نزار حسين راشد
لماذا يتمّ الدفع بقضيّة “حقوق المثليين إلى الواجهة” في الوقت الّذي يكتوي فيه العالم العربي بنيران الحروب السياسيّة والطائفيّة؟هل هذا مشروع جديد تمّ إخراجه من تحت القبّعة في هذه اللحظة الحرجة بالذات؟أم أنّه استكمالٌ لمشروعٍ قديم بدأ مع بدايات الغزو الإستعماري؟
لقد ترافقت الغزوة الاستعماريّة للعالم العربي بغزوة ثقافيّة لا تقلّ عنها شراسة وإلحاحاً؟فالمدارس والجامعات الّتي تحمل الدمغة التبشيريّة والتي لا زالت واقفة على أرجلها إلى الآن خيرُ شاهدٍ على ذلك؟الجامعة الأمريكيّة، الفرير، فكتوريا، راهبات الوردية، الجامعة اليسوعيّة…الخ!لا بل إن هذه المؤسسات التعليمية تحتل مراكز الصدارة وتتقدّم بسمعتها على المؤسسات الوطنيّة؟ بل إنّها المطبخ الّذي يتخرّج منه رجال الحكم والسياسة ومتّخذي القرار، بصفتهم الأقدر على التواصل فكريّاً ولغويّاً، مع الغرب وليّ النّعم، وقِبلة الطامحين!
ومع اختفاء المنافس: الوطني المصاب بالوهن والركاكة، والخارجي بانهيار دول المنظومة الشرقيّة، بالإضافة إلى الدول العربيّة المرتبطة بها، كسوريا والعراق، والّتي ظلّت تقدّم تعليماً مجانيّاً لأبناء الطبقة الفقيرة والمتوسّطة الّذين لاتؤهلّهم إمكانيّاتهم للالتحاق بالجامعات الغربيّة ، انفردت هذه المؤسسات بالساحة وحصلت على فضاءٍ فسيح تمارس فيه صياغة عقول الأجيال دون رقابة ولا تدخّل!
الإستعمار الفرنسي ممنذ حملة نابليون وحتّى احتلال المغرب العربي كاملاً، مارس التأثير الثقافي بطريقة منهجيّة، أكثر مما فعل الإستعمار الإنجليزي في المشرق العربي، وحتّى في سوريا ولبنان اجتهد على هذا التوجه وإن بطريقة اقل حدّة وإلغائيّة ممّا فعله في المغرب العربي، لدرجة انّ دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر عقب الاستقلال، استقطبت عدداً كبيراً من مدرسي اللغة العربيّة من مصر وفلسطين والأردن، لإعادة اللغة العربيّة إلى التداول بين الناس!
ولكن ما علاقة الإستعمار بالمثليّة الجنسيّة؟!
توماس إدوارد لورنس الّذي جاء إلى شرق الأردن، بصفته ملحقاً صحفيّاً بالإستخبارات العسكريّة البريطانية، التابعة لوحدات الجيش المشاركة في الحرب العاميّة الاولى 1914-1918، على أرض الأردن وفلسطين، اكتُشف أنّه شاذٌ جنسيّاً، وأبرقت القيادة بذلك إلى وزير الحرب الّذي ردّ بالسؤال عن مدى كفاءته!وحين أُجيب بأنّ كفاءته ليست موضع تساؤل بل شذوذه، ردّ بقوله: هبه امرأة!
لورنس هذا مُنح رتبة عسكريّة وصلت إلى رتبة “كولونيل” وأصبح بطلاً يشار له بالبنان ، حتّى أن بعضاً من العرب أطلقوا إسمه على أبنائهم! وفي كتابه المشهور “أعمدة الحكمة السبعة”يشير إلى عشيقه بالإسم”دحّوم”ويبعث إليه برسائل تفيض بالعاطفة والتولّه!
هذا الإختراق للثقافة العربيّة الإسلاميّة، وانتزاع القبول لهذه الشخصيّة، لدرجة رفعها إلى مصاف الأبطال، يثير كثيراً من الأسئلة حول درجة الرفض الّذي يواجهه الشذوذ الجنسي في المجتعات الإسلاميّة العربيّة، وحول جدّية هذا الرفض!
لقد تصدّى الغرب المتسامح مع هذه الظاهرة للإرث العربي الإسلامي، باحثاً ومنقّباً عن شواهد على وجود هذه الظاهرة وعن كيفيّة التعامل الإجتماعي معها رفضاً او قبولاً! وحتماً قد وجدوا ضالّتهم، فيكفي كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، والّذي أصرّ طه حسين على جعله مقرّراً منهجيّاً على طلبة الآداب في جامعة القاهرة “فؤاد الاول” مماّ يدلّ على خبث نيته وأنه أوعز إليه رُبّما من قبل دوائر ثقافيّة فرنسيّة مرتبط بها، لغاية مبيّتة!
“كتابٌ آخر”جنّة الولدان في الحسان من الغلمان” للشهاب الحجازي!
مّما يشير إلى أنّ الشذوذ كان شائعاً في العصرين العبّاسي الاخير والأندلسي!
وعلى أيّة حال فهذه الظاهرة لم يخل منها مجتمعٌ ولا عصر، وهي تشيع وتنحسر بفعل عوامل اجتماعيّة متعدّدة، ويبدو أنّ مدّها يعلو في المجتمعات المترفة مع نمو الثراء والبحبوحة الإقتصاديّة، ويقاس عليه المجتمعات الإستهلاكيّة المعاصرة الّتي أفرخت تحت عباءة النظام الرأسمالي، وترتبط من ناحية أخرى بمظاهر التراجع والانحلال الحضاري، الّتي يصاحبها ضعف المنظومة الأخلاقيّة، وقد عانت منها روما في قمّة نضج إمبراطوريّتها، وكذا الحضارة الإغريقيّة، في أواخر أيّامها، حتّى أنّه كان لكلّ محارب إغريقي، عشيقٌ حديث السن يلازمه في قعوده وخروجه، عوضاً عن الزوجة الّتي تقبع في خبئها!
هذا شيء والجهد الأكاديمي المنهجي المنظّم الّذي يعمل عليه الغرب شيء آخر، فهذا الجهد مرتبطٌ بعملية الإختراق الإجتماعي التي وطّأ ت لها المؤسّسات التعليميّة التبشيريّة، والّتي تستهدف هدم المنظومة القيميّة بإحداث ثغرة فيها ، ثم توسيع هذه الثغرة تمهيداً لاجتياح الحصن كلّه!
وممّ يدل على ذلك، أنّ الممولين والمنظّمين الغربيين، الّذين يتسترون وراءجمعيات الحقوق الإنسانيّة، استكملوا جهودهم وأقاموا جمعيات لحقوق المثليين لعلّ أشهرها”القوس″ في فلسطين المحتلّة وللمفارقة فهي تستهدف العرب داخل إسرائيل فقط وغير موجّهة للجمهور اليهودي، كما أنّها تزعم أنّها جزءٌ من حركة التحرّر الوطني والحرب على الشوفينية ومصادرة الحقوق حتّى لوكانت حقوق المثليين!
وكذا جمعيّة”الحلم” في لبنان والتي تساهم في إيواء اللاجئين المثليين فقط دون غيرهم ومنحهم الأمان، وخاصّة العراقيين!
ويبدو من الاستعراض التاريخي والحركي لمجمل هذه الأنشطة، أنّها ليست إلّا جزءاً لا يتجزّأ من الغزو الفكري الّذي ترافق مع الغزو الإستعماري العسكري والإقتصادي!وأنّ رفع الشعار حتّى لو كان قوس قزح والإيعاز برفعه للرموز المرتبطة بهذه الحركات، لن يسهم كثيراً في إنجاح هذا المسعى ، لأسبابٍ على رأسها، أننا كأمّة عربيّة إسلاميّة دخلنا مرحلة جديدة من مرحلة التحرّر الوطني تتميّز بدرجة عالية من الوعي، نقلت الصراع إلى تخوم المواجهة القيميّة والأخلاقيّة، المعتصمة بالدين كحصنٍ أخير، حتّى وإن طالته مخالب الردّة أو التغريب القسري أو حتّى التطرّف الديني، ذي الأسلحة الفكريّة الكليلة الّتي لن تجد أمامها مناصاً في النهاية إلّا الإلتحاق بالركب الحضاري، الّذي يقاتل بالفكر قبل السيف، أو السقوط في منتصف الطريق!
بقي أن أنوّه أن حركات”الفيمينين” والأنثويّة التي تطلق سهام الإتّهامات صوب المنظومة الأخلاقية، متذرّعة بالهيمنة الذكوريّة، هي جزء لا يتجزأ من حملة التغريب الغاشمة، أنظر أدواتها الموظّفة:التعري الكامل أو الجزئي والإظهار الفاحش للعورة ، ممارسة الجنس أو بعض مظاهره في الأماكن العامّة وتحدّي السلطة باعتبارها قمعاً ، عداك عن أنّها تلحق المثليين الذكور بركاب الأنوثة وتطالب بمعاملتهم كنساء على قدم المساواة!فأين حقوق الأنوثة من هذا التحريف في التعريف؟!أوليس الشذوذ مسخاً للأنوثة وإزراءً بها؟
قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه”لست بالخِبّ ولكنّ الخبّ لا يخدعني”!ولا أظنّ إلا أنّ كل هذه الصيحات، ستذهب صدىً في فلاة، وتبقى الهويّة هي الهويّة القيميّة الأخلاقيّة، وليس التعريف الجنسي السخيف، الّذي تشرعن له حضارة آيلة للسقوط!لأننا سقطنا نحن أيضاً حين شرعننا لها ، تحت سنابك خيل المغول والصليبيين، في الشرق وفي الأندلس سواءً بسواء:سنّة الله في الّذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا!
كاتب مغربي
المصدر ” رأی الیوم