الإمام علي بعيون الأدباء المسيحيين

لم تحظ شخصية عبر التاريخ من احترام المغايرين لها في الدين والعقيدة كما حظيت شخصية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي استطاع كسب محبة واحترام العديد من الفلاسفة والأدباء. في هذه المقالة نعرض لنماذج من الأدباء المسيحيين اللبنانيين الذين بهروا بشخصية الإمام علي (ع) إلى حد فاق الإعجاب والتقدير إلى جعله أمثولة قل نظيرها في التاريخ: في الشجاعة، والبلاغة، والعدالة والنبل والإنسانية وكرم الذات وكل المعاني السامية.

يعد جبران خليل جبران (1883 – 1931م) من كبار الأدباء اللبنانيين والعرب، نشرت عنه مجلة العرفان في عددها الصادر في شباط سنة 1931م، قوله عن علي (ع):”في عقيدتي أن ابن أبي طالب أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها. وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها فرددها على مسمع قوم لم يسمعوا مثلها من ذي قبل فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم، فمن أعجب بها كان إعجابه موثوفا بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية. مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى. مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية، غير أنني أتمثله مبتسما قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض. مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليس بقومهم في زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأنا في ذلك وهو أعلم(1)

أما الأديب الكبير بولس سلامة (1902 – 1957م) المعروف بملحمته الغديرية الشهيرة التي قال فيها:

لا تقل شيعة هواة إن في كل منصف شيعيا
جلجل الحق في المسيحي حتى صار من فرط حبه علويا

قد ذكر الإمام علي (ع) في أكثر من قصيدة، منها بعض قوله في قصيدة “فلسطين وأخواتها”:

القائد الخيل في الهيجاء يرسلها
سلاهبا ضمرا جردا شواهينا
ينقض كالسيل لا يبقي على شجر
في هدرة النهر قد جاز الطواحينا
سل عنه بدرا، وسل يوم البعير وسل
عنه المصاحف في هيجاء صفينا
والخيبريين والأحزاب يمزقها
والنهروان وشوس الخارجينا

ولم يقتصر إنبهاره بعلي (ع) على قصائده، وإنما ظهر ذلك في العديد من مؤلفاته منها قوله في مقالته علي أمير الكلام(2): “ويرسل إمام البلغاء الجملة فتأتي عامرة كإيمانه، متينة كأخلاقه، تتأملها فإذا هي حصن منيع للفكرة العالية، وتحاول أن تبدل شيئاً في جدار هذا العقل القوي كأن تضع حجراً في مقام آخر أو ان تقدم وتؤخر فلا تستطيع. وان الواقف حيال هذا البناء الشامخ كالواقف أمام قلعة بعلبك، يحاول إدخال المسمار بين الصخرين العظيمين فيخفق. ولا يحس روعة البناء مثل البنّاء الحاذق الذي تمرس بالفن وأدرك مطاويه ودقائقه. وكذلك هو المنشئ يدرك متانة السبك وروعة الديباجة عندما يحاول أن يأتي بمثلها فيفشل”. وقوله في نهج البلاغة: “لا يعدِلُهُ كتاب في الخطابة والجزالة، والفصاحة والحكمة البالغة وجوامع الكلم، كما أنه لا يضاهي الإمام علي إمام، فهو فارس الإسلام وقديسه وسيفه الباتر، وابن عم نبيه، وصهره ووصيه، وسيد القلم ووليه، وأميره وعليّه”.

ومن الأدباء الكبار ميخائيل نعيمة (1889 – 1988م) واحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية، قال عن الإمام (ع): “لا تسألني رأيي في الإمام كرم الله وجهه، ورأيي أنه – بعد النبي – سيد العرب على الإطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنيا. فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب”، مادحا له: “إن بطولات الإمام ما اقتصرت يوما على ميادين الحرب، فقد كان بطلا في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبده للحق أينما تجلى له الحق. وهذه البطولات، ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعا غنيا نعود إليه اليوم وفي كل يوم كلما اشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة، فاضلة”. فاختصر بذلك نعيمة إعجابه بشخصية الإمام (ع)(3).

وجمع المبدع الشاعر الراحل خليل فرحات (1919-1994م) في كتابه “في محراب علي” أجمل القصائد فيه، عبر فيها عن علاقته الخاصة بأبي الحسن (ع) التي نشأت عندما أصيب بداء استعصي شفاؤه عندها توسل بالإمام (ع) فشافاه الله تعالى ببركته(4)، مما جاء في إحدى قصائده:

دللت على الرحمان هل كنت غيره؟ ففيك استوى الرحمان بالفعل والفكـر
وفيك تجلت قدرة الله آية كما شعشعت في الضوء خالصة الدر
وفيك رأى الوجدان معنى وجوده وقيمة عيش المرء في مهمه العسر
تعالت بك الأرضون واشتد ظهرها فلولاك هذي الأرض مقصومة الظهر

ولمع إسم الأديب سليمان كتاني (1912 – 2004م) عند إصداره الكتاب الشهير “الإمام علي نبراس ومتراس”، فكتب عنه (ع): “بهذه المناجاة أحببت أن أقرع الباب في دخولي على علي بن أبي طالب، وأنا أشعر أن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب. والحقيقة، أن بطولته هي التي كانت من النوع الفريد وهي التي تقدر أن تقتلع ليس فقط بوابة حصن خيبر، بل حصون الجهل برمتها، إذ تتعاجف لياليها على عقل الإنسان(5).

كما برز الأديب وسفير لبنان في بلدان عدة نصري سلهب (1921 – 2007م) في طريق المحبة للإمام (ع) فأصدر كتاب “خطى الإمام علي”، خذ اليك بعضاً من مقدمته: “علي (ع) من أولئك البشر الذين كتب عليهم أن يموتوا لتحيا بموتهم أمم وشعوب، وأعداء علي (ع) من أولئك النفر الذي آثروا الحياة على الموت فأماتوا بحياتهم كل إباء وشمم. ذكراه ليست ذكرى البطل الذي استشهد فخلد في ضمير الله بقدر ما هي ذكرى الغادرين الذين غدروا فخلدوا في نار جهنم”، ثم يقول :”حري بعلي وهو في الدنيا خلوده أن يبكينا لاننا من الساح فررنا واخلينا الميدان لاعداء لنا يجولون فيه ويصولون بل يسرحون ويمرحون كم نحن اليوم بحاجة لعلي”(6).

ويتألق الشاعر الكبير سعيد عقل (1912-2014م) في قصيدته الشهيرة في الإمام علي حيث يقول:

كلامي على رب الكلام هوى صعب تهيبت إلا أنني السيف لم ينب
حببت عليا مذ حببت شمائلي له اللغتان القول يشمخ والعضب
ومن لا يحب البيت، سيف عليه جميل، وذاك النهج كوثره عذب؟
كلام كما الأرباب في طيلسانها ألا فلتداوله وترتعش الكتب*

وكان قد صرح عقل في إحدى حواراته قائلا: “أنا أحب الإمام علي بكل ما فعل، والربط بيني وبين الإمام علي هو الكبر، ما كتب كلمة إلا وفيها كبر، كذلك الوقوف إلى جانب المبدأ”(7).

وتخلد الأديب جورج جرداق (1933 – 2014م) بموسوعته الشهيرة “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية” الذي يتضمن أبحاث قيمة تستهدف الكشف عن عظمة شخصية الإمام (ع)، فكتب عن علي وحقوق الإنسان، والثورة الفرنسية، وسقراط، وعصره، والقومية العربية، ومن جميل قوله: “علي الذي قاوم جيوشا من الطغاة بسيفه، وجيوشا من الآراء والنظريات الرجعية بقلبه ولسانه، وجيوشا من أنظمة النبلاء ومطامع الوجهاء بعقله الفذ ونظره الصائب..”، ورأى جرداق أن الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية الإمام (ع)، كما أنه الأول في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى، وآيته في نهج البلاغة تقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر(8).

أما الشاعر والوزير السابق جوزف الهاشم (1925م-) فقد اعتبر أن من يتعرف إلى شخصية الإمام علي (ع) استهوته، ومن استهوته أثرت فيه، ومن أثرت فيه اقتدى بها، ومن اقتدى بها أصلح نفسه، ومن أصلح نفسه تصالح مع الآخرين، وأن لعل الذين يجهلون الإمام أو يتجاهلونه يتهموننا ونحن نعظمه بالمغالاة أو بالإفراط العاطفي(9). كما انضم الهاشم إلى قافلة الشعراء ونظم قصائد عدة للإمام أحدها بعنوان “القرآن البشري” جاء فيها:

نعم العلي، ونعم الإسم واللقب يا من به يشرئب الأصل والنسب
لا قبل، لا بعد في بيت الحرام شدا طفل، ولا اعتز إلا باسمه رجب
هو الإمام، فتى الإسلام توأمه منذ الولادة، أين الشك والريب؟
تلقف الدين سباقا يؤرجه صدر النبي، وبوح الوحي يكتسب

وقد أصدر الشاعر جورج شكور (1935م-) ملحمة شعرية أسماها ” ملحمة الإمام علي” ذكر فيها تاريخ الإمام (ع) من ولادته إلى وفاته، ومما قاله:

شق الجدار المستجار وأحاط حرمتك الفخار
ولدتك في البيت الحرام وكان من شهدوا وحاروا
الله أكبر، يا علي ولدت، والتحم الجدار

ونظم الشاعر – النائب، ورئيس إتحاد الكتاب اللبنانيين سابقا – غسان مطر (1942م-) قصيدة رائعة بعنوان “علي الإمام”(10) جاء فيها:

مَنْ رَضِيٌّ يَهْفو إِلَيْهِ الأَنامُ؟ وَبَهِيٌّ بِهِ يُضيءُ الْكَلامُ؟
وَسَخِيٌّ تُرْخي السَّماءُ عَلى كَفَّيْهِ نوراً فَتُشْرِقُ الأَيّامُ
مُفْرَدٌ في النُّهى يُحَكَّمُ في النّاسِ فَتَأْتي مِنْ رَبِّهِ الأَحْكامُ
وَكَفى الطُّهْرَ أَنْ يُقالَ عَلِيٌّ وَكَفى الدّينَ أَنْ يُقالَ الإِمامُ

ويقول الشاعر الأستاذ ريمون قسيس – من أدباء زحلة – في قصيدته “علي الفارس الفقيه الحكيم”:

بذي الفقار الذي لولاك ما كانا يا فارس الساح كم أرديت فرسانا
وفي حنين وفي صفين أذهلهم سيف أباد زرافات ووحدانا
سيف بكفك هل إلاّك يحمله أنت العلي علي الله ما هانا

منذ عصور إلى الآن ما زال الإمام علي بن أبي طالب (ع) يحتل الصدارة في فكر الباحثين. كما أنه ليست هناك من شخصية كبرى في التاريخ الإسلامي استطاعت أن تجمع كل الصفات السامية كشخصية أمير المؤمنين (ع)، فهو يبدو في مجمل كيانه الواقعي لغزا وفي مجمل صورته التاريخية كيانا من الصعب احتوائه، لذلك أن تجد من يختلف عنك عقائديا يتغنى به لهو وسام فخر.

 

وفاء حريري

المصادر:
(1)مجلة العرفان مج 21 – ج2 – ص145.
(2)كتاب “حديث العشية” – مقالة علي أمير الكلام ص 289 .
(3)مقدمة كتاب “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية” ص18،17/ لجورج جرداق.
(4)مقدمة كتاب “في محراب علي” ص16،15.
(5)مدخل كتاب “الإمام علي (ع) نبراس ومتراس” ص55-58 .
(6)مقدمة كتاب “خطى الإمام علي” / لنصري سلهب.
(7)كلام الشاعر سعيد عقل في حوار مع جريدة “الشراع” سنة 2009م.
(8)مقتطفات من كتاب “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية” / لجورج جرداق.
(9)مقدمة كتاب “علي والحسين في الشعر المسيحي” ص9،8.
(10)ألقى الشاعر غسان مطر القصيدة في الأمسية الشعرية التي أقامها المركز الإسلامي الثقافي في بيروت عام 2010م.

https://ar.shafaqna.com/AR/212734/

شاهد أيضاً

ثقافة الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام

  قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *