فيما عمل الحكماء الإلهيين من خلال الرجوع إلى المصادر الوحيانية والسنن السماوية الجارية في التاريخ، لاكتشاف سر الكون والحكمة المعنوية لمجئ ورحيل الثقافات والحضارات. وكل هذا الجهد والجدّ هو من أجل معرفة في أي نقطة من التاريخ يستقر الإنسان العصري والمجال الثقافي والحضاري المعاصر وإلى أين سيؤول مصيرهم وكيف يمكن العمل للحد من تراجعهم وسقوطهم لكي يبقوا في قمة التاريخ إلى الأبد.
والمؤسف أن البشرية قد فقدت في خضم العالم العصري، كل إمكانية ومجال التفكير حول الكون والتساؤل المتسم بالتفكير وهي تجرب في أكثر طبقات الحياة ضحالة السير والسفر الطويل في أقصى أبعاد النوم والأكل والغضب والشهوة، وفي غفلة تامة عن هذا المعنى الذي أشار اليه الشيخ الأجل سعدي الشيرازي:
إن الأكل والنوم والغضب والشهوة، هي شغب وجهل وظلمة
فالحيوان لا يعرف شيئا عن عالم الإنسانية
فلاسفة التاريخ يبحثون عن حكمة التاريخ
إن تجربة حلول وزوال الثقافات والحضارات ومرور الانسان بتقلبات التاريخ، دفع ببعض الفلاسفة الذين يعرفون اليوم بـ«فلاسفة التاريخ» إلى دراسة وقياس هذا المجئ والذهاب والمبني على النظرة العالمية والإنطباع العام الذي كانوا يحملونه حول العالم والانسان ووفروا في ظل الجهد والمثابرة، إمكانية الوصول إلى صيغة وقانون في خطوة لتفسير هذا الصعود والهبوط الذي تمت تجربته على مدى الألفيات السالفة للأمم والحضارات.
والبعض بمن فيهم ماركس الذي كان يسير على خطى هيغل اعتمد «جبر التاريخ». واعتبر ماركس المجتمع والتاريخ بانهما رهن بالإقتصاد وتطور أدوات الإنتاج ومجمل الصعود والهبوط مرتبط بهذه الأدوات. ورأى بعض هؤلاء الفلاسفة أن بعض الناس هم كالخيول ومجموعات الأسماك التي تعيش في الأنفاق والقنوات المائية ولا تملك أي إرادة واختيار وتسلك مسارا ليس لديها أي إشراف على بدايته ونهايته وصعوده وهبوطه. وهاتان المجموعتان إعتبرتا أن الانسان يخضع للجبر ويفتقد لاي إختيار. وعلى أي حال فان الدافع لإكتشاف القوانين والتقليد الخاص لتفسير حركة المجتمعات والتاريخ وحلولها وزوالها، وجّه كلا من فلاسفة التاريخ باتجاه ما.
ومن بين العلماء المسلمين كان عبد الرحمن بن خلدون الاندلسي وبين علماء وحكماء الغرب كان مونتسكيو الفرنسي – عالم القرن الثامن عشر للميلاد – من أوائل الذين اهتموا باكتشاف التقاليد الجارية والسائدة في المجتمعات الانسانية.
وقبل قرون من هاتين الشخصيتين وسائر الرجال الذين اهتموا في حلة فلاسفة التاريخ بالبحث في هذا المضمار، كان «القرآن الكريم» تحدث عن السنن والقوانين التي تظهر سر مجمل مجئ وزوال وكذلك سمو وإنحطاط الأمم والمجتمعات. القدر وبتبعه المجتمعات الانسانية التي ستجرب السنن الثابتة التي لا تبديل لها. كل ما لا يؤثر كره أو رضا الانسان عليها ولا يستحدث تغير فيها.
إن القرآن الكريم وبعده المعصومين قد حددوا للمجتمع حياة وموتا وأجلا معينا وشخصية وموضوعية فضلا عن اعتبارهم الانسان مخيرا لينتزعوا كل قيود الجبر والإجبار التي تقيده، ليجد كل انسان نفسه مسؤولا أمام كل ما يفعله وليس يرى في الوقت المعلوم نتائج كل ما فعله فحسب بل أنه سيخضع في خاتمة المطاف للمساءلة حول كل ما فعله، بحيث أن القرآن الكريم يقول بصراحة:
«يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ»1
وإستنادا إلى قول المغفور له الشهيد مطهري في كتابه «المجتمع والتاريخ» فقد ورد في الكتب التي وضعت حول فلسفة التاريخ أنه عندما يأتي الحديث على ذكر العوامل الدافعة وتطور المجتمعات والتاريخ، يتم الإشارة الى عدة وجهات نظر عامة.
1. النظرية العنصرية: ترى هذه النظرية ان العامل الرئيسي والدافع والمهيئ لتطور المجتمعات، هو بعض الأعراق. ووفقا لهذه النظرية فان بعض الأعراق ترى أنها تملك المواهب الكفيلة ببناء الحضارة والبعض الاخر يفتقد إليها. وثمة اشخاص بمن فيهم كنت غوبينو الفرنسي يدعمون هذه الرؤية ليفضلوا ويقدموا بذلك العنصر والعرق الشمالي على العرق والعنصر الجنوبي ويعتبرونه موهوبا لتعلم وتلقي العلم والصناعة والأخلاق والفن؛
2. النظرية الجغرافية: ومجموعة اخرى تعتبر أن العامل المؤثر الذي يسهم في بناء الحضارة والثقافة والإنتاج هو «البيئة الطبيعية». ويعتبرون أن مونتسكيو صاحب كتاب «روح القوانين» هو من قدّم ودعم هذه النظرية. ومن وجهة النظر هذه، فان ثمة مناطق واقاليم خاصة قادرة على إنجاز الحداثة وتحقيق التقدم؛
3. نظرية الأبطال: ووفقا لهذه النظرية فان التاريخ والثقافة والحضارة الكبرى يصنعها العباقرة، رجال استثنائيون يتمتعون بالموهبة والذكاء الخارج والإبداع ليجعلوا الاخرين يسيرون خلفهم ويستحدثون فكرا وتقدما وانتاجا. ويعد كارلايل الفيلسوف البريطاني وصاحب كتاب «الأبطال» من مروجي هذه النظرية؛
4. النظرية الإقتصادية: ويرى أنصار هذه النظرية بان الاقتصاد هو القوة الدافعة للتاريخ والتغير والتطور، ويدافع كارل ماركس وسائر الماركسيين عن هذه النظرية. ويعتبرون جميع الشؤون الاجتماعية والدينية والسياسية والعسكرية بانها مظهر لاسلوب الإنتاج وعلاقات الإنتاج الخاصة بالمجتمعات؛
5. النظرية الإلهية: ووفقا لهذه النظرية فان ما يحدث في الأرض هو عمل سماوي هبط إلى الأرض تأسيسا على حكمة بالغة. وفي هذه الرؤية، فان تحولات وتطورات التاريخ، تشكل مظهرا للمشيئة الإلهية الحكيمة البالغة. إن التاريخ هو مشهد لدور الإرادة الإلهية المقدسة. وكان بوسوية المؤرخ والاسقف الشهير ومربي لوئي الخامس عشر من أنصار هذه النظرية.
وقد قام الشهيد مطهري بنقد كل نظرية، وأورد أدلته باختصار في دحض كل من النظريات الخمس. لكنه يغلق دفتر الحديث عن المجتمع والتاريخ من دون أن يعلن رؤية أخرى أو يؤيدها. لكنه وقبل طرح هذه النظريات الخمس، يستند إلى الآيات القرآنية ليشير إلى أربعة عوامل تسهم في سمو وانحطاط الأمم. ويأتي على ذكر «العدالة وغياب العدالة»، و«الإتحاد والفرقة»، و«تنفيذ أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، و«الفسق والفجور والتفسخ الخلقي» بوصفها معايير ومؤشرات تنطوي بحد ذاتها على سمو أو انحطاط المجتمع والتاريخ.
ما ذكرنا هو مقدمة للدخول في قضية جديدة و للإجابة لهذه الأسئلة التي تقول لماذا و كيف انهارت بعض الحضارات و الأقوام على طول التاريخ مع أنها كانت في قمة القدرة و الثروة و الملذات المادية في ليلة واحدة و وصل الأمر إلى أنها زالت عن الأرض كما نجد في المقابل فئة قليلة منهم أي الذين كانوا يعشيون في أصعب الظروف و كان الأغنياء و أصحا السلطة و القدرة يمارسون عليهم الضغط و هم ورثوا الأرض في ليلة واحدة بمشيئة الله هم حسب قول الله تعالى :
«لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون»
و يجب علينا أن نستخلص العبر و الدروس من الأقدمين بدراسة هذه الأسئلة و فهمها و نسير في الصراط المستقيم لكي نصل إلى السعادة الأخروية. انشاءالله.
الهامش:
1. سورة المائدة، الآية 105.
المقتبس من «سر انهيار الثقافات والحضارات»، إسماعیل شفیعي سروستاني، هلال، طهران، 1394 ش.