مشكلة الإمام الغائب وحلّها

إن موضوع الإمام الغائب فرع من دوحة الإمامة، ولكي نعي الموضوع وعياً كاملاً يلزمنا أن نعي موضوع الإمامة نفسه. واحتياج الأمة إلى الإمام أمر عقلي وجداني يدركه من يتأمّل في المجتمع البشري واختلاف آرائه وأهوائه وتصادم آماله وأعماله، الأمر الذي يؤدّي إلى الفوضى والشـــغب الدائم، فكان من الواجب على الله العادل الحكيم أن يتلطّف على عبـــاده بتوجيههم إلى صراط الحق، وأن يمنعهم من التردّي في الباطل، ولا شك بأن التوجيه يلزم أن يكون طبيعياً يقبله المجتمع العام بلا ارتياب وتردد منه فيه، والتوجيه الطبيعي يتحقّق بإيجاد زعيم حاز على مؤهلات الزعامة كلها،

إن موضوع الإمام الغائب فرع من دوحة الإمامة، ولكي نعي الموضوع وعياً كاملاً يلزمنا أن نعي موضوع الإمامة نفسه.
واحتياج الأمة إلى الإمام أمر عقلي وجداني يدركه من يتأمّل في المجتمع البشري واختلاف آرائه وأهوائه وتصادم آماله وأعماله، الأمر الذي يؤدّي إلى الفوضى والشـــغب الدائم، فكان من الواجب على الله العادل الحكيم أن يتلطّف على عبـــاده بتوجيههم إلى صراط الحق، وأن يمنعهم من التردّي في الباطل، ولا شك بأن التوجيه يلزم أن يكون طبيعياً يقبله المجتمع العام بلا ارتياب وتردد منه فيه، والتوجيه الطبيعي يتحقّق بإيجاد زعيم حاز على مؤهلات الزعامة كلها، لكي تخضع له الجماهير على اختلاف مراتبها في الاجتماع، ليتمــكّن مــن توجيه دفّة سفينته إلى شاطـئ الكمال، وعلى هذا البناء العرفي يقوم كيــان (قاعدة اللطف)، وعلى قاعدة اللطف استقام بناء النبوّات العامة، وعليه أيضاً تبني الشيعة ناموس وجوب وجود الإمام في كل دور وطور.

أما القائد، ـ ولنُسمِّه من الآن فصاعداً (بالإمام) ـ لأنه العنوان الديني الذي تطلقه الشيعة على قائدها الديني العام، ولا شك بأننا نبحث عن القيادة الدينية في دنيا العقيدة، نعم أما الإمام فيجب أن يحوز على كفاءآت أساسية يستحق بحيازتها الإمامة، تجمعها  شروط خمسة دار عليها فلك الإمامة.

أولاً: العصمة. وهي مَلَكة طبيعية في الإمام تحرسه من المعاصي والآثام، كما تحرسه من الإهمال بالوظائف المقررة في الدستور العام، تحرس نواياه وهواجسه، كما تحرس أقواله وأعماله، ومعنى المَلَكة هنا أن له صارفاً نفسياً عن تجاوز فكره وعمله حدود الدستور وإن كان مقتدراً عليها لو أرادها، وهو أمر معقول، مثاله في العرف.. أن الرجل الشريف ليمتنع عن اللصوصية والجريمة لصارفٍ نفسيّ عنده، مع تمكّنه منها لو أرادها. والفرق بين هذا الرجل الشريف وبين الإمام عليه السلام أنّ امتناع الشريف عنها أمر ليس بضروري له، بل هو أمر ممكن ذاتاً قابل للوجود والعدم، أما امتناع الإمام منها فهو واجب ذاتي له غير قابل للتخلّف أصلاً، وبهذه الحقيقة امتاز الإمام على غيره من الأمة.

وأما علّة جَعْل العصمة شرطاً للإمامة فهو أن أفراد الأمة كلها يمكن أن يقع منها ما يُنافي مقام الإمامة في نيّة أو قول أو عمل، أما المعصوم الذي صارت العصمة ملكة ذاتية واجبة فيه فلا يمكن أن يقع منه ما يُنافيها، فاحتمال الوقوع يمنع صاحبه من مقام الإمامة ويخصّها بالمعصوم فقط، لكونه هو وحده مأمون الجانب دائماً، وبهذا التأمين استحق منصب الإمامة الدينية في الإسلام…

ثانياً:  الأفضليّة. وأفضليته على الأمة يجب أن تكون في العِلم الإلهي، وفي المجتمع الإنساني، أما سبب أفضليته في العلم الإلهي فلأنّه يريد أن يقود الإمامة باسم الحكومة الإلهية في الأرض، فلو لم يكن أفضل الأمة عند الله وأقرب الخلق إليه لما صحّ أن يحوز القيادة العامة، لأنه يلزم من ذلك تقديم المفضول على الفاضل وهو نقص يتعالى الله عنه، وعلى هذه القاعدة أيضاً تتركز أفضليته في المجتمع الإنساني لاتّحاد العلة فيهما، واختلاف سبَبَي العلّة لا يستوجب اختلاف العلة، فكون علة الأفضلية في العلم الإلهي هي حيازته على أكثر ثواب وأكبر تقدير من الله ـ لأنه لم يشطح عن القانون الإلهي طرفة عين في تمام حياته ـ لا ينافي علة أفضليّته في المجتمع الإنساني وأنه أعلم الأمة بالدستور وموادّه، وأفقهها لأصول تشريعه وعللها، وأحواها لفروع أحكامه ومسائلها..

وتقديم الأفضل في المجتمع على غيره أمر طبيعي تمشّت عليه سيرة الهيئات الاجتماعية في الأجيال والأمم، فالشيعة الإمامية لم تشذّ في اتّخاذها هذه المادة شرطاً أساسياً للإمامة.

ثالثاً: خبرته الإدارية، ويشترط أن يكون الإمام فيها مقدّماً على جميع أفراد أمته، لأنه يريد أن يدير مملكة تختلف مناطقها الجغرافية، كما تختلف أذواق سكانها في تحديد الحسن والقبيح فيها، فيلزمه في نظامه الإداري أن يكون خبيراً بالبلاد بصيراً بأهلها وما هم عليه من الطقوس والتقاليد وما ترمز إليه تلك الطقوس من المعاني النفسية والاجتماعية، لكي لا يخدش عاطفة في توجيه طقوسها على منهج لا يخالف روح الدستور، فهو يطبق الدستور ويماشي الذوق العام، وهو ينتخب لكل منطقة من بلاده موظفاً يلائم جو تلك المنطقة في السير الاخلاقي والإدارة العامة، كما أنه يلتقط وزراءه وقوّاده من عناصر قوية في الإيمان بالدستور حكيمة في تنفيذ مواد ذلك الدستور، واعية بما يحويه الدستور من الأغراض النفسية والاجتماعية، كما يلزم منه أن يكون مطّلعاً على حدود مملكته وحصونها وجيرانها وما بها من عناصر الضعف والقوة، ومسارب الهجوم والدفاع منه عليها ومنها عليه، لكي يحافظ على المملكة وحدودها بخبرة ودربة وقوة، ولكي لا يضع أمراً في داخل المملكة أو خارجها في غير موضعه، ولا يلزم من خبرته السياسية والادارية خبرته بالمهن والصناعات الدارجة في مملكته، لأنه لا يريد إلاّ إدارة الأمة وتطبيق الدستور، وهما لا يتوقّفان على غير الخبرة الفقهية والإدارية، فكلما خرج منهما يكون زائداً على صفات الإمامة، وإن كان ذلك صفة جمالية كمالية.

رابعاً:  الأشجعية، لأن القيادة العامة لا تسند إلا لمن يتمكّن على حفظ القيادة العامة من هجمات الأعداء ومكائد المنافقين، والدفاع لا يتحقق إلا بالقوة، بقوة القائد العام نفسه، لأن اعتماده في حفظ القيادة ـ التي هو المسؤول عنها ـ على غيره ربما يصطدم بإرادة من يعتمد عليه في موضوع يعارض إرادته في ذلك الموضوع، فإذا لم يتمكن من تأديب صاحب الارادة المعارضة وتوجيهه إلى إرادته فقد اللياقة للقيادة، والكفاءة شرط أساسي للوظيفة، وبالشجاعة النفسية والشجاعة البدنية تتحقق كفاءة القائد العام فقط، ولذلك جعلتها الشيعة شرطاً أساسياً للإمامة.

خامساً: البرهان الإلهي على صحة الإمامة، ويتحقق البرهان الإلهي إمّا بالنص، أو بالمعجزة. أما احتياجه إلى النصّ فلأنّ الشرط الأول في الإمامة هو العصمة، وهي لا تُعلم بنفسها، بل لابد أن تستكشفها بوسيلة تدلّك عليها، لأنها من الكيفيات النفسية التي لا تُدرَك بنفسها، وتنحصر وسيلة الإدراك بإخبار مَن يمتنع منه الكذب ويجب عليه الصدق في دعاواه، وامتناع الكذب ووجوب الصدق لا يتحقّقان إلاّ في المعصوم فقط، فإذا شهد المعصوم بورود النص فيه من الله قُبلت منه الشهادة وكان إماماً للأمة.

وأما احتياجه إلى المعجزة التي هي عبارة عن خرق ناموس الطبيعة في العناصر الكونية، فذلك إنما يكون حيث لا يكون نصّ من المعصوم فيه، فاذا رأينا مُدّعياً لقيادةٍ إلهية يؤيّد دعواه بخرق نواميس الطبيعة الثابتة نعرف منه أنّه صادق في دعواه، ولا يذهب عنك بأنّ خرقه لناموس الطبيعة يجب أن يكون من غير طريق الآلة أو الوسيلة المادية، لأنّ بهما يتمكّن كل شخص أن يقوم بخوارق لا يتمكن أن يقوم بها الانسان العادي، بل اللازم لمدّعي القيادة الإلهية أن لا يقوم خارقُه على وسيلة مادية، وذلك كإحياء عيسى الأموات بمجرد ندائه للميت، أو كانقلاب النار برداً وسلاماً لإبراهيم بمجرد دخوله فيها، بلا أن يستعين في ذلك الخارق بوسائل علمية مادية تغيّر طبيعة العناصر، وكشقّ القمر أو المعراج الجسمي لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بلا أن يتوسّل فيهما بآلة مادية أو يستند بهما على عناصر علمية تفلق القمر وتصعد به إلى الأفلاك النائية، فإذا صادفت هذه المعجزة دعوة من صاحبها بالقيادة العامة الإلهية، كان المدّعي صادقاً يوجب العقل اتّباعه بلا تأمّل ولا تردد.

أما النص فلما بيّنّا بأن السلطة الإلهية لا تأتي إلا من قِبل الله، فإذا اختار الله لها أحداً من خلقه كان هو المتعيّن لها، والطريق الوحيد الذي يعرف الناس منه صدق التعيين هو نص المعصوم بذلك، وقد ثبت عندنا بالقطع والضرورة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  نص على علي عليه السلام بالإمامة، وبأن علياً عليه السلام نص على ولده الحسن عليه السلام ومن بعده على ولده الحسين عليه السلام، وبأن الحسين نصّ على ولده السجاد عليه السلام، وهكذا نعلم بالضرورة نص الإمام السابق على الإمام الذي يتلوه حتى يصل الدور إلى الإمام الغائب عليه السلام ، نعم قد ثبت عندنا بالضرورة تعيين هؤلاء الأئمة للإمامة من طريق النص، وبالإمام الغائب ينتهي النص، وعند ذاك إمّا أن نقول بأن الإمامة قد انتهى دورها ـ وهو معنى يخالف قاعدة اللطف المتقدمة ـ أو نقول ببقائها فيه وانحصارها به وهو الذي نتوخّاه.

ولا يصحّ أن يكون الإمام معدوماً، لانعدام قاعدة اللطف الواجبة الوجود بانعدامه، ولا تخدش غيبته اللطف الإلهي، لأن اللطف الذي يتحقق به انتفاع الناس يقوم على  أركان ثلاثة:

الأول: ما يرجع إلى الله، وهو خلقه للإمام وإيجاده له على المؤهّلات التي تحتاجه إدارة الدين وشؤون المتدينين.

الثاني: مما يرجع إلى الإمام نفسه، وهو قبوله للتكليف الإلهي، وتوطين نفسه على تحقيق مقاصد الله في البشر.

الثالث: ما يرجع إلى الناس، وهو تمكينهم الإمام من إدارتهم بالانقياد له وتهيئة ما تحتاجه إدارته لهم من الوسائل والأسباب.

ولا شك بترتّب هذه الأركان بحسب الرتبة في الوجود، فالواجب على الله يتقدم الواجب على الإمام، وهو يتقدم الواجب على الناس، فإذا قام الله باللطف الواجب من ناحيته، سقط الواجب عنه، لأن ما كان يرجع إليه في اللطف قد حصل منه تماماً، فلا يضرّه عدم حصوله من الإمام والناس،وإذا قام الإمام باللطف الواجب عليه من ناحيته سقط الواجب عنه أيضاً، لأنه قد جهّز اللطف بما كان اللطف محتاجاً إليه من جهته، فلا يخدش لطفه عدم تمكين الناس من إدارتهم.

ونعتقد في حال الغيبة أن اللطف حاصل من ناحية الله وناحية الإمام عليه السلام، وإن كان الركن الثالث منه معدوماً، فإن الناس لم يمكّنوا الإمام من ادارتهم، بل حاولوا اغتياله، فغاب عنهم خوفاً على ضياع اللطف بضياع حياته، منتظراً الأمر الإلهي بالظهور، وذلك عندما تتم القابليات الإنسانية في البشر، فيستحقّون قيام الإمام بشؤونهم قياماً تاماً خالياً من المزعجات والمعارضات.

وانصراف الأمة الإسلامية عن الإمام كانصراف الملاحدة عن الله لا يضرّ العالم الإلهي، فهو يسبغ عليها مننه وألطافه، وإن كانت منصرفة عن هذا المنعم العظيم، وكانصراف الكفار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقد قام بدعوة الناس إلى الحق ولم يمنعه عن دعوته انصراف الناس عنه، وكمخالفة المارقين والقاسطين والناكثين لعليّ عليه السلام، فقد قام بواجبه الإلهي ولم تمنعه عنه مخالفة الأمة ومظاهراتها عليه، وكاتجاه العالم الإسلامي إلى غير أئمتنا عليهم السلام ولم يمنعهم ذلك من نشر المعارف والأحكام الإسلامية الصحيحة ومن هداية العقول إلى المنطق الصحيح ومن المدافعة عن حدود الإسلام وحقوقه في كل وقت احتاج فيه الإسلام إلى المدافعة عنهما، فانصراف الناس عن الإمام لا يضرّ بمقام الإمامة أبداً.

وأما غيبة الإمام، فإنها لا تمس كرامة إمامته عليه السلام بعدما كان كيان وجوب وجوده يقوم على قاعدة اللطف، فهو يرعى اللطف بوجوده الأقدس، ولا تحجبه الغيبة عن رعايتها، فالله تعالى لا تدركه الأفكار والأبصار، ولكن العقول ـ مع ذلك ـ تؤمن بأنه مدبّر الأكوان والأفلاك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم  يغيب مدة ثلاث سنين في الغار، ولكن تعاليمه المقدسة كانت تغزو العقول والمشاعر غزو أشعة الفجر الآفاق والأقطار، والأئمّة آباؤه عليهم السلام اعتزلوا الحكم الإداري، وكانت توجيهاتهم ترعى المواكب الإسلامية الدارجة إلى الكمال الإنساني. إن الغيبة لا تنافي اللطف، فالقائد العام يدرس الخطط الحربية وهو في حصنه، ولا يحتاج تنفيذها إلى أن يشاهده الجيش، وإنّما يشرح الخطة لأركان حربه ليطبّقها الجيش في ميادينه، والمهندس الأوّل يرسم البِناء وهو في مكتبه من دون أن يحتاج إشادة البناية إلى أن يراه العمّال والبناؤون، وإنّما يوضح بعض نقاطها الدقيقة إلى رؤساء العمال فقط، ورئيس الحزب يوجّه حزبه وهو في محل قيادته من دون أن تحتاج إدارته إلى مقابلته الحزب أو مقابلة الحزب إياه، والنبي كان يفتح أبواب التاريخ على الإسلام وهو في مسجده، وخلفاؤه كانوا يديرون العالم الإسلامي الكبير وهم في محاريبهم، والإمام الغائب أيضاً سار على هذا المنهاج، فهو يرعى المواكب الدينية وهو في عالمه المستور، وذلك بوسيلة نوّابه الأبرار ـ وهم العلماء الصالحون ـ الذين أرجع اليهم إدارة الشؤون الدينية، وأمر شيعته بالرجوع إليهم في مشاكلهم، فهو كالشمس تؤثر في الطبيعة وإن غطّاها السحاب، وكالجمال يجذب العواطف وإن ضمّه الحجاب، فالفائدة المترتبة على ظهوره عليه السلام تترتب على غيبته عيناً، لأن فائدة الإمام ليست إلا التوجيه المتسبّب عن الإيمان بوجوده المقدس وبقواه الإلهية الخارقة لنظم الطبيعة، وهي موجودة في غيبته كما هي موجودة في ظهوره، فمجرد الإيمان بإمامته وما احتوته هذه الإمامة من عظمة الشخصية يصون المؤمن من ارتكاب المحرمات واقتحام الشبهات وترك الواجبات، وإني أعتقد أن الشبهة الواردة على فائدة وجود الإمام الغائب قد انحلّت، أو على الأقل زال تعقيدها عن الفكر الواعي والذهن الصافي إن شاء الله تعإلى.

فلندخل إلى صميم الموضوع، ولنجب الداعي إلى تأليف هذه الرسالة بأسلوب سهل واضح، فإن الإمام الثاني عشر وُلد سلام الله عليه سنة 255 فيكون عمره الشريف عام تأليف الرسالة ألف ومائة واثنتين وعشرين سنة، الأمر الذي أحدث لنا مشكلة الايمان بوجود هذا الانسان العجيب، فإن عمره إلى الأسطورة أقرب منه إلى الحقيقة، وكيف يمكن أن يعيش إنسان يسكن هذا الكوكب هذه المدة الطويلة؟

وكيف يعيش هذا الانسان في الناس ولا تراه الناس؟!

وهل هناك أدلة تفيد القطع بوجوده؟

فهناك سؤالان يجب الجواب عنهما:

أولاً: كيف يعيش ابن هذه الأرض هذه القرون المتطاولة؟!

ثانياً: هل هناك أدلة تفيد اليقين بوجوده؟

أما الجواب عن السؤال الأول، فنقول: إن جذور النقد فيه تمتد على قاعدة استحالة تحمّل الهيكل الانساني البقاء أكثر من العمر الطبيعي، لأن مواده الحياتية تنتهي إذا بلغت ذلك الحد، فالجلد والعظم والعصب ونظام الدورة وعضلة القلب وأجهزة الحس والسمع والبصر وطاقات الخيال والتفكير والذاكرة وغير ذلك من الحواس البارزة والخفية إنّما تعمل ما دامت الحياة تمدّها بالحركة، والحياة ينتهي مددها إذا انتهت إلى مرحلة محدودة من العمر، فمتى بلغته توقّفت عن العمل فتعطلت الأجهزة عن الانتاج، وبتعطلها يدبّ إليها الفساد والتفسخ والتلاشي كما عليه سنّة الطبيعة في الأحياء والأموات، وعلى هذا النظام الحياتي المقرر كيف يمكن للإنسان أن يهدم حدود الطبيعة ويفسد نظام الحياة، ويتجاوز الحد المقرر للأعمار بمسافات تعادلها مرات ومرات؟ وهنا نسائل هذا الناقد البارع عن هذا الحد المقرر للعمر وأنه هل هو نظام ثابت مركّز في الطبيعة، بحيث لا يتمكن أي فرد من أفرادها أن يهدمه ويتجاوز الحد المقرر له فيها؟ وعلى تقدير ذلك لابد وأن يكون سببه انتهاء المادة الحياتية فيه، إذ هي أشبه ما تكون بزيت السراج الذي بانتهائه ينطفي السراج، وهكذا الإنسان بانتهاء مادة الحياة فيه ينتهي عمره في الحياة فيموت.

أعتقد بأن الناقد المحترم لا يمكنه أن يقرر ثبوت هذا النظام وتركزه بحيث لا تتمكن الانسانية أن تجتازه أبداً، لأنه إذا راجع دراسات فسلجة البدن الانساني، وكيف يحتوي هذا الوجود المعقد على أجهزة الخلود، فجهاز الخلايا يوجِد الخلايا ويعدمها باستمرار من دون أن يتأثر جهاز الايجاد والإعداد بالعمل بتاتاً، لأنه حاز على طاقة لا تتناهى فعاليتها وموادها، فله قابلية الايجاد والاعدام للخلايا أبداً، كما أنه لا يحتاج إلى تزييت وتنظيف، وآلاته مستغنية عن الاصلاح والتبديل، إذ هو يعمل ويعمل باستمرار، وان في عمله تنظيفه وتزييته وتقوية آلاته العاملة، فما دام العمل موجوداً كانت صلاحية الجهاز للخلق والابادة موجودة فيه، ولا يتعطّل هذا المعمل الجبّار إلا بعارض خارجي يصدمه فيتوقف جهازه عن النتاج، وإلا فما دام المعمل محصّناً عن الحوادث سارت أعماله التوليدية منتظمة دارجة، وأما جهاز عضلة القلب هذا المنجم الثري الذي لا تفنى كنوزه ولا تبيد ثروته، هذه المادة الجبارة التي تضمن الخلود أو يضمنها الخلود، هذه المادة إذا كانت محروسة من الأحداث الطارئة عاشت مع الحياة أبداً، حسب تقرير علماء الفسلجة، وعلى ما قرّرنا ينعدم هذا الحد الموهوم من أساسه، لأن الإنسان أصبح بموجبه قابلاً للبقاء الأبدي، لأنه مخزن مشحون بمواد الخلود والأبدية.

نعم يبقى لديه نقد موجّه، وهو أنه لو صحّ ما ذكرناه للزم أن لا يموت انسان أبداً، لأنه مجهز بالمواد المضادة للموت، بينما نرى السلالات البشرية تعيش وتموت في القرون، حيث تكتسحها الحوادث الزمنية التي لا يخلو منها زمان ولا مكان في هذا الفلك الأرضي، وعليه كيف عاش الإمام الغائب هذه المدة الطويلة، وهو إنسان يعيش في دنيا الحوادث والمفاجآت؟ إن النقد وجيه جداً، بل هو النقد المعقول لمشكلة الإمام الغائب، لو لا أننا نجابه هذا الناقد المحترم بسؤال لنا الحق في إلقائه عليه، وهو أنه هل يعترف ناقدنا العزيز بأننا نرى في هذه الدنيا الهادرة بالكوارث الماحقة فصائل من الحيوانات تعيش آلاف السنين، وتجتاز القرون والأجيال بين ركام الأمم وذرّات الأحياء المائتة بحياة سالمة من الأعراض والأمراض؟! لا شك بأنه سيعترف لي بذلك بعد ما يراجع معاجم الحيوان ويستعرض صورها المنقوشة فيها، ويدرس أسلوب حياتها وأطوارها والمواد التي تقتاتها، كما سيعترف لي أيضاً بأن بقاء هذه الحيوانات إنما تسبّب عن وجود قابلية الحياة الطويلة في هياكلها، ولذلك تعيش بسلامة وسلام في عالم يموج بالأموات والذرات، وليست تلك القابلية إلا الطاقة المقاومة لهجمات الابادة في الطبيعة التي تهاجم الأجسام الحية بقواها الخفية، فإذا فرضنا أن الذي حصّنها بتلك الطاقة المانعة حصّن أحد البشر بجهازها الواقي وجهز أعضاءه وأنسجته وأعصابه وساير مواد جسمه به، فاستودع فيه من المناعة ما استودعه فيها. فلا شك بأنه سيعيش كما عاشت ما دامت فيه مناعة تحمي وجوده من العدم وتصون مواد جسمه من الابادة والتلاشي.

ولا تنقد هذه النظرية بأن هيكل الإنسان لا يصلح لقبول هذه المادة. فإنا نجيبه بأن تفاوت أعمار البشر هذا التفاوت الظاهر دلّ على قبول جسم الانسان لمادة الحياة الطويلة.

إذ بينما نرى الشاب النشيط يصرعه مرض وهو في عنفوان قوته وفتوته، نرى الشيخ الهرم يصرع ذلك المرض وهو في نهاية ضعفه وانحطاطه، فلابد وأن تكون لهذا النصر ولتلك الهزيمة علة معقولة، وأعتقد بأن العلة المنحصرة فيه هي قوة مادة الحياة في الشيخ وضعف تلك المادة في الشاب، فالشيخ يصرع المرض بقوة مادته الحياتية، والفتى يصرعه المرض لضعف تلك المادة فيه، وإذا صحّ حلول تلك المادة في الانسان صحّ أن يتجاوز الانسان بها الحدود المعتادة للعمر مهما كانت تلك الحدود مستحكمة في نظر العرف العام، وكلّما ازدادت فيه مادة الحياة ازدادت سنين عمره طولاً، وهكذا نتمكن أن نمد عمر الانسان ونطيله إلى أي حدّ شئناه مادامت هنالك مادة حياتية تضمن الطول للعمر، وأعتقد بأننا قد أجبنا السؤال الأول في مرحلة الثبوت والامكان.

وأما الجواب عنه في مرحلة الوقوع والاثبات فأحيله إلى معاجم المعمّرين وتراجمهم، هؤلاء الأفذاذ الذين هزأوا بالحوادث الزمنية وبالحدود المفروضة لأعمار الانسان، فإنه سيجد لهم فيها قصصاً طريفة وأخباراً لذيذة، وإن عصرنا الذري المشحون بالمفاجآت والطوارئ المبيدة ليحوي من هؤلاء الافذاذ عدداً لا بأس بكميّته، تمكّنت أن تقطع أشراك الحوادث المنتثرة في طريق الحياة العصرية في كل مكان، وأن تجتاز الحد الطبيعي للعمر بصحة وقوة، وها هي المجلات الشرقية والغربية تتحفنا بين الفينة والفينة برسوم وأخبار هؤلاء العمالقة المعمّرين.

وأما الجواب عن السؤال الثاني ـ وهو عرض الأدلة التي توجب اليقين بوجود الإمام الغائب ـ فأعتقد بأن الخوض فيه تطويل بلا طائل، وذلك لأن أكثر المؤلّفات الباحثة عن موضوع الامام الغائب تدرسه على ضوء الأحاديث الوارد فيه سلام الله عليه، إذ هي تسجّل لنا من الأحاديث المرويّة عن الفريقين كمية وافرة توجب القطع بوجوده الشريف لكل مسلم يستعرضها ويعيها، وان في كتاب (منتخب الأثر) لمؤلفه العلاّمة البحاثة الشيخ لطف الله الكلبايكاني نزيل قُم غنىً وكفاية عن غيره، فإنّه ـ أيّده الله ـ قد شحن المهمّ من تلك الأحاديث بعد أن رتّبها وبوّبها وهذّبها بأسلوب مانع رائع تريح الباحث عن عشرات الكتب في هذا الموضوع.

والحقيقة أن موضوع الإمام الغائب من مواضيع الدين المستورة عن وعي الفكر البشري، ومتى تمكن الفكر الانساني أن يحتل هذه القلاع المحصنة بالقوى الإلهية ونواميس ما وراء الطبيعة، فإنّه يتمكّن من حل مشكلة الغيبة حلا واقعياً، وإلا فإن ما ترسمه الأقلام ليست إلا صوراً باهتة لظلال فكرية لمحتها فرسمتها، وأمّا الحقيقة فما زالت في عالمها المستور لا يعرفها إلا الله الخبير البصير بكل الأمور.

أما العلامات المجعولة منهم عليهم السلام والتي يستدلّون بها على قُرب ظهوره أو على ظهوره سلام الله عليه، فإنها كالغيبة رموز مجهولة مرنة مطاطة قابلة للانطباق على كلّ عصر من العصور الإسلامية، ولذلك رأينا كثيراً من المشعوذين يتّخذون منها ذريعة للبلوغ إلى أغراض مادية ردية، فحصر العلامات بعصر مخصوص وزمان معين يزلزل الايمان ويضعضع العقيدة بوجوده المقدس، بل كل ما يجب علينا نحن الشيعة الإمامية أن ننتظر ظهوره أبداً، وأن نتوجه إليه عليه السلام بمشاكلنا الدنيوية والأخروية ليسأل الله حلّها، ولا شك بأن المؤمن إذا أخلص النية وتوجّه إلى الله مستشفعاً بوسيلته إليه نال مبتغاه وأدرك مُناه.

اللهم إنّا نشكو اليك فَقْدََ نبينا وغيبة إمامنا، وجهالة أمّتنا، وفشل أعمالنا وخيبة آمالنا، وتمزيق صفوفنا، واختلاف كلمتنا، وكثرة متاعبنا، وقلّة وسائلنا وقوّة أعدائنا وضعف قوانا، اللهمّ إنّا نسألك الفرج، فعجِّل لنا الفرج بظهوره آمين يا رب العالمين.(1)

الهوامش:

* هو السيد محمد بن السيد جمال الدين الموسوي الكلبايكاني الشهير بالهاشمي، عالم وأديب وشاعر، ولد في النجف عام 1332هـ ونشأ بها ودخل المدارس الرسمية ثم تركها للتفرغ للدراسة الدينية، درس على أيدي علماء أجلاء في المقدمات والسطوح ومنهم والده الحجة السيد جمال الدين بن حسين الكلبايكاني، ثم حضر الأبحاث العالية على والده والشيخ ضياء الدين العراقي والسيد ابي الحسن الاصفهاني، ربى جيلاً من الشباب كان من المساهمين في جمعية منتدى النشر وجمعية الرابطة الأدبية، له كتب مطبوعة ومخطوطة ومنها ديوان شعر رقيق، توفي في النجف عام 1397هـ ودفن فيها. المنتخب/ كاظم الفتلاوي/ ص 429.

(1)  كرّاسة مطبوعة في مطبعة النجف عام 1958م، أعارنا إيّاها مشكوراً الباحث الإسلامي السيد هادي الحكيم، وقد أوردناها ملخّصة حسب ما يقتضي المقام.

حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جمال الهاشمي*(رحمه الله)

شاهد أيضاً

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه(عجّـل الله فرجه)

انّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *