استفساري: إن ظاهرة الغيبة غريبة وغامضة لم تمسّها يد الحسّ، تعيش بين أفقين من الجمال والجلال، فترعرعت عند بعضهم (من هو في داخل البيت وخارجه) بالغيب السلبي والانتظار المظلم، والدين الخامل وأسلمة الإباحة الجنسية، وأيدلجة التقاعس والترويج للركون للظالم، وفناء روح المقاومة وبث اللامبالات، ومهاجمة الإصلاح ومداهمة دور العلم وتسفيه العلماء، وتعطيل الأحكام وانهزام المؤمنين، فصارت فكرة داعية للمقت بعدما حفظ لها الرحمن جاذبيتها، وعاشت مكتنفة بالجهل بعدما كانت في دوحة العلم ورياضه،…
استفساري: إن ظاهرة الغيبة غريبة وغامضة لم تمسّها يد الحسّ، تعيش بين أفقين من الجمال والجلال، فترعرعت عند بعضهم (من هو في داخل البيت وخارجه) بالغيب السلبي والانتظار المظلم، والدين الخامل وأسلمة الإباحة الجنسية، وأيدلجة التقاعس والترويج للركون للظالم، وفناء روح المقاومة وبث اللامبالات، ومهاجمة الإصلاح ومداهمة دور العلم وتسفيه العلماء، وتعطيل الأحكام وانهزام المؤمنين، فصارت فكرة داعية للمقت بعدما حفظ لها الرحمن جاذبيتها، وعاشت مكتنفة بالجهل بعدما كانت في دوحة العلم ورياضه، وعانقت الخرافة بعدما كان مكتوباً لها التكامل التقنيني والتشريعي، فدعت نفسها إلى مأدبة الذل والخنوع وراحت تشرف وتعد لمجالس العاطلين والحمقى، وغُيبت عن سماء الجمال وفضاء العقلانية إلى أن بدأت تلفظ أنفاسها عند اليائسين والمهزولين، فلم ينقض عجبي كيف آلت الأمور إلى هذه الصورة الموحشة؟ ومن هو وراء ذلك؟
قالت أفكارنا:
انحراف التطبيق وسوء فهم التوقيت، وخطأ تفسير مفردات الغيبة وثقافتها، وظلمانية تناول أسباب ظهوره عليه السلام، ودراستها بمعزل عن غايتها وعن الروية العامة للدين وللقرآن والعترة، وقبح تسويقها في الواقع الخارجي وإيحاء تضادها مع مقولات الفطرة والعقل والوجدان، وتشويه العدو لها. كلها علل انكماشها وتقززها والنفرة منها، بيد أن الأمر ليس كذلك فالغيبة صورة متكاملة وجميلة.
ولا قبح فيها. يميل اليها الإحساس ويعانقها العقل، ولا تضاد بينها وبين أقرانها. ولها ألفة مع عالميتها فهي المشروع المرشح من قبل الحكيم الخبير لجمالها مع خاصية الكون ونهاية المأمول فصارت رغبة الأنبياء والأولياء الالتحاق بها والإعداد لها.
ثم أردفت أفكارنا إليك التفصيل:
أما انحراف التطبيق فقد وردت أسماء في المنظومة المهدوية كالمهدي واليماني والخراساني والمهديون، والرايات السود والصفر والنفس الزكية وغير ذلك، وهي حاملة لصفات عامة قد ذكرت في الاثار فنُزلت على مر الأزمنة على أشخاص معينين لدواعي مختلفة، إما للحب المفرط من قبل أتباعهم، وإما لتحصيل الشرعية لتنفيذ مخططاتهم، وإما لحماقة أصحابها، وإما للإساءة إلى هذه الأسماء عن هذا الطريق.
وإن ظاهرة التطبيق تنمو في أجواء خاصة ثم تأفل فتفشى في زمن أو مكان معين لتوفر مناخ ربوها. فأدعياء المهدوية والنيابة الخاصة والبابية واليمانية والنفوس الزكية نماذج من سوء التطبيق. وهذه دعاوى تخرصية لا دليل عليها، إلا ان استيقاظنا لها يأتي متأخراً.
فإن قيل إذ لم يمكن التطبيق. فلماذا تصدت الروايات إلى ذكرها؟
قلنا: هذا يتم لو انحصرت فائدة ذكر الأسماء لغاية التطبيق، والحال هناك فوائد أخرى جمة من قبيل أن ظاهرة الإمام لابد أن تعيش تجاذباتها الطبيعية ونموذج الصراع الهابيلي القابيلي. وإنّ ذكر هذه العناوين كناية عن مفروغية ظهور الإمام عليه السلام، نظير أشراط الساعة التي هي استعارة عن حتمية قيام الساعة، مضافاً إلى أن هذا الذكر له آثاره التربوية الايجابية ووزان هذه الأسماء وزان قوله تعالى: ((وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ)) سورة الواقعة، مع فارق غير مفرق بينهما، فظاهرة التطبيق زلزال خطير وتقامر ولعب بالنار، قال أمير المؤمنين عليه السلام: من لم يعرف مضرة الشيء لم يقدر على الامتناع منه.
وقال أيضاً عليه السلام المصيبة بالدين أعظم المصائب.
فالتطبيق كما يقال:
كل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
وفي الخبر (لا يخرج المهدي حتى يخرج ستون كذاباً، كل يدعي انه مرسل من عند الواحد المعبود). ولعله هو معنى قوله عليه السلام (كل راية ترفع قبل راية القائم. صاحبها طاغوت). فالمراد الرايات التطبيقية.
وأما ظاهرة التوقيت بأن ندعي تحديد وقت معين لظهور القائم عليه السلام، فهو مضافاً إلى عدم الدليل على التوقيت المعين، ومجرد الاعتماد على بعض القرائن لا يصلح أن يكون دليلاً مع أنه قد ورد النهي عن التوقيت. ففي الرواية عن الامام الجواد عليه السلام لِمَ سمي بالمنتظر؟ قال: <لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون، ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكذب فيه الوقاتون، ويهلك فيه المستعجلون وينجو فيها المسلمون>.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: هلك المحاضير قلت: جعلت فداك وما المحاضير؟ قال عليه السلام: المستعجلون. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: كذب المتمنون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون وإلينا يتصيرون. وعنه أيضاً (كذب الوقاتون إنا أهل البيت لا نوقت). فعليه إن من علائم ظهوره عليه السلام أن لا يعرف أحد بوقت ظهور الإمام أبداً. فهذه الحقيقة من الأسرار الإلهية مثل موعد يوم القيامة. وإن ذكر القرآن لموعده علامات إلا أن موعده عليه السلام لا يعرف به أحد إلا الله، ولهذا يجب أن لا يصدق زعم من يدعي أنه يعلم بوقت الظهور، أو يعين وقتاً ويضرب أجلاً معيناً. ولعل حكمة مجهولية الظهور لأجل أن يكون المؤمن مستعداً دائماً للظهور، لئلا يظن أحد أنه في مأمن ويظن أن الظهور بعيد ويعتبر نفسه في معزل عنه ((وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) ناهيك عن وجود جملة من الروايات بلسان (يصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيه موسى عليه السلام ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور) ففيها من الدلالة على أن أمر الظهور مفاجئ وأنه عليه السلام في حيرة ومنتظر للفرج.
وأما خطأ تفسير مفردات الغيبة (كمفردة الانتظار) حيث أن بعضهم فسّرها بمعناها السلبي، وبعض اكتفى بفهمها بالعنوان القلبي الإلزامي كروايات: <أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج>. أي محض حديث النفس، بينما المقصود منه: من انتظر أمراً تهيأ له. وعن الصادق عليه السلام من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، وفي الأثر أيضاً. <المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله>.
بل لنا ان نقول مجرد الانتظار لا ينفع ما لم تسبقه مراحل منها كمعرفته عليه السلام (أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج) وحبه عليه السلام (فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من محبتنا) والترويض على الطاعة (هم أطوع له من الأمة لسيدها) والتآلف الاجتماعي (ولو أن أشياعنا وفقهم الله على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا).
ومن المفاهيم الخاطئة أيضاً أن واقعة المهدي غير خاضعة للأسباب الطبيعية. فإنه ورد في الرواية. قلت لأبي جعفر عليه السلام: انهم يقولون إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفواً ولا يهرق محجة دم. فقال عليه السلام: كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لأحدٍ عفواً لاستقامت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أدميت رباعيته وشبّح في وجهه.
ومن المفاهيم الخاطئة أيضاً فهمهم للحديث (ليعدنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً) حيث حمل اللفظ على معناه المطابقي، وربما صدرت بعض التصرفات العفوية من بسطاء الناس بالجمود على الظواهر المادية (كما يدعيه ابن بطوطة في حق بعض الشيعة لو تم ذلك) فإن المعنى المقصود هو المعنى الكنائي عن الحضور الفوري والتهيئ التام والمستمر على صعيد الاستعداد النفسي والعقائدي والسلوكي والعملي الشرعي.
ومن المفاهيم الخاطئة: الانكفاء على علامات الظهور وشغل البال بها، بينما الوارد من آل البيت: <يا زرارة إعرف امامك فإنك إذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر>.
وأما ظاهرة أسباب الغيبة فقيل: الخوف وعدم الناصر. وفسر خطأً الخوف بمعنى أنه يخاف على نفسه، بينما المقصود منه لكونه المزيل لجميع الدول والممالك، والجامع للخلق على الإيمان يوجب توفر دواعي كل ذي سلطان إلى طلبه وتتبع آثاره وقتل المتهم بنصرته.
ثم ان الإمام عليه السلام حيث انه عُدّ لمشروع خطير وعظيم، فلابد من الخوف عليه. لاسيما أننا أكدنا أن تحقق هدف المشروع ليس رهناً بيد الغيب، بل خاضعاً للنواميس الطبيعية. ومرادنا من عدم الناصر لا بمعنى عدم وجود المخلصين، بل مقصودنا عدم توفر ناصر ينسجم مع عظم المخطط وحجمه.
نهاية المطاف: وظائفنا في عصر الغيبة: الاغتمام لفراقه عليه السلام، وانتظار ظهوره والتسليم والانقياد، وترك الاستعجال في ظهوره، والتصدق عنه بقصد سلامته، ومعرفة صفاته وإعداد أسباب الظهور، والصلاة عليه وذكر فضائله وإظهار الشوق لرؤية جماله ونصرته
ومواجهة أعدائه بالأساليب المقررة شرعاً وزيارته والدفاع عن مشروعه العالمي فكراً وعملاً وتهيئة وإعداداً.
((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)).
السيد احمد الاشكوري