد وقدموا الكثير من الضحايا.
الروم
على الرغم من أن الرومان استولوا على الدول الخاضعة لسلطة اليونان، لكنهم هزموا أمام ثقافة ومعرفة اليونان، وخضع النظام الأخلاقي للروم وثقافتهم وأفكارهم المعنوية وممارساتهم، لتأثير الثقافة والحضارة اليونانية. وأصبحت اللغة اليونانية، اللغة الرسمية للتعليم والتربية وحتى أن الكتاب والمؤلفين، ألفوا كتبا باللغة اليونانية. وقلد الفنانون في فن العمارة والرسم والنحت، الفنانين اليونانيين وتوظف المعلمون اليونانيون لدى الروم.
إن الفتوحات التي قام بها الرومان، لم تحقق لهم نتيجة سوى التفسخ الخلقي والفساد والصراع الطبقي. فالثروة والسلطة أفسدتا الروم لدرجة أن تقاليد الأكل والطعام والملبس والعصيان، معروفة إلى الآن لدى القاصي والداني. وكان تأسيس ميادين الاستعراض وقتال المجالد (الغلادياتور) والمجازر ضد الرقيق وإقامة السيركات واستعراضات القتال بين الإنسان والوحوش في ساحات القتال، من عادات وتقاليد الرومان الأثرياء وما يسمون بالأحرار.
إن الثراء الفاحش والرخاء الناتج عنه، جعلا الرومان يغوصون في وحل التحلل الخلقي. وتلازم تكدس الثروة والثراء مع الانحطاط الديني. ويقول بوليب بهذا الخصوص:
إن معظم الروم يمرون اليوم بحالة من الفوضى الأخلاقية الرهيبة … وكان بعض القادة يبيعون الإجازات للجنود. وتراجعت الفضائل الأخلاقية لدى الأريستوقراطيين والنبلاء. وتزايد الطلاق. وزالت مكارم الأخلاق. وأصحبت ظاهرة بيع وشراء الأصوات والرشوة في الانتخابات تمارس في العلن.
إن الشعور بالاستغناء والرخاء، أبرز الحاجة إلى الترفيه والتسلية وتحولت ضخامة الأجسام وقطر الأذرع إلى أمنية وحيدة لهؤلاء الناس المترفين.
وكانت الساحات الرياضية، المكان الوحيد الذي يلبي هذا الطموح الشيطاني ويستجيب لمطالب لهؤلاء المترفين والنبلاء الروم الغارقين في الثراء والنعيم.
ويشير تقرير ويل ديورانت عن هذه المسابقات الرياضية إلى وضع التربية البدنية والميول العامة لسكان الروم نحو الرياضة الحرفية والمسلية:
كان المتسابقون الذين في معظمهم من المحترفين والغرباء، يشاركون في مسابقات العدو، وكانوا يرمون القرص ويشاركون في المصارعة والملاكمة. إن أهالي الروم الذين كانوا قد اعتادوا على الاستعراضات الدامية للمجالدين (الغلادياتور)، قلما كانوا يبدون رغبة وحرصا تجاه المسابقات الرياضية، لكنهم كانوا يستمتعون بمسابقات المراهنة على المال والتي كان يشارك فيها اليونانيون العمالقة وهم يرتدون قفازات حديدية يصل قطرها إلى ثلاثة أرباع الإينش ويقاتلون حتى الموت… .
وكان الإمبراطور والملكة والسيناتورات النهمين الذين لم يكن يعرفون سوى الإسراف والتبذير، يجلسون لمشاهدة القتال بين الرجال والحيوانات وكانوا يستمتعون ويلتذون بالدماء التي ينزفها المجالدون.
وفي هذا الخضم كان الناس البسطاء والعاديون، منهمكين في تحضير ساحة القتال والمراهنة. بحيث أن ثروة طائلة كانت تنتقل من شخص إلى آخر طوال اليوم. واليوم وبعد مضي عشرات القرون، يمكن سماع صوت زغاريد المراهنين وصراخ المجالدين الجدد من حلبات الملاكمة الحرفية والمصارعة الحرة غير المقيدة.
المجالدون والرياضات الرومانية
إن الوقائع المهمة كانت عبارة عن قتال المسلحين والقتال بالسلاح الأبيض أو الجماعي والمحاربون وأسرى الحرب والمجرمون المدانون أو الرقيق المتمردون. وكان حق الفاتحين تجاه قتل أسراهم في أرجاء العالم القديم، مقبول بشكل عام، وكان الروم يعتبرون أنفسهم عظماء وكبارا وبذلك كانوا يمنحون الأسرى فرصة لكي ينقذوا حياتهم في الميدان. وكان يؤتى بالأفراد المدانين بجريمة القتل من أرجاء الإمبراطورية إلى روما ويرسلونهم إلى مدرسة المجالدين وبعد ذلك إلى المسابقات القتالية. فإن قاتلوا بصورة استثنائية وببسالة كان من الممكن أن يفرج عنهم فورا؛ وإن بقوا على قيد الحياة بعد القتال كان عليهم القتال ثانية وثانية في أيام العطل. وإن بقوا لثلاث سنوات كانوا يتحولون إلى عبيد … وكانت هذه المدارس موجودة في روما قبل أكثر من 105 أعوام قبل الميلاد. وفي عهد الإمبراطورية كانت هناك أربع مدارس في روما وعدة مدارس أخرى في إيطاليا ومدرسة واحدة في الإسكندرية.
وفي عصر القيصر، كان الأثرياء يملكون مكاتب خاصة، يتم فيها إعداد وتنشئة العبيد لكي يصبحوا مجالدين. والأشخاص الذين كانوا يتخرجون من هذه المكاتب، كانوا يستخدمونهم كأفراد حماية في وقت السلم وكمساعدين في وقت الحرب أو إنهم كانوا يؤجرونهم للقتال في المآدب الشخصية أو للمشاركة في المسابقات القتالية… .
وفي ساحة قتال المجالدين؛
إن كان أحد يُصاب بشدة في القتال المنفرد وجها لوجه، كان مشرف المسابقات، يستطلع آراء المشاهدين. فإن أشاروا بإصبع الإبهام إلى أعلى أو لوحوا بمناديل كان ذلك علامة العطف والرحم وإن أشاروا بالإبهام إلى أسفل كان ذلك يعني أن الغالب يجب أن يقتل المغلوب. وكل مقاتل كان يبدي كرهه من الموت كان يثير سخط الجمهور وكان يضطر لإبراز الشجاعة باسياخ ساخنة. وكان القتل الأكثر يعرض عن طريق القتال الجماعي إذ كان ألوف الأشخاص يقاتلون فيه بوحشية … وكان عبيد يقاتلون بملابس خاصة وقضيب حديدي باليد يطعنون به الذين يسقطون على الأرض لكي لا يكونوا تظاهروا بالموت.
وكل هذه الفظاعات والاعتداءات لم تطال الإنسان فحسب بل ان الحيوانات كأشياء تحولت إلى وسيلة لترفيه وتسلية هؤلاء الطغاة. الكائنات فاقدة الإرادة التي أصبحت لعبة وكانت تذبح في مسلخ ساحات قتال المجالدين.
إن عروض الوحوش والقيام بعمليات استعراضية مع الحيوانات كانت أبسط واقعة تعرض في المدرجات الرومانية، لدرجة أن:
قتال الثور مع الإنسان والذي كان سائدا لمدة في كريت وتسالي، جئ به إلى روما من قبل القيصر وكان يعرض غالبا في المدرجات الرومانية. وكان المجرمون المدانون الذين يتم تلبيسهم جلود الحيوانات ليتشبهوا بها، يلقون أمام الحيوانات المفترسة التي كانت قد أبقيت جائعة حتى تلك الفترة تعمدا. وفي هكذا حالات، كان يحصل الموت بمعاناة وألم وكانت الجروح عميقة لدرجة أن الاطباء كانوا يستخدمون هؤلاء الأفراد للدراسة التشريحية الباطنية.
إن السيرك الروماني وإجراء سباق العربات كان يعتبر من أكثر نماذج الغفلة وإرضاء النزوات والطبيعة الحيوانية الاثارة للجدل لسكان روما. وثمة عبارة جميلة ل “إدوارد غيبون” في هذا الخصوص، إذ يقول:
يمكن العثور على مفارقة أساسية ومهمة في مسابقات ورياضات العصور القديمة: لقد كان اشهر الرومان، لاعبين وأكثر الرومان تفوقا، متفرجين فحسب. وكان ملعب الأولمبيك مفتوحا أمام الاغنياء والمترفين وطلاب الجاه والنعمة.
وكان سباق العربات من أكثر الرياضات اثارة وتهييجا. وكان رجال من أصحاب العضلات المفتولة يستقلون عربات ويرتدون ملابس زاهية، يدخلون الساحة ليكونوا في مسابقة صاخبة وسيلة لتسلية طلاب الاثارة والمتعة والتنوع والاموال المتاتية من المراهنات.
کانت عشر او عشرون او أربعون عربة تنطلق في آن معا، من مكان الانطلاق. وكان تاج من الورق، جائزة الفائز، وكان اسمه واسرته وبلاده، يوضع بين ابيات وغزليات المطربين والمغنين ليصح أكثر خلودا وبقاء من اي صرح ونصب مشيد من الرخام والنحاس الاصفر … وكانت السباقات الرومانية تقام على نفقة الجمهورية وأصحاب الصلاحيات او الإمبراطوريين الا ان لجام الجياد، كانت بيد الرقيق.
إن هذه المسابقة التي كانت تقام للتسلية والترفيه وارضاء الشهوات والنزوات، لم تكن لتنته من دون صخب وجلبة ونزاع بحيث انها اثارة ضجة كبيرة ذات مرة اضطرت فيها القسطنطنية لدفع ثمن باهض ازائها.
إن شرح هذه الحادثة، يكشف الكثير من النقاط. ويقول ادوارد غيبون في هذا المجال:
لقد وقعت فتنة على إثر الكراهية المتبادلة والمساومة الفورية بين الفريقين المتخاصمين كانت القسطنطنية على إثرها على وشك ان تتحول إلى رماد.
إن المنافسة والجدال بين أنصار الالوان الحمراء والخضراء والزرقاء والبلوى الناتجة عن هذه المنافسات، قضية تستحق الاهتمام في رياضات روما القديمة التي انتقلت إلى العالم الحديث وهي تحاول احياء تقاليد الرياضة القديمة. ويكتب ويل ديورانت في وصف الألعاب او المسابقات البطولية في حياة الرومان ما يلي:
لقد كان للفرسان وسائقو العربات وعربات كل اصطبل، ملابس محددة بلون محدد أبيض وأخضر وأحمر أو ازرق؛ وعندما كان موعد هذه المسابقات يقترب، كان جميع الرومان ينقسمون إلى فرق تحمل أسماء تلك الألوان لاسيما الأحمر والأخضر…
وفي يوم محدد، كان 180000 امراة ورجل يذهبون إلى مضمار سباق الفروسية العظيم وهم يرتدون ملابس ملونة. وكان اهتياج الناس يبلغ مرحلة الجنون والهوس.
وكان المتشجعون المتحمسون يشمون روث الحيوانات لكي يتيقنوا بأن جياد العربات قد تناولت الطعام بصورة صحيحة.
ويمكن اعتبار هذه الثقافة والحضارة بأنها مثال بارز على ظهور “النفس الامارة لدى الإنسان”. وكما يقول مؤرخ ومؤلف “تاريخ روما” فإن الرومان لم يكن يريدوا من الإمبراطوريين شيئا سوى التغذية والتسلية. ومن أجل اظهار التبعات البغيضة للفتوحات في حياة الرومان، يقول المؤرخ الرومي “سالوست” :
وبعد هذا، فإن حياة الشبان كانت عبارة عن: الاختطاف والتمزيق وإتلاف المال والطمع بمال الآخرين والدوس بالأقدام على الأعراض والنواميس والاستهزاء بالشرائع الإلهیة والوضعية ومغادرة الاحترام والتعفف والأدب.
ونختتم هذا القسم بعبارة من “جوفنال” الشاعر الأوروبي الشهير. العبارة التي تبرز خلاصة وجوهر آمال وتمنيات الغرب في العصر القديم:
إن الرومان الذين كانوا يهبون للآخرين، ماضي الحكم وأسباب الرئاسة وقيادة الأفواج وسائر الافتخارات؛ ليست لديهم اليوم أمنية سوى تحقيق شيئين: الخبز واللعب.
نشأة المسيحية
إن “التفكير الفلسفي” وبجانبه بعض آراء الفلاسفة التي كانت تركز على النصيحة وإصلاح أخلاق الناس (الفلاسفة الرواقيون)، لم تكن قادرة على الحد من الضياع الثقافي المدمر؛ لأن مجموعة المعتقدات اليونانية وبمبادئها العقائدية الخاصة التي أتينا على ذكرها سلفا، أغرقت الغربيين في وحل من الاستكبار والتكبر. بمعنى أن غياب المنهج والمسلك المعنوي والمبسط والقابل للفهم من قبل الجميع، أوصل هؤلاء إلى طريق مسدود وأزمة خانقة، إلى ان ظهر عيسى المسيح عليه السلام، وذلك في عصر رهيب كهذا وفي ظل حكومة فاسدة ومنحطة إلى هذه الدرجة.
ويجب القول بإيجاز بأن اليهود لاسيما فرقة الفريسيون ممن عرفوا أنفسهم على أنهم من منتظري المسيح، لم يملكوا معتقدات موحدة حول هذا النبي المختار.
لقد كان البعض يأمل بأن يقطع المسيح دابر الرومان الذين كانوا منبوذين لدى الشعب، والبعض الآخر كان يدعو الشعب إلى تطهير الروح والتوبة والعودة عن المعاصي والموبقات لكي يكون جميع الناس أطهار وصلحاء أثناء ظهور المسيح، مثل جان بابتيست الذي كان يُعمّد الناس في نهر الأردن… وكان يعظ الناس في صحراء اليهودية ويقول: توبوا، لأن ملكوت السماء آت … .
وفي هذا الزمان، كان الرومان يواجهون اضطرابات وفوضى عارمة وحسبما يقول مؤلف كتاب “تاريخ الفكر الاجتماعي”:
في بحبوحة هذه الاضطرابات [في روما] تشكلت نهضة المسيحية.
وعلى الرغم من أن المسيحية أمضت ثلاثة قرون متتالية في صراع مع اليهود واليونانيين والرومان إلى أن قبلت في أوروبا كفكر اعتقادي وثقافي جديد، لكن هذا النظام لم يكن بمأمن عن أثر الثقافات التي سبقته وحقد بني اسرائيل. لدرجة أنه ابتعد عن المبادئ الفكرية الأخلاقية للمسيحية الأصيلة وتحول إلى قشرة بعيدة عن الماهية.
إن الأذى الذي كان يمارسه الرومان ضد اليهود تسبب بتشتتهم وبعثرتهم. فضلا عن أن هذا التشتت أدى بعد دمار أورشليم إلى المزيد من التمازج بين الثقافتين اليونانية واليهودية.
بفضل التمازج الثقافي، ظهر من بين اليهود المشردين، فلاسفة بمن فيهم فيلون الإسكندراني الذي كان يحظى بمنزلة رفيعة. وسعى فيلون جاهدا لمزج الأفكار العبرانية واليونانية معا.
إن الإيذاء المتواصل الذي تعرض له اليهود على يد الرومان أدى إلى ميلان اليهود نحو الثقافة والحضارة اليونانية من جهة ونشأة حالة انتظار ظهور المسيح لديهم من جهة أخرى.
إن أكبر مدينة في منطقة الجليل والتي كانت تسمى “صفورية” وكانت تقع بالقرب من الناصرة، احترقت بنيران غضب الرومان بسبب طغيان يهود الجليل وأعدم فيها ألفا يهودي.
إن هيمنة الرومان وإرساء أسس حضارتهم، زعزع المبادئ القديمة وقوض أكثر فأكثر قدرة الدين.
وفي أعقاب هذه السلطة، دخل المسيحيون الناشئون في صراع مع الإمبراطوريين الرومان وتعرضوا للأذى لأكثر من ثلاثة قرون. إن إيذاء وقتل المسيحيين انتهيا عندما وجد الإمبراطور “كنستانتين” المسيحية بأنها ملائمة لمآربه وأقرها كدين رسمي للحكم الروماني.
وتواصلت الألعاب الأولمبية في عصر هيمنة الرومان على أوروبا، لأن الفكر والثقافة الرومية لم تكن في تناقض مبدئيا مع ثقافة عصر الكلاسيك اليوناني، إلى أن:
في القرن الرابع عشر للميلاد، وصلت الإمبراطورية إلى تيودوسيوس. وتيودوسيوس الذي كان مسيحيا مؤمنا ومتأثرا بكبير أساقفة ميلان (امبروواز) كان يتألم من الضياع والتفسخ الخلقي لدى الرومان وما تبقى من اليونانيين وتقاليدهم المشوبة بالشرك. لذلك منع مراسمهم وأوعز بإغلاق معابدهم.
ويكتب إدوارد غيبون في هذا الخصوص:
إن زوال الوثنية الذي حدث في عصر تيودوسيوس، يمكن اعتباره النموذج الوحيد على الاستئصال المطلق للخرافة القديمة وعبادة الأوهام.
وكان تيودوسيوس قد أمر في قرار أصدره إلى والي حراس الإمبراطورية الشرقية واثنين من أمراء جيش الشرق ب:
إغلاق المعابد، ومصادرة أو تدمير أدوات ووسائل عبادة الأوثان. وإلغاء امتيازات الكهنة ومصادرة الأموال الموقوفة لصالح الإمبراطورية والكنيسة والجيش.
ومع إغلاق المعابد وتحريم تقديم القرابين للأرباب والآلهة، حظرت أيضا مشاركة الرياضيين بأجساد عارية والتي كانت تعتبر مكروهة.
لقد اتخذ امبروواز قرارا حاسما بالغاء هذه الألعاب وأصدر الإمبراطور القرار اللازم بتعطيلها. ويجب فهم إلغاء المسابقات القديمة للرومان برحابة صدر وحرية تفكير إلى حد ما.
إن اإافراط في بناء الأجسام وتلازم الرياضة مع اللهو واللعب، أدى إلى زوال هذه الألعاب.
وفي هذا القرن اعتبر الإمبراطور المسيحي هذه النزوة واللعب بأنهما شرك وإلحاد وأوعز بإحراق معبد زيوس.
بدء القرون الوسطى
تحول الأساقفة منذ عام 395 للميلاد إلى الرؤساء الأصليين للبلاد ووضعوا يدهم على القضاء وتربية الشباب والتوجيه السياسي والاجتماعي لأوروبا.
وفي أواخر القرن الخامس، تغير وضع أوروبا كليا وانهار على إثر هجوم وغلبة المهاجرين. وكانت نتيجة ذلك، الدمار والركود وتراجع العلاقات المادية والمعنوية لأوروبا في القرن الخامس إلى السادس للميلاد.
وربما نستطيع القول بأن المسيحية الأولى أرسيت في الفترة من القرن الثالث إلى الخامس للميلاد على أساس الثقافة والمدنية الرومية، ونالت نصيبا منها. لكن تغير الأوضاع في القرن الخامس زعزع أركان الثقافة والمدنية الأوروبية لدرجة انه أصبح لابد من بناء صرح جديد على أنقاضها. العمارة الحديثة التي استفادت من المسيحية ازيد من القرون السابقة وتقبلت لون هذا الاعتقاد. لكن أسبابا عدة منها:
• تلطخ المسيحية بالثقافة اليونانية؛
• سيادة البدويين والغزاة؛
• اهتمام أرباب الكنيسة بظاهر الدين والغفلة عن المبادئ والتعاليم الدينية؛
• التفسخ الخلقي والحرص على الدنيا لدى بعض زعماء الكنيسة. شكل عقبة كأداء أمام نمو وبقاء الثقافة والمدنية التي كان يمكن ان تشكل نقطة فارقة بين الثقافة اليونانية والرومية والمسيحية المشركة. ومع ذلك، فإن نبراس العلم والمعرفة والفكر ظل مستنيرا على قاعدة الثقافة الدينية للكنيسة والمفكرين المسيحيين رغم جلبة القرون الخامسة إلى العاشرة للميلاد.
وبرغم الدعاية الخاصة التي مارسها أنصار المذهب الإنساني ومثقفو عصر حركة النهضة ضد القرون الوسطى، فإن الكتاب والمؤرخين المنصفين الاوروبيين، لا يملكون رؤية متقنة مائة بالمائة تجاه هذا العصر:
في مطلق الأحوال، فإن المجتمع الغربي في القرون المظلمة لم يغلق الباب تقريبا على المواهب، لاسيما وإن أصحاب موهبتين، كان بوسعهم ترقية أنفسهم إلى مرتبات أعلى، الأولى الموهبة الفكرية والإدارية العليا التي كان يكتسبها الفرد من خلال انخراطه في الكنيسة والأخرى الموهبة الحربية العليا خاصة إن كان أصحابها قادرین على الانسجام والمساومة مع الأوساط الرياضية الرجالية، كانتا ستجعلان الأفراد ينخرطون في الطبقة الحاكمة وتصنعا ن منهم “نبلاء”. فالطريق الأول كان مفتوحا طوال فترة القرون الوسطى، لكن الطريق الثاني كان مفتوحا في عهد مروفنجرين وكارولتجرين، لكن كلما ابتعدنا عن القرون الوسطى، كان سلوك هذا الطريق يصبح أصعب فأصعب.
إن المؤرخين المغرضين والمثقفين من أنصار المذهب الإنساني، وبسبب كرههم للفكر الديني والثقافة الدينية، كلما أتوا على ذكر “القرون الوسطى” يعتبرونها عصر الظلمات وعصرهم العصر الزاخر بالنور لكن لا يخفى بأنه ذلك النور المرتبط بالتفكير السطحي والنزعة الظاهرية في مقابل التفكير المعمق والاهتمام بالمغيبات.
ويعطي البر مالة والعديد من المؤرخين والمفكرين الأوروبيين رأيا مختلفا عن القرون الوسطى. ويتطرق ماله إلى وضع العلوم والمعرفة في هذا العصر فيقول:
منذ القرن السابع عشر وحتى العصور المتأخرة، كانت القرون الوسطى تعتبر عصر الجاهلية وذلك بسبب بعض الموهومات واتباع القدماء وقصور العقول عن درك الأفكار غير اليونانية وغير الرومانية، لكن هذه الدورة كانت تتمتع في الحقيقة بمدنية خاصة منذ القرن الحادي عشر فصاعدا، إذ بلغت كمالها في القرن الثالث عشر وجعلت من فرنسا مركزا لها. ومنذ أن انتعشت الشؤون الاقتصادية، حصل توسع وانتشار في العلوم والفنون، بحيث تزايد عدد المدارس وأسست دور العلم (افتتحت حفرة دار العلم في النصف الأول من القرن الثالث عشر) … إن حضارة القرون الوسطى وكما هو معلوم من إرهاصاتها، كانت مظهرا للنصرانية وهذه هي ميزتها وصفتها المميزة … .
إن درك الوضع العام لأوروبا القرون الوسطى ونوعية علاقاتها الاجتماعية والسياسية، يعد الشرط الأول والضروري لمعرفة الوضع الثقافي والمدني لذلك العصر. بما في ذلك نظامها الاجتماعي الخاص أي “الإقطاع”.
إن هذا النظام، حل محل نظام الإمبراطوريين السابق بعد هيمنة المسيحية على أوروبا وهجوم سكان الضواحي على روما، واستولى لقرون على بلاد أوروبا (اتحاد المسيحية الغربي) بوصفه تقليدا ثقافيا.
والملفت هو دور ومكانة الدين لدى ثقافات وحضارة أوروبا القرون الوسطى. وهذه المكانة كانت مختلفة تماما عن ما كان سائدا في العصور الوسطى. ففي القرون الوسطى كانت هناك كنيسة واحدة في أرجاء الغرب، وكان الجميع ينتمي إليها:
لقد كانت الكنيسة والدولة، منفصلتين عن أحدهما الاخر في الغرب بمفهوم ما، لكن هذا المفهوم يختلف تماما عن مفهوم عصرنا الحاضر. وبالنسبة لجمهور القرون الوسطى، كانت الدولة الدينية للبشرية والدولة السياسية، أداتين لازمتين للطرح الإلهي لحماية المجتمع البشري. وكان هذان، سيف الله. وكان هذان السيفان يستخدمان من قبل فئتين مختلفتين من “عمال الله المختلفون” وكانا كلاهما ضروريين.
وهذا الوضع استمر باختلاف طفيف، في أرجاء أوروبا حتى حوالي القرن الثاني عشر الذي شكل بداية حدوث التشقق والتشرذم في الكنيسة. ويقول ويل ديورانت عن كيفية إمضاء أوقات الفراغ في هذا العصر:
لقد خففت الكنيسة عبء المزارع في أيام الأحد والأيام المباركة. لأنها قررت بأن “تقديم الخدمة غير الدينية” في هكذا أيام، يعد من الذنوب. … وفي هكذا أيام، وبعد أن كان الفلاح يتفرغ من أداء مراسم القداس، كان ينهمك بالغناء والرقص … وكان الأفراد يشاركون معا أو أفراد قرية مع أفراد قرية أخرى في مسابقات كرة القدم والهوكي والمصارعة ورمي القرص الخشنة.
ولا ننسى بأن اتحاد “السياسة والديانة” وسلطة الكنيسة الكاثوليكية، في هذا العصر أدى إلى يتم تعريف السياسة في ذيل الديانة وإن تكون تابعة لها وإن يستمد مجمل الحكام والملوك، شرعيتهم من قادة الكنيسة.
سلك الفرسان
وفي هذه الدورة – القرون الوسطى- كان ينظر إلى الألعاب كوسيلة للهو والتسلية وتقضية الوقت، ولم تكن لتحظى بمكانة خاصة في نظام التربية وحتى “التربية البدنية”. في حين ان التربية البدنية في هذا العصر والتي تمخضت عن ظهور أبطال او فرسان ذائعي الصيت، كانت خاضعة لتاثير التعليمات الدينية وكان يتم تربية تلامذة مدرسة الفرسان تحت التعاليم الدينية لخدمة المعتقدات الدينية، وكانوا يعتبرون ان واجبهم يتمثل في حماية كيان الثقافة الدينية والجغرافيا الترابية لاوربا.
إن سلك الفرسان، قابل للدراسة في تناسب وثيق ووطيد مع الجوهر الثقافي والديني لأوروبا العصر الوسطي. وكما يقول ويل ديورانت:
من التقاليد القديمة للإبداع العسكري لشعب الجرمان هو تلازما مع نفوذ الساراسنيين من ناحية إيران وسورية وإسبانيا وكذلك التصورات المسيحية حول العمالة والشعارات الدينية، نمت ونضجت الفروسية، تلك الظاهرة الناقصة، لكن الشهمة، وبلغت مرتبة الكمال.
إن الفروسية تعد التيار الوحيد الذي يربط “التربية البدنية” بالتقاليد الأخلاقية لأوروبا العصور الوسطى، ويقوم بوصفه تيارا تربويا منتظما، بإعداد أفراد مختارين للمشاركة في سوح القتال لنظام الإقطاع الأوروبي، وكما يشير ويل ديورانت، فإن هذا التيار لا يضرب بإطنابه في البنية الثقافية لأوروبا لكنه تأثر تدريجيا بالعلاقات الثقافية للغرب واكتسب لون ونكهة تلك الديار. بحيث أن سلك الفرسان هو الوجه البارز للتربية البدنية ويعتبر ضربا من “التربية الخاصة للشبان المختارين”.
ومع أن الخلافات المحلية والمناطقية وبالتالي الوطنية كانت كبيرة في ثقافة القرون الوسطى، فإن الطبقة الإقطاعية كانت تعيش في أرجاء القرون الوسطى بالطريقة التي كانت فيها صاحبة حصة في ما نسميه نحن البطولة [الفروسية]. إن مجموعة تقاليد البطولة ظهرت على هيئة المعتقدات البسيطة لرجال الحرب بلغت مثلها مثل غالبية الأشياء المتعلقة بالقرون الوسطى، مرحلة الكمال في حدود القرن الثالث عشر.
إن انخراط الشبان في سلك الفرسان، كان منوطا بسلوك مراتب كانت تسهم في إعدادهم وتحضيرهم جسديا ونفسيا.
إن الشاب الذي كان متحمسا للانخراط في سلك الفرسان، كان عليه أن يمر بفترة طويلة من تطبيق قواعد الانضباط الشديد على نفسه. وكان يدخل الخدمة كغلام الفارس عندما كان في السابعة أو الثامنة من العمر.
وكانوا يتلقون هذا التعليم “تحت إشراف المعلمين أو اولئك المسؤولين أو قساوسة المنزل أو متخصصي التعليم والتربية، وكان لديهم معلم يدربهم على الفروسية والمبارزة بالسيف. وكانوا يتعلمون التعليمات العسكرية في العاشرة من العمر، التعليمات والفنون التي كانت تفيدهم في كل مراحل العمر بما فيها تعلم الفروسية والقتال على الخيول وارتداء الملابس الثقيلة لمقاتلة التماثيل أو المجسمات ومن ثم التقاتل بعضا مع بعض، في هذا العمر”.
وفي هذه الطريقة فإن حدثا ما؛
كان يُرقى إلى منصب “حامل الدروع” في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة من العمر ليكون في خدمة الزعيم، وجاهزا للخدمة على مائدة الزعيم أثناء التمرين بالرمح أو ساحة القتال في ركاب القائد. وكان يقوي روحه وجسمه بالمسابقات والرياضات الخطيرة وكان يتدرب على استخدام أسلحة الحرب الإقطاعية عن طريق التقليد أو الاختبار.
وكان الحدث الذي يريد الانخراط في “سلك الفروسية” يُربى في قلعة بعض أصدقاء والده أو قلعة أخرى وكان يطلق عليه اسم “غلم الفارس”.
ومن أجل أن يكون مفعما بالأمل للرقي إلى مرحلة حامل الدروع أو حدث ما، كان يجب عليه أن ينجز الكثير من الأعمال، ولزاما عليه التدرب عليها.
وفي هذا العمر، كانت وظيفته، خدمة سيدات الأسرة. وكان لزاما عليه تعلم الفروسية والقفز ورمي الرمح وتقليد الحرب وأن يتولى إلى جانب الفرسان، وظيفة حمل الدروع والتروس والرمح وأشياء من هذا القبيل ومساعدة الفرسان على ركوب الخيل، وكان يتمرن على المبارزة بالسيف الخفيف ويتعلم السباحة وتسلق الجبال وبالتالي كان عليه إطاقة البرد والحر والظمأ والجوع ويعود نفسه على تحمل ارتداء الدرع الثقيل.
وعنما كانت دورة التدريب تنتهي لديه، كانوا يقبلونه للدخول إلى سلك الفرسان من خلال سلسلة تقاليد تسودها الروعة والأبهة. وكان المتطوع يستحم في بداية الانخراط إلى سلك الفرسان، وكان ذلك مؤشرا على طهارة الروح أو ربما ضمانة لطهر الجسم. لذلك كانوا يطلقون على هذا الشخص “فارس الحمام” لكي يكون هذا العنوان تمييزا بينه وبين اولئك الذين يسمون “فرسان السيف”. والفئة الأخيرة هم أفراد كانوا ينالون على الفور لقب الفارس مكافأة لهم على تضحياتهم وبطولاتهم في إحدى ساحات القتال.
وبعد هذا الجهد الدؤوب، فإن “فارس الحمام” يصبح قادرا على الحصول على لقب “الفارس” الذي كان يمنح له خلال مراسم خاصة.
في البداية كان الفارس الجديد يرتدي سترة بيضاء ورداء أحمر وقباء أسود، فالأبيض يرمز إلى نيل طهارة الأخلاق والأحمر إلى إراقة الدماء على طريق الكرامة أو الله والأسود إلى الاستعداد لمواجهة الموت بصمود. وكان يصوم لمدة يوم واحد ويصلي ليلة في الكنيسة. وكان يعترف بذنوبه لدى قس، ويشارك في مراسم القداس ويساهم في تنفيذ الشعائر المتعلقة به. وكان يصغي إلى موعظة حول الواجبات الأخلاقية والدينية والاجتماعية والعسكرية للفارس، ويتعهد من كل قلبه بأن يطبقها بحذافيرها. وعندها وفيما كان يعلق سيفا على رقبته، يتقدم نحو محراب الكنيسة، فكان القس يرفع السيف من على رقبته ويقدسه ويضعه ثانية في مكانه. ومن ثم كان المتطوع يتوجه إلى الزعيم الجالس في تلك الحوالي. وكان يجب أن يحصل منه على لقب الفارس. ويسمع منه هذا السؤال الصعب: لماذا تريد أن تنخرط في سلك الفرسان؟ فإن كنت تفكر باكتناز المال ونيل الراحة والاحترام، من دون أن تملك احترام الفرسان، اعلم بأنك لست جديرا بهذا اللقب، وإن منصبك بين الفرسان يشبه الأسقف الذي حصل على منصبه بواسطة المال. وكان المتطوع لديه الرد الجاهز. وبعدها كان الفرسان أو النساء يلبسونه مجموعة من أدوات القتال من قبيل الدرع والسترة والأذرع الفولاذية، ويسلمونه قفازا فولاذيا وسيفا وحمالات الفرسان. وبعدها كان الزعيم ينهض من مكانه فيضرب بعرض السيف على عنق أو كتف المتطوع ثلاث مرات، أو أن يصفعه في بعض الأحيان، وهاتان كانتا آخر الإساءات التي كان يجب أن يحتملها من دون ردة فعل انتقامية.
وأثناء إقامة هذه المراسم كان الزعيم، يردد هذه العبارة عادة:
بسم الإله وميكائيل القديس والقديس جورج، إني جاعلك فارسا.
وفي بعض الحالات:
كان منادي يُرسل من جانب الزعيم الكبير أو الملك إلى الأطراف والأكناف ليبشر الجميع بنيل شخص ما، لقب الفارس.
وبلغت الفروسية وتقاليدها ذروتها في الفترة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر للميلاد. وكان الرجل الشاب الذي ينال منصب “الفارس”، يقرا اليمين الخاص بالفرسان بصوت عال. وكان مضمون اليمين كالتالي:
1- إنك ستؤمن بكل تعاليم الكنيسة وستحمي أحكامها وشرائعها.
2- إنك ستحمي الكنيسة.
3- إنك ستدافع عن جميع الضعاء.
4- إنك ستحب الوطن الذي ولدت فيه.
5- إنك لن تهرب أبدا من أمام العدو.
6- إنك ستحارب الكفار بعناد.
7- إنك ستنجز واجباتك تجاه الإقطاعيين، إن لم تكن تلك الواجبات مغايرة للقوانين السماوية.
8- إنك لن تكذب أبدا وستبقى دائما وفيا لعهدك.
9- إنك ستكون متحررا وشهما.
10- إنك ستبقى دائما بطلا للحق والطيبة في مواجهة غياب العدل والسوء.
إن هؤلاء الفرسان أسدوا خدمات جمة لعالم المسيحية طوال حروب المائتي عام الصليبية. وكما نلاحظ، فإن تقليد سلك الفروسية يختلف عن تقليد سلك المجالدين الرومان والرياضيين اليونانيين القدماء وذلك بسبب ارتباط سلك الفرسان بالثقافة الدينية المسيحية، وكان يشبه بنحو ما الأبطال الإيرانيين القدامى.
والملفت هنا هو أن بطولة الإيرانيين المسلمين، كانت انعكاسا لمجمل الثقافة وكل التعاليم الدينية للإيرانيين، ولم يكن هناك تعارض ملحوظ بينهم والثقافة العامة للشعب المسلم وماضيهم التاريخي.
إن تقهقر سلطة الكنسية وتصدع البنية الثقافية والعلاقات المادية ، ألقى بظلاله على جل الشؤون السارية في القرون الوسطى بما فيها تقليد الفرسان والبطولة. وهذا التغير، نخر في جسد الفروسية وفرغها من محتواها وجعل روحها الدينية تخضع للمفاهيم الدنيوية.
والحقيقة أن التوازن الكلي للبطولة كان خاطفا وموجزا. وكانت الفروسية طريقا في الحياة، تعرضت للمبالغة بسهولة ولم تتمتع على أي حال بعمر طويل. إن الحرص على المظاهر الصورية وتصلب الشرايين الذي استولى حسب الظاهر على جميع ثقافات الغرب، استحوذ سريعا على هذه الثقافة البطولية. فتحولت فضيلة البطولة أي مراعاة المرؤوسين والضعفاء والمساكين، شيئا فشيئا إلى تقليد الأناس شبه الثملين. فأصبحت البطولة نوعا من حفظ أنانية النبلاء في مقابل القوة المتزايدة للتجار والصرافين. والأطرف من كل هذا هو أن القتال الذي كان سببا في يوم من الأيام في إيجاد طبقة الإقطاعيين الممتازة، تحول تدريجيا وبشكل سافر إلى رياضة ولهو. ومع تنامي القوة العسكرية في القرن الرابع عشر تحولت الحرب الإقطاعية إلى رياضة معقدة في الميدان وتسارعت وتيرة انحطاطها يوميا بعد يوم. وأصبحت قواعد هذه الطريقة صعبة للغاية. وأصبح درع القتال أكثر سماكة وقوة … وكان الفارس حتى في الحالات التي يتمتع فيها بتوازن كامل، قلما يحمل انطباعا ممزوجا بالعطف تجاه الحب والمرأة.
وفي مستهل الحروب الصليبية الطويلة، تحول الفرسان التائهين إلى ملعبة بيد بعض أرباب الكنيسة. وفي الوقت ذاته كان هؤلاء يبحثون عن سبيل للنجاة بأنفسهم من وحل الضياع الناجم عن الحروب الصليبية مع المسلمين. ومن هنا فإنهم أرسلوا الفرسان التائهين إلى الشرق باسم الله، وهؤلاء الفرسان، كانوا يطمعون في هذا الخضم بممتلكات وأموال الشرق وجابوا كل الشرق الإسلامي ضمن حشد غفير من الجياع والحفاة.
يتبع إن شاء الله
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون إذن خطّيّ من إدارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.