تسديد الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام

الأول : بيان معنى التسديد ومراد الشيخ الأوحد منه .
الثاني : بيان لزوم التسديد ووجوبه من باب اللطف على الإمام عليه السلام الذي جعله الله سبحانه راعياً لحفظ الخلق ونظامات أمورهم في أمر دنياهم ودينهم لا سيما في زمان الغيبة الكبرى .

وأما المطلب الأول
بيان معنى التسديد ومراد الشيخ الأوحد منه
وهو لغة : التوفيق للسداد وهو الصواب من القول والعمل ، ومراد الشيخ الأوحد منه هو ذلك أيضاً ، والمراد من القول والعمل أعم من الظاهري والواقعي ، يعني علمائنا الإمامية الحقة رضوان الله عليهم لما كانوا طالبين للحق والصواب دائماً في مقام استنباطهم للأحكام الإلهية ، ومجاهدين ليلاً ونهاراً في طريق إيضاح الأحكام الشرعية الفرعية وغير الفرعية واستيضاحها ، ومستغرقين جميع أوقاتهم في تلقي الفيوضات الإلهية . والله وعدهم إرائة الطريق بل الإيصال إلى المطلوب بنوع التأكيد حيث قال عز من قائل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [1]. فالمجاهدة قرينة قوية على أن المراد من الهداية هو الإيصال إلى المطلوب ، فإرائة الطريق للخلق إتماماً للحجة وقطعاً للسان الاعتذار يوم الحساب لازم على الله سبحانه سواء جاهدوا أم لا ، وجب على الإمام عجل الله فرجه الذي هو القرية المباركة والواسطة في إيصال الفيوضات وإيضاح الحق الظاهري والواقعي أن يسددهم ما داموا في المجاهدة وطلب الحق ، ويوفقهم إلى القول والعمل الحق ، ويوصل كل واحد مهم إذا انحرفوا عن طريق الحق في الأحكام الإلهية قولاً وعملاً إلى الحق ، ويطلعهم على ما هو دليله من الآيات والأخبار نصاً أو تصريحاً أو إشارة أو تلويحًا ، حتى يفوزوا وينالوا بما هو الحق في حقهم وتكليفهم في زمانهم ، ولا يكون عجل الله فرجه مهملاً لمراعاتهم وأي مراعاة أحسن وأعظم من إيصال العلماء الحقة المجاهدين في طريق الوصول إلى الحق إلى ما هو المطلوب ؟ وإلا لزم الإهمال التام في مراعاة حال الأغنام فضلاً عن العلماء المجاهدين في تحصيل المرام والوصول إلى الغاية القصوى في كل مقام ، وقد قال في توقيعه الرفيع :” إنا غير مهملين لمراعاتكم ” ، والمراد من الحق الواجب إيصالهم إليه أعم من الظاهري والواقعي ، إذ مقتضى المصلحة في بعض الأوقات تسديدهم وتوفيقهم كلاً وطراً إلى الحكم الواقعي الأولى كما في دولة الحق ، وفي بعض الأوقات تقتضي المصلحة التامة والحكمة العامة تسديدهم إلى الحكم الواقعي في بعض المسائل ، وإلى الحكم الظاهري في بعضها حفظاً للحمى من شر الأعداء ، يفرق بينهم في وقت ويجمع في آخر ليسلموا ، لأن الإمام عليه السلام هو الراعي الذي استرعاه الله أمر غنمه وهو أعلم بمصالحه يوقع الخلاف بينهم حتى يحفظهم بذلك ويسلمهم من شر الأعداء المجدين في إطفاء نور الحق ، ولذا ترى الخلاف بين أصحابنا رضوان الله عليهم في غالب المسائل وليسوا متفقين إلا في قليل من المسائل ، ولو سددوا في كل وقت وأوان وكل عصر وزمان إلى الحكم الواقعي لما وقع بينهم خلاف ، والحال أن وقوعه وجداني ، ولا يكون تسديد العلماء بأجمعهم إلى الحكم الواقعي والصواب في كل مسألة إلا عند ظهور دولة الحق وزوال الظلم والجور وانتشار الحق والعدل .
وهذا هو المراد من التسديد في كلمات الشيخ الأوحد ولا بأس أن ننقل بعضاً منها حتى يتضح المراد ويتميز الصحيح من الفساد قال في الفصل الثالث من بيان القسم الثالث من الإجماع : (( فمهما كانت في المسألة قولان أو أكثر لابد أن ينصبوا دليلاً في أخبارهم وإشاراتهم وهدايتهم تصريحاً أو تلويحاً يدل على أن حكمهم وقولهم المتعين الذي هو دينهم في قول من تفقد من أهل الاستنباط وجده البتة إن لم يكن الكل فالبعض فمن استفرغ وسعه من أهل الاستيضاح والاستنباط لتحصيل ذلك الدليل المعين لدخول قول المعصوم عليه السلام في جملة أقوال من الأقوال )) إلى أن قال : (( والسر في هذا السر أن التكليف في الغالب جارية بالإقتضاءات فقد يقتضي وصف المكلفين في مكان دون آخر أو في زمان دون آخر حكماً غير ما يقتضيه الوصف في ذلك الزمان وذلك المكان وأما حكم الله الواحد الذي لا يختلف أبدًا فإنه قد يطابقه حكم الله المتعدد المتكثر وقد يخالفه والإمام عليه السلام عنده الحكمان :
أما الأول الواقعي الذي لا يختلف فأنه عليه السلام في نفسه لا يلزمه العمل به في كل حال ما دامت دولة الضلال إلا إذ اتفقت الأمة على خلاف الحكم الذي هو دينهم في قول من تفقد من أهل الاستنباط وجده البتة إن لم يكن الحكمة عمله بخلافه وإلا عمل بالحكم المختلف إذا اقتضى الوقت ذلك بشرط أن يكون عامل بالواقعي من الفرقة المحقة لئلا يرتفع الحق عن أهله لأن تكليفه مشارك لنا في أكثر الأحوال وذلك يجري منه على حسب ما يصلح للرعية كما قال الصادق عليه السلام : ” والله إنا لا ندخلكم إلا فيما يصلحكم ” .
وأما الثاني المتكثر فالعلماء الذين هم أبواب الحجة ووسائط بينه وبين غنمه الذي أمر غنمه ورعيته بالأخذ عنهم والإقتداء بهم كما أشار سبحانه بقوله تعالى {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } [2]، فالقرى التي بارك الله فيها آل محمد والقرى الظاهرة هم العلماء المشار إليهم ، {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } [3] ، بأن يأخذ مقلدوهم الذين هم غنم الإمام عليه السلام عنهم ما يحتاجون إليه من الأحكام وإن اختلفوا ، لأن الاختلاف أوقعه الإمام عليه السلام بينهم إبقاءً لهم فهم المكلفون به ، وهو كما قلنا قد يطابق الأول وقد يخالف ، فإن لم يحصل مانع من العمل بالحكم الأول الواقعي الذي لا يختلف في وقت ومكان وجب عليه عليه السلام العمل به ، ووجب عليه عليه السلام هداية الوسائط إليه لوقوع الاتفاق أو الإجماع وذلك بحسب الإمكان.
ويجب في الحكمة إصابة بعض العلماء من أبواب الإمام ووسائطه ولو من عالم يعتبر بعلمه لئلا يخرج الحق عن الفرقة المحقة الذي لا يزالون على الحق حتى تقوم الساعة ، وإن حصل مانع من العمل بذلك الحكم الواقعي بحيث يلزم منه استئصال الفرقة المحقة كان تكليفهم فيما فيه النجاة وكان على الإمام عليه السلام أن يجري في ذلك في الظاهر إن كان ظاهراً مع شيعته بأن يكون في جملة القائلين بذلك الحكم ويلزمه العمل بذلك الحكم الواقعي لنفسه باطناً ، وكذا إذا كان مستتراً حفظاً لوجود النوع المتوقف على وقوع الحق فيه في الجملة . ولابد من شيعته من موافق له في ذلك الحكم الواقعي ويكون بذلك مستتراً كإمامه أو متروك القول بالنسبة إلى المشهور )) إلى أن قال أعلى الله مقامه : (( وعلى الإمام عليه السلام إرشاد العلماء من فرقته وشيعته على الحالتين على المصلحة التي يعلمها إلى سلوك طريقته وإصابة بعض منهم ولو واحداً لقوله على الفرضين بنصب دليل يدل على مراده منهم في الاختلاف والإصابة إلخ )).
وقال في الفصل السابع من القسم السابع وهو الإجماع السكوتي : (( وأما على مذهبنا المبني فيه أمر الإجماع على دخول قول الإمام عليه السلام في جملة القائلين فحيث ما علم ذلك تحقق الإجماع فلا يحتاج فيه إلى الإحاطة بجميع أقوال من يعتبر قولهم مع معرفة ما اتفقوا عليه عن صميم قلوبهم ومحض معتقداتهم ، لأن مذهبنا دين الله الذي لا يطفأ نوره ولا يرتفع عن أهله محفوظ عن كل ما يخدشه أن لا يكون جهة من جهات العبادات ولا نحو من أنحاء النفوس ولا مذهب من مذاهب العقول إلا وقد وضع لنا حفظة الشرع عليه دليلاً يبينه من صحة أو فساد ، وإمارة توصل إلى ما فيه السداد وحجة واضحة موضحة سبيل الرشاد ، وذلك يحصل بالعبارة أو بالإشارة أو بالإلهام أو بالتنبيه أو غير ذلك في نص أو ظاهر بخصوص أو عموم أو تقييد أو إطلاق أو إيماء أو تقرير أو مثل وما أشبه ذلك ، ولذا قال عليه السلام : “ ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة ” ، فإذا استفرغ من له أهلية الاستيضاح والاستنباط وسعه في تحصيل معرفة حكم الإمام عليه السلام وقع عليه وعرف قوله وحكمه فيه لأنه عليه السلام مهما طلب الحكم من النحو الذي أمر بطلبه منه وجده ، فإن لم تجد هنالك وجدناه حتى يوجدنا نفسه ، لأنه هو القيم على هذه الفرقة وهم رعيته وعليه تسديدهم ، كما أشارت إليه النصوص وبراهين هذه المعاني مما يطول به المقام )) انتهى كلامه رفع مقامه.
وقد صرح بهذا المسلك الحسن في سائر رسائله ومصنفاته و إن مراده من التسديد هو ما أوضحناه ونوضحه أيضاً في المطلب الثاني ، وكفانا ما نقلناه من كلماته فلا حاجة إلى التطويل الممل ، وقد سبقه في هذا المسلك العالم الماهر المولى آغا باقر البهبهاني قدس سره في رسالته الإجماعية ، والسيد السند السيد مهدي الطبطبائي عطر رمسه في رسالته الفوائد ، ولولا الاختصار في هذا المختصر لنقلنا من عبائرهما ما يوجب العبرة لمن اعتبروا البصيرة لمن تبصر فراجع ترى صحة الخبر.
وأما المطلب الثاني
وهو وجوب التسديد على الإمام عجل الله فرجه الشريف
فاعلم أن المتبصر لو تأمل قليلاً في معرفة الإمام عليه السلام ووجوب وجوده في ملك الله سبحانه رأى وجداناً وجوبه عليه عليه السلام ، ومع ذلك أرائه ، لأنحاء طرق الاستدلال على وجوبه نذكر شيئاً منه.
فاعلم أن الله تبارك وتعالى أتم علينا نعمة ظاهرة وباطنة ومن علينا منة تامة بوجود إمامنا المستور الحق عادل رؤوف عطوف عالم بجميع أحوال الخلق وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم ومطلع بغيهم وشهودهم ظاهرهم وباطنهم سرهم وعلانيتهم {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [4]. وبه أكمل الله ديننا وأتم نعمته علينا : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ} [5]. ولولاه لكانوا في هرج ومرج ، ولم يستقم لهم أمور دينهم ودنياهم أبداً ، وليس ذلك كله إلا لاحتياجهم إليه في جميع الأحوال وعدم غنائهم عنه في كل آن ، إذ هو قلب العالم وقطب رحى المخلوقات فضلاً عن بني آدم.
فأنظر إلى ألطاف الله سبحانه كيف جعل للإنسان الذي هو نوع من أنواع المخلوقات في جسده رئيساً لأعضائه وجوارحه وهو القلب ولا غناء لها عنه بوجه في كل الأنات يميز ما يرد عليها من الشك والارتياب والخلل والاضطراب ، وإذا شكت في شيء ردته إليه حتى يحق الحق ويبطل الباطل ، إذ أقامه الله سبحانه قطباً ورئيساً لشد كسر الأعضاء ووصلها ، بل جعل مثل هذا الرئيس في الحيوانات أيضاً كالنحل إذا هلك انتشرت أفراده انتشار الجراد وآل أمرها إلى الفساد ، فإذا لم يترك الله عز وجل أنواع المخلوقات بلا رئيس ترجع إليه عند الحاجة ويدبر أمورهم ويقضي حوائجهم ويزيل شكهم ، فكيف يترك هذا الخلق وهذا العالم في الحيرة والشك ، ولا يقيم لهم رئيساً يوردون إليه شكوكهم وما يحتاجون من أمور دنياهم وعقباهم ، ويزيل عنهم شبهاتهم ويظهر لهم ما هو صلاحهم من إيضاح الحق وإبطال الباطل ، وحافظاً لشريعته عن التغيير والتبديل والشبهات الشيطانية والتخيلات الوهمية وسد الثغور ؟
وبالجملة إذا تكحلت بنور البصيرة رأيت هذا العالم كالسفينة السائرة ، فكما أن السفينة تحتاج إلى مدبر خبير بحالها عالم بالطرق الموصلة إلى المطلوب بصير بمقدار ما تتحمله من الأمتعة والنفوس عارف بتدبير ما يقع فيها من المفاسد ماهر في سد فرجها والثغور مانع لها من الغرق إذا اضطربت دافع لها من العوارض إذا اعترت ولولاه لآل أمرها إلى الغرق والتلف كذلك هذا العالم لابد له من رئيس يكون هادياً للنجاة مقوماً للعصاة رادعاً للغواة معلماً للجهال محذراً من الضلال عالماً للأحكام الحلال منها والحرام حامياً بيضة الإسلام مطلعاً على جميع حالات الأنام ، موجداً قبل الخلق لكونه واسطة وآلة لإيجاده ، وبعد الخلق لكونه من الغايات المنتهي إليه الجسمانيات ، ومع الخلق لكونه حجة عليهم ونوراً يهتدون به في ظلمات الأحوال ومشتبهات الأمور.
وبما ذكر يندفع ما عسى أن يتوهم من أن الحجج عليهم السلام إنما خلقوا وبعثوا هداية للخلق ، وهي الغاية في وجودهم عليهم السلام ، وليس كذلك ، إذ الغرض من وجودهم ليس إصلاح حال العباد فقط ، نعم يترتب على أفعالهم ذلك في كل العوالم كما يترتب على حركات الأجرام الفلكية ليلاً ونهاراً نفع السافلات بوقوع أشعتها عليها ، وليس المقصود بالذات من وجودهما وحركاتها ذلك ، بل أنها مسخرات بأمره تعالى ، مقيدات بزمام التقدير ، وما حركتها إلا عبادة له تعالى وتقرب إليه سبحانه ، كما أنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
وبالجملة لما كان وجودهم علة غائية لإيجاد الموجودات لا جرم كان خلو كل العوالم منهم أناماً سبباً لخرابها وفسادها وهلاك أهلها ، وقد ظهر مما ذكرنا أيضاً جواب ما طعن به علينا مخالفونا من أهل السنة والجماعة من أنه إذا كان الحجة مستوراً عن الأبصار وغير ظاهر في الأنظار وأنه لا يعرف شخصه ولا يهتدي أحد بنور تعليمه وإرشاده ، فما الفائدة في وجوده ؟ وهذا غير وارد علينا كما عرفت ، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار.
إذا عرفت ما ذكرنا من وجوب وجود رئيس وإمام يكون من أوصافه كذا وكذا ، ظهر لك أنه يجب عليه تسديد المحتاجين إليه والمفترشين ببابه والمادين أعناقهم إلى جنابه والمتمسكين بأطناب خيمه والراجين أنواع كرمه والباسطين أيديهم إليه بالسؤال. إذ هو واسطة فيوضات ذي الجلال لا سيما العلماء الحقة والحاملين لأحكام الفرقة المحقة المحتاجين دائماً لتلقي الفيوضات الشرعية وإيصالها إلى الرعية المجاهدين في تحصيل الحق والصواب المجدين أبداً في طلب ما كلفوا به ، المجتهدين في استنباط ما أمروا به من الآيات القرآنية والأخبار المعصومية.
نعم إن قلنا أن الإمام الغائب المستور لا ينفع الخلق ولا ينتفعون بوجوده لغيبته ، أو قلنا بأنه عجل الله فرجه الشريف ليس عالماً بأحوال الخلق ولا محيطاً بأسرارهم في غيبهم وشهودهم وما يصلح لهما في دنياهم وعقباهم أمكن القول بعدم وجوب التسديد له عجل الله فرجه ، وأما أن قلنا بأن غيبته ليست مانعة من الإفاضة وإيصال الفيوضات الكونية والشرعية إلى الخلق ورفع ما يحتاجون إليه ، ولا فرق بين الإمام الحي الحاضر المشهود والإمام الغائب المستور الموجود بوجه من الوجوه إلا في غيبوبة شخصه المبارك مؤقتاً عن الأبصار ، فكيف لا نقول بوجوب تسديده للخلق وإيصال المحتاجين إلى ما فيه رضاه ورضاء الله سبحانه ، وكيف نقول العياذ بالله ببخله في هداية الخلق ورفع حوائجهم وتوفيقهم إلى طريق الصواب ، ومعلوم أن ليس رؤيتهم لمدبرهم والمتصرف فيهم والممد لهم شرطاً في التدبير والتصرف والإمداد ، كالملائكة المدبرات الذين هم من جملة خدام إمامنا المستور عجل الله فرجه الشريف ، يدبرون أمور الخلق وهم لا يرونهم ، وعدم رؤية الخلق إياهم لا يمنع من تدبيرهم لأمورهم ، وأيضاً كيف لا نقول له بوجوب التسديد له عجل الله فرجه إن قلنا بحضوره بين المحجوجين وعلمه بأحوالهم الكلية والجزئية واطلاعه بأسرارهم الجلية والخفية وإحاطته بها إحاطة كلية وكونهم بمرئي ومسمع منه وجهلهم واحتياجهم دائماً وأبداً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، وعدم انقطاعهم في التعلم ورفع جهالتهم واستفاضتهم ومجاهدتهم في سبيل معرفتهم لما يحتاجون إليه .
فاللازم عليه عجل الله فرجه أن يسددهم ويهديهم ويوصلهم إلى مطلوبهم ما داموا على هذه الأحوال ، وكيف لا والله سبحانه وتعالى يقول : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [6] ، والمجتهد قطعاً يجاهد دائماً في تلقي الأحكام الإلهية الشرعية الفرعية وغير الفرعية ، والحجة عجل الله فرجه يقول في توقيعه الرفيع : ” إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لاصطلمتكم اللأواء وأحاطت بكم الأعداء ” .
ثم أن طريق التسديد والهداية وإيصال الخلق لا سيما المجتهد المجاهد المحتاج المستغرق أوقاته في الوصول إلى الحق والمطلوب ليس بمنحصر في المشافهة والمشاهدة والمواجهة ، بل يسددون طالبي الحق ويوصلونهم إلى ما يستحقونه بأنواع مختلفة وأطوار عديدة وأنحاء متشتتة ، كالتصريح والتلويح والإشارة والتنبيه والمثال والبيان والإخفاء والإعلان والإجمال والتفصيل والكناية والتشبيه والاستعارة والتقييد والإطلاق والعموم والخصوص ونحوها من الأنحاء.
فقول القائل : وجوده لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منا ، ينبغي أن يترك في زاوية الإهمال ، إذ مفاسده كثيرة منها : أن المراد من ضمير ( منا ) بقرية المقام هو الشيعة المصدقين له عجل الله فرجه ، وهم وإن اعتراهم الضعف لمعاشرتهم ومخالطتهم للمخالفين وكثرة معاصيهم ، والضعف مانع لهم من الوصول إلى حضرته والتشرف بدرك فيض حضوره ، إلا أنهم مجدون في طلب الدين والعمل بالشرع المبين ، وباسطون أكفهم بالسؤال ، وراجون منه النوال ، فما الداعي لرفع يده الباسطة عن التصرف فيهم وصرف النظر والتوجه عنهم وعدم مداواة أمراضهم وتقويتهم برفع الضعف عنهم. فوجع العين وإن كان مانعاً من النظر إلى الشمس لكن الشمس لا تمتنع بذلك من التأثير والإشراق في حقه ، والتسخين وتجفيف رطوباته وسائر تدابيره ، والمريض الأعمى والأصم إذا أتى إلى الطبيب لمعالجة نفسه ومداواة صمه وعماه وإن لم يسمع كلام الطبيب ولا يرى شخصه لكنه مع ذلك لا يقصر في معالجته ولا يمتنع من مداواته إلا إذا عجز عنها ، ولو لم يكن الأمر كما ذكرنا ورفع يده عجل الله فرجه عنا لما قال في توقيعه الرفيع :” أما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأنظار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ” ، فإن كان ضعف سائر الناس وذنبهم سبباً لعدم تصرفه عجل الله فرجه وأعراضه عنهم فما تقصير العلماء الربانيين والكملين المجاهدين الإلهين اللذين بذلوا مهجتهم دون الوصول إلى مقصودهم ، وتلقى الفيض الشرعي من إمامهم ، والبلوغ إلى أقصى مآربهم. فحاشا الإمام ورئيسهم عن الإهمال والتقصير في حقهم ، والإعراض منهم وعم التصرف فيهم والتوجه لهم بما يستحقون ، وقد وعدهم عجل الله فرجه في توقيعه الرفيع بمراعاتهم وعدم نسيان ذكرهم ، وقد قال الله عز وجل : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [7] ، وهو يد الله الباسطة على الإطلاق ، لا يعطلها من التصرف ذنب المذنبين ولا ضعف المستحقين .
وبالجملة فالذي يقول بعدم وجوب التسديد لابد له أن يختار أحد المذاهب الفاسدة :
أما القول بتقصير نبينا صلى الله عليه وآله العياذ بالله في نصب الخليفة ، بأن لم ينصب لأمته أوصياء علماء حكماء حاضرين بينهم وناظرين لأعمالهم ومطلعين لأسرارهم وعالمين بمصالح الأمة والرعية.
وأما القول بأنه صلى الله عليه وآله نصب أوصياء كما ذكر ، لكنهم مع قدرتهم العياذ بالله قصروا في الأداء وتبليغ ما تقتضي الأمة ويصلح حالهم إليهم ، سيما المخلصين المحتاجين المجاهدين منهم.
وأما القول بعدم قدرة أولئك الأوصياء ، وعدم تكنهم عن أداء حقوق المحتاجين أصلاً ، أو لغيبته واستتاره. ومفاسد هذه المذاهب ومخالفتها لمذهب الإمامية أكثر من أن تحصى وأبين من أن تستقصى.
إن قلت : أن التسديد إن كان لازماً على الإمام عجل الله فرجه الشريف يقتضي عدم الخلاف بين العلماء الحقة الإمامية والخلاف أظهر من الشمس وأبين من الأمس .
قلت : إن الخلاف الواقع بينهم ليس من الأحكام الواقعية الأولية ، بل من الأحكام الثانوية ، كالتقية إن اقتضت المصلحة وجبت ، ولذا قالوا عليهم السلام : (( نحن أوقعنا الخلاف بينكم ، وراعيكم الذي استرعاه الله أمر غنمه أعلم بمصالح غنمه ، إن شاء فرق بينها لتسلم ، وإن شاء جمع بينها لتسلم )) ،
إن قلت : إن وجب التسديد يقتضي أن يكون جميع الأحكام بنظره عليه السلام ورضاه ، وحقاً وصواباً ، ولزم أن يكون الأصحاب مصوبة لا مخطئة .
قلت : على مذهب المصوبة ليس في الواقع حكم ، بل حكم الله تابع لرأي المجتهد ، وكلما ظن المجتهد فهو حكم الله الواقعي في حقه لا غيره ، وأما المخطئة فحكم الله عندهم واحد معين في الواقع ، وباب العلم به مسدود ، وكلما ظنه المجتهد وحصله من الأدلة فهو حكم الله الظاهري في حقه ، يجب عليه العمل به ، ويمكن أن يصيب به الحكم الواقعي المعين ، ويمكن أن يخطيه ، فلا يلزم من رضاه بذلك الحكم الظاهري وتسديده إياه التصويب فأفهم .
وبالجملة فالأخبار الدالة على وجوب التسديد يمكن إدعاء تواترها . معنى ، لا بأس بذكر بعض.
منها ما رواه الصدوق عن حسن بن محبوب عن يعقوب بن سراج قال : قلت : لأبي عبدالله عليه السلام : ” تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم ؟ فقال لي : إذن لا يعبد الله يا أبا يوسف”.
ومنها صحيحة ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (( إن الله لا يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان ، فإذا أزاد المؤمنون شيئاً ردهم ، وإذا نقصوا أكمل لهم ، فقال : خذوه كاملاً ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ، ولم يفرق بين الحق والباطل )) .
والأخبار بهذا المضمون وبهذه الألفاظ بتغيير جزئي كثيرة ، عليك بالمجلد السابع من البحار أوله ( باب الاضطرار إلى الحجة عليه السلام ) ، ولا حاجة إلى نقلها . ومنها ما مر من التوقيع الرفيع ، ومنها ما في البحار أيضاً في خبر كميل عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : ” اللهم إنك لا تخلي الأرض من قائم وحجة ، إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حججك وبياناتك “.
ومنها أيضاً ما في البحار عن الصادق عن أمير المؤمنين عليه السلام : “ اللهم لا بد لأرضك من حجة لك على خلقك ، يهديهم إلى دينك ويعلمهم علمك ، لئلا تبطل حجتك ولا يضل متبع أوليائك بعد إذ هديتهم به ، أما ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم مترقب ، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة ، وهم بها عاملون “.
ومنها ما في البحار أيضاً عن الصادق عليه السلام قال : ” ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة له فيها ، ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولم تخل إلى أن تقوم الساعة ولولا ذلك لم يعبد الله ، قيل : كيف ينتفع الناس بالغائب المستور ؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب “.
ومنها الخبر المعروف : ” ما من عبد أحبنا فأخلص في معرفتنا ، وسأل عن مسألة إلا ونفثنا في روعه جواباً لتلك المسألة “.
ووجه الاستدلال بهذه الأخبار على المدعى لا يحتاج إلى البيان فلنرجع إلى ما نحن بصدده. ونقول : إن المراد من الحق الذي يجب على الإمام عجل الله فرجه الشريف تسديد المستحقين المحتاجين إليه هو الأعم من حكم الله الواقعي والظاهري ، يعني تقتضي المصلحة في زمان تسديدهم تماماً إلى الأحكام الواقعية لا غير وهدايتهم إليها كزمان دولة الحق ، وفي زمان كزماننا هذا في بعض المسائل إلى الحكم الواقعي ، وفي بعضها إلى الحكم الظاهري ، والحكم الظاهري يختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان ، كحكم زمان التقية وغيرها ، وقضية وضوء علي بن يقطين وداود الرقي مشهورة معروفة .
وبالجملة لما ثبت وجوب التسديد له عجل الله فرجه من باب اللطف سيما في زمن الغيبة الكبرى ، وكثرة المحتاجين والاحتياج ، وإن مراد الشيخ الأوحد أعلى الله مقامه منه هو ما ذكرناه وبرهناه وفصلناه ، علمت أن لطيفة الفاضل المعاصر المرحوم مردودة عليه ، إذ زمان الشيخ المفيد عليه الرحمة لما كان زمان التقية وخفاء الحق لقلة الشيعة وضعفهم ، اقتضت المصلحة تسديده بالحكم الظاهري ، وهو القول : بعدم تقدم وجود المعصومين الأربعة عشر على سائر المخلوقات.
وزمان الشيخ الأوحد لما كثرت الشيعة وقوي الحق بحمد الله ، وانتشرت مصنفات علمائهم وأخبار مواليهم سلام الله عليهم ، اقتضت المصلحة تسديده والعلماء المعاصرين له والمتقدمين عليه قريباً بالحكم الواقعي ، وهو القول : بتقدم وجودهم سلام الله عليهم على تمام المخلوقات وجميع العوالم . فكلا القولين حق لا ريب فيهما بحسب اختلاف الزمان كما عرفت ، ولا تنافي بين القول بوجوب التسديد والقول بعدم تقدم وجود المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام كما توهم ، إذ قول الشيخ المفيد عليه الرحمة ليس حكماً واقعياً لا يتغير ، بل هو حكم ظاهري يقتضي الحكمة والمصلحة ذلك في زمان وتقتضي عكسه في آخر كحكم التقية ، ألا ترى كيف أمر الصادق عليه السلام بالمكاتبة علي بن يقطين حفظاً له وحقناً لدمه بالتوضؤ بوضوء العامة ، ثم بعد انقضاء مدة خوف إراقة دمه وبطش هارون الرشيد في حقه أمره مكاتبة أيضاً أن يتوضأ بوضوء الشيعة. فلا يمكنك أن تقول أن وضوئه أولاً بطريق العامة ما كان صحيحاً وحقاً ، بل كان حكم الله سبحانه في ذلك الوقت هو ذلك وإن كان مخالفاً للحكم الواقعي ، ولو كان يتوضأ بوضوء الشيعة في الوقت الذي أمره الإمام عليه السلام بوضوء العامة وإن كان وافق الحكم الواقعي لكنه كان مخالفاً لحكم الله في حقه في ذلك الوقت وكانت صلواته باطلة ، كما أنه لو كان يعمل بخلاف ما أمره ثانياًَ ويتوضأ بوضوء العامة كان مخالفاً لحكم الله وفسد عمله .
فقول الشيخ المفيد عليه الرحمة كوضوء علي بن يقطين بوضوء العامة اقتضت المصلحة في حقه في ذلك الوقت أن يسدد بالقول بعدم تقدم وجود المعصومين الأربعة عشر على سائر المخلوقات ، وفي حق الغير أو بعد زمانه اقتضت المصلحة عكس ذلك كما يشهد لذلك قوله عجل الله فرجه الشريف في حقه : ” منك الخطأ ومنا التسديد “. فقوله رحمه الله بذلك منه في ذلك الزمان كان حقاً في حقه والتابعين له ، وفي حق غيره ممن عاصره أولاً ممن لم يقولوا بقوله كان محتملاً.
فظهر أن لا تنافي بين قول الشيخ الأوحد بوجوب التسديد وبين القول بحقية قول الشيخ المفيد عليه الرحمة في ذلك الزمان ، إذ قوله من الأحكام الظاهرية تختلف بحسب الوقت والمكان والأشخاص ، وأنَّ ترديد الفاضل المعاصر المرحوم ليس في محله حيث قال في العبارة المنقولة في أول الفصل : أنه يلزم للشيخ الأحسائي أحد أمرين : إما متابعة الشيخ المفيد في عدم تقدم وجود الأئمة على جميع الأشياء ويرفع يده من جميع المطالب التي فرعها على هذه المسألة ، وإما القول ببطلان التسديد وعدم لزوم الردع على الإمام ، والثاني أسهل له من الأول انتهى . ومن أتقن ما ذكرناه علم أن ترديده رحمه الله ناشئ ظاهراً من عدم الالتفات إلى معنى التسديد والفرق بين الحكم الظاهري والواقعي ، وإن كلاهما في حقه في غاية البعد .
وبالجملة نقول في جواب ترديده أيضاً مختصراً أن الشيخ الأوحد يقول بوجوب التسديد وحقية قوله بتقدم وجود المعصومين الأربعة عشر سلام الله عليهم على جميع الأشياء وخطأ قول الشيخ المفيد عليه رضوان الله بعكس ذلك في هذا الزمان ، وحقيقة في حقه وحق تابعيه في ذلك الزمان ، لكونه مقتضى التسديد واختلاف الحكم الظاهري ، ولا يرفع يده أبداً عن المسائل التي فرعها على القول بتقدم المعصومين عليهم السلام على جميع الأشياء والعوالم ، وليس بين القول بوجوب التسديد والقول بحقية قول الشيخ المفيد عليه الرحمة في زمنه منافاة بوجه من الوجوه ، فتبصر قليلاً فيما أسلفناه حتى يتضح لك صحة المقال وتميز السراب من الماء الزلال.
—————–
[1] سورة العنكبوت ، الآية : 69
[2] سورة سبأ ، الآية : 18
[3] سورة سبأ ، الآية : 18
[4] سورة التوبة ، الآية : 105
[5] سورة المائدة ، الآية : 3
[6] سورة العنكبوت ، الآية : 69
[7] سورة المائدة ، الآية : 64
الكاتب: موسى الإحقاقي

شاهد أيضاً

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه(عجّـل الله فرجه)

انّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.