لغة مشتركة بين البشر يفهمها المتدينون وغيرهم
يتحدث علماء الآثار والانثروبولوجي عن وجود دائم لرموز عبادية عند مختلف الأمم، ومنذ القدم، بحيث يصعب فصل الدين، أو الأساليب التي تعبر عن العبادات عن مسيرة البشرية.
فالتدين بمعنى ركون الانسان إلى الاعتقاد من نوع ما, فكراً من جهة وتعلقاً عاطفياً من جهة أخرى، يتناغم مع الإنسان ويتوافق مع نفسيته وفطرته التي فطر عليها، فليس هناك انسان غير محتاج إلى دين ما، ومعتقدات معينة, وإن أغلب آمال الناس وميولهم تنبع من عالم ما وراء الطبيعة حسب تعبير وليم جيمس.
انه بمطالعة الادبيات الانسانية القديمة, ومتابعة المسيرة البشرية, نرى تراكم التصورات البشرية بخصوص الرمز المقدس, الذي يتمتع برتبة فيها قداسة تدافع عنها الامة بدافع ايماني بها, وان شخصاً يتمتع بهذه الخصائص يؤدي في حياة الناس والمجتمعات دوراً يترك اثراً بالغاً في الوجدان الجمعي.
وعادة فإن الشخص, الرمز (الإمام) الذي يتمتع بهذه الخصال يكون في حياته قد قام بالاعتناء بتربية النفس البشرية وبناء الانسان.
ان الدور الذي يقوم به الامام والقائد والمثل في حياة الناس هو دور انساني شامل، ولهذا الدور جدلية دائمة مستمرة فيما بين النفس البشرية، وبين تعلقها واملها، فهي بطبيعتها ميالة نحو السعادة غير راغبة بالشقاء، وهي باحثة لا محالة عن هدف وباحثة أيضا عن مرشد إلى هذا الهدف.
وان هذه النقطة نجدها في أدبيات الإنسان منذ أقدم عصوره، أدبياته التي تعبر عن مشاعره وتأملاته، والواقع ان الهدف الإنساني متعلق بالمثل، فإن حظي بمرشد تحسس لذة, وإن لم يعثر عليه شعر بالضيق والخواء.
ولننظر إلى هذه الفقرة من (ملحمة كلكامش) التي تجمع تصورات البشر مابين الالف الرابع والألف الثاني قبل الميلاد في بلاد مابين النهرين، وهذا المقطع هو:
(هو الذي رأى كل شيء، فغّني بذكره يا بلادي،وهو الذي عرف جميع الأشياء، وافاد من عبرها..وهو الحكيم العارف بكل شيء، لقد أبصر الأسرار، وكشف عن الخبايا المكشوفة وجاء بأنباء ما قبل الطوفان).
وهذا المقطع يكشف عن حقيقة تطلع النفس وبحثها عن الإمام, فالذي يتمتع بهذه القدرات هو الذي يتعلق به الناس ويستضيئون بنور معارفه ويسيرون مطمئنين بإتباع خطاه.
هكذا اذن تنظر البشرية إلى أئمتها منذ أقدم العصور وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالناس في أعماقها لا ترى في القائد أنه يملأ جانباً اجتماعيا محدداً أو جانباً اقتصاديا أو سياسياً، فهذه الجوانب يمكن أن تتوافر في أشخاص أفذاذ،لكن ليس لهذه الجوانب من قدسية.
يجب أن لا ننسى أن لكل مرحلة من تطور الإنسان مفاهيم خاصة بها، وان لكل مفكر ولكل مدرسة فكرية مفاهيمها التي ترتكز عليها، الأمر الذي يكشف لنا عبر طياته الرأي المختار في علم الإنسان لدى كل واحد من الفلاسفة والمذاهب.
لقد تعددت الأساليب والرؤى الكونية والنظريات في معرفة الإنسان وبيان صفاته الوجودية, وان الميل والدافع الذاتي عند الانسان نحو تحقيق الكمال هو الذي يجره الى الإطلاع على الإنسان النموذجي والمثالي (الإنسان الكامل), والحقيقة ا ن الرغبة في نيل الكمال ورفع النقص والرذيلة هي التي تدعو الإنسان من أعماقه للبحث عن النموذج المطلوب.
من هنا، نلمس في كل الأديان والثقافات (الفلسفات) آثاراً لوجود الإنسان الكامل، منها: بوغا، بوذا، كونفوشيوس، أرسطو، زرداشت، أفلاطون، أبيكو، نيتشه, ماركس، سارتر، العرفاء، المتصوفة، الفلاسفة، (وغيرهم ممن تحدث أو تطرقوا لنظرية الإنسان الكامل).
ويرى (ماسلو) في تشخيصه لخصائص الإنسان الكامل، أنه من يرى الكون رؤية وجودية (معرفة وجودية)، وانه يتقبل الآخرين, بسيطاً, يتمتع بالايثار والتفاني, يحمل روحاً إنسانية, له أسلوبه المميز في المعايشة, يفصل بين الغاية والوسيلة, له حكمة, يتصف بليونة الطبع والبشاشة والتمسك بالقوانين والآداب، اي الالتزام.
اما خصائص الإنسان الكامل عند صدر المتألهينH، فهي: الأنس مع الباري عز وجل، الالتزام بالفرائض والنوافل، الرأفة بخلق الله، العلم بالحقائق الالهية و العلوم الربانية, الزهد، تذكر الموت، التهجد، العشق الالهي، التخلي عن حب السلطة ومال الدنيا…
وفي الرؤيتين عند ماسلو وصدر المتألهين، نرى قرب الخصائص والميزات من بعضها عن القائد أو الإنسان الكامل. وهي في الحالتين رؤى إنسانية يتوق الإنسان كيفما كان، وأياً كان وكانت فلسفته أن يراها في انسان يقوده، وان يكون أقرب للسمو وأدنى للكمال.
ويعتقد الشيعة الإمامية بوجوب أن يكون هذا الإنسان الكامل (الامام) معصوماً لتتحقق به الفائدة في دفع الفساد وإقامة الحدود,… وإذا كان الإمام غير ذلك، فإننا نحتاج إلى إمام آخر، وهكذا فيلزم التسلسل فلا نهاية.
والامر كذلك في مسألة حفظ الشريعة وإبعادها عن الخطأ والكذب.
أما في مسألة الإنقياد له، فإن كان الإمام قد جاز في حقه المعصية، لزم أمره بالمعروف… فيفوت الفرض المترتب على امامته,فلا انقياد.
وجواز ارتكابه المعاصي، يجعله في مرتبة أدنى، فيؤدي إلى المخاطر، فلا موجب لطاعته.
وقد اتفقت كل الفرق والمذاهب الإسلامية عدا القلة من المسلمين على وجوب الإمامة.
وفي هذا الخصوص قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
وقد حدد القرآن قبل هذا وجوب اطاعة الإمام وذكر صفاته: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ).
وفي آية أخرى يقول عز وجل: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وفي مكان آخر من كتابه المجيد يقول تعالى: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
انه وان اختلفت الرؤى وتعددت الفلسفات عند المفكرين من بني البشر… فإنها تبقى النظرة إلى الإمام بأنه يعني المصلح، والمثال, والمقصود لاقامة الحياة على التوازن واعطاء الحقوق في كل ناحية ووجهة, اكان ذلك بين الأفراد و الجماعات أم بين جوانب الحياة المعنوية والمادية.
فالإمام هو الإنسان الكامل، وهو المنزه وهو خليفة الله في الأرض, وهو الحائز في كل عصر لأرفع درجات العلم والمعرفة، وهو الحائز على أرفع درجات الفضيلة الأخلاقية والعلمية، والمطلع على جميع المصالح والأسرار اللازمة لتوفير السعادة لبني البشر.
ترتيب: محمد الخاقاني
المصدر: http://m-mahdi.net/sada-almahdi/articles-162