موعود – شفقنا: كيف تسببت هزيمة حطين فى نهاية الصليبيين ببيت المقدس؟
في كل عام يتذكر الفلسطينيون خاصة والعرب عامة ، هذا التاريخ العظيم الذي ربما لن يتكرر بعد صلاح الدين الأيوبي وهو الثاني من أكتوبر عندما انهى صلاح الدين حكم الصليبيين لمدينة القدس بعد حصار شديد عليها .
لم يكن استرداد بيت المقدس بالأمر السهل، فقد احتلت منذ عام 1099، في أولى الحملات الصليبية، على مصر وبلاد الشام، واتجهوا إليها بعد إمارتهم الأولى أنطاكية، لتكون هي إمارتهم الثانية، ولم يستطع جيش الفاطميين آنذاك، الصمود أمام 40 ألف مقاتل، بعد حصار دام شهرا كاملا، واستباحوا فيها القتل والتدمير، حتى بلغ عدد قتلاهم 70 ألفا من المسلمين.
لم يكن صلاح الدين أول من حاول استرداد القدس، فسبقه نور الدين محمود، حاكم حلب، الذي زرع أبوه عماد الدين زنكي، هذا الهدف بداخله، خاصة بعد استرداده لـ”الرها”، التي كان يتخذها الصليبيون عاصمة لهم، فشب الولد على ما زرعه فيه والده، من رغبة لاسترداد القدس.
و بزغ نجم صلاح الدين، أثناء تنصيبه قيادة الجيش الذي كان عليه التصدي للصليبين في الاسكندرية، بعدما أدرك نور الدين، أنه لا سبيل لاسقاط القدس، إلا من خلال احتلال مصر، فأثبت كفاءته، وأبرز مهاراته في إدارة المعركة، وبعدها حاول الصليبيون مجددا الاستيلاء على مصر، إلا أن خليفتها الفاطمي، استنجد بقوات نور الدين، فأرسل جيشا بقيادة صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوة، وانتصرا معا، فأسند الخليفة الفاطمي لشيركوة أمر إدارة شئون مصر، عاصمة الدولة الفاطميةد ولكنه سرعان ما توفى، وخلفه صلاح الدين.
وبعد 5 سنوات، توفى الخليفة الفاطمى، فأعلن صلاح الدين بداية عصر الدولة الأيوبية في مصر، وكانت نقطة انطلاقه لمواصلة تحقيق أهدافه في استرداد القدس، وفى 1187 كان موعد زحف جيوش المسلمين تحت قيادته، فخاض معركة حطين، التي كان لها أبلغ الأثر في عودة القدس، والبلاد المحيطة بها.
فكانت هزيمة الصليبيين في معركة حطين كارثية، فقدوا فيها أمهر فرسانهم، وقتل فيها أعداد كبيرة من جنودهم وأسر فيها أعداد كبيرة
تعتبر “حطين” معركةً حاسمةً في تاريخ الحرب الإسلامية الصَّليبية؛ إذ فقدت مملكة بيت المقدس قوَّاتها العسكرية الرئيسية في هذه المعركة، كما تمَّ تدمير أكبر جيش صليبي أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصَّليبي، وأضحى صلاح الدين القائد المنتصر في هذه المعركة على الصَّليبيين صاحب السيادة على العالم الإسلامي بأسره (ياسين سويد، حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 94)..
وبعد حطين لم يعد للصليبيين في المملكة المقدَّسة خصوصاً قوة يتباهون بها، لذا ما إن استسلمت عسقلان، وغزَّة لصلاح الدين في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، حتى قرَّر صلاح الدين أن ينطلق بجيشه الذي أعاد جمعه من كلِّ المنطقة جنوب فلسطين؛ حيث كان قد نشره منذ سنوات؛ ليستكمل توحيد بلاد الشام، وما إن اتَّجه بهذا الجيش شمالاً نحو القدس لفتحها عنوةً وبالسَّيف؛ حتى بدأت مدينة القدس تستعدُّ لمقارعة القائد المسلم؛ الذي جاء يتحدَّى مناعتها، وجبروتها بعد 88 عاماً من احتلال الصَّليبيين لها.
خطَّة صلاح الدين العسكرية
الخطوات التي سبقت فتح القدس
تجلَّت مقدرة صلاح الدين الحربية في تلك الخطَّة العسكرية؛ التي اتَّبعها في جهاده ضدَّ الصليبيين؛ لاسترداد بيت المقدس، وقامت تلك الخطَّة على تكوين جبهة إسلامية موحَّدةٍ، تضمُّ مصر، وبلاد الشام، وأجزاء من العراق، ثمَّ منازلة الصَّليبيين في عقر دارهم، وإنزال ضربةٍ قويةٍ بهم، كما حدث في معركة حطِّين. وتلا ذلك مسيره إلى مدن السَّاحل الشامي لإضعاف الصليبيين مادياً، ومعنوياً. ولو اتَّجه صلاح الدين عقب انتصاره في حطِّين إلى بيت المقدس؛ لتمكَّن من دخوله بدون عناء، إلا أنَّ استيلاءه على بيت المقدس قبل السيطرة على مدن السَّاحل لن يضمن له الاستقرار التام في بيت المقدس؛
إذ كان من المتوقع قيام الغرب الأوروبي بإرسال الجيوش الصليبية إلى موانئ الشام، ومجيء فرسانه زرافاتٍ، ووحدانا، والدُّخول مع صلاح الدين في معارك حامية لاسترداد بيت المقدس؛ الذي فيه كنيسة القيامة؛ لاعتقادهم الباطل كما يقول العماد الأصفهاني: إنَّ فيها صلب المسيح، وقُرِّب الذبيح، وتجسَّد اللاهوت، وتألَّه الناسوت، وقام الصليب.
كانت هزيمة الصليبيين في معركة حطين كارثية، حيث فقدوا فيها زهرة فرسانهم، وقتل فيها أعداد كبيرة من جنودهم وأسر فيها أعداد كبيرة أيضاً. وأصبح بيت المقدس في متناول القائد صلاح الدين الأيوبي، وكان من بين الأسرى ملك بيت المقدس ومعه 150 من الفرسان، وغيرهم من كبار قادة الصليبيين، فأحسن صلاح الدين استقبالهم، وسرعان ما دخلت قوات صلاح الدين المدن الساحلية كلها تقريباً جنوبي طرابلس، عكا، بيروت، صيدا، يافا، قيسارية، عسقلان. وقطع اتصالات مملكة القدس اللاتينية مع أوروبا، كذلك استولى على أهم قلاع الصليبيين جنوبي طبرية، ما عدا الكرك وكراك دي شيفاليه (قلعة الحصن).
وفي النصف الثاني من سبتمبر 1187 حاصرت قوات صلاح الدين القدس، ولم يكن بمقدور حاميتها الصغيرة أن تحميها من ضغط 60 ألف رجل. فاستسلمت بعد ستة أيام، وفي 2 أكتوبر 1187 م فتحت الأبواب وخفقت راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق القدس.
في نوفمبر 1188 م استسلمت حامية الكرك، وفي أبريل – مايو 1189 استسلمت حامية كراك دي مونريال، وكان حصن بلفور آخر حصن يسقط، ومنذ ذلك الحين صار ما كان يعرف بمملكة القدس اللاتينية بمعظمها في يد صلاح الدين، ولم يبقَ للصليبيين سوى مدينتي صور وطرابلس، وبضعة استحكامات، وحصن كراك دي شيفاليه (قلعة الحصن) في شرق طرطوس. وقد أدى سقوط مملكة القدس إلى دعوة بابا روما إلى بدء التجهيز لحملة صليبية ثالثة، والتي بدأت عام 1189م.
عامل صلاح الدين القدس وسكانها معاملة أرق وأخف بكثير مما عاملهم الغزاة الصليبيون، قبل ذلك بـ100 عام تقريباً، حيث قتل الصليبيون انذاك كل أهالي القدس من رجال وكهول ونساء وأطفال، و70 الفاً آخرين قتلوهم في ساحة المسجد الأقصى. فلم تقع من صلاح الدين أي قساوة لا معنى لها ولا تدمير، ولكنه سمح لهم بمغادرة القدس في غضون 40 يوماً، بعد دفع فدية عن كل رجل وامرأة وطفل، وأظهر صلاح الدين تسامحاً كبيراً مع فقراء الصليبيين الذين عجزوا عن دفع الجزية.
البعد الإعلامي
كانت تلك الحشود العسكرية الإسلاميَّة قد شاركت صلاح الدِّين في معركة حطين، واستغلَّ صلاح الدين وجودها في الشام قبل عودتها إلى إقطاعاتها في السَّيطرة على مدن، وموانئ السَّاحل، وحرص صلاح الدين على أن يسبق مسيره إلى بيت المقدس حملةٌ إعلاميةٌ إلى كافَّة أطراف العالم الإسلامي بقصد استنفار المسلمين للجهاد، الأمر الذي ثارت معه عزائم المسلمين بالعزم على الجهاد، والاشتراك في تطهير تلك البقعة المقدَّسة أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى محمد (أحمد شامي، صلاح الدين والصليبيون، ص 209).
استدعاء القوات المصرية
ومن ناحيةٍ أخرى، فقد استدعى صلاح الدين القوات المصرية أثناء قيامه بالاستيلاء على السَّاحل لمساعدته في الاستيلاء على المدن، والقلاع الجنوبية، واجتمع بابنه الملك العزيز عثمان في عسقلان، فقرَّت به عينه، واعتضد بعضده.
الحصار والقتال
كان الصليبيون قد بدؤوا القتال قبل تمركز جيش المسلمين حول أسوار المدينة، وذلك عندما تقدَّمت مفرزةٌ من طليعة الجيش الإسلامي نحو الأسوار بقيادة الأمير جمال الدين شروين بن حسن الرازي، فخرجت إليها مفرزةٌ من حامية المدينة، فقاتلتها، وهزمتها، وقتلت أميرها (أبو شامة المقدسي، كتاب الروضتين، 2/92).
الهجوم الحاسم
قرَّر صلاح الدين أن يشنَّ هجوماً حاسماً على المدينة، وكثَّف رمايات المجانيق، مغطياً تقدُّم المهاجمين بحجارتها، وسيل من السِّهام، والنبال يطلقها الرُّماة نحو المدافعين عن السُّور، والحصون؛ لكي تشلَّ مقاومتهم ممَّا جعل أولئك المدافعين يتراجعون عن مراكزهم، بينما تقدَّم المسلمون، واجتازوا الخندق الخارجي المحفور حول السُّور، ثم التصقوا به وعملوا به نقباً، وتهديماً، واشتد قصف المجانيق، وتوالى رمى السِّهام، والنبال من الرُّماة المتقدِّمين خلف المهاجمين يحمونهم، ونجح المهاجمون في فتح ثغرات عديدة في السُّور؛ الذي أوشك أن يصبح ملكاً للمهاجمين.
وفي وقت ما من تاريخ 29 سبتمبر/أيلول 1187 استطاع المهاجمون فتح “ثغرةٍ كبيرة” في السُّور نفذ منها المسلمون، ورفعوا راياتهم عليه، إلا أنَّ المدافعين ما لبثوا أن احتشدوا، وردوا المسلمين عن السُّور، ورغم ذلك فقد أيقن المدافعون أن لا جدوى من دفاعهم، وأنَّهم مشرفون على الهلاك، بل إنَّهم هالكون حتماً؛ إن هم استمروا في عنادهم، وتزاحم الناس في الكنائس للصَّلاة، والاعتراف بذنوبهم، وأخذوا يضربون أنفسهم بالحجارة، ويرجون المدد، والرَّحمة من الله، وقطعت النِّساء شعور بناتهنَّ على أمل استثارة الرِّجال لحمايتهنَّ من سبي المسلمين لهنَّ (يوسف النبهاني، مفرج الكروب، 2/213).
دخول صلاح الدين بيت المقدس
تمَّ الاتفاق بين صلاح الدين، وباليان، على تسليم المدينة وفقاً للشروط التي ذكرناها، ودخلها صلاح الدين يوم الجمعة في 27 رجب 583 هـ وذلك بعد أن أعطى بالباب الأوامر لحاميتها بإلقاء السِّلاح، والاستسلام لجند المسلمين، وكان يوماً مشهوداً ورفعت الأعلام الإسلاميَّة على أسوار المدينة المقدَّسة. وقد استمرَّ حصار صلاح الدين للمدينة 12.
وبسقوط القدس انهارت أمام صلاح الدين معظم المدن، والمواقع التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصَّليبيين في معظم أنحاء بلاد الشام، ودخل صلاح الدين القدس في 27 رجب وكانت ليلة الإسراء، فأمر بأن يوضع على كلِّ بابٍ من أبواب المدينة أمير من أمراء الجيش لكي يتسلَّم الفدية من الصليبيين الخارجين من المدينة، ويحتسبها. وكان في المدينة 60 ألف رجل ما بين فارس، وراجل، سوى من يتبعهم من النِّساء، والولدان (ياسين سويد، حروب القدس في التاريخ الإسلامي، ص 106).
ويستطرد ابن الأثير: ولا يعجب السَّامع من ذلك، فإنَّ البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان، وغيرها، والداروم، ورملة، وغزة، وغيرها من القرى، بحيث امتلأت الطرق، والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي.
وأمَّا صلاح الدين؛ فإنه بعد أن استقرَّ له الحكم في المدينة المقدَّسة؛ أمر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل احتلالها من الصليبيين، وكان هؤلاء قد أقدموا على تغيير الكثير من المعالم الإسلاميَّة للمدينة، فزرعوا صليباً كبيراً مذهباً على رأس قبَّة الصخرة، وأمر صلاح الدين بكشفها، وكان فرسان الدَّاوية قد بنوا مباني لهم غرب المسجد الأقصى لكي يسكنوها، وأنشؤوا فيها “هُري، ومستراح، وغير ذلك” وأدخلوا قسماً من هذا المسجد في أبنيتهم.
فأمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، كما أمر بتطهير المسجد، والصخرة من الأقذار، والأنجاس، ثمَّ عين إماماً للمسجد الأقصى، وأقام فيه منبراً، ومحا ما كان فيه وفي الأبنية المجاورة من صور كان الصليبيون قد وضعوها أو رسموها، وأعاد المسيحيين الوطنيين من أهل القدس إلى مساكنهم، كما سمح لهم بشراء ما أراد الفرنج بيعه من ممتلكات، ومتاع، وأموال (ياسين سويد، حروب القدس في التاريخ الإسلامي، ص 108).
لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين: ووفى صلاح الدين بوعده، فسمح لمن دفع القطيعة بالخروج، وكان قد رتَّب على كل باب أميراً مقدماً كبيراً بحصر الخارجين، فمن دفع الفدية؛ فقد خرج. وبالرَّغم من تلك القطيعة الزهيدة التي فرضها صلاح الدين مقابل خروجهم من بيت المقدس، وتأمين وصولهم إلى مأمنهم، فإنَّ كثرةً كثيرة منهم لم يستطع دفعه فداءً لنفسه، وأصبح بعد مضي 40 يوماً أسيراً في أيدي المسلمين، ولم يسهم أحدٌ من أغنياء الصَّليبيين في فداء فقرائهم، فقد خرج البطريرك هرقل من بيت المقدس بخزائنه الضَّخمة دون النظر إلى غيره. (عبد الله الغامدي، صلاح الدين والصليبيون، ص 216).
ويبدو أنَّ ذلك كان سبب انعدام الروابط الأسرية، وغيرها بين الصليبيين في ذلك الوقت، فالأسرى كانوا خليطاً من أجناسٍ، وشعوبٍ أوروبيَّة متباينة، وأجناد الغرباء المأجورين الذين رغبوا في السَّفر إلى الشرق تخلصاً من رقِّ الأرض السائد وقتذاك في المجتمع الأوروبي (نظير سعداوي، جيش مصر، ص 69).
والخلاصة أن ذلك الموقف المخزي من كبار الصَّليبيين، وتلك الشَّهامة، وذلك التسامح من صلاح الدين قد أجبر الكاتب الإنجليزي “لين بول” على إبداء إعجابه بصلاح الدين؛ حيث قال بعد أن تهجَّم على البطريرك: إنَّها كانت فرصةً للملك المسلم أن يعلِّم المسيحيين معنى التسامح (صلاح الدين والصليبيون، ص 216).
وقد برهن صلاح الدين، وغيره من أمراء المسلمين، عن تلك الشهامة والتسامح عندما أصبح آلاف المدنيين الصَّليبيين الذين عجزوا عن دفع الفدية المقرَّرة أسرى في يد صلاح الدين، فطلب الملك العادل إلى أخيه السُّلطان صلاح الدين أن يهب له ألفاً من أولئك الصليبيين الفقراء؛ ليطلق سراحهم لوجه الله، وأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحرَّك ذلك العمل الإنساني الذي قام به الملك العادل مشاعر البطريرك، وباليان، فتقدَّما إلى صلاح الدين، وطلبا منه مثل ذلك، فأعطاهما صلاح الدين ما طلباه، وأطلق سراحهم.
ثم تقدم صلاح الدين، وأمر حراسه بالمناداة في شوارع بيت المقدس، بأنه سوف يطلق سراح من لم يستطع دفع الفدية من الصليبيين لكبر سنه، وأنَّ على هذه الطائفة أن تتقدَّم من الباب الخلفي للمدينة، ويسمح لها بالخروج من طلوع الشمس إلى اللَّيل. وما إن صدر ذلك الإعلان حتى توافد الصَّليبيون على ذلك الباب بأعدادٍ لا تحصى (صلاح الدين والصليبيون، ص 216).
وطلب أمير البيرة إطلاق سراح زهاء 500 أرمني، وذكر لصلاح الدِّين: أنهم من بلده، وأن قدومهم إلى بيت المقدس كان من أجل العبادة هناك، كما طلب أيضاً الأمير مظفر الدِّين علي كوجك إطلاق سراح زهاء ألف أرمني ادَّعى: أنهم من الرُّها، فأجابهم صلاح الدين إلى ذلك، وأطلق سراحهم (مفرج الكروب، 2/215). ولم يقتصر ذلك التسامح من المسلمين على ما قام به صلاح الدين، وأخوه الملك العادل، وكبار الأمراء المسلمين؛ بل تعدَّى ذلك إلى عامَّة المسلمين.
والواقع: أن صلاح الدين قد أبدى من التسامح، وكرم الأخلاق، تجاه أسرى الصَّليبيين في بيت المقدس الشيء الكثير، وبلغ من كرم، وشهامة صلاح الدين ما قام به تجاه زوجات، وبنات الفرسان الصَّليبيين؛ الذين قتلوا، وأسروا أثناء معاركهم مع صلاح الدين، فقد تجمَّعن أمام صلاح الدين يبكين، فسأل عن حالهنَّ، وما يطلبن، فقيل له إنهنَّ يطلبن الرَّحمة. فعطف عليهن صلاح الدين، وسمح لمن كان زوجها على قيد الحياة بأن تتعرَّف عليه، وأطلق سراحه، وسمح لهم بالذهاب حيث يريدون، أما النساء والبنات اللاتي مات أزواجهن، وآباؤهنَّ؛ فقد أمر صلاح الدين بأن يصرف لهنَّ من خزانته الخاصَّة ما يناسب عيشتهن، ومركزهن، وأعطاهنَّ حتى ابتهلت ألسنتهنَّ بالدُّعاء له.
لقد بَهَر صلاح الدين بأخلاقه الإسلامية ملوكَ الغرب، وقوَّادهم، حيث كانوا يقودون جحافل جيوشهم في الشام، حتى أنَّ الفرنسيين كانوا يقولون: إنَّ دماءه دماءٌ فرنسية، والألمان، والإنجليز، والإيطاليون كلُّهم كانوا ينسجون قصصاً رائعةً عن أخلاق صلاح الدين، ويتحدَّثون عنها في قراهم، ومدنهم، ومسرحياتهم (منير غندور، الوجيز في الشام أرض الأنبياء ومهد الأصفياء، ص 61).
لقد كان صلاح الدين فعلاً رجلاً إسلامياً بكلِّ معنى الكلمة مقتدياً بالرَّسول محمد صلى الله عليه وسلم في عفوه، وحلمه، وسماحته. ولقد قال عنه أحد المؤرخين الأوروبيين: سيظلُّ في الذاكرة: أنَّ الزمان الدَّمويَّ، والقاسي مثل ذاك الزَّمان لم يتمكن من إفساد إنسانٍ ذي سلطةٍ عظيمةٍ، إنَّه صلاح الدين (الوجيز في الشام أرض الأنبياء ومهد الأصفياء، ص 61).
وأكبر دليل على تقدير الإفرنج لهذه البطولة النادرة، والسَّماحة السَّمحة، اهتمام إمبراطور ألمانيا بزيارة مقبرة صلاح الدين عندما زار بلاد الشام سنة 1315 هـ/1899 م، وكانت معه الإمبراطورة، وقد خطب خطبةً أشاد فيها بصلاح الدين، وأرسلت الإمبراطورة إكليلاً من الزَّهر ليوضع على ضريح البطل العظيم.