الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة (القسم التاسع : مصدر التململ)

اسماعیل شفیعی سروستانی
لقد قلنا في الفصلين السابقين، بان الحديث في موضوع الفكر يدور حول نوع الرؤية والفكرة التي يكونها الانسان عن العالم والكون، وفي مقولة الثقافة يدور البحث حول مجموعة الاداب والتقاليد المقتبسة من ذلك الفكر ونوع الرؤية، وفيما يخص الحضارة، فان الامر يتعلق بالصورة المادية لحياة الانسان.

و ان وضعنا هذه الموضوعات الثلاثة بجانب، سنتعامل مع كائن ينمو و يزدهر تارة و يتدحرج في هوة الفلاكة والفناء تارة اخرى. ان هذا الكائن (الانسان) يوفر امكانية الولوج في بحث يغطي المقولات الثلاث المذكورة. الكائن الذي يمكن العثور على موطئ قدم له في كل من الموضوعات الثلاثة وهي الفكر والثقافة والحضارة. وبعبارة اوضح، فان الانسان يطل براسه اثناء البحث والنقاش حول الفكر والثقافة والحضارة. و هو الذي يفكر في هذا الخصوص ويعيش حياته من خلال ادابه و يغير الاوجه المادية للحياة بما يتطابق مع ما يفهمه ويعرفه.
و ان جرد الانسان من قدرته على التفكير، ربما لما كان العالم يتغير اطلاقا ولكان يبقى كما خلق، راكدا كالمستنقع الساكن. وبلاشك فان السبب القوي الذي يقف وراء كل هذا التغيير، هو الكائن الذي يبرز مواهبه وقدراته عن طريق تلاقح الافكار ويغير اوجه الحياة في الكرة الارضية.
وربما لهذا السبب يمكن القول بانه طالما لم يدُر الحديث عن «الانسان» ولم يُزح الستار عن وجهه، لن تتكشف اسرار التطورات في الارض وكيفية وكمية هذا التغير والتطور، وان الوصول الى تحليل جلي في هذا الخصوص، بحاجة الى التساؤل حول الانسان. انه كائن مذهل يقدم كل شخص تعريفا عنه. حيوان ناطق، حيوان ضاحك، حيوان رمزي و… وعلى اي حال، فاننا نشاهد اليوم وجها اكمل عن قدراته.
و يتوجب البحث عن جذور واساس التغيرات التي مصدرها الانسان، في الاضطراب والتململ الذي ينتزع من هذا الانسان اي فرصة للركون الى الخمول والتسليم بالامر الواقع. ان مسار حياة الانسان يظهر ايضا انه كان يبحث بعد كل تغير، عن حركة جديدة، لدحض الوضع القائم ونيل وضع جديد. ان العبث والتلاعب الدائمين بالارض والطبيعة والعالم على يد الانسان في جميع العصور والادوار، بديهي وجلي لدرجة انه ان تخلينا عن دراسة تاريخ الانسان في الارض وتجاهلنا الحضارات المختلفة، سنواجه كائنا يعيش بمفرده في غابة كثيفة او منطقة جبلية نائية، لكنه يسعى رغم ذلك لاحداث تغيرات وتجربة اشكال اخرى. وان حصل على وضع جديد، فانه يعيد الكرة ليقلب الواقع الموجود راسا على عقب مرة اخرى.
إن عدم القبول بالامر الواقع وعدم الرضا مما يُحصل عليه، هو جزء لا يتجزأ من حياة الانسان، وان لم يكن هذا الاستياء غير مستمر لما كان الانسان يرضخ اصلا للعمل ولكان يتوقف في مكانه كالنبات والجماد. لكن الانسان وحده من بين كل هذه الكائنات والمخلوقات، يسلك طريقا مختلفا ولا يتوقف عن الدوران في مدار ما.
والا يجب حقا التساؤل حول موقع ومصدر كل هذا التململ وعدم الاستقرار؟
ولا يمكن مشاهدة حقبة زمنية في جميع عصور وادوار الحياة الانسانية، لا تظهر فيها ارهاصات التململ وعدم الرضا لدى الانسان، ويبدو بالتالي ان هذا التململ هو كالدم الذي يسري في عروقه وتوارثه نسلا عن نسل وجيلا عن جيل، بحيث يمكن اعتباره العلامة الفارقة التي تميز الانسان عن باقي الكائنات.
و يجب القول ان الشعور بالحاجة الى تغيير العالم المحيط بالانسان وسبر اغوار ميادين الحياة، نابع من دافع غامض يستحث الانسان على الحركة والاندفاع. «الضالة» التي ينشدها بالحاح ويحاول ايجادها في يوم من الايام. لذلك الافضل ان نقول: «ان البحث عن ضالة ذات قيمة، هو افضل علامة فارقة تميز الانسان عن باقي المخلوقات».
إن اي نوع من التغير في الجمادات والنباتات والحيوانات، يدور حول مدار ثابت (الغريزة) وعامل خارجي ووضع كمي. بحيث ان الانسان يضطلع بدور بالغ في نمو او زوال اي من تلك العوامل، وعلى العكس، فان جميع التغيرات والتطورات التي تطرأ على الانسان، تختلف بشكل ما عن باقي الكائنات ونابعة من باطنه. العامل الذي حمله هذا التململ، ليسخر باختياره كل كائن يعيش في حواليه، وان يرفع نفسه الى مرتبة اعلى مما هو عليه من حيث الكم والكيف الباطني والخارجي. وانطلاقا من هذا يمكن اعتبار قبول «التطور» في مرتبة وميدان اخر، بانه ابرز مواصفات الانسان. تطور متتال ينقله من مدار الى اخر.
إن هذا التغير الباطني للانسان، عامل يرفده ليقوم بكل ما اوتي من قوة، بايجاد تغيير في العالم الخارج ليصل الى الوضع الذي ينشده. ان حركته ليست خطية ولا دائرية، بل كقشرة الحلزون اذ انه قادر على التعمق في كل لحظة من جهة والاتساع من جهة اخرى. حركة ذو اتجاهين، الحركة التي تتسبب بتغير في الكم والكيف، وتؤدي الى التحول وتغير العالم الترابي. وعامل هذه الحركة ـ الانسان ـ يمضي قدما الى الامام من دون ان يقيد نفسه بالقوانين المادية البحتة او يفرض على نفسه حصارا خاصا او ان يتقبل قيود زمانية ومكانية او مادية.
إن الطاقات غير المحدودة التي يبرزها هذا العامل في انماء وتوسيع قدراته، مؤشر على انه لم يرضخ لاي من قيود العالم المادي. لا القوانين القسرية التي تحكم المواد ولا الطاقة المحدودة المكونة لجسم مادي ما ولا البقاء في ظرف الزمان والمكان الذي هو عامل حاسم ومصيري في كمية وكيفية التغيرات الحاصلة في المواد الطبيعية. بل على العكس، يتحول نفسه الى عامل لكشف واستخدام جميع العوامل الطبيعية والمادية.
إن الاهتمام بالانسان بحاجة الى دقة متناهية، لكي لا ينظر اليه كما يبدو في الظاهر. ان تنوع مظاهر الطبع الادمي في الازمنة المختلفة وتغيراته الباطنية الهائلة بجانب التغيرات الي اوجدها في الارض ولدى الحضارات، تحكي عن وجود عامل متعدد الاوجه وزاخر بالقوة، يتجلى بابهى صوره اينما يحل.
إن مرور الزمان، وفر للانسان امكانية ان يتعرف في كل زمن اكثر مما مضى على سطوة هذه القوة الباطنية واتساعها وعمقها وان يؤمن بان هذا الكائن يستمد كل قواه من عامل هو فوق الزمان والمكان. الخالق الذي جعل «الاضطراب» و «التململ» رفيقا للانسان في رحلته، لكي يكون في حرص وولع خاصين لكشف ومشاهدة اجمل مظاهر هذه القوة الباطنية. لذلك فان امنية بلوغ اكمل منبع للفيض واجمل مظاهر الروح، لا تغادر الانسان. وهذا هو هاجس ودافع وعامل مجمل الحركات والتغيرات … فان كانت ثمة نهاية، فهي للجسم، الذي ينحو نحو الزوال والفناء تبعا لتلك القوانين والسنن التي تسود الظواهر. لكن الروح من امر الله تعالى ، لا تتقيد بظرف الزمان والمكان، وتواصل رحلتها حتى الغرق في بحر الكون اللامتناهي.
إن القبول بغاية لهذا الامر، هو قبول لقيود تدفع الانسان الى طريق مسدود، وتضع نهاية لكل المظاهر وينتهي معها العالم من دون حماسة وجلبة، في نقطة معتمة وظلماء.

2.‌ الإنسان المتكامل، أمنية الإنسان الناقص
و يمكن مشاهدة امنية نيل القوة والكمال لدى كل منجزات البشرية وكذلك في اعمالها الفنية والادبية، الاعمال التي تعكس قوة الانسان وابداعه. ويمكن ايجادها في كل ارجاء قصص واساطير الشعوب المختلفة وتحولاتها الاسطورية وفي موطئ اقدام الابطال، وجميع الاناس الذين اظهروا بطريقة ما، وجها من الصفات والمواهب الانسانية. رجال مثل رستم واسفنديار، خلدوا في الاعمال الملحمية الايرانية ممن يتمتعون بقوة جسدية هائلة وعمر طويل وبنية متينة. وحضروا في كل زمن الى جانب الاجيال وحثوا رجالا للتحرك نحو هذه القوة والمقدرة. ويمكن مشاهدة الشئ ذاته في الاعمال الدينية وكلام الشخصيات الدينية. رجال متكاملون، ذو صلابة وقوة جسدية، فضلا عن كونهم تجسيدا للمعرفة والحصافة والكمالات المعنوية الاخرى. ورغم ان مشروع الكائن المميز والانسان المتكامل، يستحث الانسان بصورة فردية على التأمل في احوال واعمال هؤلاء وان يمعن النظر في الطريق الطويل الذي يجب ان يسلكه لبلوغ الكمال المنشود، الا ان هذا الموضوع، هو مصدر الكثير من توجهات امة ما في الماضي وكذلك صورة عن مستقبله. المستقبل الذي يمكن له ان يبلغه ويختبر حالة وصورة اخرى بالاستعانة به، الصورة التي تعكس الانسان المتكامل.
ورغم ان الحياة المادية للانسان تطالها تغيرات كبيرة طوال الزمن وهذه التغيرات مؤشر على المواهب والقدرات الكامنة في الانسان، لكن الاوجه الثابتة لجسم الانسان وروحه ورذائله وفضائله، تبقى خالدة، وان الاغلفة التي تغلف تلك الصفات يتغير لونها. فالشهامة والسخاء والشجاعة والبخل والنهم والطمع، تظهر في كل زمن، وتتجلى لدى رجل او امراة. رغم ان كل جيل يعتمد صورة مختلفة من الحياة المادية مقارنة بالجيل الذي سبقه او الجيل الذي يلحقه. ولهذا السبب فان الانسان المنشود والبطل المثالي قابل للطرح والدراسة في اطار القدرات الكامنة والاماني الثابتة الكامنة في باطن الانسان قبل ان يتجسد في الحياة المادية. ويمكن القول بان هذا هو احد اسباب بقاء وخلود اسم الابطال في التاريخ، لان فناء الصور المادية والحياتية، غير قادر على ازالة الفضائل والرذائل التي ظهرت على امتداد القرون الماضية، وان هذه الصفات المتراصة، تخلد لدرجة انها تكون قادرة على العودة في كل زمان وتتحول مرة اخرى الى رمز ونموذج لقدرات وامنيات الانسان على امتداد الارض.
وعندما تقض الاحداث المتتالية مضاجع الانسان وتسقطه في براثن الياس والاحباط، فان الانسان المتكامل ينهض لتقديم العون والمساعدة، وياخذ بيده لينقذه من التهلكة، ويجعل من خلال حضوره لديه، امنية بعيدة المنال، قابل للنيل والتحقق ويستحث الانسان العاجز المطروح على الارض، على النهوض والوقوف على قدميه، ليبدا تجربة اخرى. لان هذه الذكرى، تذكر الانسان، بان امنيته كانت قد تحققت في الحياة في زمن بعيد واتخذت طابعا ملموسا وحقيقيا. ومن جهة اخرى فان هذه الذكرى، تخرج التمني من الصورة الذهنية لتضفي عليه طابعا موضوعيا وحقيقيا.
ولابد من القول بان اهم فن قائم ومطلوب هو «بناء النموذج». فبناء النموذج بالمعنى الصحيح للكلمة هو النماذج التي توجه جميع صور وسير حياة انسان او امة اما، وتضفي عليها لونها وصبغتها، بحيث انها تؤسس بمقتضى ذلك مجموعة من الاداب والتقاليد ليتحرك المجتمع على اساس تلك التقاليد وخلق صورة مادية جديدة في الارض. بعبارة اخرى، فان ايا من اعضاء المجتمع الانساني وفي ظل تمسكه بهوية محددة يظهر النماذج، ويقيم اتصالا بالامور السائدة في العالم ويعقد نسبة مع منطلق الكون والخلقة. المنطلق الذي اعلن نسبته مع النموذج العملي. ولذلك فان ارتكاب مجزرة ضد قوم ما افضل بكثير من تركهم في حالة انفعالية، وجعلهم معلقين بين الارض والسماء.

شاهد أيضاً

الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة: منزله الإنسان، منزله التساؤل

اسماعیل شفیعی سروستانیعن اي موضوع تحدثنا، فان احد اوجهه الجادة يعود الى الانسان. لذلك يبدو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *