وامتد نفوذ الحركة إلى ساسة الولایات المتحدة بصورة كبیرة وصلت إلى درجة إیمان بعض من شغل البیت الأبیض بمقولات الحركة والاعتراف بهذا علنیا. الرئیسان السابقان جیمی كارتر “دیمقراطی” ورونالد ریغان “جمهوری” كانا من أكثر الرؤساء الأمیركیین إیمانا والتزاما بمبادئ المسیحیة الصهیونیة.
هشام سلام
كاتب عربی مقیم فی واشنطن
أكدت دراسة حدیثة للباحثین الأمیركیین ستیفین والت وجون میرشیمر أنه بعد نهایة الحرب الباردة لم یعد هناك مبرر منطقی لاستمرار العلاقات الخاصة بین الولایات المتحدة وإسرائیل بشكلها الحالی، كما أن مبرر “المبادئ الدیمقراطیة المشتركة” لا یتماشى مع السیاسات الإسرائیلیة لما فیها من انتهاكات لحقوق الإنسان وللقوانین الدولیة.
وتوحی الدراسة بأن جذور خطر الإرهاب التی تواجه الولایات المتحدة الیوم متعلقة باستمرار الدعم الأمیركی لإسرائیل، وإن إسرائیل لم تعد “دولة بلا حیلة” نظرا لصعودها لمرتبة القوة العسكریة الأولى بلا منازع فی المنطقة. وهذا ما یفرض البحث عن الأسباب الأخرى التی تعتمد علیها الولایات المتحدة فی تقدیم الدعم لإسرائیل.
تحالف الیمین المسیحی واللوبی الإسرائیلی
تصهین الیمین الأمیركی
تحالف الیمین المسیحی واللوبی الإسرائیلی
كان الحصول على دعم البروتستانت الأصولیین مهما بالنسبة للحزب الجمهوری، ثم أضیف إلى ذلك قناعة مفادها أن الحزب بحاجة إلى دعم الطبقات المتوسطة أیضا ولیس فقط شریحة متدینة بعینها.
وكان هناك إدراك بأن السیاسات الاقتصادیة للجمهوریین تضر نفس الطبقات التی یسعى الحزب إلى كسب تأییدها، حیث إن الحزب متمسك بمبادئ الاقتصاد الحر ما یقلص من البرامج الحكومیة التی تدعم الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل.
فما المبرر الذی سیقنعهم بتأیید الحزب الجمهوری رغم سیاساته الضارة؟ ووجد الجمهوریون الإجابة فیما یسمى “المبادئ المسیحیة” أو “المبادئ الأسریة” Family Values. وهكذا بدأ التیار الیمینی یدعی أنه المحافظ الرئیس على الأخلاقیات المسیحیة الأصیلة التی فقدت فی المجتمع نتیجة صعود التیارات اللیبرالیة، وهكذا تحول الحزب الجمهوری من حزب الأثریاء إلى حزب الأخلاق المسیحیة.
ولا ینسب بدایة التحالف بین الصهیونیة المسیحیة والصهیونیة الیهودیة لیوم محدد، فهذا التحالف ناتج عن تطورات متصلة منذ زمن بعید، فالإیمان بحتمیة ظهور دولة یهودیة فی فلسطین كجزء من النبوءة التوراتیة لعودة المسیح أمر یعود للقرن السادس، ولكن باستطاعتنا أن نتابع نمو هذا التحالف بالولایات المتحدة خلال القرن الماضی.
من الجدیر بالذكر أن أول جهد أمیركی للدعوة لإنشاء دولة یهودیة لا ینسب إلى المنظمات الیهودیة بل للمبشر المسیحی الأصولی ولیام بلاكستون.
وقد شن بلاكستون عام 1891 حملة سیاسیة للضغط على الرئیس بنیامین هاریسون من أجل دعم إنشاء دولة یهودیة بفلسطین. ورغم أنها لم تسفر عن شیء، تعتبر حملة بلاكستون الظهور الأول للصهیونیة المسیحیة فی السیاسیة الأمیركیة.
ورغم أن الصهیونیة المسیحیة لم تختف تماما فی العهود التالیة، فإن عودتها الحقیقیة إلى الساحة السیاسیة كانت عام 1948 عند الإعلان عن تأسیس إسرائیل، وزادت قوة بعد الاستیلاء الإسرائیلی على الضفة الغربیة وقطاع غزة وشرقی القدس ومرتفعات الجولان السوریة وصحراء سیناء المصریة عام 1967، حیث إن المجتمع البروتستانتی الأصولی نظر لهذا الحدث كتحقق لـ”النبوءة التوراتیة” بانبثاق دولة یهودیة بفلسطین.
وفی هذا الإطار كتب مفكر مسیحی صهیونی مباشرة بعد الحرب فی دوریة “المسیحیة الیوم” Christianity Today “للمرة الأولى منذ أكثر من 2000 سنة القدس الآن فی أیدی الیهود ما یعطی دارسی الكتاب المقدس إیمانا متجددا فی دقته وصحة مضمونه”.
تصهین الیمین المسیحی الأمیركی
فی حقبة السبعینیات والثمانینیات تحولت ظاهرة تصهین الیمین الأمیركی، وتحالفه مع الصهیونیة الیهودیة إلى عنصر دائم فی الواقع السیاسی. وقبل عرض تفاصیل هذا التحالف یجوز ذكر النقاط التالیة:
• لا یقتصر التحالف المسیحی الصهیونی على المسرح الأمیركی، فعلاقة الحكومة الإسرائیلیة بالمنظمات المسیحیة الصهیونیة تمثل بعدا هاما للحلف. ویقال إن دور المنظمات المسیحیة المتصهینة فی جلب الدعم الأمیركی لإسرائیل یرتفع عادة فی أوقات حكم حزب اللیكود.
• تحالف الصهیونیة المسیحیة مع الصهیونیة الیهودیة بالولایات المتحدة لیس تحالفا شاملا، فبعض عناصر اللوبی الإسرائیلی غیر مرحبین بمشاركة الجانب المسیحی الصهیونی فی دعم إسرائیل.
• بعكس الاعتقاد السائد، التیار المسیحی الصهیونی یمثل قوة سیاسیة مستقلة عن اللوبی الإسرائیلی من حیث الفكر الأیدیولوجی والهویة ودوافع تقدیم العون لإسرائیل.
وازدادت صلابة هذا التحالف قوة فی نهایة السبعینیات وبدایة الثمانینیات عندما بدأت شخصیات بارزة من تیار الیمین المسیحی تقر علنا بأن دعم إسرائیل فرض دینی لكل مسیحی، فقد قال جیری فالویل مؤسس حركة “لأغلبیة الأخلاقیة Moral Majority Movement إن “الوقوف ضد إسرائیل هو كالوقوف ضد الرب، نحن نؤمن بأن الكتاب المقدس والتاریخ یثبتان أن الرب یجازی كل أمة بناء على كیفیة تعاملها مع إسرائیل”.
وقد قدم رئیس الوزراء الإسرائیلی السابق مناحم بیغن جائزة جابوتنسكی Jabotinsky لفالویل عام 1981 تقدیرا لدعمه لإسرائیل.
كما شهد عام 1980 تأسیس منظمة السفارة المسیحیة العالمیة بالقدس بهدف تقویة الدعم المسیحی العالمی لإسرائیل. وكانت القدس شهدت عام 1976 تأسیس منظمة جسور للسلام أو Bridges for Peace التی تصف مهمتها فی تحقیق السلام على النحو التالی “نعطی من خلال برامجنا فرصة للمسیحیین، سواء داخل أو خارج إسرائیل، للتعبیر عن مسؤولیتهم الكتابیة أمام الرب كأولیاء لإسرائیل وللمجتمع الیهودی”.
وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على صلابة التحالف بین الصهیونیة المسیحیة والصهیونیة الیهودیة:
• أولا: ظهور الیمین المسیحی ما أدى إلى انتشار الفكر الصهیونی المسیحی داخل الیمین الأمیركی.
• ثانیا: نجاح جهود اللوبی الإسرائیلی بالولایات المتحدة فی تقویة دعم واشنطن لإسرائیل بعد حرب 1967.
• ثالثا: نجاح حزب اللیكود فی الفوز بأغلبیة الكنیست عام 1977. ومن المعروف أن سیاسات رئیس الوزراء الإسرائیلی بیغن للتوسع فی بناء المستوطنات حظیت بتشجیع المسیحیین الصهیونیین الأمیركیین، وربما كان استخدامه المتكرر للاسم التوراتی للضفة الغربیة “یهوذا وسامرة” Judea and Samaria فی تصریحاته ساعد على إحیاء فكرة عودة المسیح وصلتها بقیام الدولة الیهودیة عند الیمین المسیحی.
وكشف التحالف عن نوایاه فی أواخر السبعینیات، عندما أعلن الرئیس الأمیركی آنذاك جیمی كارتر ترحیبه بفكرة إقامة دولة فلسطینیة مستقلة، فقامت المنظمات الیهودیة والمسیحیة الصهیونیة بإدانة تلك الفكرة من خلال إعلان نشر فی الصحف الأمیركیة.
أما الرئیس الجمهوری رونالد ریغان فكان من المؤمنین بالصلة بین إنشاء الدولة الإسرائیلیة وعودة المسیح، وجاء ذلك فی حدیث دار بینه وبین مدیر لجنة الشؤون العامة الإسرائیلیة الأمیركیة (أیباك) الأسبق
وتشیر دراسة لأستاذ العلوم الدینیة بجامعة نورث بارك بشیكاغو دونالد واغنر إلى أن منظمات اللوبی الإسرائیلی مثل إیباك والمؤسسات المسیحیة الصهیونیة اشتركوا فی تنظیم ندوات بالبیت الأبیض لحث إدارة ریغان على مساندة الموقف الإسرائیلی.
وحضر تلك الندوات قیادات التیار المسیحی الصهیونی مثل جیری فالویل وبات روبرتسون وتیم لاهای وإدوارد ماكتیر، ومستشار الأمن القومی الأسبق روبرت ماكفرلین، وأولیفر نورث عضو مجلس الأمن القومی فی عهد ریغان.
وفی واقعة تبرز قوة التیار المسیحی الصهیونی، یكتب واغنر أنه بعد تدمیر إسرائیل للمفاعل النووی العراقی عام 1981 لم یقم رئیس الوزراء الإسرائیلی بیغن بالاتصال بالرئیس الأمیركی، بل بأكبر زعماء الیمین المسیحی جیری فالویل طالبا منه أن یشرح للمجتمع المسیحی الأمیركی أسباب الضربة الإسرائیلیة للعراق.
ویضیف واغنر أن فالویل نجح فی إقناع الرئیس السابق للجنة العلاقات الخارجیة بمجلس الشیوخ جیسی هیلمز لیصبح مؤیدا للضربة الإسرائیلیة بعدما كان من أكبر منتقدیها.
تراجع نسبی فی عهد كلینتون
وهبطت قوة التحالف المتصهین فی عهد الرئیس الدیمقراطی بیل كلینتون ولم تظهر له قوة كبیرة على السطح لعدة أسباب منها:
• خلاف كلینتون مع منظمة أیباك قرر رئیس الوزراء الإسرائیلی آنذاك إسحق رابین أن یتعامل مباشرة مع الإدارة الأمیركیة دون عون منظمات اللوبی ما دفع الحلف الصهیونی إلى الهوامش.
• لم یرض معظم أعضاء الیمین المسیحی عن نتائج مباحثات أوسلو ودعم البیت الأبیض لها.
• سیطرة حزب العمل على الكنیست أضعفت علاقة إسرائیل بالیمین المسیحی المتصهین حیث إن الأخیر عادة یفضل التعامل مع حزب اللیكود.
تأثیر فوز حزب اللیكود الإسرائیلی
وبالتالی ساعد فوز اللیكود بانتخابات 1996 على إعادة إحیاء هذا التحالف، خاصة مع صعود بنیامین نتنیاهو إلى رئاسة الحكومة. وقد أقام نتنیاهو علاقات وطیدة مع المنظمات المسیحیة الصهیونیة خلال خدمته مندوب إسرائیل الدائم بالأمم المتحدة فی نیویورك.
وعند بدایة خدمته طلب نتنیاهو من المنظمات المسیحیة الصهیونیة جمع التبرعات المالیة لإسرائیل بعد انخفاض تبرعات المنظمات الیهودیة الأمیركیة جراء خلافات اعترت المجتمعات الیهودیة بأمیركا.
وقد شجع نتنیاهو حلفاءه بالیمین المسیحی على شن الحملات الإعلامیة ضد مسیرة السلام. فی هذا السیاق قام نتنیاهو بدعوة القیادات المسیحیة الأصولیة الأمیركیة لعقد مؤتمر بإسرائیل لإعلان دعم موقفها المعادی لعملیة السلام. وعند عودتهم للولایات المتحدة شنت تلك المنظمات حملة إعلامیة ركزت على انتقاد مقترح تقسیم القدس.
كما رددت تلك المنظمات ادعاءات إسرائیلیة عن سوء معاملة السلطة الفلسطینیة للمسیحیین.
فی عهد جورج بوش
عاد دور التحالف المسیحی الیهودی لیبرز مجددا ویقوى فی عهد الرئیس الجمهوری جورج بوش الابن، وینسب ذلك لعدة أسباب:
• تحكم اللیكود فی الحكومة الإسرائیلیة ما قوى من دور المسیحیین الصهیونیین بالولایات المتحدة.
• نجاح الحزب الجمهوری فی انتخابات 2000 ما قوى من نفوذ الیمین المسیحی ومنه التیار المسیحی المتصهین.
• وقوع هجمات الحادی عشر من سبتمبر/ أیلول عزز الفكر المسیحی المتصهین، وساعد على تقویة التحالف بین المنظمات الیهودیة والمسیحیة بالولایات المتحدة كنوع من التصدی لخطر “الإسلام الأصولی”.
وفی عهد الرئیس بوش برز دور ملحوظ للتحالف الصهیونی فی تحدید مسار السیاسة الأمیركیة خاصة عام 2002، ومن أمثلة ذلك الحملة الإعلامیة الشرسة التی شنها التحالف الصهیونی ضد دعوات بوش إسرائیل للانسحاب من الضفة الغربیة، وأدت تلك الحملة إلى تراجع بوش عن موقفه والتوقف عن مطالبة إسرائیل بالانسحاب.
وظهرت فی السنوات الماضیة منظمات یمینیة مسیحیة مؤیدة لإسرائیل مثل قف بجانب إسرائیل أو Stand for Israel التی أسسها أحد أعضاء الیمین المسیحی ویدعى غاری بوار.
وقد حضر أول مؤتمر سنوی للمنظمة السفیر الإسرائیلی فی واشنطن دانیال أیالون وزیر العدل السابق جون آشكروفت إضافة إلى العدید من أعضاء الكونغرس.
فهی إذن خطوط بیانیة صاعدة وهابطة فی وجودها وتأثیراتها فی المحیط الثقافی والسیاسی الذی تعمل فیه.
_______________
المصدر:الجزیر