صفات الثائر الذي يصنع المستقبل

يقوم الإسلام ببث تعاليمه الحضارية ليصنع مجتمعا يتحدى الصعاب ويخرق نواميس الخضوع والخنوع ويرفع رايات التحدي أمام طغاة البشرية وكلاب غاباتها، لتشع نورا يستضئ به مستضعفي القارات الرازحين تحت نير غطرسة أرباب الظلم ونبذة العدل، ولترفع كلمة الحق والعدل في ربوع الأرض، فعند ذلك تسجد الأرض أمام فتية آمنوا بربهم واعتقدوا بأن الدنيا مهد الكرامة والحرية.

 

إن الثورة أمرا ضروريا يجب القيام به عندما تتوفر ظروفه وتلوح أمارات انتصاره، وقبل ذلك لا بد من وجود ثلة في المجتمع تشكل محور حياته، تسعى نحو بناء حضارة مثالية خالية من شوائب الظلم والاستكبار، تعزم على تغير المستحيل وتحدي الصعوبات المفروضة على البشرية، وتتمتع بثقة عالية تغلب عوامل التراجع والضعف، وهنا يبرز الفرق البيّن بين إنسان خاضع لظروف يعتبرها كتبت عليه في اللوح المحفوظ لا يسعى الى تغيرها بل يوطن نفسه على التعايش معها مهما كانت قاصية وصعبة ولا يغير فيها شيء لا بيده ولا لسانه ولا حتى بقلبه، وبين إنسان يرفض الخضوع إلا لله تعالى ويسعى بكل قوة لمحاربة ظلم الظالمين ومقارعة تكبر المستكبرين.

فإن الثورة بحاجة الى توعية الجماهير ورفع مستواهم المعرفي بالظروف والمقتضيات وبالمستقبل وبحاجة أيضا الى أن يكون المجتمع واثقا بنفسه وبقدرته على التغيير، فإن الحالة النفسية التي تعتري الجمهور هي التي تحدد بوصلة النتيجة.

فإن الشرائع السماوية التي بعث الله تعالى بها أنبيائه (ع) كانت تهدف الى خلق ثورة شاملة تسعى الى فتح عقول المجتمع قبل فتح الأفاق والأوطان لتفجر بعد ذلك ثورة على الأوضاع الفاسدة، ثورة على التخلف والفقر والضياع والجهل والعادات الظالمة، وتهدف -الشرائع السماوية- أيضا الى تربية أفراد تلقي على عاتقهم مسؤولية حفظ هذه الثورة وتجديد أهدافها وغاياتها وقيادة مجتمعها، فإنه من الممكن أن لا تكون الظروف غير سامح بقيام ثورة حال وجود النبي(ع) المبلغ للشريعة، ولكنه لما كان قد أهتم بثلة معينة وهيأها للتحمل المسؤولية بوعي وإخلاص فإن هدفه لم يذهب سدا بل سيؤتي أكله بإذن الله تعالى عندما تتهيأ ظروف المجتمع، فإن الشرائع تكون بدورها قد حفظت هذا الهدف وتركته الى حين وجود شروطه، معتمدة على هذه الثلة التي تربت في كنف الشريعة لتكون سيدة الفتح المستقبلي وقائدة المجتمع. فإن هذه الثلة تكون كالبذرة الطيبة التي تنتظر المطر لتخرج شجرة مباركة في المستقبل.

فإن الإنسان الثائر الذي تربى تربية صالحة يبقى على أهبة الاستعداد منتظرا الفرصة حتى تسنح ليهب كالأسد الضاري في وجه أعلام الظلم وقادة الفساد، ومن هنا نعلم أن تهيأت المجتمع للثورة يكون هو العنصر الأساسي لرفع أعمدتها خصوصا إذا كان المجتمع قد هيأ الأفراد الثائرة وعبأها لتشكل قادة لمسيرة أبنائه وحبرا لكتابة مستقبله.

وإن للإنسان الثائر صفات لابد أن يتحلى بها حتى يكون نبراس المستقبل وشعلة أمله:
الصفة الأولى: الاستقامة فإن الاستقامة على جادة الشريعة شرط أساسي لصب البركة والتوفيق والمدد الغيبي من قبل الله تعالى، فلذا يخاطب المولى رسوله(ص) بقوله( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) فإن النبي(ص) كان يهيأ المجتمع ليكون خير الأمم وليكون قدوة في المستقبل، فأمرهم الله تعالى بالاستقامة وعدم التحول عن الأهداف الرئيسية للرسالة السماوية.

الصفة الثانية: عدم الطغيان حال الانتصار وعدم اليأس حال الهزيمة ( ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) فإن الله تعالى بصير بالعباد وبما يعملون، ولابد الإنسان الثائر الذي يسعى الى تحدي المستحيلات وخلق ظروف أفضل للمجتمع من تجنب الطغيان والظلم، لأن الظلم والطغيان يمنعان من تحقيق الأهداف.

الصفة الثالثة: الاستقلال عن الطغاة والظالمين (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)، فإن الله تعالى يأمرنا بالاستقلال عن الذين ظلموا في حال الانتصار والهزيمة لأن الظالمين لا يريدون الخير للمجتمع أبدا وعلينا أن ننظر الى الله تعالى ونطلب منه التوفيق والنصر.

الصفة الرابعة: التحلي بالصبر والعزيمة مهما كانت الصعوبات كثيرة، لأن الصبر مفتاح الفرج وإن مع العسر يسر وبالإرادة الصلبة تدرك الآمال وتتحقق الأهداف، ولابد أيضا من اليقظة لأن الطريق صعب كثير المنعطفات والفتن والشبهات، فلا بد من اليقظة لكل هذا حتى لا يقع المصلح في الفساد فينقلب الأمر عليه وهو لا يدري.

فإن وجود فئة من الناس في المجتمع تتمتع بهذه الصفات يهيأ الأرضية المناسبة لقيام ثورة عملاقة قادرة على قلب مفاهيم المجتمع الى الأفضل، خصوصا إذا كانت تتخذ الإسلام شعارا تطبيقيا لحركتها لأن الإسلام يقوم على بثّ روح الإيمان في النفوس ليخلق حالة من الاستقلال والابتعاد عن الشهوات قادرة على تحدي الظروف وهدم أبنية الفساد.

شاهد أيضاً

معالم الحكومة الإسلامية عند الإمام المهدي عليه السلام

السيد نذير الحسنيتعاقبت على هذا العالم حكومات متعددة تباينت فيما بينها بالوسائل والأهداف, والكل يسعى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *