الإنسان يولد صفحة بيضاء خالي من أي مشاعر سلبية أو إيجابية، وخلال عملية نموه يتعلم قيم ومبادئ قد تحوله إلى إنسان سويّ كالحب والعطاء، وقد يتعلم ما يجعله عكس ذلك كالكره. إن فكرة التمييز بين الأمور نتعلمها أيضا ولكن للأسف يتم تطبيقها واقعيا بطرق سيئة تولد بين الجنس البشري أحقاد لها عواقب بشعة، كالتمييز العنصري الذي يمكن تشبيهه بمرض يصيب عقل الفرد ويسمم أفكاره وسلوكه.
وتتمثل التفرقة العنصرية بعدة أشكال منها: اختلاف الدين، العرق، اللون، اللغة، العادات والمعتقدات، الثقافات، الطبقات الإجتماعية (غني وفقير) وغيرها من الأسس التي رسمها البشر واعتمدوها في ممارسة حياتهم. لكن يبقى الجدل الأبرز بين كل ما ذكر هو التمييز العنصري بين أصحاب لون البشرة المختلفة، والذي يتم توارثه عبر الأجيال رغم التطور الذي نشهده على صعيد حقوق الإنسان والجمعيات الحقوقية الدولية المطالبة بالعدل والمساواة.
التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا
منذ القدم تمثلت معاناة السود بالنظر إليهم على أنهم خلقوا ليكونوا عبيدا عند الآخرين، سنذكر أبرز محطات نضالهم للوصول إلى حق المساواة مع الشعوب الأخرى من حيث التعليم، التملك، العمل بظروف ملائمة وغيرها. البدء من جنوب افريقيا، سجل التاريخ أنه تم إنشاء جهات حكومية خاصة بخدمة كل لون على حدة، وبالطبع كانت أفضل الخدمات تقدم للبيض دون السود، كما يعتقد بعض السياسيين أن نشأة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا كان وراءها أغراض الدول الاستعمارية كبريطانيا التي احتلت الدولة لفترات طويلة حيث كانت تسعى للسيطرة على حقول الماس الموجودة بوفرة هناك.
ولا بد من الحديث عن مجزرة شاربفيل عام 1960 التي وقعت في مقاطعة ترانسفال، عندما أطلقت الشرطة الرصاص الحيّ على حشد من المتظاهرين اعتراضاً على “قانون الاجتياز”، حيث بلغت حصيلة القتلى 69 شخصاً بينهم 10 أطفال، إضافة إلى 180 مصاباً بينهم 29 طفلاً. ويعد قانون الاجتياز عنصري أوجده الاستعمار البريطاني في جنوب أفريقيا في القرن التاسع عشر، يهدف إلى تقييد حركة السكان الأصليين الأفارقة ضمن مناطقهم القبلية ومنعهم من دخول مناطق البيض.
وفي ذلك الوقت، سطع نجم المناضل نيلسون مانديلا، أحد أبرز رموز الكفاح ضد التمييز العنصري في إفريقيا والعالم من أجل السلام، معلنا عدم القبول بإسكات صوت الأفريقيين نهائياً، وتمكن بعد مرور 64 عاما من النضال، قضى منها 27 عاماً في السجن، من تحقيق شروط عيش أفضل للسكان الأصليين في جنوب افريقيا. وفي عام 1994، أجرت جنوب افريقيا أول انتخابات ديمقراطية، انتخب خلالها مانديلا رئيسا للبلاد، ليكون بذلك أول رئيس من العرق الأسود لها، وعرف ذلك اليوم بعيد الحرية.
التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية
ننتقل إلى محطة أخرى من معاناة السود وهي القارة الأميركية، حيث يقال أنه تم استعباد المهاجرين السود الأفارقة الذين نقلوا الى أمريكا لغرض استغلالهم كعبيد يخدمون البيض من الجنس الأوروبي وللعمالة والزراعة والصناعة، والمؤسف أنه خلال انتقال هؤلاء إلى هناك من أصيب بمرض رمي في البحر ومن مرض عند الوصول رمي للكلاب بدلا من أن يعالج. بعد ذلك توسعت فكرة الظلم والاضطهاد أكثر في القارة الأميركية لتشمل إجبار السود على تغيير اسمهم ليتبع مالكهم الجديد، أو حتى بعد موت سيدهم.
بعدها توسعت دائرة التمييز أكثر لتطال تجريدهم من حقوق الملكية للمنازل والأراضي ووسائل النقل، إضافة لعدم المساواة في التعليم من حيث المرافق التعليمية والمواد وغيرها، مثلا كان الطلاب السود يحصلون على كتب مهترئة للدراسة مستعملة من قبل التلامذة البيض. أيضا هناك عدم تكافؤ فرص العمل فكانت نسبة البطالة الأكبر تطال للسود عدا عن حرمانهم من تولي مناصب عالية. كما كان يتم الفصل بينهم وبين البيض عند استعمال وسائل النقل العامة وغيرها، نذكر هنا قصة الخياطة السوداء روزا باركس عام 1955 التي رفضت التخلي عن مقعدها لشخص أبيض في حافلة بمدينة مونتغمري بولاية ألاباما، حيث دفع اعتقالها بالمناضل الشهير مارتن لوثر كينغ إلى إعلان مقاطعة الحافلات في المدينة، ويعتبر كينغ من أبرز القادة المطالبين بالحقوق المدنية للسود في البلاد، فهو من رفع الصوت عاليا للحصول على حق التصويت في الإنتخابات وتحدى الحكومة آنذاك بالنضال عن طريق اللاعنف، إلى أن جاء عام 1964حيث صدر قانون الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي السنة نفسها لقب كينغ بـ”رجل العام” فكان أول رجل من أصل أفريقي يمُنح هذا اللقب، ثم حصل على جائزة نوبل للسلام لدعوته إلى اللاعنف.
هكذا بعد سنوات طويلة من المعاناة أثمرت التضحيات عام 1963 بإصدار إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري والذي أكد رسميا على ضرورة القضاء السريع على التمييز العنصري في جميع أنحاء العالم، بكافة أشكاله ومظاهره، وضرورة تأمين فهم كرامة الشخص الإنساني واحترامها.. إضافة لمعاهدات دولية أخرى تتعلق بالحقوق الأساسية للإنسان.
لكن يبقى السؤال هل صحيح أن هذه المأساة انتهت بعد مرور كل تلك السنوات؟
إن ما نشهده اليوم من حالة فوضى وتوتر أمني في الولايات المتحدة الأميركية، عقب مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد، أثناء عملية اعتقاله من قبل أحد ضباط الشرطة البيض في مدينة مينيابوليس التابعة لولاية مينيسوتا، خير دليل على أن الجراح العنصرية لم تشفى بعد، وأنها كانت جمرا تحت الرماد أعيد اشعالها عندما اتيحت الفرصة من جديد، وقبل فلويد بأسابيع قليلة كان هناك ضحايا سود لم يسلط الضوء عليهم كأمثال أحمد أربيري الذي قتل على يد أميركيين بيض أثناء ممارسته رياضة الركض لأسباب عنصرية أيضا، فهل ستسيطر السلطات الأميركية على هذه الفوضى أم ستعود إلى الوراء؟
وفاء حريري