كانت الفلسفة فی بدایة نشوئها وتطورها تبحث فی كل شیء وتهتم بكل شیء ومن ضمنها العلوم المختلفة، أی كانت العلوم ساحة من ساحات الاهتمام الشامل للفلسفة؛ فمثلاً نرى أن “أرسطو” -بجانب اهتمامه بإرساء قواعد المنطق- یهتم بجمیع العلوم المعروفة فی عهده بدءً من الریاضیات وانتهاءً بعلوم الأحیاء؛ ونرى “أفلاطون” -أستاذ أرسطو- یكتب على مدخل مدرسته: “من لا یعرف الریاضیات فلا یدخل إلى هنا”.
أورخان محمد علی
كانت الفلسفة فی بدایة نشوئها وتطورها تبحث فی كل شیء وتهتم بكل شیء ومن ضمنها العلوم المختلفة، أی كانت العلوم ساحة من ساحات الاهتمام الشامل للفلسفة؛ فمثلاً نرى أن “أرسطو” -بجانب اهتمامه بإرساء قواعد المنطق- یهتم بجمیع العلوم المعروفة فی عهده بدءً من الریاضیات وانتهاءً بعلوم الأحیاء؛ ونرى “أفلاطون” -أستاذ أرسطو- یكتب على مدخل مدرسته: “من لا یعرف الریاضیات فلا یدخل إلى هنا”.
وعندما اتسعت العلوم اتساعاً كبیراً وتشعبت، لم یعد هذا ممكناً ولم یعد فی وسع أحد أن یحیط بجمیع العلوم إضافة إلى اشتغاله بالفلسفة، فانفصلت ساحة العلم عن ساحة الفلسفة تدریجیاً. أی إن علوم الطبیعة والنفس والریاضیات والفلك كانت فصولاً من مبحث واحد هو الفلسفة. فلما اكتمل نموها أصبحت علوماً مستقلة كما نراها الیوم.(1) وقد اشتغل أرسطو وألف فی الأخلاق والسیاسة والمنطق والبلاغة والفلك وعلم الحیوان. كما كان الفلاسفة المسلمون أمثال “الفارابی” و”ابن سینا” من هذا النمط الموسوعی، فلم یقتصر نشاطهم فی ساحة الفلسفة والمنطق بل تعداها إلى الریاضیات والفلك والموسیقى والطب واللغة.
علاقة الفلسفة بالعلم
ولكن العلوم والنظریات العلمیة مع كونها منفصلة منذ قرون عن الفلسفة إلا أنها تعد -كما ذكرنا- أهم عامل وموجّه لجمیع المدارس الفلسفیة، بل سبباً فی نشوء مدارس فلسفیة عدیدة؛ فمثلاً نرى أن القوانین التی اكتشفها “نیوتن” أثّرت فی جمیع فلاسفة عهده وفیمن جاء من بعدهم بقرون، حیث أصبحت صورة العالم بعد اكتشاف هذه القوانین كأنها آلة ضخمة فی كون ساكن ولانهائی بثلاثة أبعاد تسیر حسب قوانین محددة ومعلومة، وتَرسَّخ مبدأ “السبب – النتیجة” ترسخاً كاملاً، حتى قال بعضهم: “أعطنی جمیع المعلومات وأنا أسجل لك سیر الكون حتى نهایة عمره”.
وبعد اكتشاف “النظریة النسبیة” من قِبل “أنشتاین”، و”النظریة الكمیة” من قبل “ماكس بلانك” و “هایزنبرغ” وغیرهما من العلماء، اضمحلت تلك المدارس الفلسفیة وظهرت مدارس فلسفیة أخرى حسب المنظور الجدید لكون ذی أبعاد أربعة (بُعده الرابع هو الزمان)، وتزلزل المبدأ السابق فی “الحتمیة” واختلفت النظرة إلى العالم فی مقیاسه الصغیر (أی الذرة) وفی مقیاسه الكبیر أیضاً (أی الكون)؛ أی إن العلم أصبح یقود الفلسفة ویوجهها.
ومن هنا تأتی الأهمیة الفائقة للنظریات وللقوانین العلمیة من الناحیة الفكریة والفلسفیة إضافة إلى أهمیتها فی التقدم التكنولوجی الذی یساهم فی زیادة رفاهیة الإنسان وتقدمه فی مضمار المدنیة.
تأثیر نظریة التطور
وكذلك من هنا تأتی أهمیة “نظریة التطور” لـ”دارون”. ذلك لأنها أثرت تأثیراً بعیداً فی جمیع المناحی الفكریة للإنسان؛ أثّرت فی الفلسفة وفی علم الاجتماع وفی علم النفس وفی السیاسة. وقال عنها “كارل ماركس”: “إن هذه النظریة هی تطبیق فلسفتنا فی صراع الطبقات فی الطبیعة” مشیراً بذلك إلى فكرة “الانتخاب الطبیعی” فی نظریة دارون، فأثر هذه النظریة واضح فی العدید من المدارس الفلسفیة. فبعد انتشار هذه النظریة وذیوعها نرى أن العدید من الفلاسفة بدأوا بسحب هذه النظریة من إطارها فی عالم الأحیاء لیطبقوها على مستوى الكون. لذا نرى ولادة تعابیر فلسفیة جدیدة بعد ظهور هذه النظریة وشیوعها مثل “التطور الانبثاقی” للفیلسوف البریطانی “لوی مورجان” و”التطور الخلاق” للفیلسوف الفرنسی “هنری برغسون”.
والشیء نفسه نلاحظه عند الفیلسوف الأسترالی صمویل ألكساندر. الذی قال بأن هناك تطور على مستوى الكون، وأن المادة كانت فی صورة بسیطة فی أول أمرها ثم تطورت إلى مادة لها خواص معینة كاللون والرائحة، ثم ظهرت الحیاة وبعدها العقل، وأن الله یمثل المرحلة النهائیة للعقل؛ أی إن الله -تعالى الله علوّاً كبیراً- لیس إلا نتیجة هذا التطور الذی بدأ منذ الأزل فی هذا الكون الذی عدوه قبل عقود من الزمن لانِهائیّاً من ناحیة الزمان والمكان. هذا عند طائفة من الفلاسفة المؤمنین بوجود الله، أما المنكرون والملحدون من الفلاسفة فقد قالوا بالمصادفة؛ أی إن المادة وهی تتقلب فی أدوار وأطوار وحالات مختلفة أنتجت هذا النظام الرائع المشاهَد فی الكون وفی الحیاة وهذا یخالف قانون “الاحتمالات الریاضیة”.
كما استندت كثیر من النظریات السیاسیة كالنازیة والفاشیة إلى نظریة التطور مستخدمة إیاها كسند علمی لأَیدولوجیاتها البعیدة عن الإنسانیة، فما دامت الحیاة صراعاً یبقى فیها الأقویاء ویزول من مسرحها الضعفاء، فمن حق العناصر القویة (كالعنصر الجرمانی فی النازیة وكالرجل الأبیض عند العنصریین البیض) أن تملی إرادتها على العناصر الأخرى وأن تفعل بها ما تشاء إلى حد الإبادة.
كما كانت هذه النظریة خلف ظاهرة الإباحیة الأخلاقیة أو ما سمیت بـ”الثورة الجنسیة” التی اجتاحت العالم الغربی والعدید من بلدان العالم. لأن الإنسان ما دام سلیل حیوانات فما علیه إلا اتباع غرائزه وعدم كَبتها، وما الخُلُق والضمیر إلا قشور زائفة صنعها المجتمع، وهی لا تستحق الالتفات إلیها أو الاهتمام بها.
لقد شهد القرن التاسع عشر میلادَ ثلاث نظریات أثّرت فی الحیاة الإنسانیة تأثیراً خطیراً وسلبیاً وهی: “النظریة الماركسیة” و”نظریة دارون” فی التطور و”نظریة فروید” فی التحلیل النفسی. ولعل نظریة التطور لدارون هی أخطر هذه النظریات، لأنها حاولت البرهنة على “حیوانیة الإنسان”. وعندما یتم إثبات هذه الصفة الحیوانیة فی الإنسان ویدمغ بها فمن السهل قبول النظریة الماركسیة التی ترى أن الهم الوحید للإنسان هو حاجاته المادیة وما یشبع بطنه. وكذلك یسهل قبول نظریة فروید التی أرجعت جمیع نشاطات الإنسان وغایاته إلى غریزته الجنسیة.
تحول النظریة إلى أیدولوجیة، وعملیات التزویر
وهناك ظاهرة تلفت النظر فی موضوع نظریة التطور، وهی أن هذه النظریة خرجت من كونها نظریة علمیة قابلة للصواب أو الخطأ، إذ تحولت إلى “أیدولوجیة” یدافع عنها أنصارها، ولا یترددون حتى فی القیام بعملیات تزویر مشینة من الناحیة العلمیة والأخلاقیة، وهذا ما لا نراه فی النظریات العلمیة الأخرى؛ فلا نرى عالماً فی الفیزیاء أو فی الكیمیاء أو فی أی علم من العلوم یقوم بعملیة تزویر لإثبات صحة نظریته أو صحة القانون الذی اكتشفه، لأن غایة العلم هی الوصول إلى الحقیقة. بینما نرى أن عملیات التزویر العلمیة منحصرة فی موضوع نظریة التطور فقط.
وأُولى عملیات التزویر هذه قام بها العالم الألمانی “أرنست هیجل” وكان من أنصار نظریة التطور. ولما رأى أن صور الأجنة لا تتطابق تماماً مع هذه النظریة قام بعملیات رُتُوش وحذْف فی صور الأجنة البشریة لكی تتطابق مع نظریة “التلخیص” (وهی إحدى النظریات السابقة التی قُدّمت كبرهان على نظریة التطور ثم نفض العلماء أیدیهم عنها بعد ثبوت خطئها). ولكن أحد العلماء اكتشف عملیة التزویر هذه وأعلنها فی إحدى الصحف، وتحدى فیها “أرنست هیجل” الذی لم یر بدّاً من الاعتراف بجریمته العلمیة والأخلاقیة بعد فترة صمت وتردّد، فاعترف فی مقالة كتبها فی 14/12/1908 وقال فیها: “إن ما یعزّیه هو أنه لم یكن الوحید الذی قام بعملیة تزویر لإثبات صحة نظریة التطور، بل إن هناك المئات من العلماء والفلاسفة قاموا بعملیات تزویر فی الصور التی توضّح بنیة الأحیاء وعلم التشریح وعلم الأنسجة وعلم الأجنة لكی تطابق نظریة التطور”.
إذن فهناك مئات من عملیات التزویر -ولیست عملیة واحدة أو عدة عملیات- تمت فی علم الأحیاء وفی علم التشریح وعلم الأنسجة وعلم الأجنّة قام بها العلماء من أنصار التطور.
أجل! على مثل عملیات الغش والتزویر هذه قامت نظریة التطور وانتشرت، وتمت بها أیضاً عملیة غسیل دماغ الجماهیر فی هذا الموضوع، وأصبح من لا یؤمن بها رجعیاً وجاهلاً!!.
وهناك حادثة “إنسان نبراسكا” فقد عثروا على سن واحدة لیعلنوا أن صاحب هذه السن هو الحلقة المفقودة التی یبحثون عنها، ونشروا صوراً خیالیة لهذا الإنسان، بل حتى عن حیاته العائلیة، وقدّم علماء التطور هذه السن كدلیل فی محكمة “سكوبس”(2) عام 1925. وعندما اعترض الطرف الآخر سخروا من جهله! ومع أن المحكمة أصدرت قرارها بإدانة السید “سكوبس” إلا أن الضجّة التی أثارها أنصار التطور فی الصحافة وفی المحافل العلمیة جلبت عطفاً كبیراً على المتهم، وغضباً على المحكمة.
وفی هذه المحكمة قدّم علماء التطور هذه السن كدلیل لا ینقض على صحة التطور، لأنهم اخترعوا من هذه السن الواحدة إنساناً أسموه “إنسان نبراسكا” وأطلقوا علیه اسماً لاتینیاً رنّاناً لیسبغوا علیه صبغة علمیة.
ولكن تبیَّن فیما بعد أن هذه السن لا تعود لإنسان، ولا لقرد، بل لخنـزیر بری! نعم خنـزیر! إذن تأملوا مدى المبالغات الموجودة فی تفسیرات علماء التطور للمعطیات العلمیة أو للمتحجرات التی یعثرون علیها، ومدى انحرافهم عن النهج العلمی الذی یجب أن ینطلق من مبدإ “الموضوعیة” فی تفسیر المعطیات والظواهر العلمیة والطبیعیة، بینما ینطلق هؤلاء العلماء من فكر مسبق، وهو أن نظریة التطور صحیحة. لذا یقومون بلیِّ عنق هذه الظواهر والمعطیات العلمیة لكی تتوافق مع ما یعتقدونه من فكر مسبق. ولا یترددون -كما رأینا- حتى من القیام بعملیات تزویر معیبة ومشینة أخلاقیّاً وعلمیّاً فی هذه السبیل. وهناك أمثلة أخرى كثیرة فی هذا الصدد لا نوردها هنا خشیة الإطالة.
لقد خرجت نظریة التطور من كونها نظریة -أو فرضیة- علمیة یمكن دراستها ووضعها على المحك مثل النظریات العلمیة الأخرى، وأصبحت “أیدولوجیة” عند علماء التطور یدافعون عنها حتى ولو تطلب الأمر القیام بعملیات تزویر مشینة.
ولكن لماذا أصبحت نظریة التطور أیدولوجیة؟ لأنها النظریة العلمیة الوحیدة التی یمكن أن تؤدی إلى الإلحاد، لكونها تدعی القیام بتفسیر الكون والحیاة دون الحاجة إلى الخالق. فإذا ظهر أن كل نوع من أنواع الأحیاء خلق على حدة، وأن الحیاة لم تظهر نتیجة مصادفات عشوائیة، لأن هذا أمر مستحیل، وأن الأحیاء لم تتطور عن بعضها البعض فلا یبقى هناك أی مجال أمام جمیع العلماء سوى الإیمان بالله تعالى.
شواهد علمیة على تهافت هذه النظرة
وإذا أردنا الإشارة باختصار إلى بعض الشواهد التی تقف ضد نظریة التطور قلنا:
1- عجز النظریة: إن كل نظریة علمیة تسعى إلى تفسیر كل أو معظم الظواهر المتعلقة بها. فمثلاً عندما تضع نظریة حول الجاذبیة الأرضیة فیجب أن تقوم هذه النظریة بتفسیر جمیع الظواهر المتعلقة بها. وعندما تضع نظریة حول ماهیة الضوء وخصائصه یجب أن تقوم هذه النظریة بتفسیر كل ما یتعلق بالضوء وبخصائصه. وعندما تشذ أی ظاهرة من الظواهر عن النظریات الموضوعة لتفسیرها تتم محاولة اكتشاف نظریة أخرى أكثر شمولاً من النظریة السابقة.
إذا نظرنا إلى نظریة التطور من هذه الزاویة نرى أنها نظریة قاصرة جدّاً فی هذا الصدد. وندرج أدناه بعض المواضیع التی لم تقم هذه النظریة بتقدیم أی تفسیر لها:
أ- أصل الحشرات: لا تقدم هذه النظریة أی تفسیر لأصل الحشرات مع أنها تمثل 80 % من مجموع الحیوانات.
بـ- أصل وتطور القوارض غیر معروف، مع أن أعدادها هائلة وتزید على أعداد الثدییات الأخرى.
جـ- أصل الطّیَران بجمیع أشكاله غیر معروف تماماً. فكما هو معلوم فهناك أربعة أنواع من الحیوانات الطائرة: الحشرات، الطیور، بعض اللبائن (كالخفاش)، بعض الزواحف الطائرة (انقرضت). لا تقدم نظریة التطور أی جواب حول سؤال: كیف ظهر الطیران عند هذه الحیوانات؟
إذن ما بالك بنظریة لا تقوم بتفسیر 90 % من الظواهر التی من المفروض تناولها ولا تستطیع تسلیط الضوء علیها؟ وما دامت هذه النسبة الكبیرة من الظواهر غیر معروفة وغیر مفسرة من قبلها فكیف یمكن عدّها نظریة صحیحة؟ وهل هناك نظریة علمیة أخرى غیر هذه النظریة أبدت عجزها عن تفسیر 90% من الظواهر التی تصدّت لتفسیرها؟ وهل یمكن أن تقبل الأوساط العلمیة مثل هذه النظریة؟
2- الحیاة فی الخلیة الأولى: كیفیة ظهور الحیاة فی الخلیة الحیة الأولى غیر معروفة، والقول بالمصادفة لیس جواباً علمیاً، بل جواباً یصادم العلم؛ لأنه كلما زادت معلوماتنا عن الخلیة الحیة ومدى تعقیدها تأكد لنا أكثر وأكثر استحالة ظهورها مصادفة. ویكفی أن نعلم أن جزیئات D.N.A الموجودة فی الإنسان تحتوی على معلومات لو قمنا بتسجیلها على الورق لاحتجنا لـ 900 ألف صفحة تقریباً، وهذا یعادل 34 ضعف المعلومات الواردة فی دائرة المعارف البریطانیة. فكیف یمكن إذن أن تظهر الخلیة إلى الوجود مصادفة؟ وقد عُلم من تطبیق قوانین الاحتمالات الریاضیة استحالة تكوُّن جزیئة واحدة من البروتین عن طریق المصادفة خلال أضعاف عمر الكون، فكیف یمكن ظهور خلیة واحدة حیّة بطریق المصادفة؟
3- الحلقات المفقودة: تدعی هذه النظریة أن الأحیاء قد تطورت من خلیة واحدة إلى أحیاء ذات خلایا متعددة ثم تشعّبت مساراتها فی التطور حتى ظهرت الأحیاء الحالیة التی تبلغ أعداداها عدة ملایین. لذا فحسَب هذه النظریة لا بد من وجود عشرات الحلقات الوسطى أو الحلقات الانتقالیة بین كل نوعین، أی إن أعداد الحلقات الوسطى یجب أن تزید بعشرات المرات على عدد الأحیاء الموجودة حالیاً. أی إن أحیاء الحلقات الوسطى یجب أن تبلغ عشرات ومئات الملایین، ولكن لم یتم العثور حتى الآن على أی حلقة وسطى. ولم یصح الزعم القائل بأن طائر “الأركیوباتریكس” یمثل الحلقة الوسطى بین الزواحف والطیور، لأنه تم العثور على متحجرة طائر فی نفس العهد الذی عاش فیه “الأركیوباتریكس” وهو العهد الجوراسی (أو العهد الطباشیری) من قبل البروفسور “جون أرستروم” من جامعة “یالا”، وكتب مقالة مفصلة عن هذا الطائر فی مجلة الأطبّاء العلمیة (المجلد رقم 112 فی 24 أیلول/1977). لذا لا یمكن أن یكون طائر “الأركیوباتریكس” جَدّاً وسلَفاً للطیور، بینما كانت هناك طیور حقیقیة تعیش معه.
كما قدّم التطوریون بعض الجماجم التی تعود لقرود -كانت تعیش سابقاً ثم انقرضت- وكأنها الحلقات المفقودة بین الإنسان والقرد. وكل هذه الجماجم مدار شكّ ونقاش حتى من قبل علماء التطور أنفسهم. ولو كانت نظریة التطور صحیحة لكان المفروض أن نعثر على مئات الآلاف من متحجرات الأحیاء التی تمثل الحلقات الوسطى الانتقالیة بین الأنواع؛ لأنه تم العثور على مئات الآلاف، بل ربما الملایین من المتحجرات فی المائة والخمسین سنة الأخیرة وامتلأت بها المتاحف الطبیعیة.
وهذا الفشل الذریع فی الحصول على هذه المتحجرات (لأنها غیر موجودة أصلاً) هو الذی دفَع بعضَ علماء التطور إلى البحث عن مخرج من هذه الورطة الكبیرة التی تهدد بإعدام نظریة التطور، لذا قام هؤلاء بوضع نظریات مختلفة. ومجمل هذه النظریات الأخیرة هو أن التطور حصل فجأة ودون مراحل انتقالیة (مثلاً حدث أن زاحفاً وضع بیضة خرج منها طائر!) ولم یستطیعوا أن یقدموا لهذه الفرضیة الخیالیة البعیدة عن كل قسطاس علمی أی دلیل یمكن أن یكون له وزن. وبهذا دخلت نظریة التطور فی طریق مسدود.
4- الزمن عامل هدم لا عامل بناء: وفی السنوات الأخیرة بدأ نقاش حاد بین أنصار التطور وأنصار الخلق حول قانون فیزیائی یرى أنصار الخلق أنه ینقض نظریة التطور من أساسها وهو القانون الثانی من “الدینامیكیة الحراریة”.
فهذا القانون یشیر إلى أن الكون منذ خلقه یسیر نحو الانحلال ونحو التدهور ونحو الموت الحراری، فالنجوم تبعث طاقة حراریة وضوئیة وإشعاعیة ووقودها ینفد، ونحن نرى أن كل شیء یترك لحاله ینحل ویفسد؛ فإذا تركنا قطعة لحم أو فاكهة نراها تفسد بعد مدة. وإذا تركت بیتاً أو سیارة لحالها دون عنایة وخدمة أسرع إلیها البلى… وهكذا. أی لا یوجد هناك شیء یتطور أو یتحسن حاله إذا تركته لحاله ولم تتدخل بعلمك وإرادتك فی تحسین وضعه؛ مثلاً تستطیع القیام ببناء بنایة أو صنع آلة، ولكن العملیة هنا عملیة مقصودة تدخل فیها العلم والإرادة الإنسانیة، ولیست عملیة تلقائیة. أی إن الزمن عامل هدم ولیس عامل بناء، لأن الأشیاء إن تركت لحالها مالت إلى الانحلال والانهدام والتفتت، ولا تتطور ولا یزداد تعقیدها أو درجة نظامها. لذا ففی مثل هذا الكون، وفی ظل هذا القانون الفیزیائی لا یمكن أن یكون هناك تطور تلقائی مستند إلى المصادفات، لأن هذا الكون متوجه للانحلال ولیس للتطور.
الهوامش:
(1) قصة الفلسفة الیونانیة، لأحمد أمین وزكی نجیب محمود، ص 6.
(2) محاكمة “سكوبس” عقدت فی مدینة دایتون، فی ولایة “تنسیِ” الأمریكیة فی صیف 1925 وثارت حولها ضجة كبیرة حتى أن عدد الحاضرین إلى المحكمة زاد عن عشرین ألف مستمع. وخلاصة القضیة أن حكومة ولایة تنسی أقامت الدعوى على أستاذ یدعى “سكوبس” لأنه عارض صحة الإصحاح الأول من سفر التكوین عن خلق الانسان، وقدّم نظریة التطور لدارون كتفسیر بدیل لقضیة الخلق.