موعود موعود العربية
لقد بددت 600 ملیون دولار من خزینة الدولة، وضحیت بنحو عشرة آلاف من أرواح الأمریكیین زهرة شبابنا؛ ولقد دمرت مناطق معمورة وذبحت ما لا یحصى عدده من آلاف الأشخاص الذین ادّعیت أنك ترید مساعدتهم. لقد نجحت سیاستك العملیة فى تحویل الشعب الذى كان حتى ثلاثة أعوام خلت مستعدا لتقبیل أطراف ملابس الجنود الأمریكیین للترحیب بهم كمحررین.. إلى أعداء أشداء تتملكهم مشاعر الكراهیة التى لا یمكن إزالتها لقرون عدیدة».
لم یوجَه هذا الكلام القاسى إلى الرئیس الأمریكى جورج بوش. ولم یصدر عن مسئول أمریكى بعد غزو العراق. هذا الكلام صدر فى عام 1902 عن عضو فى الكونجرس الأمریكى یدعى جورج فیسبى هور. وكان موجها إلى الرئیس الأمریكى فى ذلك الوقت ثیودور روزفلت بعد اجتیاح الفلبین.
وكان روزفلت قد وصل إلى الرئاسة الأولى فى واشنطن فى عام 1900 بعد اغتیال الرئیس ماكینلى الذى ما كان متحمسا لشنّ الحرب على الفلبین فى إطار الحرب الأمریكیة ــ الإسبانیة فى ذلك الوقت.
كان روزفلت مدیرا للشرطة فى مدینة نیویورك ومن هناك وصل إلى البیت الأبیض. وكان روزفلت یصف أولئك الذین یتحدثون عن السلام بأنهم جبناء. وكان یردد دائما «أن هذه البلاد (أى الولایات المتحدة) تحتاج إلى حرب».
وهو ما كان یردده الرئیس جورج بوش أیضا حتى قبل أن تقع جریمة 11 سبتمبر 2001، ولذلك تعاون مع اثنین من أكثر المسئولین الأمریكیین إیمانا بالحرب وهما دونالد رامسفیلد ودیك تشینى.
●●●
فى كتابه : «شرف فى الغبار» «Honor in the Dust» یروى المؤرخ الأمریكى جیرج جونز سیناریو الحرب الأمریكیة على الفلبین منذ عام 1898، بصورة تبدو متطابقة إلى حد بعید مع سیناریو الحرب الأمریكیة على العراق فى عام 2003.
یقول جونز : «لقد جرى الترحیب بالجنود الأمریكیین كقوات تحریر للفلبین (من إسبانیا)، ولكن سرعان ما تحول هذا الحب إلى كراهیة بعد أن تحوّلت القوات الأمریكیة إلى قوات احتلال. وأعلنت الولایات المتحدة انتصارها فى الوقت الذى كانت الحرب مستمرة (فى الفلبین كما فى العراق). ثم إن قصص التعذیب التى مارستها هذه القوات (فى الفلبین وفى العراق أیضا) ملأت صفحات الصحف الأمریكیة وأثارت الهلع والاشمئزاز فى نفوس الأمریكیین أنفسهم وفى نفوس الناس جمیعا.
ومن خلال القصص التى ینقلها الكاتب المؤرخ عن تلك الحقبة الزمنیة تبدو روایات سجن أبو غریب فى العراق، وروایات معتقل جوانتانامو فى القاعدة العسكریة الأمریكیة فى كوبا، مجرد اجترار لما ارتكبته هذه القوات قبیل نحو مائة عام فى الفلبین: من تدمیر عشوائى للأحیاء السكنیة فى المدن وإحراق القرى والمزارع، إلى انتهاك الأعراض وتدنیس المقدسات، وممارسة التعذیب. ویقدم المؤرخ مثلا على ذلك فى سرد روایة استجواب حاكم إحدى الولایات فى الفلبین بتهمة إخفاء معلومات عن تحركات الثوار المعارضین للاحتلال الأمریكى. وتقول الروایة إنه جرى تعذیبه لحمله على الاعتراف باستخدام ما یعرف باسم «العلاج المائى». وبموجب هذا العلاج كان یلقى به تحت خزان من الماء بعد أن توثق أطرافه بشدة ویحجب نظره. أما فمه فكان یفتح على آخره عن طریق خشبة قاسیة كانت تركز بین الفكین. وبعد ذلك كان الماء یتدفق من الخزان مباشرة إلى فمه حتى ینتفخ بطنه ویكاد ینفجر.
هنا یسحب من تحت الخزان لینهال علیه معذبوه ضربا على بطنه حتى یلفظ كل ما فیه. ثم یعاد إلى تحت الخزان من جدید، إلى أن یعترف.
ولقد اعتمد العسكریون الأمریكیون هذا «العلاج المائى» فى «أبو غریب»، كما مارسوه بتطویر أكثر فى جوانتانامو. وتحت هذا التعذیب حصلوا على الاعترافات التى یریدون، ولكن تبین فیما بعد أنها كانت مجرد استجابات لمطالب المستجوبین ولیست اعترافات حقیقیة. ولذلك اضطرت الإدارة الأمریكیة إلى إطلاق سراح معظم المعتقلین بعد أن تبین لها أنهم أبریاء. ولكن هؤلاء الأبریاء حولهم التعذیب إلى أعداء. حدث ذلك فى الفلبین، وحدث فى العراق، وهو یحدث الآن فى أفغانستان.
●●●
وكما كانت القوات الأمریكیة تنظر إلى العراقیین نظرة دونیة، حضاریا وعنصریا، كذلك كانت هذه القوات تنظر إلى الفلبینیین على أنهم قوم برابرة غیر متحضرین. وكما أن بعثات التبشیر الإنجیلیة رافقت القوات الأمریكیة فى غزو العراق لمقایضة المساعدات الإنسانیة بالارتداد عن الإسلام إلى الإنجیلیة، كذلك فعلت هذه البعثات فى الفلبین. ولكن هذه البعثات لم تنجح فى عام 1902 ولم تنجح فى عام 2003.
لم تكن الفلبین دولة إسلامیة تحتلها إسبانیا. كانت ولم تزل دولة مسیحیة كاثولیكیة. مع ذلك فقد انتهكت القوات الأمریكیة مقدساتها وفتكت بشعبها من أجل إخضاعه وتحویل بلاده إلى قاعدة عسكریة من ثم إلى حاملة طائرات متقدمة فى شرق آسیا.
ولا یزال الفلبینیون الذین استقبلوا القوات الأمریكیة كمحررین من الاستعمار الإسبانى، أسرى عقدة كراهیة الأمریكیین على النحو التى تنبأ به السیناتور جورج هور فى خطابه أمام الكونجرس منددا بالغزو الأمریكى للفلبین فى ذلك الوقت.
ولقد ندد بالغزو الأمریكى للعراق عضو آخر فى الكونجرس الأمریكى هو باراك أوباما.. وأوصله هذا الموقف الأخلاقى الوطنى إلى البیت الأبیض.
یقول المؤرخ الأمریكى جریج جونز فى كتابه «شرف فى الغبار» إن نتائج الغزو الأمریكى للفلبین أقنعت الرئیس روزفلت «أن حلم أمریكا بالإمبراطوریة قد تلاشى».
●●●
ومن الثابت الآن أن نتائج الحرب الأمریكیة على العراق أقنعت الرئیس جورج بوش مرة جدیدة أن حلم أمریكا بالإمبراطوریة قد تلاشى للمرة الثانیة. وقد لا ینتظر العالم طویلا، حتى یأتى رئیس أمریكى آخر یحلم بالإمبراطوریة لیقوم بعمل تدمیرى طائش یدرك بعده، كأسلافه أیضا، أن الحلم قد تلاشى.
من هنا القول إن الولایات المتحدة تتخذ دائما القرار الصائب ولكن بعد أن تجرب كل الوسائل الأخرى غیر الصائبة.
حتى الرئیس «المسالم» ماكینلى الذى قتل اغتیالا لیخلفه روزفلت قال فى خطاب انتخابى عام: «عندما نخوض حروبا لأسباب مقدسة تأتى إلینا الأراضى..». ولقد خاطب جمهور الناخبین كما یخاطبهم فى الوقت الحاضر المرشحون للرئاسة عن الحزب الجمهورى: «هل یجوز أن نحرم أنفسنا مما یعتبره بقیة العالم حقا لنا». وكان رد الناخبین مدویا: «طبعا لا».
كان هذا منطق المرشح المسالم. أما منطق المقاتل روزفلت فكان یعتبر مجرد الحدیث عن السلام جبنا وهراء!! ولعل هذه المقارنة بین ماكینلى وروزفلت تصلح أساسا الیوم للمقارنة بین أوباما وبوش، خصوصا بعد الخطاب التوددى الذى وصل إلى حد الانبطاح والذى ألقاه أوباما أمام الإیباك الصهیونیة الأمریكیة، استجداء لدعمها فى معركته الرئاسیة المقبلة.
فى عهد الرئیس السابق روزفلت كان هناك معارضون صادقون لسیاسته الحربیة أمثال الأدیب الشهیر مارك توین. وفى عهد الرئیس جورج بوش كان هناك معارضون صادقون لسیاسته الحربیة أیضا أمثال الكاتب الشهیر نعوم تشومسكى.
●●●
ولكن الوقائع التاریخیة أثبتت أن الكلمة الصادقة لا تمنع حربا ولا تضمد جرحا بل إنها لا تحرر معتقلا ولا ترفع عنه سوء العذاب. فلا روزفلت كان أول رئیس أمریكى یطمح بالإمبراطوریة، ولا بوش هو آخر رئیس أمریكى یسعى الیها. وبالتالى لم تكن الفلبین التجربة الأولى ولن یكون العراق التجربة الأخیرة.
