اليونان، مسقط رأس الرياضة في الغرب

اسماعیل شفیعي سروستاني
من بين الاحتفالات اليونانية ال أربعة (احتفالات نمئا وتنكه وبيته وأولمبي)، يعد احتفال أولمبي أكثرها فخامة وشهرة، إذ يقام كل  أربع سنوات مرة وكان الفاصل بين كل أولمبيين، يسمى أولمبياد.
وقد اعتبر شعب اليونان، أولمبياد عام 776 قبل الميلاد، كبداية وكانوا يحصون سنواتهم على أساسه.

ويكتب ويل ديورانت عن الحرص البالغ لليونانيين على هذا الاحتفال فيقول:
في اليونان، إن عجز الدين عن إرساء الوحدة، فإن الرياضة نجحت في ذلك. إن اليونانيين كانوا مولعين جدا بمشاهدة مسابقات الأبطال. ولذلك كانوا يحضرون بإصرار الاجتماعات الكبيرة التي كانت تقام بمشاركة القبائل والجماعات المختلفة. إن السبب الرئيسي لتجمع اليونانيين في المدن المقدسة مثل أولمبي ودلفي وكورنت ومنئا، لم يكن العبادة، بل مشاهدة المسابقات التي كانت تقام في هذه المدن. ولهذا السبب فإن الإسكندر المقدوني الذي وطأت قدماه جميع أصقاع العالم القديم، اختار أولمبي عاصمة للعالم.
وقد وردت قصص وحكايات عديدة في كتب التاريخ حول نشأة هذه المسابقات. ومن هذه الحكايات، الحكاية التالية:
في بلوبونز القديمة وسط السهل المقدس، كان ثمة معبد يدعى زيوس رب الأرباب. وذات يوم تموضعت مجموعة من المؤمنين الأحرار على بعد مائتي متر من المحراب لتقديم قربان ونظمت مسابقة لإشعال النار المقدسة. أي كل من كان يقطع مسافة 200 متر بشكل أسرع، كان يسند إليه إشعال النار. وهذا المشهد يعود إلى العام 844 قبل الميلاد وحدث في عهد ايفيتوس، وهذا السهل الذي لم يكن مدينة ولا منطقة مأهولة بالسكان، كان يدعى أولمب.
وفي هذه الاثناء أعلن صوت معبد دلف: يجب على اليونان إقامة ألعاب الأولمب من أجل اقرار هدنة في الحروب الداخلية. وبذلك أقيمت هذه المسابقات كل  أربع سنوات طيلة 1200 عام بنظام وترتيب من دون ربح أو انتفاع (كان يعطى غصن زيتون للأبطال فقط).
ولم يكن اليونانيون يؤمنون بإله واحد وبجانب عبادة أنواع وأقسام الأرباب والآلهة، كانوا يفكرون أكثر من اي شئ آخر بالتمنيات النفسانية والجمال الطبيعي لجسم الإله ويعتبرونه مظهرا للجمال. وهذه الآلهة والأرباب كانت شريك التمنيات تارة والمنافس في الميدان تارة أخرى. وجاء في الأوديسة لهوميروس:
طوال الحياة، لا يوجد للإنسان مقام وشأن أسمى مما يكتسبه بجهد قدميه ويديه.
وبناء على ذلك فقد تركز جل جهدهم على الاستمتاع المادي بالحياة وجمال الجسم، ولم يدخروا وسعا من أجل تحقيق هذه الغاية.
ويكتب ويل ديورانت:
وفي هذه المدن، كان الدين الحقيقي لليونانيين يتجسد في عبادة الصحة والقوة والجمال.
وكانت أولمب ميعادا لاستعراض قوة الإنسان وجمال جسمه. وعلى الرغم من أن اليونانيين واتباعا للكهنة، كانوا يسعون لنيل رضا الآلهة ليبقوا بمأمن عن غضبها وأضرارها، لكن جان ناس مؤلف كتاب “تاريخ الأديان” ينقل عن أحد المفكرين فيقول:
إن هوميروس وهزيود، نسبا كل ما كان قبيحا ومذموما ومخجلا لدى الإنسان مثل السرقة والزنا والخداع والكذب إلى الهتهم.
لكن فلاسفة اليونان ممن كانوا يعيشون في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، ابتعدوا عن أقوال ونظريات هوميروس وحتى أن أفلاطون وجه نقدا لمعتقدات اليونانيين من بعض الجهات، بحيث أنه عبر في كتابه الجمهورية عن قلقه البالغ في الباب الذي ناقش فيه مسألة تربية الشباب ويرى بأن:
إن تعليم أساطير هوميروس للشباب، ستفسد أخلاقهم حتما إن لم تتلازم مع التهذيب والتصفية.
ورغم أن حكماء اليونان بمن فيهم أفلاطون بذلوا جهدا لإصلاح الرأي العام وأوصلوا أفكار هوميروس من المراتب الدنيا إلى مواقع عليا، لكنهم هبطوا بالإنسان في وادي العقل والحياة العقلانية (المنفصلة عن الوحي السماوي).
والملفت هو مكانة ذلك الدين الخرافي في الحياة المعنوية والمادية لشعب اليونان:
يمكن القول بأن الدين لم يكن له أثر كبير في أخلاق الناس، لأن الدين اليوناني كان منذ البداية على شكل مجموعة من الطقوس السحرية التي لم تمت إلى الأخلاق بصلة. والمهم في الدين اليوناني كان التطبيق الصحيح للبروتوكولات التقليدية أكثر منه من نزاهة الإنسان وطهره وإن الآلهة السماويين والأرضيين لليونانيين لم تعط قدوة تحتذى للإنسان من حيث العفة والشرف والنجابة.
وبذلك فإن المسابقات الرياضية التي كان يشارك فيها متسابقون عراة أو يرتدون ملابس مختصرة، شكلت مكانا لنشأة الفن اليوناني أيضا. وقد صنف المؤرخون اليونانيون في العصور اللاحقة، الوقائع حسب اسم وعصر أبطال الأولمبيا.
إن جمال جسم الرياضي في القرن السادس قبل الميلاد، أنعش نحت التماثيل في اليونان … والمتسابقون الرياضيون الذين كانوا يظهرون عراة في الاحتفالات، دفعوا النحاتين للنظر مليا في الأجساد والحركات البدنية للأبطال لتجسيدهم بصور متنوعة.
جدير ذكره أنه في العصر الجديد (حركة النهضة) لإحياء الثقافة الكلاسيكية، تحولت الأجساد العراة للإنسان وعري الأجساد إلى مادة لرسامي ونحاتي عصر “المذهب الإنساني” و حركة النهضة.
ونقرأ في تاريخ اليونان ما يلي:
قام كوبسلوس في القرن السابع بتنظيم مسابقة الجمال للسيدات وحسب “اتنايوس” فإن هذه المسابقات كانت تقام بصورة دورية حتى نشوء المسيحية.
وكان ثمة موضوعان حظيا بقوة باهتمام النحاتين اليونانيين، أحدهما الشاب “كوروس” والثاني الفتاة “كورة” الشابة إذ كان يتم عرضهما وهما عراة وبوجه هادئ ووديع.
وكانت الفنون الأخرى بما فيها المسرح والموسيقى والرقص و… تتبع القاعدة ذاتها. وحسب أرسطو:
إن العروض الهزلية نشأت من المراسم المتعلقة بعبادة العضو الذكري (القضيب).
وفي هذه المراسم كان يتم وضع القيود الاجتماعية جانبا بصورة مؤقتة … وقد أدخلها اريستوفان الكاتب المسرحي من أهالي أثينا في مسرحياته.
وفي العروض الكوميدية اليونانية القديمة كان يتم عرض الرموز الجنسية فضلا عن تقديم رقصة “كورداكس” الفاضحة.
وفي هذا العصر كانت توجد أنواع وأشكال الألعاب بما فيها اللعب بالكرة بأنواعها.
لدرجة أن مفردتي “الشاب” و “لاعب الكرة” كانتا لفظتين مترادفتين في اسبارت.
ورغم أن ذكر هذا الموضوع قد يؤدي إلى انزعاج وتضايق، لكننا ومن أجل توفير إمكانية عقد مقارنة، نذكر للقارئ الكريم بأن لفظة “الشاب” في تاريخ وثقافة إيران الإسلامية، كانت مرادفة دائما لمفردة “الفتى” أي الإنسان الكريم صاحب الشهامة والهمة، وهو الذي يتخلى عن الأنانية والشهوانية ليصل إلى الكمال المعنوي.
وعلى أي حال، فإن اهم مسابقة كان تقام في كل عصر من الأولمبياد، كانت تسمى “بنتاتلون” أو “الخمس مسابقات”. وكانت عبارة عن : القفز ورمي القرص ورمي الرمح والعدو والمصارعة.
وإحدى الرياضات القديمة، التي وصلت من كريت وموكفاي إلى أرجاء اليونان، هي الملاكمة. 
وجميع هذه الرياضات كانت تقام في الملاعب الرياضية العامة وكان يقوم فيها شبان اثينا بتقديم حركات رياضية. وهذه المشاركة كانت تتم شريطة النجاة من ظلم الآباء، لأنه في اليونان “ومن أجل الحد من تكاثر السكان وتقسيم الأراضي المفقر، كان تقليد قلل الأطفال الرضع مباحا. وكل أب أوجد طفلا ضعيفا أو معاقا، أو لا يعتبره من صلبه، كان يجوز له قتله. وكان أبناء الرقيق قلما يحظون بفرصة البقاء على قيد الحياة. كما كانوا يقتلون الفتيات أكثر من الفتيان”.
وعلى الرغم من أن اهالي اثينا لم يكونوا قدوة تحتذى في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا يتجاهلون التقاليد الأخلاقية، لكنهم تفوقوا على باقي العصور القديمة من حيث الاهتمام بالأمور العقلية والمعرفة العقلية.
ويقول اندرة كرسون مؤلف كتاب “الفلاسفة الكبار” حول القرن الخامس قبل الميلاد: إن القرن الخامس قبل الميلاد يعد أحد أكثر عصور الحضارة اليونانية تألقا وازدهارا لاسيما حضارة اثينا، العصر الذي كان يعيش فيه سقراط الحكيم… .
ولا شك أنه وجه اهتمامه نحو المعرفة العقلية في هذا العصر ولم يتحدث عن الثقافة والأخلاق.
إن مضي الزمان والهجرة والحركة السكانية والتعامل الثقافي مع سكان ايوني الذين كان يطلق عليهم اليونانيون المغترون اسم “البربر”، أحدث تحركا ذهنيا هائلا في اليونان لا يتسع هذا المقال لبحثه، ويمكن القول فحسب بأن اختراق أفكار الفلاسفة الكبار، لأذهان اليونانيين، تسبب بتجاذبات فكرية.
ويقول أفلاطون بأن سقراط كان في شبابه حائرا بين النظريات المختلفة. فمن جهة كانت نظريات حكماء ايوني، ونظريات حكماء إيطاليا التي كانت بحد ذاتها نابعة من نظريات ايوني، من جهة أخرى. وهذه التجاذبات الفكرية أثارت في كل مكان خاصة في اثينا ذهن الأشخاص الموهوبين واستحدثت مفاهيم سامية.
والمكان الوحيد الذي كان يمكن أن يكون مسرحا لتلاقح الفلسفات الايونية والإيطالية، هو اثينا والزمان الوحيد الذي كان مؤهلا لمثل هذا التلاقح هو منتصف القرن الخامس. وفي ذلك الزمان، كانت اثينا قد تحولت إلى أكبر مركز اقتصادي وثقافي بمنطقة البحر الأبيض المتوسط بسبب الحروب بين إيران واليونان، وكانت مكانا يتردد عليه الفلاسفة الأجانب.
وقد أرسى سقراط بفكره العميق، أساس نظام الفردانية اليونانية. وكان أول من اعتبر الفرد بأنه أعلى قوة في الكون وعاش ومات هو في إرشاد الفرد.
ونظر طالس  إلى الطبيعة من منظر العقل، وقد درس سقراط الحياة الإنسانية من هذا المنظار واعتبر أن جميع الشرائع والتقاليد مرفوضة وقرر أن جميع المقدسات الاجتماعية لا اعتبار لها من دون الفرد … وفي عصر سقراط تزعزع اجتماع اثينا العريق. فقد حطم الاقتصاد المدني الجديد، التقاليد وروج للفكر المتحرر والفردية الاقتصادية. ومع أن سقراط كان يكرم البلدة العريقة في بعض الحالات (مثل رسالة كريتون)، لكنه كان متحررا من التقاليد القديمة، وكان يدعو إلى تغير البلدة. لذلك لم يطيقه حراس التقاليد وقضوا عليه.
ان الحروب بين إيران واليونان وهزيمة بلدة اسبارت في حرب “بلوبونوس” أتت على النظام القديم ووضعت نهاية لعصر “المدينة – الدولة” اليونانية.  وفي ذروة ارتباك واضطراب اثينا، واصلت الفلسفة تقدمها.

يتبع إن شاء الله    
جـميع الحقـوق مـحفوظـة لمركز موعود الثقافي
لا يسمح باستخدام أي مادة بشكل تجاريّ دون إذن خطّيّ من إدارة الموقع
ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها

شاهد أيضاً

التطورات الثقافية في القرون الاخيرة

اسماعيل شفيعي سروستاني إن الابتذال والانحطاط اللذين استوليا على الحياة الثقافية والمادية لأوروبا القرن الثالث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *